مقدمة:
تقدمُ هذهِ المقالة، نقد العمل الفنّي، من خلال قراءتينِ متشابكتينِ يقوم بها كلّ من فالتر بنيامين Walter Benjamin 1892-1940، وهوركايمر(Max Horkheimer (1895-1973 وثيودور أدورنو (1903-1969). إذ يقدّم المحور الأوّل تصوّر بنيامين عن العمل الفنّي خصوصاً في فترة الحرب العالمية الثانية، بينما نقدّم في المحور الثّاني تصوّر كل ّمن أدورنو وهوركايمر عن مآلات صناعة الثّقافة، ويسعى المحور الثّالث إلى تركيب الاشتباك مع هذه التّصورات، عبرَ مزيدٍ من تحليل وضعية العمل الفنّي في ظلّ سيادة العصر الرأسمالي.
مدخل؛
كيفَ يمكنُ فهمُ عالمنا اليوم، عن طريق المقاربة الثقافيّة للعالم، وهل هذهِ المقاربة تصحّ في ظلّ عالمٍ تنفرد بإدارته الإرادة السياسيّة-الاقتصاديّة، وما الّذي تستطيعه الثّقافة؟ وما معنى النّقد الثّقافي؟ وعلى أي أساس يقوم؟ وهل آليات النّقد الثّقافي مثل التّشخيص Diagnostique والتّفسير justification والتّركيب Synthese ناجعة في فهمِ الظواهر الثقافيّة؟ ألا يمكنُ أن تكونَ الظواهر بما هي كذلك. ظواهر تأنف عن الاختزال النّقدي الّذي تقوم بهِ المقاربات الثقافيّة؟ هذهِ أسئلة تنبع من صميم المنهج، أي ألية المقاربة الّتي تصدرُ عنها المقاربة الثقافيّة ومحاولة امتحان معالجتها للظواهرِ الثقافيّة، وفي نفسِ الآن تعملُ على محاولة فهم الظواهر انطلاقاً من وجهة نظر ثقافيّة. بحيث تكون القراءة الثقافيّة للظواهر وعياً بمسارات الظّواهر الّتي تتعلّق بالإنسان والّتي تتعلّق بالإنسان في علاقتهِ ببنياتهِ اللّغوية، التربويّة، الاجتماعيّة، السياسيّة …
والمقاربة الّتي نقوم بها هنا، هي من صميم نقد الثّقافة، وهي متعلّقة بنقد العمل الفنّي (الثّقافي) في سيادة العصر الرأسمالي، وكيفَ تمّ تحويله إلى عمل ميكانيكي –حسبَ بنيامين- إذ يرى أنّ عصرنا دخلَ مسخاً ثقافياً بامتياز، بإزاء هذا يدخلُ على الخطّ نقد –نقد تركيبي- أدورنو وهوركايمر لتصوّر بنيامين، عن الثّقافة الجماليّة المعاصرة، باعتبار تصوّرهما عن الموضوع هو تركيب واستيفاء لشرطِ النّقد، فما هو نقد بنيامين للعمل الفنّي المعاصر؟ وماهي تصوّرات أدورنو وبنيامين عن الموضوع؟
1-العمل الفنّي في عصر الاستنساخ الكلاسيكي:
يطرحُ بنيامين في البداية عمليّة تطور العمل الفنّي، منذ الإغريق وكيفَ تطور معَ مرور الزمن. إذ عرفَ العمل الفنّي تغيراتٍ طرأت على المستويين الكيفي والكمّي في عصر الفوتوغرافيّة، وما أحدثته من تحوّلات عليه (العمل الفنّي). سرعانَ ما أسقطتهُ (الفوتوغرافيّة photography) في شِراك الاستنساخ والمسخ الجماليّ والثّقافي.
