تقرير صحفي : احمد بن شمسي
اشارت دار الإفتاء، المؤسسة القاهرية الوقورة المسؤولة عن إصدار الفتاوى الإسلامية، في ديسمبر الماضي إلى إحصائية غامضة تذكر أن العدد الفعلي للمصريين الملحدين هو 866 ملحد. كما قدمت الإحصائية أعداد أخرى على نفس المستوى من الدقة خاصة بالملحدين في الدول العربية، حيث يوجد، وفق الإحصائية، 325 ملحد في المغرب، 320 في تونس، 242 في العراق، 178 في السعودية، 170 في الأردن، 70 في السودان، 56 في سوريا، 34 في ليبيا، و32 في اليمن. أي إجمالي 2293 ملحد بين 300 مليون نسمة. سخر العديد من المعلقين من تلك الأرقام. سألت صحيفة “جاردين” الناشطة المصرية العلمانية رباب كمال، إن كانت تعتقد أن العدد 866 دقيق. فردت كمال ساخرة: “يمكنني أن أحصى عددا من الملحدين داخل جامعة الأزهر فقط أكبر من هذا العدد“، في إشارة إلى المؤسسة العلمية بالقاهرة التي مثلت مركزا للدراسات الإسلامية لما يقارب الألف عام. وعلق براين ويتاكر، المراسل المخضرم بالشرق الأوسط ومؤلف كتاب “عرب دون إله”: “أحد الأفكار الممكنة أن العدد بالنسبة للأردن (170) بالكاد يطابق عدد أعضاء أحد المجموعات الأردنية الإلحادية على موقع فيس بوك. لذلك فمن المحتمل أن الباحثين كانوا ببساطة يحاولون أن يحددوا أعداد الملحدين النشطين من عدة دول على وسائل التواصل الإجتماعي“.
حتى وفق هذا المعيار، تعتبر أرقام دار الإفتاء منخفضة نوعا ما. فعندما بحثت مؤخرا على موقع فيسبوك باللغة العربية والإنجليزية، مع مزج كلمة “ملحد” بأسماء دول عربية مختلفة، وجدت ما يفوق 250 صفحة أو مجموعة، مع عدد أعضاء يتراوح بين بعض الأفراد وحتى أكثر من 11 ألف عضو. وتتعلق تلك الأعداد فقط بالملحدين العرب (أو العرب المهتمين بموضوع الإلحاد) الملتزمين كفاية لدرجة ترك أثر لهم على الإنترنت. وقال مؤمن، ملحد مصري، للمؤرخ المصري حامد عبد الصمد مؤخرا: “تخميني هو أن كل عائلة مصرية بها ملحد، أو على الأقل شخص لديه أفكار منتقدة للإسلام“، “ولكنهم فقط خائفون من إعلان ذلك لأي شخص”.
بينما تهون الدول العربية من شأن الملحدين بين مواطنيها، يجدر لوم الغرب بسبب عجزه عن تخيل وجود ملحد عربي. وفي وسائل الإعلام الغربية، لا يتمثل السؤال في إن كان العرب متدينون، بل إلى أي مدى يمكن لتدينهم (المفترض) أن يضر الغرب. ففي أوروبا، يركز النقاش على الهجرة (هل “المهاجرون العرب” ضارون تجاه الحريات العلمانية؟) بينما في الولايات المتحدة، يتمحور الموضوع الأساسي حول الإرهاب (هل “المسلمون” متعاطفون مع الإرهاب؟). أما بالنسبة للحوار السياسي، فإن من على اليمين يشتبهون في أن “المسليين” عدائيين تجاه الحريات الشخصية ومتعاطفين تجاه الجهاد، بينما يسعى اليساريون إلى إبراء “المسلمين” عبر تسليط الضوء على تدينهم “المسالم” و”المعتدل”. ولكن لم يترك أحد الشعوب العربية إلى حالها بسبب ديانتهم الإسلامية. ويبني الطرفين حجتهما على فرضية أنه عندما يتعلق الأمر بالشعوب العربية فإن التدين أمر معطى لا يرقى إليه الشك، وكأنه شيء رسمي عرقي في حمضهم النووي.
