عر محمد نعمان الحكيمي
أساساً لشعر يتجاوز الوجود إلى عالم الروح ، وفي قصائده اللاحقة دعّم هذا
الأساس وبنى سقفاً من الرؤى الصوفية بدا فيها تأثره بالتصوف من حيث هو منهج
في الحياة ، ومن حيث هو أسلوب في الخلق الفني تجلى في أروع صوره في أشعار
الشيخ أحمد بن علوان الذي يعدّ الشعاع الذي امتدّ منه النور الذي غمر
شاعرنا الحكيمي وأنار سبيله.
و"التصوف هو الوقوف مع آداب الشرع ظاهراً وباطناً، وقد تستعمل هذه الكلمة
أحياناً مرادفة لمكارم الأخلاق، والتصوف عدة أصناف : التصوف المتأدب
الملتزم بآداب الشرع والملتزم بالقرآن والسنة ، والتصوف الطرقي الذي يتم
فيه خضوع المريدين لنظام خاص من السلوك يفرضه عليهم الشيخ المرشد والتصوف
النظري المتفلسف وهو تصوف باطني إشراقي يهدف إلى إدراك الوجود الحق (1).
ويخلط بعض الناس بين أنواع التصوف فيتخذون موقفاً عدائياً منه، في حين أن
كلاً من السلفي المخلص والصوفي الحقّ لهما الهدف نفسه وهو تنقية النفس من
الشوائب حتى تصبح خالصة لله سبحانه وتعالى، فلا تناقض بينهما ولا
تعارض.(2)وإذا كان مما يؤخذ على بعض المتصوفة إدخالهم بعض البدع ،
والمنكرات ، كتلك التي تظهر ممن تصيبهم الأحوال من تصرفات لا إرادية وفي
جزء منها إيذاء للنفس، فضلاً عن اعتقاد بعضهم أن المعرفة الحقة إنما تفاض
على النفس فيضاً ، مما ينظر إليه في بعض الأحيان على أنه تقليل من شأن
المعرفة العلمية ، والسعي إليها. وفي واقع الأمر فإن الرياضة الروحية
وتفريغ القلب من كل شيء من شأنه أن يحرك على العمل ويبعث على الفعل أو
الترك.(3)
وليس من شأن هذا البحث المتواضع الخوض في مفهوم التصوف أو المواقف المختلفة
منه، فهو يهدف في الأساس إلى تبين آثار التصوف وأشعار التصوف في النتاج
الأدبي للحكيمي، وحسبي أنني قدّمت لهذا الموضوع بهذه المقدمة اليسيرة .
ولتبيين أثر التصوف في شعر الحكيمي فإنني سأقسم هذا البحث على أجزاء :
يتناول أولها الكلام على الأثر الموضوعي في شعره :
1) الأثر الموضوعي:
تدور أغراض شعر التصوف بعامة حول التوبة والطريق إلى الله والزهد ووصف
الشيوخ وأحوالهم والنصائح والمواعظ والأوراد والأدعية والمناجاة الربانية ،
والسماح والوصول والفناء ، والمعرفة والمدائح النبوية وذكر الأولياء
والكرامات والاستغاثة والتوسل.(4)
ولما كان الحكيمي ليس متصوفاً بهذا المعنى ، فإننا لا نقف على هذه الأغراض
مجتمعة في شعره ، وليس بالمعنى الذي وجدناها فيه عند متقدمي شعراء التصوف.
ولكن التأمل في شعره سيقودنا إلى الاعتراف بوجود إسقاطات غنية لكثير من هذه
الأغراض، فضلاً عن أنه صرّح بتأثره بالصوفيين ، وضمـّن قصائده نتفاً من
أشعارهم ، ولاسيما الشيخ (أحمد بن علوان) و(الشيخ السودي). فمثلاً : يقول
في قصيدة (امتداد):
" وروائع (الباهوت) تتلى في مقام الخوف إشفاقاً عليك:
(إلامَ نهاركم بالله ليلٌ وليل العارفين به نهارُ)"(5)
والباهوت هو لقب للشيخ ابن علوان.
