-مقدمة:
يغرينا كثيراً السؤال الّذي يلح عندما نلمح منجزاً إبداعياً لعالم من العلماء أو المفكرين، ذلك أنّ الأدوات الّتي كانت بحوزة المبدع جدٌ محدودة، أيضاً فإنّ المنهجية الّتي تسلح بها هذا المفكر تبدو على ما بين يديه من الأدوات جدٌ متميزة وسابقة على زمانها. ومن هذا التباين بين الوسائل الماديّة التجريبيّة والمنهجيّة العقليّة يكون المنجز الإبداعي فائق التميز وسباقاً من حيث السياق المعرفيّ في زمانه، ومن خلال المتاح من التّحقيق التجريبيّ. كذلك فإنّ تاريخ العلماء من أمثال البيروني الّذي تمكّن في القرن الحادي عشر الميلادي من قياس محيط الأرض، وأيضاً ياقوت الحموي الّذي ألهمته البصيرة بتقسيم سطح الأرض إلى خطوط الطول والعرض، والإدريسي الّذي تمكّن بصحبة روجر الثاني ملك صقلية من وضع تصور جغرافي لسطح الأرض ممثلاً إيّاها بكرة، أيضاً كشوفات ابن الهيثم في البصريات والهندسة، ولا ننسى الفارابي والخوارزمي مبتكر الحساب اللوغاريتمي. والسلسلة تطول لتشمل ديكارت وبرونو، وغاليليو ونيوتن وأينشتاين وسواهم. لكنّ المهمّ هنا كيف لنا البحث عن مسار أو سياق في التّفكير أعطى هذه الانجازات الباهرة على الصعيدين التجريبيّ والنظريّ؟ ..
تتّحد هنا الكثير من المسارات الخاصّة بطبيعة الانجاز البحثيّ والإبداعيّ، ووفق تعبير توماس كون، فإنّ المتّحد العلمي (المجتمع العلمي) تتشكّل فيه وتندمج الأساليب والنظريات وطرق التّحقيق التجريبيّ ويعيش حالة من الديناميكيّة المستمرّة الّتي تسعى فيه النظريات لأن تؤسّس براديغم (نموذج إرشادي) خاص بها، يبدو جلياً فيه الدور الاجتماعي لجمعية العلماء الّذي تنبثق منه مجموعة من المعايير والضوابط الخاصّة بالحياة العلمية والإنتاج العلمي، وعلى ذلك يقسم توماس الكون تاريخ العلم إلى فترات من العلم العادي والعلم الثوري، يجري فيه تبادل الأدوار بشكل متوالي، يمكن التّدليل بمثال من تاريخ العلم في تنافس نوعين من البراديغم وحقبتين من تاريخ العلم (النظريّة النيوتونيّة في الجاذبيّة ونظرية أينشتاين النسبيّة في الجاذبيّة العامّة) ، حيث يمكن النّظر إلى النظريّة النيوتونيّة بأنّها مرحلة العلم العادي، بينما نظريّة أينشتاين في الجاذبيّة بأنّها نظرية (ثوريّة)، ولربّ قائل بأنّ ذلك يصح أيضاً على نظريّة نيوتن في الجاذبية من خلال العصر الّذي طرحت فيه، فهي أيضاً وسعت البحث في مجالات أخرى وشكّلت معلماً أساسياً لعصر الثّورة الصناعيّة في ما بعد. لكنّه يجب ألاّ يغرب عن البال بأن البراديغم الّذي أنتجت فيه نظرية نيوتن لم يكن سوى امتداد للمبادئ الّتي أرسى أسسها غاليليو ومن قبله كبلر وَ كوبرنيكوس وغيرهم، أمّا نظرية أينشتاين في الجاذبية العامّة فقد كانت تصوراً كونياً مليئاً بالتنبؤات والتفسيرات، وقد ضمنت في سياقها كلّ ما سبقها كحالة حدية، ومن هنا كان انتقال البراديغم إلى مرحلة أخرى للنظرية الفيزيائيّة عن الجاذبية بأن ضمن الزمن كبعد كوني وأتاحت استقراء نتائج تجريبيّة جديدة تؤكّدها الأرصاد والملاحظة ، لقد تغير فهمنا للعالم والكون منذ حوالي مئة سنة ومازال.