يمكن أن يكون الربيع العربي قد توقف، إن لم يكن قد انحسر، ولكن عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات والاتجاهات الدينية، فإننا نشهد نشاطا جيليا. فالكثير من الأفراد يميلون بعيدا عن التدين التام الذي حاول الغربيون كرد فعل عكسي أن يربطوه بالعالم العربي. في عام 2012، وجد استطلاع للرأي الدولي أجرته مؤسسة “وين جالوب” أن خمسة بالمئة من مواطنين السعوديين – أي أكثر من مليون شخص – يعتبرون أنفسهم “ملحدين مقتنعين”، وهي نفس نسبة الولايات المتحدة. بينما يعتبر 19 بالمئة من السعوديين – حوالي ستة ملايين نسمة – أنفسهم “غير متدينيين”. (في إيطاليا، تصل النسبة إلى 15 بالمئة). تلك الأرقام صادمة بشكل أكبر في ضوء أن عدة دول عربية، ومنها السعودية، الإمارات، السودان، اليمن، تتمسك بالشريعة الإسلامية التي تعاقب الردة بالموت.
إلا أن عقوبة الإعدام لا تطبق أبدا تقريبا، حيث يقضي الملحدون المدانون فترات متفاوتة في السجن قبل منحهم فرصة للاستدراك. أما الدول العربية التي ليس بها قوانين للردة فلديها طرق لكبح التعبير عن عدم الإيمان. ففي المغرب والجزائر، تنتظر عقوبات السجن من يدان باستخدام “وسائل إغواء” لتحويل مسلم عن دينه. وتلجأ مصر إلى صور واسعة من قوانين مكافحة الكفر للحكم بالسجن على من أعلنوا إلحادهم، وفي الأردن وعمان، يتعرض من يترك الإسلام علانية إلى نوع من الموت المدني – عبر مجموعة من القوانين التي تشمل بطلان الزواج والتجريد من حقوق الميراث.
يمكن للعقوبات المنصوص عليها أن تكون خطيرة. ففي يناير الماضي، حكم على الطالب المصري كريم البنا، 21 عام، بالسجن لثلاث سنوات بتهمة “إهانة الإسلام”، لأنه أعلن إلحاده على فيسبوك. كما شهد والده ضده. وفي فبراير 2012، تعرض الكاتب السعودي حمزة كاشغري للسجن دون محاكمة لمدة قاربت العامين بسبب ثلاث تغريدات موجهة للنبي محمد، وكانت التغريدة الأكثر إثارة للجدل: ” لن انحني لك، لن أقبل يديك، سأصافحك مصافحة الند للند“. وفي الشهر التالي، حكمت محكمة تونسية على المدونين غازي بيجي وجابر الماجري بالسجن لسبع سنوات بتهمة “التجاوز على الأخلاق العامة والتشهير وإرباك النظام العام“، بعد أن نشرا تعليقات ورسوم ساخرة من النبي محمد. العام الماضي، حكم على رائف البدوي، مؤسس مدونة “الليبراليون السعوديون الأحرار” المتخصصة بمناقشة الدين، بالسجن لعشر سنوات وبالجلد 1000 جلدة. وفي ديسمبر الماضي، حكم على كاتب العمود الموريتاني محمد الشيخ ولد امخيطير بالإعدام لكتابته مقالا منتقدا لنظام التمييز الطبقي الخاص ببلاده، والذي تعقب آلياته وصولا إلى قرارات اتخذها النبي في القرن السابع. والحكم النهائي في انتظار الاستئناف.
رغم تلك الإجراءات الوحشية، تعتبر نسبة الأشخاص الذين يعبرون عن قدر ما من التشكيك الديني أكبر في العالم العربي (22 بالمئة) من جنوب آسيا (17 بالمئة)، وأمريكا اللاتينية (16 بالمئة). ورغم أن النسبة المتوسطة تصل إلى 22 بالمئة فقط إلا أنها ترتفع في بعض الدول العربية، حيث تصل إلى 24 بالمئة في تونس وإلى 37 بالمئة في لبنان. وفي ضوء مدى إعاقة البيئة الاجتماعية والسياسية العربية للتعبير عن الإلحاد، يرجح أن يكون عدد المتشككين أكبر كثيرا إن شعر الأفراد بحرية أكبر عند الحديث عما يدور في عقولهم. حيث قال الناشط الملحد المصري، أحمد حرقان، لموقع “أهرام أونلاين”: “إن حفظت الدولة وحمت حقوق الأقليات، ستتضاعف أعداد من يعلنون عن إلحادهم عشرات الأضعاف”.