ويقول في قصيدة (ذات ذكرى وألم):
" امنح فؤادك بعض عشق من هوى (السوديّ )
ماشطّ من كلف الرجال ومادنى
(يا مقعد العزمات يا عبد الهوى يا بانياً والبين يهدم ما بنى
زرني أعلمك الهوى وفنونهُ واشتمّ أنفاسي يزلْ عنك العنا)"(6)
وليس عجباً أن نراه بعد ذلك يترسّم خطا أولئك السابقين ، ويفرغ كثيراً من
أشعاره لمعانٍ دارت في شعر التصوف على نحو أو آخر. ومن أهم هذه المعاني:
1) العشق الصوفي : وهو يشمل هنا مفاهيم عدة من الحب
الإلهي وحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن طريق الشاعر في الغزل
التي تسير وفق منهج عام ينتظمه مصطلح (الحب) عنده . و" الغزل الصوفي نسق
شعري مغاير ، فنحن نلمح فيه تسامياً إرادياً من قبل المحبّ عن الرغبة في
ممارسة الفعل... ويردّ فيه الجمال الأنثوي إلى الجمال المطلق الذي لا
تعيـّن له، ويتـّخذ المحسوس سبيلاً إلى اللامحسوس، والداثر الفاني وصيداً
إلى الأبدي الباقي ، وتمتزج فيه تجربة الحب بأفكار فلسفية وخواطر تأملية
حول الحب وعلاقته بالاتحاد وعن كيفية امتزاج النفس بالمثل والمعقولات حتى
تستهلك في النور الإلهي الغامر". (7)
يلمح المتأمل في التجربة الشعرية للشاعر محمد نعمان الحكيمي بروز الحب
ممثلاً لكل القيم الجمالية في الحياة . وتتعدد أشكال هذا الحب من حب إلهي
مثالي ، حب المتصوفه لذات الله المتفردة بالجمال ، إلى حب النبي صلى الله
عليه وسلم ، ويبدو تصويره عاطفة الحب الإنساني معيناً يستمدّ منه مفهومه
الكلي لمنظومة الحب والجمال والحياة ، لذا فلا نعجب إذ ما وجدناه شاعراً
يتغنى بحب المرأة ، والوطن ، والطبيعة .
وما أجمل أن تجتمع صورتان فأكثر في إبداع هذا الشاعر ، فتتجسد لوحة بالغة
الجمال في قوله من قصيدة (أشبه بالظلال):
وتخضرُّ الـرؤى فـي قـاع نفسـي=وتـرفــل بالـسـنـاء يـــد الـخـيــال
وتـمـتـزج اشـتـعـالات الــروابــي=بـتـبـريــح الــجـــداول والــتـــلال
وتغمرنـي السـعـادة حـيـن تـغـدو=شـخـوص الـحـب ماثـلـةً حيـالـي
أرانـي حيـن ألهـج بـاسـم (طــه)=يضـيء الوجـد فـي كـل انفعـالـي
فهنا يصور اشتراك الطبيعة مع المشاعر الإنسانية في إدارك ظاهرة الجمال
المتجسد في شخص (طه) الذي يمثل شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يجسد
عنده أسطع صور الحب والجمال:
أرانـي مــا رنــوت إلـيـه أحـظـى = بــأســـرار الـمـحـبــة والـجــمــالِ
ولا نكاد نعدم صورة العشق الصوفي في كل ما يسطر شاعرنا من قصائد حتى ما
يتغنى فيها بعشق دنيوي ، أو بحب الوطن؛ يقول في قصيدة (جواهر):
أحسُّكِ مُذْ توهج وجـدُ روحــــي = بفيض العشق .. يا(بنتَ المعافرْ)
عشقتكِ ، والهوى قدرٌ لطــــيـفٌ = تَحقَّقَ فـي الضمــــائـر والسرائـرْ
وجئتك مفعماً بجـوى افتنــــــــاني = فطوّعْـتِ الحشاشـةَ والنواظـــرْ
على عينيكِ ... أنتِ صنعتِ حبي = تُجلِّيـنَ المحـبـةَ كالشعـــــــائـرْ
وليسَ سواكِ مَنْ وَجَدَتْ فـــؤادي = لدى ملكوتهـا القدسـيَّ حاضـــر
فكل ما استعمل من ألفاظ في رسم هذه اللوحة هو من معجم شعر التصوف من
(الوجد) إلى (الفيض) إلى (الشعائر) و(الملكوت القدسي)، فلولا تحديده
المقصود بالشعر لظنناه يتكلم في الحب الإلهي.
