إصدارات وقراءات
هناك كتب لا تزودنا بالمعرفة والمتعة وحسب بل تشعرنا، بعد الفراغ من قراءتها، بأننا غادرنا مرحلة ودخلنا في مرحلة جديدة من مراحل القراءة والتفكير، مثل قراءة اول كتاب لـ (نيتشه) او مثل الانتقال من كتاب قصة الحضارة لـ (ول ديورانت)، الى قراءة كتاب “تدهور الحضارة الغربية” لـ (اسوالد اشبنغلر)، واعتقد أنّ كتاب “لم نكن حداثيين أبدا ” من نوع هذه الكتب، على الرغم من أنّني اطلعت على كتاب ” القول الفلسفي للحداثة ” لـ (هابرماس) الذي كان يمكن ان يكون بمثابة تمهيد وواسطة انتقال ومع ذلك لم يخفت احساسي بالمفاجأة بعمق هذا الكتاب وجدة معالجته لموضوع راهن وإشكالي.
يشبه ما يريد (برينو لاتور) أن يقوله عن الحداثة لغير الغربيين، ماقاله لاكان للغربيين عن اللاوعي : “في أي وقت نصل فيه إلى اللاوعي يكون هو وقت الإغلاق وليس من طريقة للدخول إليه إلا إذا كنا مسبقا في الداخل”.. لكن لاتور الموجود مسبقا في وعي (الحداثة)، بينما نحن خارجها ربما لأننا موجودين داخل اللاوعي القديم ؛ يقول إنه لم تكن هناك حداثة، فما الذي كان هناك منذ عصر الأنوار حتى يومنا الذي يهيمن فيه الغرب على العالم بسبب (حداثته) ؟! وما هو هدف (ما قبل الحداثيين) غير الحداثة، على الطريق ذي الاتجاه الوحيد: إلى الأمام فقط، كما قالت الحداثة ؟ ناهيك عن (ما بعد الحداثيين) ماذا عنهم إن لم نكن حداثيين حقا ؟! و لاتور يجيب عن السؤال الاول بأن التقدم ليس رهينة طريق باتجاه واحد. و للإجابة عن السؤال الثاني يقول ان موقف (ما بعد الحداثيين) إشكالي لأنهم ما بعد شيء لم يكن موجودا.. ويقترح للحداثة تسمية : ما قبل ما بعد الحداثة .. بالإضافة إلى ما بعد ما قبل الحداثة ، وأما الذين يطمحون للدخول إلى حلم الحداثة بعد أن حطم الغرب كل أحلامهم الأخرى فإن لاتور يفتح لهم مغارة الحداثة ليجدوا عالما مثيرا للرعب مليئا بمنتجات الوعي والعقل، أكثر إثارة للرعب من عوالم الجنون والخيال واللاوعي.. والآن، أين تذهب الشعوب التي تعيش خارج الغرب – وخارج الحداثة – لكن داخل عالم صنعته الحداثة، والتي فوق ذلك تتكاثر ديموغرافيا ؟! ويجيب لاتور دون لبس: ليس لدى الحداثيين أية فكرة!! وماذا عن القطيعة الإبستمولوجية مع الماضي ومع التراث ؟، يقول لاتور، لا توجد قطيعة ولا يمكن منطقيا أن تكون، إن قطيعة كاملة مع الماضي هي وهم من أوهام الحداثة مثل جميع الأوهام التي تتبجح بها الثورات. لقد صدق حدس غير الغربيين – إذن – الذين رفضوا القطيعات مع الماضي ومع العوالم اللامرئية ؟! لا ينكر لاتور ذلك طبعا ولكن مثلما يرفض اعتبار انهيار الاشتراكية نصرا للرأسمالية، يدرك عجز الثقافات الأخرى عن إعلان النصر على الغرب الذي يشتكي من الحداثة المتغطرسة: “سواء أكنا معادين للحداثة أوحداثيين أو بعد حداثيين” يقول لاتور ” فنحن جميعا معنيون بالانهيار المزدوج في العام 1989″(ص29).. العام الذي انهار فيه جدار(برلين)، ولكن هل الحداثة وهم بحيث يمكن القول أنه: باختصار لم تكن هناك حداثة ولا حداثيون؟ كلا، لا يمكن الاختصار، وللإجابة عن هذه الأسئلة يفتتح المؤلف مغامرة الكتاب المثير للدهشة وللتفكير، هناك حداثيون وهم أكثر براعة من ما بعد الحداثيين ومن ماقبل الحداثيين طبعا، لكن ما نظنه الحداثة هو خدعة عقلية رهيبة! والذي قام بها هم الحداثيون ولا أحد سواهم وفي الأثناء حدث تقدم كبير ولم يعد شيء على حاله. ” التناظر التام بين هدم جدار العار وبين اختفاء الطبيعة غير المحدودة لا يغيب إلا عن ديمقراطيات الغرب الغنية. في الحقيقة دمرت الاشتراكيات (الشرقية) شعوبها ونظمها البيئية في آن واحد. في حين أن أصحاب الشمال/ الغرب استطاعوا انقاذ شعوبهم والبعض من مناظر طبيعتهم، وذلك بتدمير بقية العالم وإغراق الشعوب الاخرى في البؤس ” (ص 28).
