قال ميشيل فوكو (1926 - 1984)، في أحد حواراته: "لقد حصلت القطيعة (عن سارتر والمدرسة الوجودية) يوم أظهر لنا "ليفي شتراوس"، بالنسبة للمجتمعات، و"لاكان" بالنسبة للاوعي، أن المعنى لم يكن، على وجه الاحتمال، سوى نتيجة سطحية أو لَمَعَان، وأن ما يخترقنا في العمق، ما يوجد قبلنا، وما يسندنا في الزمان والمكان، هو النسق. والنسق هو البنية الخافية، التي تشبه شريط الكروموزومات في البيولوجيا، الشريط الذي يحمل مجموعة الإشارات الوراثية التي تسمح للكائن المقبل بالتطور، هذا الشريط هو نظام من الرموز أو رسالة مرموزة .. ومن ثم، إن "المتكلم (والمتكلمة) ليس الشخص، بل البنيات اللغوية ونسق اللغة ذاته .."[1]. يبدو أن مفهوم النّسق الثابت / المتغيَّر الكائن وراء اختلاف الأفراد، والذي يبطِّن الأقوال والأفعال، يتجلّى في اللغة بما هي شكل التوسّط بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والعالم، ومن هنا تتأتّى عملية (سيرورة) ترميز العالم ومفهمته، التي يقوم بها الإنسان بصفته "كائناً مرمِّزاً" ومفكّراً. كما يبدو أن مفهوم النسق (أو النظيمة الإيكولوجية) هو كلمة السرّ المشتركة بين الفلسفة، ولا سيما فلسفة اللغة وبين علم النفس والتحليل النفسي وعلم الاجتماع وعلم الوراثة وعلم الحياة. ولكن النسق، في ثباته وتغيره، نسق ديناميكي، ولا ينطوي على أية حتمية؛ ويختلف من فرد إلى آخر، فهو يعين طريقة التفكير الفردي فقط، طريقة المعرفة الفردية فقط، لا مضمونها ولا شكلها؛ أي إنه يعين طريقة / طرائق إنتاج المعنى لا المعنى ذاته، وطريقة إنتاج المفاهيم لا المفاهيم ذاتها، ولا مجالات استعمالها المختلفة.
عملية الترميز والمفهمة، التي يقوم بها كل فرد، والتي ينشئ بوساطتها صورة العالم في ذهنه أو في نفسه، (وهذا ما يسمى الوعي، أو "العقل")، هي من نوع النسق الثابت، من حيث عناصره الأولية، والمتغير أيما تغير من حيث الصور (أو المعاني) الناتجة من العلاقات اللامحدودة المتبادلة بين هذه العناصر (الحروف الجينية الأربعة، التي تتألف منها الشفرة الجينية، تقابلها الحروف الهجائية في أية لغة)، ومن ثم فإن المعنى، أو "الحقيقة" هو الشيء العام والمشترك بين المتكلمين والمتكلمات؛ أي بين بنيات لغوية ثابتة / متغيره، مختلفة أشدّ ما يكون الاختلاف، ومتشابهة أو متماثلة في بنيتها الأولية، باعتبارها جملة من الرموز والعلامات محملة بالمعاني، وإلا لما كان وعي جمعي وفهم مشترك. لكن تشبيه الحروف الهجائية بحروف الشفرة الجينية لا يعني سوى التعبير عن قابلية الإنسان، الفرد، لإنتاج اللغة وتعلمها وتعليمها، وإنتاج المعنى. (إنتاج لغات البرمجة المستحدثة، كلغة سي وجافا وغيرهما دليل قويّ على ذلك)
في ضوء هذا المعطى الأنطولوجي، تكون اللغة هي نسيج نسق المعرفة الشخصية، بمستوييها: الظاهر والخافي والقدرة على إنتاج الرموز، وإنتاج المفاهيم. وهذه القدرة هي التي تؤسّس القدرة على فكّ الرموز وإدراك المفاهيم، في نسيج أيّ نص وأيّ خطاب، واكتشاف الصلة أو العلاقة التي تربط البنية الظاهرة بالبنية الخافية، والكشف عن انفكاك هذه الصلة، في حالات العصاب، والاضطرابات النفسية / الذهنية الأخرى والاضطرابات السلوكية، ولا سيما الجمعية منها، خاصة في حالات الاضطراب الاجتماعي والسياسي. وهكذا تتعين المعرفة في مستويين: الأول يقوم على وحدة القول (الفعل) والقائل (الفاعل) والمقول (الناتج)، التي تعين مجال / مجالات الاختلاف غير المحدود، وهو مجال الحرية.