وهو يلخص موقفه من الحب الخالد في (ناشئة) القصيدة التي دلـّـل بذكره اسم
(الأسودي ) شريكه في تجربة الشعر ، دلـّل على عمق الارتباط بين كلا
الشاعرين ، وقال مختتماً إياها:
الحــــــب فــي أجلــى المنــازل بــــارزٌ =فأنــخ لــــه قيم
المحبـــــة واسـجـدِ
والحب عنده أيضاً وسيلة لاكتشاف الحقيقة :
الله لو صدقت شئون صبابتي
واستيقظت في مهجتي
شمس الحقيقة
وفي الجانب الآخر نجد نقيض هذا الموقف، وذلك عندما يتخذ موقفاً من الحب
الدنيوي القائم على تحري الغرائز والرغبات الزائلة ، إذ الشاعر يسخر بفظاظة
من الحب القائم على الغرائز الحسية، ويرسم صورة منفرة لهذا الحب ، فتفصح
ألفاظه بفجاجة عن قيمة هذا الحب لديه ، و تتلاشى مفردات التصوف، ومن ذلك:
قصيدته (الجرة الفارغة)، التي يدل عنوانها على محتواها:
إلى رعبوبة أذكت العيد في عارشات"المعلا" .. بخوراً وضوءاً
«1»
لها زغب المعصرات الحبالى
تشاطره حلمة الجب
والجرة الفاغرة
«2»
تلفحهم باشتعالات ناقوسها
حين يعتادها
شبق الوقفة البكر
والقزعة الثائرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصادر البحث :
(1)ينظر تصوف الغرب الإسلامي (معجم مصطلحات التصوف
الفلسفي ، مصطلحات التصوف كما تداولها خاصة المتأخرون من صوفية الغرب
الإسلامي) . د. محمد العدلوني الإدريسي. دار الثقافة . الدار البيضاء . ط1.
2002م . ص 64.
(2) ينظر التصوف بين الإفراط والتفريط . د. عمر عبدالله كامل . دار ابن
حزم. لبنان. ط1. 2001م. ص 20.
(3) ينظر التصوف بين الإفراط والتفريط . ص 83، و112.
(4) ينظر الشعر الصوي في اليمن حتى نهاية القرن التاسع الهجري (دراسة
موضوعية وفنية) عبدالله حمد علي بانافع . رسالة ماجستير . كلية
التربية/جامعة عدن. 2006م.
(5) بوابة الشجن . الطبعة الأولى . 2004 . ص 15.
(6) بوابة الشجن. ص 35 و36.
(7) شعر عمر بن الفارض (دراسة أسلوبية) .رمضان صادق . الهيئة المصرية
العامة للكتاب. 1998م. ص20
-----------------------------------------------------
(الجزء الثاني)
كنت تكلمت في الجزء الأول من هذه القراءة على الأثر الموضوعي للتصوف في شعر
الحكيمي ، وذكرت أولاً : العشق الصوفي ، وهأنا أكمل الجوانب المتبقية من
هذا الأثر، على أن أعود فأفرد جزأين من هذه القراءة المتواضعة للأثر الفني .
2) وصف الشيوخ والمريدين وأحوالهم:
إذا كان متقدمو المتصوفة قد عبروا في أشعارهم عن الحب الإلهي وحب
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد زاد متأخروهم ذكر الشيوخ وخصالهم ووصف
أحوالهم .
