حسب عبارات بالنديي [2]Balandier ، يعي العالم خاصيته الشموليّة باعتباره قائما على منطق تعدّدي وتعارضي بحسب ثنائية “الحركة” و”عدم اليقين”. يُنسَب استعمال وإعادة استعمال الديني في العالم المعاصر، إلى هذه الحركة الّتي هي مصدر عدم اليقين الّذي يغذي تلك الحركة ويشكّلها. إذا كانت هذه الاستعمالات المتكرّرة صادرة عن الحركة وعن عدم اليقين فإنّها تمثل في آن واحدٍ طرائق لإدارة يصعب الإحاطة بها بقدر ما هي بعيدة عن المحافظة على نفس المعنى بسبب تزايد أمكنة إنتاج المادّة الرمزيّة وانتشارها. وهو انتشار يدلّ عليه تزايد عدد الفاعلين والأجهزة المؤسساتية الّتي تتبّع كلّ منها استراتيجيا خاصّة. وأكثر من ذلك فإنّ إعادة التمييز réindifférenciation تُدخله في التّعدد، في وضعية يكون فيها الديني موضوع استعمالات مكثّفة ترمي خاصة إلى التّخفيف من عجز السياسي المحسوس. وبعيدا عن التمثّل المألوف حيث يصعد الديني، مشاركا في منطق الأواني المتّصلة، بمقدار ما يسفل السياسي ويحل بالتّالي محله، ينزع السياسي والديني باستمرار الى الاختلاط فتختفي بينهما الحدود. وتبدو هذه الصّعوبة إشكالية بقدر ما يتمتع الديني بداهة منذ سنوات[3] بقابليّة رؤية قويّة. تغذّي قابلية الرؤية تلك استيهامات كثيرة وتكوّنُ-مهما كان السّجل الّذي تندرج فيه، من السياسي الى الاجتماعي مرورا بالعلمي- هذا الديني مُدرَكا باعتباره “عودة” أو “ثأرا” لا تحت علامة محاولة إعادة إدخال اليقين بل تحت علامة الخطر[4]. إنّ نقطة الاشتراك بين هذه الوضعيات وانطلاقا من آفاق معرفية ونظرية مختلفة تُعيّنُ للديني دقة خاصة به لتستمر المقاربة بتمييز المجالات (“الديني” الخصوصي، الذي من شأنه أن يُعلِم ويزِن ويهدّد ويعود…) ينتج عن هذه المقاربة في نهاية المطاف أطروحة العلمنة thèse de la sécularisation الّتي يُفتَرض أن التطورات الجارية قد أدانتها في الأفق الّذي تمّ تبنّيه[5]. لا يجب أن تُوقع قابلية الديني للرؤية في الوهم فغالبا وعندما يكون الدين سببا لا يتمّ الحديث عنه بصورة أساسية[6]. يبقى أنّه ليس من الحياد أن نتحدث من خلاله عن شيء آخر. ودون الذهاب إلى حدّ مناقشة ما إذا في كان “الدين” موضوعا سوسيولوجيا[7]، يدعو البعض ببساطة، مثلما يفعل كليفورد غيرتز Clifford Geertz ، إلى الاهتمام بإعادة استثمار الديني من قِبَل العلوم الاجتماعية كنمط لفهم التحوّلات المعاصرة[8]. وفضلا عن ذلك يدعو نفس الباحث إلى تجاوز الأفق التطوّري للبراديغم المُعلمِن paradigme sécularisant لأجل الاهتمام بالأشكال المتغيّرة للديني المترحّل religieux délocalisé و “المستقل عن كلّ ثقافة” « déculturalisé » في عالم متحرّك. في هذا الأفق، وانطلاقا من موضوعات ومجالات مختلفة، ومن رفض المصادرة على وجود موضوع جوهري له جوانب محدَّدة ومحدِّدة هو “الدين”، يهدف هذا الملف إلى استكشاف الشروط الّتي في ظلّها يستثمر فاعلون اجتماعيون و/ أو سياسيون الديني وكذلك الأنماط والأمكنة المتغيرة لاستعماله. إنّ اللّجوء إلى الدينيّ كقائمة متميزةrépertoire privilégié لبسط إعادة التركيبات الجارية وكذلك تغيير المواقع الناتجة عنها يمثّل بالفعل، وبما هو كذلك، مؤشرا قويا على على التّطورات المتناقضة الّتي على العالم الراهن أن يواجهها. إنّ الدين، كما يلاحظ ميشيل دو سرتو Michel de Certeau، «يوفّر ترميزا شاملا لأناس