في ربيع عام 2011، مر العالم العربي بحالة تشنج ثوري شملت المنطقة بأسرها. ففي تونس، القاهرة، وأماكن أخرى بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نزل آلاف الشباب إلى الميادين العامة مطالبين بحريات جديدة. وفي غضون ذلك، كان وليد الحسيني في زنزانة سجن في قلقيلية بالضفة الغربية بفلسطين. حيث تم اعتقال الشاب وعمره 22 عاما منذ أشهر قليلة من مقهى إنترنت على يد عناصر الاستخبارات الفلسطينية. وكان الحسيني في مقهى انترنت لأنه قرر عدم التدوين من منزله بسبب التهديدات التي تلقاها إثر نشره لمشاركات بمدونته “نور العقل”.
حسبما أوردت صحيفة “نيويورك تايمز”، “أغضب الحسيني العالم الرقمي الإسلامي عبر الترويج للإلحاد، تأليف عبارات ساخرة من الآيات القرآنية، السخرية من أسلوب حياة النبي محمد، وإجراء محادثات على الإنترنت مستخدما الاسم الساخر “الله سبحانه وتعالى””. لقد أخبرني أنه قد حوكم أمام محكمة عسكرية بسبب اعتبار إلحاده على الانترنت “تهديد للأمن القومي”.
تعرض الحسيني للاحتجاز لمدة عشرة أشهر، واجه خلال تلك الفترة اعتداءات جسدية وعدد لا يحصى من الاستجوابات. كان أحد مئات الأسئلة التي وجهت له، والذي لا يزال عالقا برأسه: “من يمول إلحادك؟”
قال لي الحسيني: “من الواضح أن نشر أفكاري في مدونة لم يتطلب أي تمويل“. “ولكن السؤال كان مؤشرا على عجزهم التام عن فهم أن نبذ الإسلام كان اختياري الشخصي، مثلما يمكن أن يكون خيار أي شخص آخر – وحتى هم أنفسهم. ففي عقولهم، كان يجب أن يكون هناك مؤامرة خارجية وراء ذلك، ويفضل أن تكون بقيادة إسرائيل. كان ذلك التفسير المنطقي الوحيد لإلحادي بالنسبة لهم”.
تم إطلاق سراح الحسيني في النهاية وهرب إلى الأردن، وهناك سعى إلى اللجوء في السفارة الفرنسية. يعيش الحسيني اليوم في باريس ونشر مذكرات تحت اسم “كافر! سجون الله”. وبعد مذبحة تشارلي إبدو، كتب مقال رأي في الصحيفة اليومية الفرنسية “ليبراسيون” مدافعا عن حرية تعبير راسمي الكاريكاتير القتلى. واختار المحرر عنوان المقال أن يكون: “أنا، مسلم، ملتزم بالعلمانية“. علق الحسيني، الذي كان قد نشر مذكراته كملحد ومجدف حينما صدر المقال، بنبرة مضحكة: “لقد ظنوا على الأرجح أن وضع كلمتي “مسلم” و”علمانية” في نفس الجملة كان غريبا كفاية لجذب الانتباه”.
خلال ظهوره عام 2014 ببرنامج “الوقت الحالي مع بيل ماهر”، وقع المؤلف الأمريكي سام هاريس، أحد محاور الحركة الإلحادية الجديدة، في نفس الفخ الأساسي عندما أشار إلى “المسلمين الصوريين الذين لا يأخذون الدين بجدية“. يستطيع المرء أن يتعجب فقط أمام قدر التعقيد المتناقض في تلك الجملة. فإن كان هؤلاء الأشخاص لا يأخذون الإسلام على محمل الجد، فلماذا يطلق عليهم مسلمين، سواء “صوريين” أم لا؟
المحاكمات ذات الدوافع الدينية مثل الخاصة بالحسيني دائما ما تكون أمرا خطيرا، فالمتهم لا يعتبر عدوا للرب فقط، ولكن للدولة أيضا. حيث تستخدم جميع الأنظمة العربية الدين، بدرجات مختلفة، كمصدر للشرعية. ويمثل مصطلح الكفر، بالنسبة لهم، تهديدا وجوديا. حيث تمادت السعودية عام 2014 إلى درجة إدراج الإلحاد والتشكك في الدين الإسلامي إلى قائمة الأعمال الإرهابية. وهناك منطق قابل للفهم وراء تلك الخطوة. “تعتمد السعودية بشكل كبير على أوراق اعتماد دينية، بما أن قانونها الأساسي مترسخ في الوهابية الإسلامية“، حسبما أخبرني ويتاكر، مؤلف كتاب “العرب دون إله”. وتابع: “إذا كنت ملحدا في السعودية، فأنت أيضا ثوري. ففي حال سمح للإلحاد بالانتشار، لن يتمكن النظام من الصمود”.