والثاني يقوم على تحليل الناتج (القول)[2] أو تفكيكه لمعرفة آليات القول واكتناه معانيه، بصرف النظر عن القائل، وهذا ما يعيّن ميدان / ميادين التشابه، وهو مجال القانون، ويمكِّن من تعرُّف الاتجاهات الجمعية والتيارات الفكرية والثقافية، في إطار المجتمع المعني والثقافة الإنسانية المشتركة، أو ما يسمّيه فوكو الفكر المُغْفَل، فكر المعرفة، بمعزل عن الذات العارفة (بمعزل عن الشخص العارف/ـة)، فكر النظر الذي لا هوية حصرية له. والأصح والأولى، في نظرنا، هو اعتبار هذين مستويين متكاملين ومتشارطين أنطولوجياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً. فحين نريد دراسة الاتجاهات الفكرية أو الأدبية لا نستطيع دراسة جميع المفكرين أو الأدباء، بل يكفي أن نأخذ عينة نفترض أن لأفرادها صفة تمثيلية، فنحصل على نماذج مختلفة، لكلّ منها بنية مشتركة بين مجموعة من الأفراد، تعبر عن اتجاه معين. هذا المستوى الثاني من المعرفة يخفي أكثر مما يظهر، يخفي اختلاف الأفراد، الذي يثأر لنفسه، بجعل المعنى الحقيقي (الذي يقصده المتكلم أو تقصده المتكلمة، يقع على جانبي النموذج، الذي ليس سوى ظل من ظلال المعنى، وجعْلنا نتوهم أن الحقيقة تقع خارج الإنسان (الفرد / النوع)، ذاته. ينطبق هذا انطباقاً كلياً على الثقافة الوطنية والثقافة العالمية أو الإنسانية العامة، ويحول في الوقت نفسه دون تنسيب الثقافة واعتبار أي منها نموذجاً معيارياً، أو ثقافة ممتازة، كالثقافة الأوروبية، في العالم، أو الثقافة التقليدية العربية، في العالم العربي، التي قوامها الأساسي اللغة والتاريخ والتراث. فإن الطريقة التي يفكر بها الناس ويكتبون ويحكمون ويتكلمون (حتى النقاشات في الشارع والكتابات اليومية)، بل حتى الطريقة التي يستشعر بها الناس الأشياء والكيفية التي تثار بها حساسيتهم، وكل سلوكهم، تحكمها، في جميع الصّور، بنية نظرية، نسق، يتغير مع العصور والمجتمعات، إلا أنه يظلّ حاضراً في كل العصور وكل المجتمعات" .. "إننا نفكر داخل فكر مُغْفَل، هو فكر عصر معين ولغة معينة، ولهذا الفكر ولهذه اللغة قوانين تحويل خاصة بكل منهما. ومهمة الفلسفة تكمن في الكشف عن هذا الفكر السابق للفكر، عن هذا النسق السابق لكل نسق، وهو الأساس الذي ينبع منه فكرنا الحر، ويسطع فيه للحظة"[3]. نفترض أن الغاية التي يحققها كل من مفهوم "الفكر المُغْفَل"، غير المنسوب إلى مفكر أو كاتب بعينه، أو قائل بعينه (بالتذكير والتأنيث) ومفهوم "النَّسق"، أو المنظومة، هي اكتشاف الإنسان في كل فرد على حدة، في أي مجتمع من المجتمعات، على اعتبار أن الفرد هو النوع متعيِّناً، في فلان أو فلانة، إذ لا وجود فعلياً لـ "الإنسان" (النوع) إلا في جميع أفراد النوع المختلفين والمختلفات اختلافات لا حصر لها. وهكذا يكون "همُّ الحقيقة" محمولاً على وحدة الفرد والنوع، وتكون حرية الفكر نسبيةً، بحكم وحدة الحرية والقانون الجدلية. ومن ثم، تكون العُصابات (والتعصبات) المثبَّتة والمثبِّتة على زمن معين أو واقعة بعينها ظواهر مرضية، على صعيدي الأفراد والمجتمعات، الصغيرة منها والكبيرة، تمتح من البنية الخافية، بالتغذية الراجعة. وإن اكتشاف الإنسان في كل فرد، ذكراً كان الفرد أم أنثى، هو الشّرط اللازم لاكتشاف المواطن والمواطِنة في كلّ عضو من أعضاء الدّولة المعنية.