مشتتين ومنفصلين بعضهم عن بعض بقدر ما هي مرجعياتهم المشتركة متكسّرة، وقد ردوا الفعل على ضغط ثقافة أجنبيّة بطريقة غير منظمة دون موئل مشترك ودون وسائل لتعويض الفوضى والتفتّت. إنّ استخداما جديدا للدّين سواء كان أخرويا، أو ثوريا فإنّه يتعلّق بكلية التجربة الإنسانيّة. تفتح اللّغة الدينيّة منفذا (غالبا ما يبقى خفيا) أمام الاضطراب، مثل ضوء يسلّط على طبيعة المشكل: يتعلّق الأمر بالكلّ»[9]. يعتبر الديني هنا مصدرا لغايات حلّ الرّموز وتطويع كلية مشتّتة. وهو معاش كإعادة تركيب تنتظمُ العلاقة معها تحت عنوان الأزمة دون أن يمثّل ذلك مفاجأة: هي مجموعة المؤشرين (marqueurs) الّتي وفّرت بالأمس أيضا المعالم الثابتة الّتي تسمح بالتّفكير في الهويات وبالتّالي في الوضعيات النّاتجة عنها (حتّى وإن كان ذلك الثبات خياليا) والّتي يتوجّب إعادة التّفاوض بشأنها. ولكن مثلما يوحي به استعمال عبارات “يوفر”، «الاستعمال”، “فتح”، فإنّ قابلية الديني لأن يكون موردا لا يعني أنّه يوجد مستقلا عن الاستخدام الّذي يمكن أن يكون موضوعا له. وإذا كان الحال كذلك فإنّ قابلية الديني للرؤية الّتي تمّت الإشارة إليها تقود البعض إلى الدّفاع عن فكرة «ديني محض» من شأنه أن يكون مُعيَّنًا بصورة محددة بغض النّظر عن كلّ إعادة الاستعمالات الّتي يمكن أن يكون موضوعا لها. هذا الديني «المحض» -والّذي ليس غريبا عما يكتبه أوليفيه روا Olivier Roy بخصوص دين «بلا ثقافة»[10]– هو مثلا في قلب التّحليل الّذي يقوم به رافائيل ليوجي Raphaël Lioger عندما يشير ، في ما قيل عن دور الديني في المشهد المعاصر، إلى «الغياب المستغرَب» للبعد الدينيّ من الظّواهر المدروسة. لنتابعه وهو يقول: «إنّ ما يتمّ تَجنبه، ما يتمّ الالتفاف عليه، بوعي أو من دون وعي، هو معنى المعتقَد الديني، واقع أن هذه الظواهر، سواء أردنا ذلك أم لم نرد، لا تكون ممكنة دون خصوصية الانتماء الديني بوجه خاص»[11]. إنّ هذه الخاصية الجذرية للدين هي الّتي تفسر «قابلية التوظيف السياسي اللاّمتناهي للديني». يُجيب وجود هذه القابلية، بعد أن صار توظيف الديني من قِبل السياسي موضوع معاينةٍ متحفظة، عن السّؤال المتعلّق بمعرفة «لماذا لا يوجد توظيف لشيء آخر؟». ألا يكون السّؤال بالأحرى متعلقا بفهم لماذا يوجد السياسي في وضعية تجعله يوظّف سجلاّت أخرى كما لو أن ذلك ضروري؟ لا يدلّ هذا التوظيف على قوة السياسي (قياسا على قدرته على الاستعمال) بل بالعكس يدلّ على ضعفه (مُقيّمًا بالنظر إلى ما يمكن اعتباره الصعوبة الكبرى لأن يوجد بذاته). علاوة على ذلك وفي ما يتعلق بفكرة كون الديني قابل للتّوظيف أكثر من أي سجل آخر، لنذكّر فقط بأن الاستخدام السياسي للإسلام، على سبيل المثال، ليس منفصلا عن مسارٍ كانت أُثبِتَت فيه حدود اللجوء الى العقيدة، واحدا بعد آخر، عندما استُثمرَت في القوميّة وفي مناهضة الاستعمار وفي الاشتراكيّة. بالنسبة لميشيل دو سرتو Michel de certeau«عندما يَضعُف السّياسي يعود الديني» إلاّ أنّه عندما يعود، فإنّه لا يعود بما هو كذلك، بل كتأكيد على وهنٍ فضيع للسياسي إلى حدّ افتقاره إلى الكلمات السياسيّة للتّعبير عن ذاته. من المهمّ إذا، من هذه الناحية، التّساؤل عن الدور المُسنَد للديني في ما يتعلق بإدارة إعادة التشكّلات الّتي تعرفها المجتمعات المعاصرة باعتباره مؤشّرا على التحولات ونمط إدارتها.