ليست السلطات فقط هي من تعتبر الكفر مشكلة. فالمجتمعات العربية ككل ليست مستعدة لتقبل من يعلنون عن أنفسهم كملحدين بين صفوف تلك المجتمعات. كما أن السبب الأول لإخفاء الملحدين العرب لحقيقة إلحادهم هو عدم إغضاب أقاربهم. فوسط مصادر دينية منتشرة في كل مكان، بالكاد ينظر إلى زعمك عدم الإيمان بإله على أنه تعبير عن فرديتك. بل يعتبر تحديا للمجتمع بأسره. فالتدين في العالم العربي ليس مجرد اتجاه سائد، بل هو قاعدة يفترض أن يلتزم الفرد بها دون نقاش، وإلا سيعتبر “ملحدا”، وهو المصطلح العربي الأكثر استخداما عند الإشارة إلى غير المؤمن بالإله. وبما أن الدين ينظر إليه كمهد للأخلاق، يعتبر الأشخاص الملحدين متجردين من البوصلة الأخلاقية. ويقتبس ويتاكر عن محمد الخضرا، ملحد أردني ومنظم بالمجتمع المدني، قوله: “ينطوي المشهد الأساسي على أنه إن كان أحدهم ملحدا فيجب أن تكون معيشته كالحيوانات. هكذا يروننا. لقد سئلت عدة مرات لماذا لا أقيم علاقة مع والدتي؟”
يصبح الأمر أكثر إشكالا عندما يكون غير المؤمن أنثى. حيث كتب ويتاكر في كتابه: “يمثل الربط الشائع بين الإلحاد والفجور حاجزا خاصا أمام النساء اللاتي لديهن شكوك بشأن الدين، بما أنه يتوقع منهن في العالم العربي أن يكن “فاضلات” لا “متمردات” حتى يتزوجن”.
في بيئة مماثلة، قد يفترض المرء أن الأغلبية العظمي من الشعوب العربية من الممارسين للتدين الورع. ولكن حقيقة الأمر أنه، باستثناء الدوائر الدينية المتشددة، تقابل أساليب الحياة والاتجاهات العلمانية بتسامح إلى درجة كبيرة في العالم العربي.
على سبيل المثال، ورغم تحريمه في الإسلام، يعتبر شرب الكحول فعلا اعتياديا، خصوصا في الطبقات العليا والمتوسطة المتعلمة. حتى وقت قريب في المغرب، وهي دولة تنتج كميات كبيرة من النبيذ (إلى جانب الجزائر، تونس، مصر، لبنان، والأردن)، كان يتم بيع المشروبات الكحولية في سلسلة محلات سوبر ماركت مملوكة للملك المغربي محمد الخامس، وهو المعروف أيضا باسم “أمير المؤمنين”. في خطاب ألقاه مؤخرا، استنكر عضو البرلمان الكويتي نبيل الفضل منع بلاده للمشروبات الكحولية، المطبق منذ العام 1964، لأنه يؤدي بالشباب إلى استهلاك مشروبات مصنعة سرا، وبالتالي فهي خطيرة.
كذلك لا نستثني ممارسة الجنس خارج إطار الزواج، وهو فعل محرم في الإسلام، خصوصا في البيئات الحضرية حيث يختلط الجنسين في الساحات العامة لمدة تتجاوز نصف قرن. تذكر إحصائية في المغرب أنه في أي يوم تحدث 800 حالة إجهاض سرية (يفترض أنها قد حدثت نتيجة حالات حمل خارج إطار الزواج).
وعلى نحو مشابه، بينما يفرض الإسلام على تابعيه أن يصلوا خمس مرات يوميا في مواعيد ثابتة، بينها مرتين أثناء ساعات العمل، يتغاضى المؤمنون عادة عن الصلوات عندما يكونون في العمل ويؤدونها بمجرد عودتهم إلى منازلهم. وفي المملكة السعودية، وهي واحدة من أكثر الدول العربية تعصبا عندما يتعلق الأمر بالمراسم الدينية، تضطر المحال التجارية للإغلاق لمدة حوالي 15 دقيقة عند كل أذان للسماح للزبائن بأداء واجبهم الديني. ولكن يمكنك عادة أن ترى حشود صغيرة من الأشخاص المتجمعين على رصيف ينتظرون في صمت حتى تعيد المحال العمل، ويأخذ بعضهم استراحة لتدخين سيجارة.