-بُعداالتّفكير:
لكنّه دون الخوض أبعد من ذلك في تاريخ العلم، يبدو من الضروري استكشاف أبعاد التفكير العلمي، ولنقل أنّه لا بدّ لنا من بعدين، وهما البعد الجهاري (الكبري)، والبعد الصُغري. وهنا يتجلّى بأنّ البعد الجهاري يبدو أكثر ارتهاناً بالتفكير التركيبي synthesis بينما البعد الصُغري فيبدو غنياً بالنظرة التحليليّة Analysis، ولا يكون بمقدورنا الاستغناء كلياً عن أحدهما على حساب الآخر فالذهن البشريّ يبهره الكبير ويعجبه الصغير. لكن ما علاقة ذلك بأبعاد التفكير الإبداعي وخصوصاً الخيال المنتج والمبدع؟..
ممّا تقدّم يمكننا القول وفقاً للمبدأ السببيّ بأنّ الواحدات الجزئيّة تجتمع لتؤلّف مجموعة من الخبرات أو الأحداث، ونحن عندما نمضي قدماً في تعرفها وفهم كيفيتها فإنّنا نقوم بتحليل عناصر تلك المجموعة، ومن ثمّ نرتب تلك الواحدات الفرديّة وفق متسلسلة خطيّة ترتبط أجزاؤها بعلاقة السبب والنتيجة، وعندما نعكس اتّجاه العملية فإنّنا نصل من النتيجة إلى السبب، ذلك هو جوهر العلاقة العلية أو السببيّة، والّتي ارتهنت بها الفيزياء ردحاً طويلاً من الزّمن ولا زالت، في كلّ من حقليها النظريّ والتجريبيّ. وإذا حملت تلك العلاقات ضمنها سياقاً متصلاً من الاتّساق، وقامت التجربة بتحقيقها لمرات عدّة، فنحن إذ ذاك أمام نظرية تنطوي على قانون طبيعيّ. وقد انبثقت بالرياضيات فروع نظرية وتطبيقيّة تهتمّ بهكذا تحليل، ولا يغرب عن البال بأنّ الحساب الخوارزمي قائم على هذه الموضوعة، فهي تشكّل صلب البنيان المنطقي لهذا النّوع من التّحليل، وبفضله تمكّنا من تطوير التّفكير الرياضي والحوسبة.
كانت تلك مقدمة بسيطة من أجل توضيح الرؤية التحليليّة بشكل مبسط. لكنّ المهم هنا كيف يكون بمقدور عقلنا ترتيب تلك الأحداث وصوغ بنيان منطقي وسببي للخبرات الّتي تعرض لنا في العالم الواقعي وعلى نحو عشوائي وغريب؟..
تلك العمليات العقليّة تشكل وغيرها أحد الألغاز الأساسيّة في ما يعرف بسيرورات الذّاكرة العاملة والتّفكير. على أيّة حال ومن أجل التّبسيط فلدى الدماغ على سبيل المثال الملايين من الحالات ومن إمكانية الانطباع العصبيّ للخبرات، بالطبع ذلك يصحّ إذا انطلقنا من مسلمة أنّ كلّ الخبرات الواقعيّة وحتّى الحلمية منها تشهد ترميزاً شبكياً عصبونياً بدرجة ما يتناسب وموقع هذه الخبرة وأساسيتها بالنسبة للنّوع وللفرد أيضاً. وذلك مدلّل عليه تجريبياً بواسطة التّحاليل النسيجيّة لأدمغة الفئران وفي التّصوير الوظيفيّ للدّماغ لدى البشر. لا شكّ بأنّنا هنا في دراسة للقدرات العقليّة في الدّماغ، حيث أنّنا نعرف جيداً أنّ الاختلال الوظيفي والهرموني وعلى مستوى المستقبلات بين الخلايا العصبيّة يحدث أنواع مختلفة من الأذيات الدماغيّة والمعرفيّة على حدٍ سواء. وبالرّغم من أنّ الدّماغ يملك إمكانيات هائلة في التّعويض البنيويّ والوظيفيّ، إلاّ أنّ بعض الاضطرابات الوظيفيّة البنيويّة تكون ذات تأثير حاسم في اختلال الوظيفة العامّة للتّفكير. لماذا؟.. لأنّ ذلك سوف يؤدّي إلى ضرر أساسي في الطّريقة الّتي تعمل بها الخلايا العصبيّة، أي جوهر وظيفتها وذلك على مستوى الجملة العصبيّة سواءً المركزيّة منها أو المحيطيّة.