ثمّة ملاحظتان جديرتان بالإبراز في هذا المستوى: أوّلا أنّ المضامين الخاصة ليس لها هنا، مع احتمال صدم النّزعات الجوهرانيةّ، إلاّ دلالة جدّ نسبية، إذ يمكن لنفس المضمون أن يُستعمل لمصاحبة الحركة ولمناهضتها، للإشادة بها أو لرفضها وفي أحيان كثيرة لتطويعها أي لترجمة مقولات تلك الحركة، على الأقلّ وقتيا، في سجل يكون متاحا بصورة مباشرة لأجل تقديمها عند الاقتضاء باعتبارها متوافقة مع التقليد. وهذا الأخير قد يتمّ ابتكاره أثناء البحث والدفاع عنه. في مستوى ثان، ترتسم من خلال إعادة استعمال الديني ملامحُ علاقة جديدة بالسياسي (انتظارات جديدة، فاعلين جدد، ميادين جديدة، حدود جديدة، أنماط جديدة لإدراك «المصداقية»). إنّ المسار هنا هو، ضمنيا، مسار إعادة ابتكار السياسي ré-invention du politique. ولئن كانت ضرورته كما صعوباته محسوسة بشكل واضح فإنّه ليس بالإمكان تحديد الأشكال الّتي يمكن أن يتّجه نحوها هذا المسار اليوم تحديدا دقيقا.
يتدخّل الديني في المقام الأول كمصدر قابل للاستخدام (التّعبئة) من أجل غايات إعادة تنظيم العلاقة بما بعد الإحداثيات méta-repères المضطربة بفعل تسارع الحركة المعاصرة، وهما بالمكان والزّمان.
السّؤال هنا سياسي بالأساس: يدلّ انبجاس «زمان التزامن»، كي نستعيد عبارة مارك أوجي Marc Augé[12] ، على انتهاء الزّمان الخطي للدّولة-الأمّة الّذي استُبدِل بالزمان العالمي للعولمة. وفي نفس أفق العلاقة بين المكان والزّمان الموسوم بعدم الانقسامية (عدم قابلية التّحلل) الّتي أكّد عليها نوبار الياس Norbert Elias[13] يفضي المرور من فضاء الدولة الحديثة شبه المفتوح إلى فضاء منظَّم تماما بالانتقالات الّتي تهيمن عليه وتعيد تشكيله باستمرار، إلى إعادة التفكير بصورة مشوشة في الحدّ والأمّة، في الدّولة والسيادة وفي تركيبات الهويّة السّياسيّة الّتي هي تعبيرات ممكنة إن لم تكن مقبولة عن تلك الهويّة. لقد اتّسع هذا المسار بشكل كبير منذ سقوط الشيوعية بسبب التّأثير الثلاثي لنهاية الاستقطاب الّذي كان ينظّم في نهاية الأمر السياسي، واختفاء الحدود الّتي كانت تُعتبر إطار الفضاء العالمي الأخير، وفشل المشروع السياسي المُكوِّن لليوتوبيا كقاعدة لمشروعية هذا السياسي[14]. ولكن هذا المسار يتغذّى خاصّة من منطق تسارع (حركة) العولمة في كلّ أشكالها. وهي أشكال لا تُختَزل فقط في السّجل الاقتصادي والتقني وحده، ولكنهّا تُلزِم بتحديد علاقة جديدة بحركة متعددة الأشكال ولا يمكن أن توضع موضع شك (التبادلات التجاريّة، تنقلات السكان، توحيد المعايير standardisation وبالتاّلي التّنسيب) . إنّ وصف الفضاء المعاصر (أو الفضاءات المختلفة المكوِّنة لما يتّجه لأن يكون فضاء متجانسا تكون أبعاده متطابقة مع أبعاد الكوكب) لا يمكنه أن يتحقّق من خلال تعيين المواقع المأهولة في هذا الفضاء. إنّ الانتقالات (الحركات) هي الّتي تحدّد المواقع المنتظِمة دائما ولكن تحديد تلك الانتقالات لا يمكن أن يُستنتج من المواقع المحتلة.