في العالم العربي اليوم، ليس التدين هو الإجباري، بل إظهار التدين. هناك تسامح تجاه الاتجاهات والمعتقدات غير المتدينة طالما أنها غير بادية للعامة. يقدم النفاق الاجتماعي، كنظام، متنفسا لأساليب الحياة العلمانية، مع الحفاظ على الواجهة الدينية. فالإلحاد، في حد ذاته، ليس المشكلة. ولكن المشكلة في إعلانه. لذلك فإن من يعلنون عن إلحادهم في العالم العربي يحاربون بشكل أقل من أجل حرية العقيدة أكثر مما يحاربون من أجل حرية التعبير.
لم يكن الأمر دائما على ذلك النحو. فمنذ ستينات القرن الماضي، لم ينأى المفكرون العرب البطوليون، مثل الفلسطينيين إدوارد سعيد ومحمود درويش والسوري علي أحمد سعيد، المعروف أيضا باسم أدونيس، عن تحدي التشدد الديني. كما أعلن عبد الله القسيمي، الكاتب السعودي المتوفي عام 1996 والذي يعتبر الأب الروحي لملحدي الخليج، بشكل صريح: “احتلال عقولنا بالآلهة هو أسوء صورة من الاحتلال”. في تلك الفترة، كانت التصريحات المشابهة أقل إشكالا كثيرا مما هي عليه الآن. وكما أورد ضياء حديد، الصحفي بوكالة “أسوشيتد برس”: “في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، كان اليساريين العلمانيين مهيمنون سياسيا. فلم يكن التعبير عن اللاأدرية مفاجئا. … ولكن المنطقة أصبحت أكثر تشددا منذ الثمانينات، أصبح الإسلاميين أكثر تأثيرا، وهاجم المسلحون بشدة أي علامات للردة“.
مر عبد الصمد، المؤرخ المصري، بالتجربة الأولى من ذلك النوع. فاليوم، وعمره 43 عام، هو ملحد مجاهر بإلحاده، ولكنه كان عضوا متحمسا بتنظيم الإخوان المسلمين أثناء دراسته الجامعية. ولكن بينما كان يحضر معسكرا صيفيا ينظمه الإخوان، بدأت الشكوك في التسلل إليه. حيث أخبرني: “كان يهدف المعسكر إلى إجراء شكل من الجهود الروحية والجسدية المشتركة“. وتابع: “تم إعطاء كل منا برتقالة وأمرنا بالسير وسط حرارة الشمس لساعات. وبعد رحلة مجهدة في الصحراء، أمرنا بتقشير البرتقالة. ففرحنا لحصولنا أخيرا على ما يروي ظمئنا. ولكن عندئذ، أمرنا قائد مجموعتنا بدفن الثمرة في الرمال وأكل القشرة. لقد شعرت بإذلال شديد. ويبدو واضحا أن الهدف كان كسر إرادتنا. إنها طريقة صنع الإرهابيين. تركت الإخوان بعد ذلك بفترة وجيزة“. في عام 2013، ظهر شيخ مصري متطرف على التلفزيون وأصدر فتوة قتل بحق عبد الصمد بعد أن أكد على أن الإسلام قد طور الميول الفاشية منذ زمن النبي محمد.
لماذا يدير المزيد من العرب ظهورهم إلى الدين؟ قال الصحفي بجريدة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان في عموده في ديسمبر الماضي أن الفظائع المرتكبة باسم الإسلام على يد تنظيمات إرهابية مثل داعش هي السبب. يعكس ذلك فكر العديد من النقاد الأمريكيين، الذين يمثل الإرهاب لهم مركزا لكل ما يتعلق بالشرق الأوسط. بينما في الواقع، نادرا ما يمثل التبرؤ من الإرهاب دافعا لمن ينحرفون عن الإسلام. ويعلق ويتاركر في كتابه: “أثناء إجراء البحث من أجل كتابي .. قضيت الكثير من الوقت محاولا اكتشاف سبب تحول بعض العرب إلى الإلحاد مع عدم ذكر أي ممن تحدثت معهم للإرهاب أو الجهاد كعامل رئيسي“. وتابع: “ذلك ليس مفاجئا بشكل خاص، لأن الإلحاد يمثل رفضا لجميع صور الدين، وليس فقط لبدائله الأكثر غرابة“.