وشاعرنا الحكيمي يفرغ قصيدة كاملة لوصف حال هذا الصوفي الذي ملأ خياله،
وأعني قصيدة (من حطام المسافات)(بوابة الشجن : 88و 89) وعاد فأكده قصيدة (
خندريس الغيم) ، ويلاحظ في العنوان استعمال لفظ الخندريس وهو يعني (الخمر
القديمة) وهو لفظ موحٍ، إذ لطالما تغنى الصوفيون بالخمر بوصفها رمزاً لشدة
الوله بالذات الإلهية. ويكتمل العنوان بلفظ (الغيم) الذي لا يعدّ رمزاً
صوفياً خالصاً بل هو أكثر التصاقاً بمعجم الطبيعة، وأشدّ تعبيراً عن الرحمة
الإلهية التي تنذر بالمطر الوشيك استجابة للصلوات وهو ما تؤكده كلمة
(مبكر) في مطلع القصيدة ، وتعني: أول المطر ، يقول:
المُريدونَ من كوانينَ جاؤوا يُقرِئونَ الشجونَ إهلالَ (مُبْكِرْ)
كان وقعُ الشتاءِ فيهم فظيعاً غير أنَّ انسيابَهم ما تَخَثَّرْ
ويحتلّ (باهوت) بين شيوخ المتصوفة مركز الصدارة في شعر الحكيمي ، وإن كان
يحترس بقوله إن " الباهوت: لفظ يطلق على المتصوف الكبير العارف بالله الشيخ
أحمد بن علوان اليماني..وقصدتُ به هنا كل داعية متجرد لحب الله ورسوله
(صلى الله عليه وسلم)" ولكن تكرار ذكره في أكثر من قصيدة يؤكد أنه متأثر به
أيما تأثر، وهو أيضاً يذكر ديوانه الفتوح في قصيدة من (حطام المسافات )
مما يدلّ على أنه قرأه وتأثر به، وهو يقتبس منه كما أسلفت في أكثر من موضع.
وثمة قصيدة تحمل هذا الاسم (باهوت) يتجلى فيها عمق عاطفة الشاعر واستمداده
نور حياته من تلك الإشراقات التي تأتي مع أهزوجة الضوء ، وهي الكلمات التي
افتتح بها هذه القصيدة والتي تحيلنا فوراً إلى قوله في قصيدة (خندريس
الغيم) واصفاً إقباله على مقام الباهوت :
زَمَّلَ الطالعُ البهيُّ التياعي = كنتُ بالبرد والدياجي مُدَثَّرْ
فَازْيَأنَتْ آفاق وجدي وروحي = وإذا بي ضوءاً من الوجد أخضرْ
فهنا الشاعر الملتف بالبرد والظلام يستمد الضياء من إقباله على الباهوت،
فإذا الروح مزيـّنة ، وإذا شخص الشاعر ضوءاً أخضر من الوجد. وأعود إلى
قصيدة (باهوت) لأجد صدى هذين البيتين في قوله:
مـازلـتَ تنـساب فــي تـصـريـعِ أبـيـاتـي
ضــوءًاً، فتمـتـدُ فــي كـــل امـتـداداتـي
من هنا يصعد الفهم وإن كان بطيئاً إلى استجلاء مضامين تعلقه بالباهوت أو
لنستعمل تعبير الشاعر نفسه " الداعية المتجرد لحب الله ورسوله (صلى الله
عليه وسلم)" ، إذ يرى فيه المربي والقائد الأولى بالاتباع:
أنـت المُربـي، سَتَلْقَى الماءَ مكنوناً في بوحك العـذبِ يافيضَ المروءاتِ
باهوتُ ضاقتْ بهذي الرفعـةِ المثلى "أشباهُ ناسٍ"رقوا في الجهلِ بسطاتِ
...
كم يبعدون المُنى ..عنـا، وقـد مادت فيها سجاياك تستجدي الإشاراتِ
لـو يعلمون المقامَ الفردَ مـا اقتادوا تلك الـنعاجَ إلى أخزى مقاماتِ
فهنا يرى الشاعر في مثل هذا الداعية المثل الأعلى الواجب اتباعه والحرص على
أن تكون سيرة المرء كسيرته، و يجده بديلاً عن زعامات زرعت في الشعوب
الخذلان والتمسك بالأوهام والأوثان. وهنا تتضح شخصية الشاعر وإعلانه الثورة
بطريقته الخاصة، إذ يتخذ من (باهوت) رمزاً للاتصال بالله، والترفع عن
الدنايا ، وهي دعوة تنسجم وما عرف عن المتصوفه من احتقارهم ملذات الحياة من
باب الزهد "فللصوفية مفاهيمهم الأخلاقية الخاصة القائمة على الإلزام الحاد
للذات باحتقار الدنيا والترفع فوق مباهج الحياة والذهاب إلى أن اللذة
الحقيقية إنما تكمن في الاتصال بحقائق الكون الجوهرية" (1)
غير أن الفارق الجوهري بين غرض الشاعر من الترفع عن ملذات الحياة وغرض
المتصوفين السابقين يكمن في أن الحكيمي أكثر التصاقاً بمجتمعه وهمومه. فهو
لا يتخذ موقفه من خضوع عامة الشعب لزعمائه من منطلق فهمه للزهد في ملذات
الحياة، بل من منطلق إحساسه القوي بمعاناة الأمة العربية والإسلامية جمعاء،
وحرصه على أن تثور هذه الأمة مطالبة بحقوقها، وهذا ما تترجمه كثير من
أشعاره التي منها: (أحاحات قدسية)، و(انفري يا بلاد في الجهاد). (بوابة
الشجن: 54 ـ 59) .