في هذا السّياق، وفي عالمٍ متّسمٍ بتنقل البشر وبالتّمازجات الناتجة عنه وبرَدّات الفعل المترتبة عليه، تبدو العلاقة بالإقليم عرضةً لتحوّلات عميقة. فبإمكان مهاجر لاتيني-أمريكي في الولايات المتحدة أن يتمسّك كمغترب بانتماء أقوى لقريته الأصلية كما لو كان مقيما فيها، كأنّ المسافة تُمثّل قاعدة لإعادة بناء العلاقة بالأصل[15]. وعندما يعود إلى قريته بمناسبة الاحتفال السنوي، وعندما يساهم بالمال في إعادة تنظيمها وعندما يرسل الأموال لمن بقوا هناك، فإنّه يعطي لانغراسه في تربته الأصلية الّتي فارقها دلالة أقوى من تلك الّتي كان يمكن أن يعطيها إياها لو بقي مرتبطا فيزيائيا بتلك الأرض. وبالتّوازي مع ذلك فإنّ الوجود المكثّف للأمريكيين اللاتينيين في الولايات المتحدة يدفع صامويل هانتغتون Samuel Huntington إلى التّعبير عن القلق المرتبط بشعور بنوع من نزع التملّك expropriation بمعني انحلال العلاقة بين الأرض والأنماط الثقافيّة لسُكناها. قلقٌ يدفع إلى التّساؤل (الّذي لا يخلو من الانفعال والتّوتر): «من نحن؟»[16]. سؤال كان صداه في بلدٍ كفرنسا مبادرة السّلطة السياسيّة بفتح نقاش حول “الهويّة الوطنيّة”. ولنلاحظ أنّه في كلتا الحالتين بدا الدينيّ مركزيا، فهو يتدخّل لدى هانتنغتون باعتباره مؤشرا صحيحا على الاندماج في المجتمع الأمريكي عبر اعتناق المهاجرين للبروتستانتية. وأمّا في ما يخصّ فرنسا فقد أكّد معلّقون كثيرون على أنّ الإسلام والمسلمين، بتعلّة إعادة تعريف الهويّة الوطنيّة، صاروا موضع اتّهام. في ما يتعلّق بإدارة تغيرات العلاقة بالإقليم، ليس أمرا هيّنا أن تكون سلطة (نفوذ) البابا يوحنا بولس الثاني مسرحا لإعادة تعريف أنماط إدارة كونيةِ الكنيسةِ الّتي أصبحت في حالٍ سيئةٍ بسبب التعدديّة. فقد تمّ تعديل تكرار الحقيقة المركزيّة (وهو أمر لا مناص منه بفعل ادعاء الكنيسة أنّها كاثوليكية catholicité) لتتوافق مع الوقائع المحلية بواسطة السفر. وبما أنّ العالَمَ لم يعُد شيئا آخر غير أسقُفيّة كبيرة diocèse étendu فقد أصبحت «الزيارات الرعوية» نمط حكمٍ والتّنقل طريقة لاستيطانِ وتوجيهِ هذا العالم.