بالنسبة للأغلبية العظمى من الملحدين العرب، يبدأ الطريق إلى الإلحاد مثلما بدأ مع عبد الصمد، بالشكوك الشخصية. فيبدأون بالتسائل بشأن الأمور غير المنطقية الموجودة بالنصوص المقدسة. لمذا حكم على كل من هو غير مسلم بدخول النار، رغم أن العديدين منهم لطفاء ومهذبون؟ بما أن الله يعلم المستقبل ويتحكم في كل شيء، لمذا وضع بعض الأشخاص على المسار الخطأ، ثم يعاقبهم وكأنه لم يتدخل بخياراتهم؟ لماذا الخمر محرم، إلا أن المسلمين الأتقياء موعودون بأنهار منه في الجنة؟ بدأت أسئلة مشابهة في إصابة أمير أحمد نصر، المؤلف السوداني لكتاب “إسلامي: كيف سرق التشدد عقلي، وحرر الشك روحي“، عندما كان في عمر الثانية عشر، وقدمها إلى شيخه، وهو إمام مسجد في قطر. وكانت الإجابة التي حصل عليها هي أن التشكيك في وصايا الإله حرام ويمكن أن يلهم من قبل الشيطان فقط، ولكن ذلك شجعه على المزيد من التعمق. وكما قال إسلام إبراهيم، مؤسس صفحة فيسبوك إلحادية عربية: “أردت ضمان مكان لي في الجنة، لذلك بدأت دراسة تعاليم القرآن ومحمد. ولكنني وجدت الكثير من المتناقضات والأمور الدموية والخيالات. … أي من يستخدم عقله لمدة خمس دقائق بطريقة محايدة سيتوصل إلى نفس الاستنتاج“.
تذكر الحسيني، المدون الفلسطيني، رحلته بعد أن قرر ترك الإسلام. حيث قال: “بدأت بقراءة الكتب التي استطعت الوصول إليها“. وتابع: “كان اكتشاف الفكرة الأساسية للتطور مذهلا. حيث فتحت كتب مثل “وهم الرب” لداوكنز، و”أصل الأنواع” لدارون عيناي على نموذج جديد تماما“. وأخبرني الناشط المغربي الملحد عماد الدين حبيب، 24 عام، أنه قد قرأ كتب عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي كارل ساجان.
توضح قصة إيمان ويلوبي ثاني أكثر سبب تكرارا، بعد التشكك، بالنسبة للمواطنين العرب الذين يتحولون إلى الإلحاد، وهو القمع الذي تعرضوا له شخصيا باسم الدين. ويلوبي اليوم عمرها 39 عام ومتزوجة وسعيدة وأم لاثنين ولديها عيادة تدليك خاصة بها في نوفا سكوتيا. ولكنها مرت بكابوس مدته عقدين في بلدها الأصلي، السعودية. حيث تعرضت لانتهاكات جسدية من قبل والدها الذي كسر عظامها وزوجة والدها التي لاحقتها بالسكاكين، كما تعرضت للسجن مرتين من قبل الشرطة الدينية السعودية.
في المرة الأولى، شوهدت دون حجاب قرب تيار مياة خارج مدينتها، الرياض. “لقد كان مكانا معزولا، أحببت أن أذهب إلى هناك وأن أغلق عيني، لأحس بالرياح تداعب شعري“، حسبما أخبرتني. ولكن بما أن الإناث غير مسموح لهن بالقيادة في السعودية، اضطر سائق إلى توصيلها. في اليوم الذي قبض عليها فيه دون حجاب، اتهمتها الشرطة الدينية بإقامة علاقة غير مشروعة مع السائق. لتقضي ثلاث أيام في قسم للشرطة قبل أن يأتي والدها ليحررها، ثم “يضربها ضربا يفضي إلى الموت“، وفق قولها.
ثاني حادثة اعتقال حدثت بعد ذلك بسنوات قليلة، بينما كانت ويلوبي في كلية طبية. حيث كانت الجامعة على بعد 45 دقيقة بالسيارة من البيت، وفي إحدى الليالي لم يظهر سائقها. فعرض عليها طالب أن يوصلها، وبينما كانوا يعبرون مدينة صحراوية صغيرة، أجبرتهم الشرطة الدينية على التوقف. وضربوا زميل ويلوبي حتى فقد وعيه واصطحبوها إلى قسم الشرطة، حيث أجبروها، تحت تهديد الاعتداء الجسدي، على توقيع “بيان اعتراف” بأنها كانت تقيم علاقة مع صديقها. تعرضت بعد ذلك لثلاثة أشهر من الحبس و”إعادة التأهيل الديني”، حيث كانت الصلوات الإجبارية هي الإلهاء الوحيد عن الزنزانة التي شغلتها، والتي لم يكن بها أي شيء سوى فراش على الأرض، صراصير دائمة الوجود، وكاميرا فيديو تصورها باستمرار. لم تتلقى أي رسائل من أهلها أو أصدقائها. وفي النهاية تم إخلاء سبيل ويلوبي، لتجد أنها قد أدينت وحكم عليها بالجلد 80 جلدة. وتشفع أخوها لها أمام أحد الأمراء – “ليس لأنه اهتم بشأنها، ولكن فقط لينقذ شرف العائلة”، وتم العفو عنها.