إنّ الاستطراد في هذا المجال سيقودنا ولا شك نحو الدراسات الاستعرافيّة الخاصّة بآليات التّفكير والذّاكرة. ولكنّه دون الخوض في التّفاصيل التشريحيّة والوظيفيّة سنحاول الاستقصاء من جوانب أخرى نفسيّة وظاهراتيّة (فينومينولوجيّة) . إذا أردنا الخوض في الأساس الماديّ وذلك وفق ثنائيّة الذّات والموضوع فيمكننا أن نقول بأنّ الواحدات والمفاعيل الماديّة للظّواهر تنطوي على مستويين للتّآثر: أحدهما جهاري (عياني) والآخر صُغري. والمستوى الجهاري هو مسرح السببيّة المفضّل ومستوى النّظم الخطيّة، بينما المستوى الصغري فهو المستوى دون الذري المليء بالاحتمالات الكموميّة وتحكمه نظم لاخطيّة، وبالتّالي فهنالك مستويين للحساب، أحدهما يحوي على مقادير محدّدة بالنسبة للأوضاع والشروط الابتدائيّة، والآخر حساب احتمالي إحصائي. لكنّنا يجب أن ننتبه لنقطة جوهريّة وأساسيّة بالنسبة للمستوى الصغري، وهو أنّ الحساب هو حساب حالات وتفاعلات أكثر منه عمليات وفق المنطق الخطي أو السببي وبالتّالي فهو بصيغة من الصيغ محتوم بدرجة مّا. كذلك فهو ريبي وعشوائي (مبدأ الريبة لِـ هايزنبرغ)، وهذه الريبة وفق مدرسة كوبنهاغن والمبادئ الكموميّة كامنة في قلب تلك التّفاعلات، وليست ناجمة عن عوامل خفية عن الحساب وفق دعوى ماكس بورن. وهنا نصل للنقطة المفصلية التالية:
وفقاً لما أسلفنا فإننا على مستوى بنيتنا البيولوجيّة نضيف شيئاً أساسياً وأولياً بالنسبة للطبيعة: أين تقع الظّاهرة البيولوجيّة أو الحيّة بالنسبة لهكذا نمطين من المعرفة؟..
-مبادئ واستنتاجات:
يجب الاعتراف أولاً بأنّ الظّواهر البيولوجيّة في مستواها الأعمق تستلزم ميكانيزماً يعاكس المفاعيل والآثار النّاجمة عن التّفاعلات الكيميائيّة في أدنى مستوياتها الّتي يجري فيها استهلاك الطّاقة، فمن خلال ذلك يكون تبديد الطّاقة عبثي إلاّ إذا تمتعت المنظومة الحيّة بما يسمى (التّجدد الذّاتي)، وفق مبدأ فاريلا وماتورانا فالخلايا الحيّة يمكن اعتبارها منظومات مغلقة تنظيمياً ومفتوحة طاقياً. بمعنى أنّ الخلايا الحيّة قادرة وفق ميكانيزم داخلي من القيام بعمليّة الصيانة والتّجدد لبناها الداخليّة وهذا التّنظيم الذّاتي يكفل للخلية البقاء أو إذا شئنا الحياة. حيث يكون بمقدور الخلية إنجاز برنامج بقائها وصيانته ذاتياً، وهي بذات الوقت أي الخلية وبواسطة غشائها الخلوي مفتوحة على الوسط الخارجي، فيسمح الغشاء الخلوي بدخول المواد اللاّزمة لإنجاز تفاعلاتها الداخليّة وهي مواد طاقيّة وأيضاً خروج نواتج التّفاعلات الداخليّة وتحوّلات الطّاقة ونواتج الأكسدة إلى الوسط خارج الخلوي، وهي بذلك تعدّ منظومات مفتوحة طاقياً. ويبدو جلياً وفق ذلك أنّ عملية التّنظيم الذاتيّ معاكسة للمفعول النّاجم عن استهلاك الطّاقة وتبديدها (القانون الثاني للترموديناميك) الّذي يوجب حصول زيادة في تبدد الطّاقة يعني فناء المنظومة وموتها خصوصاً إذا كانت مغلقة وتزايد حالة الفوضى (الأنتروبي entropy). لكن باعتبار المنظومة حيّة فإنّ التّنظيم الذّاتي يصون البقاء ويعاكس مفعول التّبدد بالاتّجاه الموجب الخاصّ بالتّنظيم. إنّ جوهر هذه العمليّة يضمن الحفاظ على مستوى من الطّاقة اللاّزم لإتمام التّفاعلات والبناء والصّيانة وتبادل النّواتج مع الوسط خارج الخلوي.