هناك مثال آخر يُبيّن، بطريقة أصلية، تمفصل المستويين الميكرو والماكرو (الصغير والكبير)، وهو يرتبط بالعلاقة الّتي يقيمها بالفضاء المذهب الخمسيني الجديد néo-pentecôtisme٭ الّذي يعرف انتشارًا في كل مكانٍ. يهدف القطع مع الإقليم المرجعي هنا إلى ابتكار إقليم عبور transterritorialité يشكّلُ ضمانا للتزايد الشامل للتحوّل(الحراك)[17]. يتعلق الأمر في الواقع، مثلا في أمريكا اللاتينية بـ«تكسير» منطق رعوي logique paroissiale في طريقه الى الاضمحلال وبالاستعاضة عنه بمنطق شبكي logique de réseau منفتح على الخارج ومتصوّر باعتباره مكتملا ومتناغما مع الحركة المعاصرة وذلك مهما كان السّجل الّذي منه ينظر الى تلك الحركة[18]. يترتّب على ذلك، على الأقلّ بشكل ضمني، مساءلة هذه المقولات «الكلاسيكيّة» وهي المحلي والقومي والعالمي. تشارك الكنائس الخمسينيّة الجديدة les Églises néo- pentecôtistes بشكل متزامن في المستويات الثلّاثة لتصل بذلك إلى التّعالي عليها. ومن الثّابت أنّ فضاءَ وموجِّهَ إعادة التّمفصل تلك هي وسائل الاتّصال الجماهيريّة باعتبارها الأداة المعبّرة عن إعادة تشكيل المعاصر وأيضا بما هي فضاء لإنتاج نمط سوسيولوجي جديد هو التلفزيون الإنجيلي télévangéliste[19]. ومن غير المستغرَب أنّ نموذج التلفزيون الإنجيلي وجد ما يعادله في العالم الإسلامي. فقد ظهر دعاة إسلاميون تلفزيونيون «télécoranistes» مثل الداعية عمرو خالد. إن ذلك لدليل على تزامن إعادة تحديد العلاقة، في كلّ مكان، بالفضاء والزّمان. وهي هنا إعادة تحديد تمّت بالنّظر إلى ما أمكن تعيينه، بصورة طارئة، على أنّه «الإسلام المُعوْلَم»[20] l’islam mondialisé. لا تتمثل المسألة الّتي تتضمّنها العبارة في وصف الإسلام بكونه «معولما» بقدر ما تتمثّل في إبراز المسار الّذي تحتاج فيه العولمة المتمدّدة إلى الإسلام بشكل مضاعَف، كموجّه لهذا الانتشار وكشهادة، عبر المقاوَمَات الّتي يمكن أن تواجهه بها تعبئة الإسلام، على حالة تقدّم هذا الانتشار. ويبدو أنّ الظّاهرة في كلّ الحالات تشمل طيفا واسعا يبدأ من الإسلامويّة الراديكاليّة l’islamisme radical ، العدوّ المؤكّد للغرب، إلى ظهور «إسلام السّوق»[21] مرورا بالتّكريس التدريجيّ لـ«إسلام أوروبي» ينزع إلى أن يُقبل كإسلام أصيل في المناخ الثّقافيّ الّذي وجد نفسه فيه (وبالتّالي في ما وراء واقعة كون هذا المناخ يعدّ غريبا عنه). ولكن «عولمة الإسلام» ليست إلاّ أحد جوانب مسار واسع يقود، عبر وفرة عرض المُعتَقَد، إلى المنافسة الشّديدة الّتي تسود اليوم في سوق الخيرات الرمزيّة. ينتج عن تعدّدُ العَرْض الديني المُعمَّم، والّذي من شأنه أن يكون له أثر هام على نمو الطلَب، تَنسيبُ، وهو أمر لا مفر منه، المضامين المعطاة للاعتقاد. وبالفعل فإن تعدد (كثرة) العرض الديني يغذّي، على قاعدة تحوّل العلاقة بالرمزي (العرض الّذي ليس منظما بحسب معيار ولكنّه يُطلَب ليوفر للفرد العناصر الّتي يحتاج إليها لبناء حياته الشخصيّة. والّذي تتحدّد صلاحيته فرديا بالنّظر إلى العلاقة بالمعنى وبالعالم وبالآخر وبالذّات). عن هذه الأزمة المتعلّقة بما هو قابل للاعتقاد والتّصديق يتحدّث ميشال دو سرتو: ثمّة أشياء كثيرة مطروحة للاعتقاد، وينتج عن ذلك عدم قدرتها على إثارة الاعتقاد بسبب انعدام المصداقية. وهكذا تتّضح الخاصيّة المحدودة للاعتقاد بشأن الإحاطة بالموضوعات المطروحة عليه.
لا تخصّ أزمةُ ما هو قابل للاعتقاد الدينيَّ وحده وهي ليست فقط على صلة بتطوّرات الديني وحدها، إذ يمكن اعتبارها خاصّة بالسّياسي أيضا. من وجهة النّظر هذه، لعب سقوط الشيوعيّة (كتجربة تهدف، كما تمّ التأكيد على ذلك، إلى إقامة العلاقة بالسّياسي على مرجعية طوباويّة مشرعِنة) دون شكّ دورا حاسما[22]. (في هذا الأفق مع هوبزباوم Hobsbawm الحقّ عندما جعل من عام 1989 نهاية القرن العشرين، ضدّ أولئك الّذين اعتقدوا في ما بعد أن 11 سبتمبر 2001 هو الحدث الفارق). ليست هذه الأزمة بلا تأثير على الدقة المعترف بها للمؤشرات المستعمَلة لغايات بناء العُدَد الهُوويّة dispositifs identitaires ويظهر عدم الانتظام النّاتج عنها في مساءلة “الهويات” وفي تعويض الاجتماعيّة sociabilité الأفقيّة المحدّدة بالانتساب بالاجتماعية العمودية المنظمة بحسب الانتماء. يتطابق مع الاجتماعية الأولى “الديني-الإرث” religieux-héritage ، ويتطابق مع الثانية “الديني-الاختيار” religieux-option الّذي يقترن به التحوّل «conversion»[23]. وفي كلّ الحالات يبدو الديني مطلوبا وموظَفا في مستويات مختلفة لغايات التحكّم في المفاعيل المحرِّكة النّاتجة عن عدم الانتظام. إنّ استعمالات وإعادة استعمالات الديني، في هذا الأفق، من شأنها أن تُكوِّن مواد كثيرة لإعادةِ تأسيسٍ كثيرا ما يوضَع تحت علامة «العودة الى الأصول»، وهذه الأصول تماما مثل «التقليد» تكون مبتكَرة أكثر مما هي واقعية. ويمكنها أيضا أن تصبح عامل تَمفصُل أشكال جماعاتيّة formes communautairesجديدة ، فسجلّ الخطاب يسمح بتوحيد الجماعة الجديدة من خلال تعيين “عدوّ”. ويكون تدخل سلطة شرعنة الفضاء الجماعاتي (بمثابة استجابة لوجود) مجتمع يعتبر غير عادل وموسوم بأنّه فاسد. ومن شأنها (المواد) أيضا أن تُستخدم لتأطير وتبرير التنقلات الاجتماعية التي تساهم في خلق شروطها إذ إنّها تتدخل خاصة كإطار لتثبيت المراحل التي قُطعت خلال المسيرات النّاتجة عن التّنقلات.
بحسب هكذا منطق تمثل استعمالات وإعادة استعمالات الديني المعاصرة عناصر كثيرة لتوضيح اختلاط المَعالِم الّتي تسمح بالتّمييز بين الفضاء العام والفضاء الخاصّ. ففي حين تُظهِر الحركات الأصوليّة «البعد الخاصّ والفردي للغاية للإيمان المعاصر»، يعلن هؤلاء الفاعلون الدينيون، «مستثمرين المجال العمومي للتوجه نحو السّلطات الحكوميّة على جهة المطالبة»-تلاحظ كامي فروادوفو ميتري Camille Froidevaux-Mettrie مستعيدة عبارة خوزي كازانوفا[24] José Casanova – عن مسار جديد «لتجريد الدين من طابعه الخاصّ» « dé-privatisation de la religion » وذلك في سياقات «مُحَدّدة بصورة دقيقة بالإطار الخاصّ للديني»[25]. إنّ النّقاشات المتعدّدة المفتوحة في بلدان أوروبية مختلفة حول أنماط اللّباس وبصورة أعمّ حول قابليّة الديني للرّؤية («العلامات الظّاهرة») تشهد على هذا التطور تماما مثل إعادة لا تمايز réindifférenciation المجالين الدينيّ والسّياسيّ النّاتج عنه والمضخِّم له. لا تصدر فعالية الديني المجرَّبَة عن إمكانياته الخاصّة وحدها ولكن عن تفعيلها بسبب الصّعوبات الّتي تواجه السّياسي في التّعامل مع فقدانه المصداقية في ما يخصّ السّحر (الفتنة)، علما وأنّ الديني، كما تمّ التّأكيد على ذلك، يبدو مَرِنا مرونةً تتاخم الحياد ولذلك يكون قابلا لكل الاستخدامات مهما كانت متناقضة. وهكذا يمكن أن يكون الإسلام عاملا متميّزا للاندماج في مجتمع غير مسلم[26]، كما أنّه في نفس الوقت قابل للاستعمال كسندٍ لاحتجاجٍ جذري على ذلك المجتمع. والإنجيلية٭ من جهتها تخدم مصالح الليبراليّة ولكنّها تسمح، في نفس الوقت، بصياغة نقد العلمنة الّتي تُكوّن إحدى الخصائص الكبرى للعالم الغربي المنظَّم بصورة شاملة وفق المرجعية الليبراليّة. يمثل “الدين” موضوعا ليس من شأن تعريفه أن يفضي إلى اتّفاق، فالتعريف الّذي يعطى له هنا وهناك يركّز على انتظارات ومقاصد الّذين يعرّفون أكثر من التّركيز على الموضوع ذاته. في هذا الأفق يدعو جون نويل فرّيي Jean-Noël Ferrié ، انطلاقا من صياغات الإسلام ومن مساءلة مكانة الدّين كظاهرة جامعة وعالمية، إلى مقاربة الدين مقاربة خالية من المبالغة والتّضخيم une approche déflationniste . وعلى نفس المنوال يؤكّد باتريك ميشيل Patrick Michel، مهتمّا بهذه الموضوعات “المتحوّلة” الّتي هي في (العالم) المعاصر الديّن والحدود، على ضرورة بناء الدين كموضوع وسيط. وينبّه إلى أنّه إذا كان الدّين والحدود موضوعان يطرحان سؤالا فلأنهما يشكّلان العُقد الّتي يمكن من خلالها التّعرف على المنطق المتعدّد والمتناقض الّذي يعمل داخل المجتمعات الحالية.