قديماً كانَ العمل الفنّي يتمتّع بـ “هالةaura ” ما يعطي للعمل الفنيّ بعداً رمزياً واجتماعياً. وعن هذا تظهرُ أهميّة العمل الفنيّ قديماً، في كونهِ يعبرُ عن المقدّس، وعن كلّ ما يرتبطُ بالطّقوسِ والعاداتِ، لهذا صُبغت الأعمال الفنيّة قديماً بهالة حضوريّة، تُكثفُ العمل الفنيّ في بعدهِ الأنطولوجي أساساً. إلاّ أنّ هذا التّصور سيتلاشى تماما مع ظهور الفتوغرافيّة الّتي ستشكّل أزمة الفنّ الحديث، يكتب عن ذك بنيامين قائلا: “استشعر الفنّ قربَ الأزمة المحدقة به، إذ باتَ استبصارها واضحا بعد قرن. آنذاك. أجاب الفنّ بأطروحة الفنّ للفنّ، أي بلاهوت فنّي، نشأ في عباءةِ لاهوت سلبيّ، يعبر عن فكرة الفنّ الخالص. الّذي لم يرفض أي وظيفة اجتماعيّة للفنّ فقط، بل أنكر أيضا أي تصنيف حسبَ هذا الموضوع.”[1] إنّ ما يفسرهُ هذا الشّاهد هو تعليل تلكَ العملية الّتي قامت بها الفوتوغرافيّة، باعتبارها أساس العمل الفنّي في العصر الميكانيكي، فقد سمحت الفوتوغرافيّة بعملٍ لم يكن من قبل وهو: التّكرار/الاستنساخ، هذا الاستنساخ أخرجَ العمل الفنّي من صورتهِ الطقوسيّة إلى مرتع الاستنساخ والاستعراض، وارتبطَ هذا بشكلٍ غائي بالسياسة. وبالتّالي؛ أمكننا القول أنّ العمل الفنّي في سيادة العصر الرأسمالي، أضحى مستنسخاً غير أصيل، مرتبط بدايةً ونهايةً بالسياسة. قديماً كانَ العمل الفنّي بالأساس ذو وظيفة طقوسيّة (سحريّة/دينيّة)، ولم يتمّ الاعتراف بهِ كعمل فنّي إلاّ بعدَ مدّة طويلة منَ الزّمان، لكنّ هذه الوظيفة اختفت تماماً في العصر الرأسمالي، الّذي أدخلَ الفنّ في منطق السّوق، تحتَ العرض والطّلب. أمّا عن الوظيفة الجماليّة فلم تعد قائمة، وأكثر تصديق لهذا التّصور هما الفوتوغرافيا والسينما، اللذّان عَبرا بالعمل الفنّي إلى منطقةٍ يغيبُ فيها العمل الفنّي الأصيل. فما حقّقهُ الأدب عبر قرونٍ، أتت السينما والفوتوغرافيّة واختزلته، بل قلبت الوضعيات حينَ صارَ ممكناً أن تتناقلَ الأدوات والأدوار منَ الجمهور نحو الممثل ومنَ الممثل نحوَ الجمهور، كلّ شيء سقطَ في عملية التّبادل والتّحول الربحي، إنّها عملية تسليع للمنتجِ لا أكثر.
وبما أنّ العمل الفنّي أُدخلَ منطقة السّياسي (أي العمل السياسي)، فإنّ الفاشية والنازيّة – طبقاً للسّياق الّذي كتب فيه بنيامين مقالته- لا يهمّها منَ العمل الفنيّ إلاّ ادخالهُ عالم التوازنات السياسيّة، ولعب دور التّغيير في علاقات المِلكية. هكذا يبدو العمل الفنّي في زمن استيقظت فيهِ الحرب، وحوّلت كلّ معنى إلى اللاّمعنى، فالفنّ الّذي كانَ يقبضُ على قبسِ المقدّس والمؤلهِ في الإنسان (إلهة الأولمب)، أضحى ضحية للممارسة السياسيّة، الّتي تتخذه ذريعةً لتغذية الشّعور القومي (الفاشيّة/النازيّة)، وصارَ عملاً ميكانيكياً ورأسمالياً، بسببِ التّنميط والسّقوط في وهم المطابقة الذاتيّة. هذا هوَ الدرس المستخلص من بنيامين، وهو: أنّ العمل الفنّي الحديث تحوّلَ إلى مسخٍ ذاتيّ واجتماعيّ، وثمّ تحويلُهالتهِ المقدّسة إلى هالةٍ مزيفة، مُضللة، تخرجه عن دائرة التّفكير الفعليّ لتدخله دائرة التّفكير المنفعل.