لكن المغامرة الكبرى هي قراءة الكتاب من قبل القارىء العربي او غير الاوروبي عموما ، لأنه سيجد الغرب العقلاني الذي قدم لنفسه الاستمتاع والإستيهام (بغرائبية) العالم الشرقي اللاعقلاني، يقدم له من خلال نقد الحداثة: عالما صنعه العقل وفقد السيطرة عليه لا يقل غرائبية عن اللاعقلانية بكل المقاييس بل هي هكذا: لاعقلانية العقل!.. وهذه من المفارقات التي يعالجها الكتاب و كل هذا من خلال جرد محكم وعقلاني. ولا تقل ترجمة الكتاب إلى العربية، من النسخة الأصلية الفرنسية والنسخة الإنكليزية المعدلة، عن مجازفة قام بها المترجمان بنجاح يثير الإعجاب على الرغم من جدة المصطلحات وصعوبتها. والتي قام المترجمان بتمريرها إلى النسخة العربية بيسر دون إثقال الصفحة بالتوضيحات الاعتراضية أو الهوامش الشارحة ، وسوف نضرب مثالا هو في الوقت نفسه فكرة أساسية في كتاب (لاتور): ” فرضية هذا البحث أن كلمة حداثي تشير إلى مجموعتين من الممارسات مختلفتين تماما، ويجب لكي تبقيا فاعلتين أن تظلا متمايزتين، المجموعة الأولى تخلق بواسطة (النقل/ الترجمة) مزيجا من أجناس كائنات جديدة بالكامل، هجائن من الطبيعة والثقافة. والثانية تخلق من خلال (التنقية) نطاقين أونطولوجيين متمايزين بالكامل، نطاق الإنسان من جهة ونطاق غير الإنسان من جهة ثانية”(ص30). ولن يستطيع القارىء القفز فوق هذا المقطع لأنه سيصادفه عبر كل فصول الكتاب الذي يحتوي ما هو أكثر من ذلك ، لكن ( النقل) و(التنقية) هما محور يدور الكتاب عليه بطريقة ما. ولذلك ليس على القارئ أيضا أن يعيد قراءة المقطع أكثر من مرة ليس فقط لأن الكاتب سيعود إليه ، ولكن لأن المعالجة عبر الصفحات التالية ستوضح وستكشف للقارىء المزيد كل مرة حول مدى تعقيد عمل المجموعتين. وما فعله المؤلف من الانتقال إلى فصول الكتاب دون التوقف طويلا في المرة الأولى عند مفهومين من الخطورة ما يجعلهما فائقي الأهمية هو ما فعله المترجمان أيضا. ومن اجل اعطاء القارئ فكرة عن موضوع الكتاب فيمكننا القول انه نفس موضوع كتاب هابرماس (القول الفلسفي للحداثة) ومع ذلك فإن كتاب (هابرماس) صعب وشائك لكن كتاب (لاتور) سلس، ويكاد المرء يقول أنه سهل، رغم أنه يعالج الاشكالية ذاتها وهذا ليس فقط فارقا لصالح كتاب (لاتور)، بل انه مثير للإحساس بالغرابة ويجعله كتابا طريفا، أن يكون صعبا ومتميزا بالسلاسة والجمال في الوقت نفسه دون الاخلال بعمق الموضوع او التهوين من اثارته للقلق، ولا شك ان احد اسباب الفوارق بين الكتابين سيكون سببه الاختلاف بين شخصيتي المؤلفين – لاتور وهابرماس – وموقعهما من الفكر الحداثي ولكن هناك ، والحق يقال ، فارق بين الترجمتين فترجمة