تنبني هذه القراءة وفق طريقة
مزدوجة، ثنائية التوجه، تنطلق من العنوان، إلى النص، ومن النص إلى العنوان،
متخذة كل منهما آلة لتفكيك شفرات الآخر، واستكناه أبعاده النصية،
والتناصية، مجترحة لها في ذلك (منهجا مركبا)، يستفيد من آليات السيمياية
حينا، والأسلوبية والتأويلية حينا آخر، وهي من كل ذلك تتغيا استكناه شعرية
النص، أنى تأتى لها ذلك.
يمثل العنوان في
هذا النص بؤرة نصية ذات أبعاد مرجعية داخلية/خارجية هامة، تتأتى من كونه
موزعا، ومستقطبا لأهم المحاور النصية، التي تشكل الأبعاد الدلالية،
والتركيبية للمتن، تفتح أفق المتلقي على آفاق رحبة، وتجليات متعددة، لأنه
يعتمد على مبدأ الخرق، والانتهاك الدلالي، القائم على المفارقة، والمراوغة،
الناتجة عن المزج بين النقيضين، /(
المعرفة)-(
الجهل)/.
فالمعرفة هي
قمة
العلم، والإدراك، ومرتكز الرؤية العرفانية، التي تجعل صاحبها
مستقرا، غير متقلب، لان من يمتلك المعرفة
يمتلك الحقيقة،
ويصل إلى نتيجة يقينية، وحينئذ يتوقف عن البحث عنها، إن هذا الدال –بذلك-
يمثل
حالة استقرار، وامتلاك للموضوع، من ثم أن مجيء الضمير
البارز/(ها)/، متصلا بالفعل، ولصيقا به مباشرة، يؤكد حالة الامتلاك هذه،
فهو يعرفـ/(ها)/ معرفة يقينية، ومصدر المعرفة هذه، وسببها هو /الشامة/،
والشامة في أبسط صورها هي /العلامة/، والوسم،
الذي يميز صاحبه عن
غيره، ويجيء الدال الثالث لينحرف بمسار الدلالة هذه، ويبعد حالة
الاستقرار، والامتلاك، ويجعل حالة
الاستلاب واللامعرفة هي
الثيمات المهيمنة، كما سنرى في المربع السيميائي التالي:
المعرفة
الجهل اللاجهل
اللامعرفةفالعلاقة بين هذه
الأطراف علاقة:
1-
تضاد:
بين المعرفة والجهل، أو الجهل واللامعرفة.
2-
تناقض:
بين المعرفة واللامعرفة، أو الجهل واللاجهل.
3-
تضمين:
بين المعرفة واللاجهل، أو الجهل واللامعرفة.
يظهر من ذلك أن المعرفة هذه
معرفة
اللامعرفة وجهل اللاجهل، أي أن الذات الشاعرة، تتأتى ممتلكة
للموضوع /(ها)/، فاقدة له في آن واحد، فإذا كانت المعرفة مسلطة على الموضوع
/(ها)/، فان الجهل بدوره مسلط على الشامة، لذلك تنتفي معرفة الموضوع
/(ها)/، بانتفاء معرفة الشامة، التي هي السمة والوسم، الذين أديا إلى
التعرف على /(ها)/، أي انه
يعرف الموضوع ويجهل الشامة، وهو
ما يجعل العنوان مراوغا، عصيا على القبض، زئبقي الدلالة، لا يخبر إلا
ويضمر، ولا يفضي إلى دلالة ما إلا ويطمسها بغيرها. لأنه يعتمد على مبدأ
التشويش،
لا يأتي بذات محددة، ولا بموضوع واضح، وإنما يعمد
إلى التكثيف التركيبي، المفضي إلى التكثيف، والتشظي، الدلاليين، من حيث أنه
يستخدم الضمير (المفعول به /ها/)، بدلا عن الاسم مما يوسع آفاق الدلالة،
ويجعلها تنفتح على احتمالات متعددة،
فالضمير مبهم، غير واضح،
وغير محدد،
لايعود على ذات محددة، (في حالة انعزال العنوان
عن المتن)، وهذا الإبهام يجعله منفتحا على كوى تأويلية متعددة، فيتبدى
(عائدا على/نائبا عن) شخصية/ذات ما، قد تكون امرأة أو وطنا، أو هدية،
أو....غير ذلك، لا
نعرفها بصورة مطلقة، من خلال الجهاز العنواني فقط،
لأن هذا الإبهام التركيبي يخلق معه طاقة دلالية مكثفة، تتمفصل في أعماق
النص/المتن، وتحفز المتلقي إلى البحث عنها في مساراته/النص، وطبقاته
المتراكب بعضها فوق بعض، ويحاول من كل ذلك الإجابة على أسئلة شتى يخلقها
العنوان.