قبل السجن، تقدمت ويلوبي للحصول على منحة لتكمل دراستها الطبية في كندا. وحصلت عليها، ثم توسلت إلى والدها ليعطيها جواز سفرها (مشهد تتذكره بأنه كان “إذلال تام”) ورحلت للأبد. أما بشأن إلحادها فقد شعرت بأنه نداء طبيعي منذ زمن طويل. أخبرتني ويلوبي: “لم أصل بشكل حقيقي في حياتي أبدا”، “حتى في السجن، كنت أؤدي الحركات فقط حتى أحافظ على هدوءهم“.
“يمثل الدين صورة من المراقبة”، حسبما يرى حبيب. “الأمر لا يتعلق بالرب، بل بالقوة التي يستغلها من يتصرفون باسمه“. حبيب، ويلوبي، وآخرون تحولوا إلى الإلحاد كفعل من أفعال التمرد. ولكن تمردهم موجه ضد موجه ضد الانتهاكات التي ترتكب من قبل الأشخاص والأنظمة السياسية الذين يستمدون قوتهم من الدين أكثر مما هو موجه ضد الإسلام.
لم يكن العديد من الملحدين العرب سياسيين في الأساس. ولكن يبدو أنه ليس هناك وسيلة لتجنب ذلك. قال مؤمن لعبد الصمد أنه لم يقصد تسييس إلحاده. “ولكن عندما يكون الدين مسيس، فإن نقصه لدي يعد أمرا سياسيا أيضا، بحكم التعريف“، وفقما أضاف مؤمن. “طالما يتم اضطهاد غير المؤمنين، وطالما ينتهك الدين الحياة الشخصية للأفراد، لا يمكنني رفضه بالكامل كمسألة شخصية“. وبما أن السياسة قريبة على أي حال، فقد نمارسها أيضا، وبشكل جاد. كان ذلك استنتاج الناشط الملحد المصري إسلام إبراهيم الذي شاركه ببرنامج “البط الأسود”.
وبدأ البرنامج في أغسطس 2013 بواسطة الملحد المصري إسماعيل محمد، حيث يدعو البرنامج ملحدين من العالم العربي للحديث عما يدور ببالهم. عندما تكون مجهول الهوية، يمكنك أن تقول أمورا سخيفة وألا تتحمل مسؤوليتها، حسبما قال إبراهيم في البرنامج. “إن توقفنا نحن الملحدون عن الظهور كأشباح وتجسدنا، سنأخذ على محمل أكثر جدية، لأن تصريحاتنا سيتم التفكير فيها بشكل أفضل. كما أننا لن نحقق ما نريده أبدا إن لم نتحلى بالشجاعة لقولها بأسماءنا ووجوهنا الحقيقية“.
حتى منتصف أبريل، تم إصدار أكثر من 140 حلقة من برنامج “البط الأسود”، لتحقق آلاف المشاهدات. وللقناة هدفين: إيجاد “مجتمع علماني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتقديم المواساة والتشجيع للملحدين في السر حتى يعرفوا أنهم ليسوا وحدهم في العالم”.
في الحلقة التي ظهر فيها، قال إبراهيم: “قد يكون أخوك، زميلك في العمل، أصدقائك، أعضاء عائلتك ملحدين، مثلك تماما، ولكنهم لن يجرؤوا أبدا على قول ذلك، ما لم يرونك تظهر ذلك على فيس بوك. لقد حدث ذلك بالفعل مع جاري. حيث أصبحنا أصدقاء في الحياة الواقعية، مثلما حدث مع الكثيرين“. ولتحقيق ذلك، دشن إبراهيم صفحة فيسبوك نشر فيها مئات الملحدين العرب قصصهم، متضمنة أسمائهم، صورهم، بلد إقامتهم، والسبب وراء إلحادهم.
يعتبر البقاء على اتصال أمرا حاسما بالنسبة للملحدين العرب. فبعد أن دشنت ويلوبي مدونتها وحسابها على موقع تويتر عام 2008، قالت إن عددا ضخما من الغرباء قد تواصل معها، شاكرين لها مشاركتها لقصتها، وطالبين منها النصيحة على نحو قلق بشأن كيفية التعامل مع أزماتهم الشخصية. بالنسبة لها، أحست كأنه نداء الواجب. قالت ويلوبي إنها قد ساعدت عشرات الملحدين في الخروج من السعودية عبر إتاحة المعلومات لهم، وعبر إرسال الأموال في بعض الحالات.