ولا بدّ من تتبع معاني كلمة (باهوت) ، التي لا نقف عليها في معاجم اللغة،
فهي شأنها شأن كثير من المفردات التي ابتكرها الشيخ أحمد بن علوان(3) تعدّ
رمزاً أشاعه في شعره، فمما قاله في وصف إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم
ومعراجه :
وغاب عن العيون إلى مقام من الجبروت باهوتٌ جليل(الفتوح : 217).
والبحث في دلالة هذه اللفظة يردنا إلى الجذر (بهت ) الذي من معانيه:
الانقطاع والحيرة، قال تعالى : بَلْ تـَأتـِيْهـِمْ بَغـْتـَةً
فـَتـَبْهَتـُهُمْ . فإن الدهشة والتعجب ليأخذان بلب المرء حتى يعجز عن
الكلام , وهذا هو قمة ما يصل إليه المتحيـّر في خلق الله وعظيم أمره.
واشتقاق (فاعول) من هذا الجذر لم أعرفه عند أحد قبل الشيخ أحمد بن علوان ،
فبهذا تكون (باهوت ) كلمة مولـّدة ، وإنما كان صوغها على هذا الوزن لما
تحمله هذه الصيغة من معاني المبالغة ، ومنها وصفهم سيدنا عمر بن الخطاب رضي
الله عنه بالفاروق، ولذا فإنه يأتي من هذه الصيغة اسم الآلة ، لما فيه من
دلالة على تكرار حدوث الفعل بوساطتها، ومنه: الناقور ، قال تعالى : فإذا
نـُقـِرَ في النـَّاقـُورِِ [ المدثـّر 8], فاشتقاق فاعول من بهت يحمل
المبالغة في وصف شدة الحيرة والتعجب من عظمة مقام الله عزّ وجلّ. أما تطور
دلالة هذه الكلمة لتصبح صفة للشيخ أحمد بن علوان نفسه ، فلربما لورودها في
شعره، أطلقها عليه الناس لقباً عليه.
3) التوبة والاستعطاف والاستغاثة والتوسل:
لا يخلو شعر المتصوفين من التوبة والاستعطاف والاستغاثة بالله عزّ
وجل والتوسـّل إليه من أجل تقبل الطاعات ، ودفع الشيطان ، فهذا ابن الفارض
يعبر عن ذلك أبلغ تعبير في شعره ، فيقول:
وارحم تعثـّر آمالي ومرتجعي إلى خداع تمني الوعد بالفرج
واعطف على ذل أطماعي بهل وعسى وامنن عليّ بشرح الصدر من حرج
ولعلّ أكثر ما بدا من تأثر الحكيمي بهذا المسلك هو إكثاره من الالتجاء إلى
الله إما طلباً للرحمة؛ نحو قوله في (ألحان الرجعى ) :
فهل يا رب ترحمني
هنا بشر عجوز مسه التفريط لا الكبر
وفيه النفس يا (رحمن) عاقرة كهذا الشعر
أصرخ : من سينقذني؟
وأدعو: من سيرحمني ؟
وليس سواك يا (ألله) ملتحدي (بوابة الشجن:19)
أو خوفاً من العقاب على الضلال والغواية ، وهما مفردتان تتكرران في شعره ،
وتوحيان بما يجده من عقبات في سبيل الوصول إلى الغاية المثلى ، وهي رضا
الله عز وجلّ والوصول إلى بر الأمان ، وهذا ما تجسـّده قصيدة ( هصيص الهجر)
التي يقول فيها:
وغدوت أجأر كالغريق أنا الذي ترك الطريق
شططاً رغبت عن الأحبة في الضلال ولا أطيق