فعلى من يعود هذا
الضمير؟ أعلى امرأة، أم على وطن، أم على شيء غير هذا وذاك، وإذا
افترضنا أنها امرأة فما صفاتها؟ وما هيئاتها؟.
يأتي أول ملفوظ في النص
كمفتاح دلالي "
مبدئي" ، سيما أول دال فيه "
المرأة":
(المرأة
المتفرعة في الحديقة)
إن دال المرأة هذا يحيل
المتلقي للوهلة الأولى إلى أن الضمير المتصل
عائدٌ على امرأة محددة،
(هي هذه)، لكن الدوال اللاحقة في الملفوظات الأخرى تخيب أفق انتظار
القارئ، حينما تجعل هذه المرأة
امرأة مراوغة (دلاليا)، تبتعد عنها
صفات المرأة حينا وتعود إليها حينا آخر، فتلعب على المتلقي بذلك
نفس الدور الذي لعبه الضمير المتمفصل في العنوان، فتفضي به إذْ ذّاكَ إلى
شبكة
من الاحتمالات المترادفة، المتنافرة في آن واحد.
فمن صفات هذه المرأة أنها:
متفرعة
في الحديقة، و
أبراج تغازل أقدام المنجم). إن هذه
الصفات تضع المتلقي أمام امرأة مغايرة للنساء، امرأة /(مؤسطرة)/ -إن شئنا-،
تحملنا على جملة من التأويلات، وتدفعنا إلى التمحيص وإعادة النظر مرارا
وتكرارا في اللغة المهيمنة على النص كما وكيفا، لنكتشف ماهية المرأة هذه.
إن المرأة التي يعرفها ولا
يعرفها بعد ذلك:
"سدرة هي؟
أظنها نخلة
غنجها يقول العكس
التقينا يوما تحت
شجرة وارفة في
كتاب العلوم"
تسعى الذات
الشاعرة من خلال هذه الملفوظات إلى محاولة تأطير وتحديد هذه الذات العصية
على التحديد، فتبدو الذات الشاعرة بذلك
فاقدة للمعرفة، اليقينية،
ممتلكة لمعرفة قائمة على الظن، والظن قائم على الاحتمالات...
وقابلا للتغير والتبدل.
فالمرأة "سدرة/نخلة"، ويقول
غنجها عكس ما تبدي،
إنها تخالف (الظن)، وتأتي بعكسه،فلاهي امرأة ولا
هي شجرة ولا هي سدرة...؟ وقد كان اللقاء بها في مكان مجرد، إنه
مكان روحي/معنوي، غير مادي/محسوس
، لقاء أسطوري تحت شجرة
وارفة، في كتاب العلوم".
تتناسل هذه الصور
الباذخة، وتتقاطر لتفضي إلى عالم محسوس حينا، مجرد حينا آخر، تتأبى على
البوح بصفة نهائية، عن مكنونات النص، فالـ(مكان لامكان/كتاب العلوم)،
والـ(مرأة/مرأة و لامراة/ في نفس الوقت)، فثمة دوال تشي بأنها
امرأة/
شجرة، ودوال أخرى تشي بأنها
امرأة/امرأة، وأخرى
بأنها
امرأة/أسمنتية، فالمرأة/المرأة تتأتى في الملفوظات
التالية:
"هذه المرأة
اعرفها واستطيع تمييزها
من بين جميع
النساء"
فهي امرأة
تنتمي
الى الجنس البشري/النساء، غير عصية على التحديد والتعريف، والتعرف
أيضا، "امرأة/نساء".