2- صناعة الثّقافة:
لا يبدو الأمر هيّناً، حينما نتحدّث عنِ الثّقافة، ويكونُ عظيماً حينما ترتبطُ الثّقافة بالصّناعة! أي رهنُ الثّقافة لوعي إنتاجي بديل، عن ذاكَ المستئنسِ بهِ والمألوف بالعادة. إنّ أحداثاً وسياقات كبرى توالت في أواخر القرن التّاسعِ عشر وبدية العشرين، حوّلت مجرى العيش وأنماطه، فكانَ بالضّرورة أن تنجرفَ الثّقافة نحوَ هذا المجرى وتنساقُ له وهي راغمه! ما يحاول أدورنو وهوركايمر أن يناقشاهُ في مقالتهما عن صناعة الثّقافة. تلكَ العملية التَحوليّة في سيرورة الإنتاج الفنّي، والّتي أضحت في متوالية إنتاجيّة غير أصيلة أو “جعل الإنتاجِ إنتاجاً مقنناً، إنّه صناعة أشياء متماثلة”[2]، وعبرَ هذهِ المماثلة يتمّ صناعة الثّقافة، لاسيّما وأنّه ليسَ هناكَ مجال ينفلت من عقالِ الإعلام. وإذا كانت السينما أحد الموضوعات الثقافيّة، الّتي ينتجُ فيها الوعي الثّقافي، فإنّها (السينما) قد ألغت أي شرطٍ للتّأملِ والتّفكير واستنباتِ الوعي. لأنّ السينما بحدّ ذاتها أضحت موضوعَ تزييف للوعي وبالتّالي؛ الثّقافة ذاتها انخرطت في هذهِ السرديّة. نقتبس من هذا الشاهد: ” فالفيلم بمؤثراتهِ الصوتيّة والّذي يتجاوزُ بذلكَ مسرحَ الوهم، لا يتركُ مجالاً للمخيلة ولا لتفكير المشاهد الّذي يمكنُ أن يتحرّكَ فيه، وإذ يبتعد عنِ الأحداث الدقيقة الّتي يعرضها فإنّه لا يضيع الخيط إطلاقاً؛ فالفيلم يساعد المشاهد الضحية على التّماهي معَ الواقع. وفي أيّامنا، لا حاجة لخيالِ المستهلكينَ ولا لعفويتهم في هذهِ الثّقافة للعودةِ إلى آلياتِ نفسية. فالمنتوجات بذاتها، ويأتي الفيلم في أوّلها، قد تألفت بحيث تصيب مثل هذهِ الآليات بالشلل. إنّ تنظيمها قد أحكم بشكل جعلها بحاجة إلى ذهن سريع ولمواهبَ في الملاحظةِ ولكفاءة تساعدُ على فهمها كلياً، لكن هذهِ الأفلام تمنع عن الشاهد كلّ نشاطٍ عقلي إذا ما أراد عدم إضاعة أي حدث من الأحداث الّتي تساق أمام عينهِ”[3]. يفسّرُ هذا الشّاهد عمليّة تزييف الوعي الثّقافي للأفراد عبرَ السينما، فما يرمزُ اليه أدورنو وهوركايمر هنا هو غياب ملكة المخيال الأصيلة، الّتي تلعبُ دوراً أساس، في عمليةِ توليد الأعمال الفنيّة، أو بصيغةٍ أخرى ينبهان إلى غياب الحريّة بالأساس كركنٍ رئيس في العملية الفنيّة، وعندَ غيابِ هذا الرّكن الأساس في العمل الفنّي والنّموذج هنا السينما، يسقط المشاهد في دورِ التّكرار، والتّكرار بمعنى أنّه يصير ضحية الآلية والاختزال.