وبخصوص هذا المنطق فإنّ كلّ استعمال أو إعادة استعمال للديني يُحلّلُ أولا كمؤشّر: مثلا عدم وضوح الحدود بين الفضاء العام والفضاء الخاصّ، كما تبيّن ذلك جوسلين شيزري Jocelyne Cesari ، عندما درست تأثيرات حضور المسلمين المتزايد على عَلمانية مجتمعات القارة العجوز.
وكذلك تفهم هذه الاستعمالات وإعادة الاستعمالات باعتبارها طرقا للتصرف في الحركة وخاصّة عندما تُجبر هذه الأخيرة على إعادة بناء العُدّة الهُوَويّة في وضعية عدم استقرار المحدّدات التقليدية المعتَرف بدقتها. يمكن التثبّت من ذلك من خلال مسألة التحوّل (الرِّدّة) الّتي تناولها كريستوف جفرولو Christophe Jaffrelot انطلاقا من الحالة الهنديّة أو مع تجربة إنجيلية قُدّمت على أنّها في تناغم شبه تام مع الحركة المعاصرة والّتي أبرز جواكيم ألغرنتي Joaquim Algranti قدرتها في مناخ غير مستقر على تقديم المعني انطلاقا من الحركة ذاتها، وإن كان ذلك بواسطة إعادة صياغة دلالة الآلام الناتجة عن صعوبة التّموضع في تلك الحركة.
تبيّن حالة كيرغيزستان Kirghizstan الّتي اشتغلت عليها أوريلي بيار Aurélie Biar كيف أن أداة التعريف الهُووية الّتي هي الدين والتي يمكن أن تُستخدم من قِبَل فاعلين مختلفين، تَظهر كمصدر متناقض في ما يتعلق بالتصرف الغائي لإعادة التّشكيل الجارية: كلّ واحد يعتبر نفسه وحده حاملا للتصور الأكثر أصالة للإسلام، ومن ثَمّ (توجد) الوضعيات الّتي تذهب من تشييئ الإسلام réification de l’islam باعتباره «عقيدة عرقية» إلى البحث عما يكوّن «الجوهر الخالص» للإسلام.
أمّا نيكولا ريتشارد Nicolas Richard فهو يؤكّد على ضرورة القطع مع التّوجه المتمثّل في تحليل تحوّلات الواقعة الدينيّة والواقعة العرقيّة الجارية في أمريكا اللاتينيّة بصورة مستقلّة. وهو يدعو إلى مقاربة وفق التحوّلات للمنطق المؤسّساتي الّذي يوجه ضمنيا حقلَ الديني وحقل الهويات العرقيّة وذلك بهدف إدراك وحدة الحركة الّتي توجهها.
أخيرا، ينتهي هذا الملف إلى فكرة لمارك أوجي Marc Augé حول المستقبل: فكرة المعرفة واليوطوبيا الّتي تقوده إلى التّساؤل عما إذا كانت الحداثة لم تُنجَز بعد وعما إذا كنا، ونحن نتعلّم كيف نغيّر العالم قبل تخيّله، بصدد اعتناق نوع من الوجوديّة السياسيّة والعمليّة.