غير أننا لا نعتبر الإنسان مجرد "حيوان" عارف أو عاقل" أو ناطق أو مفكر أو مرمِّز ... بل نعتبره كائناً أخلاقياً أولاً وأساساً، وهذا شرط لكونه كائناً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، لأن العقل واللغة والرموز والتفكير لا تذهب بالضرورة نحو الحق والخير والجمال والعدالة وتقدير الروابط الاجتماعية والإنسانية والحفاظ عليها وتنميتها، بل قد تذهب في اتجاه معاكس.
إن نقد النزعة الإنسانية أو الإنسانوية لعصر الأنوار، التي قامت على مفهوم الإنسان المجرد، وانتهت بمنظومة حقوق الإنسان، يعني إزالة التعارض (غير الجدلي)؛ أي إزالة التضاد، بين الفرد والنوع، وبين الفرد والمجتمع، وبين الفرد والدولة، (باعتبار الدولة هي الحياة الأخلاقية للشعب، حسب ماركس) لأنه تعارض زائف وعدمي لا يلحظ التوسطات الضرورية بين الحدين المتعارضين والتراكيب الجديدة التي تنشأ من تعارضهما؛ أي إنه لا يلحظ الواقع، ولا يتجه إلى مستقبل. ومن هنا تأتي فكرة "التناقض" (= التضاد) وفكرة "الصراع"، التناقض والصّراع اللذين لا ينحل أي منهما ولا يخمد إلا بنفي أحد الحدين أو حذفه: الفرد والنوع، الفرد والمجتمع، الفرد والدولة أو البورجوازية والبروليتاريا أو الرأسمالية والاشتراكية، أو الذكورة والأنوثة والمرأة والرجل .. أو الدين والدنيا، إذا شئتم، .. إلخ. ومن ثم، فإن النقد يجعل من هذه الثنائيات وأمثالها "كليِّات عينية"، تحمل كل منها نفيها أو سلبها في داخلها.
فإذا كانت النزعة الإنسانوية الحديثة، لم تستطع حل المشكلات التي تعاني منها المجتمعات، التي لا تطرح على نفسها من المهام سوى ما تستطيع تحقيقه، حسب ماركس، فإن القضايا والمشكلات، التي تطرحها الإنسانية النقدية، كما نميل إلى تسميتها، هي قضايا المواطنة المتساوية والعدالة والإنصاف والتنمية الإنسانية، أو التنمية المتمحورة على الإنسان، وتلبية حاجات المجتمع، المادية والروحية، وإنصاف الفئات المهمشة والمحرومة، كما تتصل بالتربية والتعليم والتنشئة الاجتماعية، علاوة على قضية الحرية المدنية النسبية، وكلها من المهام التي تطرحها المجتمعات على نفسها، وتستطيع تحقيقها، وإلا نكون كمن يرمي طفل الأنوار مع غسيلة الوسخ، فلا تفضي النزعة النقدية لما يسمى: "ما بعد الحداثة"، إلا إلى الحيرة، إن لم تفض إلى العدمية (وتكون قولة ماركس، التي يستشهد بها فوكو، في غير محلها[4]). تتجلى كل من الحيرة والعدمية، بصورتين مختلفتين جذرياً، في مقاربة "تناقض" المتن والهامش، وقضية المركزية، على اختلاف أشكالها، ولا سيما المركزية الذكورية.