في المجتمعات الرأسماليّة، الّتي تعرف تقدماً في الصناعة الثقافيّة، يلعبُ السّوق دوراً مهماً في صناعة الذّوات –حتّى وإن كانت مزيفة- ويقدّمها للمجتمع على شكلِ صناعة ثقافيّة مثلى، “إنّ فتح الطريق أمامَ هؤلاءِ النّاس الأجدر لهي حتّى اليوم وظيفة السّوق المراقب كلياً: والحريّة الّتي هيَ السّوق- في عصره الأكثر ازدهاراً- تقدّم للفنّانين كما للحمقى حريّة الموت جوعاً”[4]. وبما أنّ السّوق* في العصر الحديث، أضحى عمليّة رأسماليّة بالأساس، فإنّ الدول الرأسماليّة الكبرى كأمريكا المتحكّمة في الرّأسمال العالميّ، تسعى دائما إلى تحويل الثّقافة إلى صناعة. لكن -حسبَ هوركايمر وأدورنو- هناكَ مجموعة منَ الأبنية التقليديّة، حافظت على استقلاليتها، ولم يَدخلها منطق السّوق مثل: الجامعات،** المسارح، والمتاحف، والفرق الموسيقيّة الكبرى، الّتي لعبت دوراً مهمّاً في الحفاظِ على جملةٍ منَ الأعمال الفنيّة. لكنّ هذهِ الاستقلالية لم تدم طويلاً، ذلكَ أنّ الفنّان أصبحَ أكثر عرضة لمنطق الصناعة الثقافيّة. أمامَ هذا الوضع، لا يمكنُ للفنّان، أن يخرجَ من حبائلِ العرض والطلب، لفائدة السّوق والاقتصاد، الّذي يؤدّي في النّهاية دوراً استهلاكيا محضاً، فهو لا يقيمُ وزناً للإبداعِ بقدرِ ما يولي أهميّة للتّكرارِ والتّطابق، بالمعنى الّذي يجلب له الرّبح. أضحت الصّناعة الثّقافيّة رديفة الآلية والفنّ السّهل. الفنّ الّذي يخرجُ عن كلّ روح إبداعيّة ويرميها في الظّل. الفنّ في المجتمع الاستهلاكيّ يعيدُ إنتاجَ فنٍّ بناءً على مقاساتِ السّوق، وبالتّالي؛ يمكننا أن نقول: أنّه لم يعد من معنىً للفنّ، لأنّه أصبحَ تدجيناً للوعي، بل وسقوطاً في تبجيل التقنية لا المضامين والأفكار، وبهذا تكونُ الصناعة الثقافيّة صناعة سلبيّة، لأنّها تسلبُ الانسان حريّته، ومن جهةٍ أخرى تحبسُ وعيه لأنّه لم يعد بمكنتهِ إلاّ أن يرى في العمل الفنّي إلاّ تكراراً أي نسخة copy، ” أمّا المضمون المزعوم فلم يعد واجهة لا رونقَ فيها، فما ينطبعُ في ذهن الإنسان ليسَ إلاّ تتابع العمليات المندمجة والآلية”[5]. بهذهِ الصورة يتّضح أنّ الانسان في العصر الحديث، دخلَ في صيرورة تزييف الوعي الثّقافيّ، فلا الأفلام السينمائيّة تُسفر عن عمل إبداعيّ، ولا الرّسوم المتحركة الّتي تغيّرت شكلاً ومضموناً أصبحت تؤدّي وظيفتها، “أمّا حالياً فإنّ العلاقات الزمنيّة قد جرى تبدلها، واللّقطات الأولى في الرّسوم المتحرّكة لا تشيرُ إلى أكثر من طرحِ للفعل الّذي سرعانَ ما يتلاشى: مع تصفيق المشاهدين، والبطل متروكٌ للضّربات الّتي تنزل على اللّعبة الحركيّة الّتي صارت كذلك”[6]. إنّ المشاهدَ لم يعد لهُ أي فعلٍ للمقاومة، فالمبدأ يفرضُ بأن تقدمَ له الصناعة الثقافيّة كلّ حاجيتهِ الاستهلاكيّة، توهمهُ وتزيفُ وعيهُ تماماً، تقوم بسحبِ اليوميّ والواقعيّ من يديهِ، لتعيدَ إنتاجَ يوميٍ بحسبِ صناعتها. إنّ هذا التزييف للوعي ولذوبان الثّقافة في التّسلية وعدم الجدّة، لا يؤدي فقط إلى فساد الثّقافة ورداءتها، بل هو بالقطع يؤدّي إلى إقامة التّسلية أمراً ثقافيا، واقعاً لا يرتفع. فالصّناعة الثّقافية على وجهِ الحقيقة لا تهتمُ بالإنسان، إلّا باعتبارهِ زبونا وموظّفاً، حين يتمّ تنظمُهم وفقَ عقلانيتها، الزّبائن يتمّ تذكيرهُم بواسطة الشّاشة، والصّحافة، وبمآثر الحياةِ الخاصّة أنّهم يمتلكون حريّة الاختيار، أمّا الموظّف فيتمُ حثّه على الالتزام بالطّابع التنظيميّ الّذي يترافق مع الذَّوقِ السّليم[7]. هكذا تعملُ الصّناعة الثقافيّة، وهكذا تظهر حينما تصيرُ أكثر انسجاما مع النّظام الرأسمالي الّذي يحملُ المجتمع على العيشِ في تناقض، بينَ عالمٍ يصنعهُ في السينما تُستفزُ فيهِ العواطف، وتتأرجحُ فيهِ المواقف، بينَ عالمٍ واقعيٍ معاش، تتحكّمُ في الرأسماليّة وتوهمُ المجتمع أنّها تعمل لأجله، بل توهمهُ بأنّه حرّ في اختياراتهِ ومساراتهِ، تبدو الثّقافة الصّناعيّة بهذهِ الصّورة أكثر انسجاماً مع منطلقاتها لأنّها تخصص ذاتها كلياً للتّماهي معَ ما يخدم السّوق، وبالتّالي؛ فإنّ أسئلة الفنّ الكبرى الّتي تورثها الفلاسفة والأدباء والفنّانين، منذ كانط Kant أضحت في عصرِ الحداثة مجرّدَ لواحق لترفٍ هامشيّ، يلهي المجتمع الحداثي عن رهانات السّوق ألاّ وهو: الرّبح. خلاصة:
من خلال القراءتين معاً يبدو أنّ المشتركَ النّقدي بينهما، يقفُ عندَ مسألةِ الأزمة الثقافيّة وصناعة الوهم، من منطلق نقد الثّقافة الفنيّة (الجماليّة)، الّتي يبدو أنّها أضحت فعلاً في حيّزِ Space الاستنساخ وفي قبضةِ السّوق (التّسليع)، هذا النّقد في الحقيقة يطالُ العقل الغربي-الأوربي الّذي وراءَ هذهِ العملية، والّذي حوّل العمل الفنّي (الثّقافي)، إلى محو للأصل وتكرار للنُسخ، إذ أصبحَ معنى العمل الفنّي بسبب الوفرة والاشباع الاستهلاكيّ، لا يرتقي إلى العمل الفنّي الّذي كانَ يحمل في ذاتهِ أثراً Trace، الّذي يطورُ المعنى الجمالي ويعطي للإنسان ماهية الابداع والعبقريّة.
3- منطق العمل الثّقافي المعاصر:
يبدو أنّ العمل الفنّي (الثّقافي) في عصرنا، قد أخذَ منحى المطابقة، لكنّ هذهِ المطابقة بأي طريقة وأيّة معنى؟ في تصوري أنّ المطابقة هي تلكَ الحالة الّتي أضحت موضة (نمطَ تكرار) في عصرنا وهي تكرار الأعمال الفنيّة (سواءٌ في السينما بالعودةِ إلى أعمال سينمائيّة في الخمسينيات وإعادة تمثيلها، أو في الآدب مثلاً بإعادة إحياء مذاهب فلسفيّة وتاريخيّة، أو في اللّباس وهكذا في شتّى المجالات[8])، هذهِ المطابقة تحتوي على إيهام شديد، يخفي جدّة العمل الفنّي الأصلي، بل إنّ العمل الفنّي (الثّقافي) في عصرنا، سقط في وهم المطابقة الفنيّة الأصيلة. لذلك يرى جيمسون أنّ الأعمال الفنيّة (الثّقافي) في حالة مابعد-الحداثة، تفتقد