عام 2007، دشنت شبكة على مستوى العالم للـ”مسلمين السابقين” لدعم اللاجئين، المنفيين، وأي شخص من خلفية مسلمة. تم تأسيس أول مجموعة مشابهة في ألمانيا بمبادرة من المنفيين الإيرانيين المتعهدين بدعم حرية انتقاد الدين وإنهاء “التهديدات والترهيبات الدينية“. وتوجد الآن فروع محلية في عدة دول منها الولايات المتحدة، كندا، المملكة المتحدة، ألمانيا، فرنسا، بلجيكا، نيوزيلاندا.
لا يوجد هيئة مركزية، ويدار كل فرع بشكل مستقل، ولكنهم يتعاونون لتنظيم المؤتمرات وحملات المناصرة. تتم العديد من نشاطات المسلمين السابقين على الإنترنت، إلا أن قدر جيد منها يتم على أرض الواقع، والذي يثير مخاوف أمنية. “إن كنت ستجري اجتماعات على أرض الواقع، فيجب أن تفحص كل من يريدون المشاركة من أجل السلامة“، حسبما أخبرتني كيران فاطيمة أوبال، العضوة الباكستانية الكندية النشطة بمجموعة المسلمين السابقين بأمريكا الشمالية.
بدأ حبيب مجموعة للمسلمين السابقين في المغرب، حيث يصل عدد أعضاءها إلى حوالي 20 عضو، وقد عقد مؤتمرات صحفية إلى جانب أنشطة أخرى. خلال الصيف الماضي، دشن حملة للحصول على حق الامتناع عن الصوم خلال شهر رمضان (حيث تعتبر المجاهرة بالإفطار في رمضان جريمة بالمغرب يعاقب عليها بالسجن، وتتراوح عقوبتها بين شهر إلى ستة أشهر).
لقد أنشئت مجلس المسلمين السابقين حتى نتوقف عن قول: “نحن مع الملحدين”، ونبدأ في قول: “نحن الملحدون””، حسبما أخبرني حبيب. “كحال مثليي الجنس، حان الوقت للمطالبة بـ”الفخر الإلحادي””. حظى حبيب بانتباه العامة في مارس 2013.
حينما كانت الشرطة تبحث عنه، لتوجيه الاتهام إليه حسبما يبدو لأنه سخر من إحدى أساسيات العقيدة الإسلامية، “لا إله إلا الله”، على صفحة فيس بوك الخاصة به وحولها إلى: “لا إله إلا ميكي ماوس”. وبدلا من أن يسلم نفسه، لجأ إلى الاختفاء مع بدء حملة دعم له على الإنترنت.
ومع ظهوره مجددا، بدا أن الشرطة قد استسلمت بشأن القبض عليه. وقد تكون شهرته الدولية النسبية (حيث أجرى صحفيون غربيون مقابلات معه مثل صحفي جريدة “نيويورك تايمز” نيكولاس كريستوف) هي ما حمته من إلقاء القبض عليه حتى الآن.
رغم المخاطر والتحديات الاجتماعية والسياسية التي يواجهونها، قال جميع النشطاء الملحدين الذين أجريت معهم مقابلات إنهم واثقون من أن مستقبل العالم العربي ينتمي إلى العلمانية. قالت لي ويلوبي إن “الإلحاد ينتشر مثل النيران المشتعلة” في الشرق الأوسط. بينما يعتبره بريان ويتاكر “عرضا لأمر أكبر بشدة، وهو المعركة ضد الاضطهاد“.
كما تمثل ساحة الموسيقي العربية المستقلة الصاعدة مثالا آخر على الزخم الذي لا يمكن مقاومته من أجل التغيير الذي يحول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدوء.
فالثورة الثقافية الكاملة ستتطلب بعض الوقت على الأغلب. وبحديثه عن بلاه، قال عبد الصمد: “أظن أن العلمانية يقين، وليست فقط مجرد احتمالية بالنسبة لمستقبل مصر. كل ما يظل غير واضحا هو الثمن الذي ستدفعه البلاد أولا. ويقول التاريخ إنها المزيد من الدماء“.
قال لي وليد الحسيني إنه “متشائم بشأن السنوات العشرين المقبلة، ولكنه متفائل بالنسبة لما بعدها“. ولكنه يمكنه أن يصمد، فبحلول ذلك الوقت سيكون عمره 46 عام فقط.