كتاب هابرماس لم تساعد القارئ على هضم الكثير من المفاهيم والمصطلحات وربما كان على مترجمة كتاب هابرماس تزويده بالهوامش والشرح والتوضيح بينما ترجمة كتاب لم نكن حداثيين ترجمة دقيقة وجميلة، بلغة عربية صافية، وقد أحسن المترجمان صنعا انهما اعفيا القارئ من الهوامش والإحالات إلا ما كان ضروريا، وميزة اخيرة ان ترجمة كتاب لاتور خالية من الاخطاء المطبعية ، بينما ترجمة كتاب هابرماس طباعة اعتيادية بمقاييس دور النشر العربية أي انها لا تخلو من الاخطاء، وهو امر يزيد صعوبة القراءة عندما يكون موضوع الكتاب صعبا مثل كتاب (القول الفلسفي للحداثة).
العنوان الفرعي للكتاب (بحث في الأنثروبولوجيا التناظرية)، وفي الفصل الذي يدرس فيه المقارنة والجدل من القرن السابع عشر بين نظرية هوبس ، الذي يعتبره صاحب نظرية سياسية وعالما ، وبين بويل الذي يعتبره عالما وصاحب نظرية سياسية ، نقرأ ما يلي : “إذا كان العلم لا يتأسس على الافكار بل على الممارسة ، وإذا لم يكن واقعا في الخارج بل داخل الوعاء الشفاف للمضخة الهوائية وان مكانه داخل الفضاء الخاص للجماعة التجريبية ، اذن ، فكيف يمتد في كل مكان الى حد ان يصبح كليا كقوانين بويل ؟ أو قوانين نيوتن؟ الجواب، إنّه لن يصبح كليا على الاقل على طريقة الابستمولوجيين.”. ص56 لقد دأب الغربيون – وقد اعتدنا على ذلك – أن يدرسوا في الثقافات الاخرى كل انظمتها السياسية والاجتماعية وعاداتها وأساطيرها، ضمن كتاب واحد بدل تأليف ثلاثة كتب: كتاب عن السياسة، وكتاب عن المجتمع، وكتاب عن العادات والأساطير، عندما يتعلق الامر بالغرب الأوروبي، والنتيجة -كما يقول لاتور- إنه لا مفر من دراسة الغرب نفسه أنثروبولوجيا بنفس طريقة الأنثروبولوجيا المطبقة على الاخرين، هذه وجهة الكتاب والتي تختصر غايته لكنها هنا لا تعطي مطلقا فكرة عن الدهشة التي تمنحها قراءة الكتاب.
ولابدّ من ذكر كاتب هو (مطاع صفدي) كان سباقا في حدود ما يكتب عربيا في تحديد موضوع البحث الذي تتمحور حوله الآن أهم الكتابات الغربية، فهو بمناقشاته لنقد الحداثة الأوروبية الليبرالية والاشتراكية قبل ظهور (ما بعد الحداثة) وقبل انهيار جدار (برلين) واندماج الكتلة الشرقية بالغرب، قد كتب منذ اكثر من ثلاثين عام- 1981- مقالات عن أزمة الحداثة الغربية باعتبارها أزمة المشروع الحضاري الغربي بإزاء العالم من خلال مناقشة ما يكتبه نقاد الحداثة، قبل أن يؤلف (هابرماس) كتابه الهام: (القول الفلسفي للحداثة) 1985، وبالرجوع إلى مقالات (صفدي) يمكن للقارئ فهم الكثير من القضايا المطروحة في كتاب (برينو لاتور) وكذلك في كتاب (هابرماس)، وفهم السياق الحديث لنقد الحداثة.