للعمق، وأنّ هذهِ الأعمال تتّسمُ بطابع لا تاريخاني Historicity[9]. أي أنّ الإنتاج الثّقافي انعدمَ فيه الحسّ التّاريخي. وهو ذاته ما يفتقدهُ العمل الفنّي اليوم، إنسلاخ الثّقافة المعاصرة عنَ كلّ حسٍّ غائي للعمل الفنّي، وربّما هو الشّيء الّذي كانَ يرمي إليهِ بنيامين حينما ردّ كلّ هذا إلى سيادة التّصور الميكانيكي في صناعة الثّقافة. هذهِ السيادة Dominant، أضحت مجالاً أو حيزاً للهيمنة على كلّ قطاعات الثّقافة، الّتي أنتجت حالات منَ اللاّمعنى وتحالفات وتكتلات*** تنضوي تحتَ عباءة الرّبح. وبالتّالي؛ تفسرُ حالة إنتاج اللاّمعنى المتكرّرة في كثيرٍ من الأعمال الفنيّة، وطبيعي في ظلّ هذهِ السّيادة الّتي تعيدُ إنتاج حالات اللاّمعنى هذهِ، أن يؤولَ العمل الفنّي إلى فعلٍ ميكانيكي محض. نجحت الرأسماليّة (بكلّ أشكالها)، في أن تجعلَ منَ العالمِ سوقاً، يخضع للإنتاج ولرغبةِ الاقتناء، النّاتجةِ عن استثارة الرأسماليّة للرّغبة، لطبيعتها النّابعة عن الحاجة والنّقص (الرّغبة). ومن خلال هذا تتطوّع رغبات الإنسان لإشباع رغباتهِ، وكأنّ وجود الإنسان محصور فقط، في إنتاج وإعادة إنتاج الرّغبات لإشباعها. من هنا يمكن فهم مسألة أساس متعلّقة بالقيمة التاريخيّة والجماليّة للعملِ الفنّي، إذ تبدو المجتمعات المعاصرة وكأنّها تعيشُ زماناً ما بعد- ذاتي[10]، متحلّلة من كلّ إرث تاريخيّ ومكانيّ، بل وجماليّ أيضاً. منزوع الغائيّة والمسحة الشموليّة. وهذهِ استراتيجيّة السّوق، إذ تصير مسألة الاقتناء والتبضّع shopping نمطَ حياةٍ lifestyle، ورؤية تعبر عن طبيعة الحياة الاجتماعية والثقافية المختزلة. ولا تعمل الرأسمالية إلاّ على اذكاء هذا اللاّمعنى في حياةِ الإنسان المعاصر، وتجريدهُ من كلّ قيمة وجوديّة ومعنى تاريخي، لتنقله إلى زمنٍ لحظي، ينتهي بانتهاء الرّغبة عن الشّيء، إلى الرّغبةِ في الشّيء، وهي عملية تسويقيّة بالدّرجة الأولى. تخضع الرّغبة بالدرجة لمعادلة العرض والطلب، لتظلّ العمليّة مستمرّة بل ومتطوّرة كلّما تطوّرت رغبة المرءِ في الشّيء، لتظلّ أزمة الإنسان المعاصر مرتهنة للرّغبة في هالةِ الشّيء واشتراطاته. خاتمة:
بعدَ أن نقرنا –ولو باختصارٍ شديد- في طبيعة العمل الفنّي في ظلّ سيادة التّصوّر الرأسمالي، فإنّ هذه المقاربة تصدق عملياً، في تشخيص تحوّلات العمل الفنّي في صيرورتهِ الفنيّة، والّتي أصبحَ منَ الواضح أنّ العمل الفني، خرجَ عن مقاصدهِ الإبداعيّة، لصالحِ رغبات وإرادات، ترهنهُ لسياقات الاستهلاك والرّبح، وتبديد قيم وجوديّة ووجدانيّة وتاريخيّة وجماليّة لصالح السّوق، الّذي له حسابتهِ الاقتصاديّة والسياسيّة، يظلّ السّؤال مطروحا حينما نحاول فهمِ عالمنا المعاصر، إذ من الواضح أنَ العالم الآن صارَ رهينا لثقافة السّوق والبيع والشراء، فماهي الأزمات المتبقية الّتي ستسببها الرأسماليّة للإنسان المعاصر؟