إلا أن هذا التأطير،
والتحديد يبعده مايليه في ملفوظات أخرى، أكثر هيمنة من هذا الملفوظ:
"المرأة المتفرعة
في الحديقة"
"أظنها نخلة.."
"التقينا يوما
تحت شجرة وارفة في كتاب العلوم"
"تسطو على
الأكسيجين الذي أدخره.."
"إنها مهيأة
بصورة طبيعية
لصناعة كوارث
تنفسية ليلية"
تحيل هذه الملفوظات إلى أن
المرأة هنا امرأة/شجرة/ ابتداء من تفرعها في الحديقة، ووصولا إلى أنها
مهيأة لصناعة كوارث تنفسية ليلية.
إن هذا المتن -إذْ ذاك-
مليء بتناصات (علمية)،
تعود بذاكرة المتلقي إلى الصف الخامس،
زمن جموح الخيالات وبساطتها، والتعجب من ظواهر شتى، طالما قرأ عنها
الطفل/الطالب، في ذاك الزمن/الكتاب/الصف، مثل "عملية البناء الضوئي"، ومادة
"الكلوروفيل"، و"قانون الجاذبية"....الخ.
فهذه التناصات تستقطب
الدوال، من حقول مجاورة، لتعمل على تكثيف دلالة المرأة/الشجرة، وتجعل منها
امرأة/أسطورة،
خارقة لأفق المتلقي، لأنها امرأة/شجرة، قادمة من كتاب، واللقاء بها كان
لقاء أسطوريا أيضا، في مكان هو أسطوري بدوره/
تحت شجرة/في كتاب العلوم.
وبعد فنحن أمام
امرأة
تنهض بثلاث نساء، في وقت واحد، أي أنها امرأة تتشظى (/امرآت/)،
وتتوزع إلى
ثلاث كائنات عجائبية، في هيأة كائن واحد، (
بشري/امرأة،
نباتي/شجرة، إسمنتي/أبراج) كما نرى:
كائن
بشري: (امرأة../أعرفها من بين جميع النساء)امرأة كائن نباتي: (متفرعة في الحديقة.../نخلة...) كائن
إسمنتي: (أبراج تغازل أقدام المنجم)فإذا كان
الكائنان الأول والثاني (البشري، والنباتي
) كما رأينا سابقا، فان
الكائن الإسمنتي -(المرأة/الأبراج)- يتمركز في الملفوظ الثاني من المتن
فقط، ولا يظهر في ملفوظ غيره.
وإذا كان من
صفات هذه المرأة أنها (/أبراج/) فان هذه الصفة
تبعد هذه المرأة عن(
بشريتها ونباتيتها)، وتجعلها جمادا/كائنا إسمنتيا/، سيما إذا عرفنا
أن الأبراج تُشيّد من الاسمنت، والاسمنت بماهيته
علامة للضياع
الروحي في الحضارة المدنية، إلا أن إلحاق هذه /الأبراج/ بجملة
فعلية (/تغازل/) التي قامت مقام النعت (
للأبراج)، أبعدت هذه
الدلالة، وجعلت هذا الكائن الأسمنتي
ذا روح، بشرية، لذات
بشرية/شعرية أخرى، لتستقيم البنية الفاعلية الناتجة عن فعل الغزل،
لان
البنية الفاعلية هنا تقوم بعكس البنية الفاعلية في درجتها الصفر/خارج
شعرية، فالمرسل هنا (/
الأبراج/)، والمرسل إليه (/
أقدام المنجم/)، والرسالة فعل (/
الغزل/)، كما توضح الترسيمة
الفاعلية التالية:
المرسل
المرسل إليه الرسالة.
أبراج
أقدام المنجم الغزل.
وهذا
الخرق
الدلالي لماهية الكائن الشعري/(المرأة)/، وما يقوم به من أفعال،
ينفسح بالتأويلات التي يخلقها العنوان، ويجسدها المتن، وهذه مفارقة أخرى
تسهم في بناء شعرية النص، من جهة، وشعرية (المرأة/الكائنات المتعددة)،
وشعرية أفعالها من جهة أخرى.