وفقاً لذلك وإذا عدنا لبناء الصّورة دون الخوض في المزيد من مزايا المنظومات الحيّة فإنّنا نحصل على ما يلي:
أولاً: إنّ الطبيعة الحيّة في هذا المستوى الصُغري تملك برنامج للتّفاعلات والتّنظيم الذّاتي والتّبادل الطّاقي وفق برامج جينيّة محدّدة. لذلك فهي منظومات غير محتومة بشكل تامّ في مجمل تلك العمليات الواردة إلّا من خلال برامجها الجينيّة في ما يخصّ سماتها الوظيفيّة والبنائيّة والمورفولوجيّة.
ثانياً: وفق البند السّابق تبدو المنظومات الحيّة، منظومات لاخطيّة non-linear، أي أنّها لا تتبع الحساب السّببي المحتوم أو الخوارزمي في التّفاعلات والتّنظيم الذاتي.
ثالثاً: كذلك فإنّ هذه المنظومات تحتفظ وفق العلاقات الوظيفيّة بين واحداتها من الخلايا الحيّة ببنية شبكيّة منظمة من أجل تحديد هويّة وظيفيّة عامّة للمنظومة تميز العضو المحدّد عن غيره من الأعضاء.
رابعاً: يترتب وفق ما ذكرنا اعتبار أنّ المنظومة العصبيّة في الخرائط العصبونيّة المشكلة لخبرة ما سواءً على مستوى الخبرات الذاكراتيّة أو التّنظيم الحيوي والإشراف على أعضاء أخرى في الجسم وحتّى المنعكسات التكيفيّة وغيرها على أنّ العلاقات في البنية الكليّة للخلايا العصبيّة تحدّد بدرجة مّا الوظيفة المنوطة بذلك المركز من الدّماغ.
خامساً: يبدو من الملاحظة التشريحيّة أنّ الخلايا العصبيّة تختلف مورفولوجياً (شكلياً) بالزّيادة الكميّة والبنيويّة وفق ما تقتضيه ظروف العمل المطلوب من الخلية انجازه في ما يخصّ التّنسيق العصبي والدارات العصبيّة، وكمثال البنية التشريحيّة المختلفة لطبقات الخلايا في القشرة المخيّة الحديثة neocortex وفي شبكية العين وبعض الأنسجة الأخرى في الجسم.
سادساً: لا يمكن بحال من الأحوال اختزال الظّاهرة البيولوجيّة في المنظومات الحيّة إلى مجموعة من التّفاعلات السببيّة الكيميائيّة، حيث يبدو من الواضح أنّ أي حركة أو وظيفة سواءً داخل الخلية أو في خارجها نلاحظ تآثراً في ما بينها وباقي المحيط الحيوي من المكونات الخلوية سواءً في سيرورات استهلاك الطّاقة وتبادلها حتّى مع الوسط الخارجيّ.
سابعاً: شهدت الأبحاث في الأعوام الأخيرة دلائل تجريبيّة وكشوفات في ما يخصّ المفاعيل الكموميّة الفيزيائيّة على مستوى الظّاهرات البيولوجيّة، إبتداء بعمليات التّركيب الضوئي Photosynthesis، والحاسة الشميّة، وتقنية تعّرف الاتّجاهات القطبيّة المغناطيسيّة في الطّيور الملاحيّة (طائر أبو الحناء الأوربي Red European Robin)، إضافة إلى حاسة الرؤية والمتمثل في عمل شبكيّة العين والتّآثر الفوتوني، وما زالت الأبحاث جارية للكشف عن المزيد من الظواهر الكموميّة في تلك الأنظمة البيولوجيّة.
ثامناً: تشكّل ظاهرة الوعي أو ما يسمّى الخبرة الواعية، وخصوصاً موضوعة الإرادة أو الخيار الحرّ محوراً هامّاً في الكثير من الدراسات والتّجارب الّتي تبحث وتفسّر الظّاهرة البيولوجيّة في مستواها الصُغري بناءً على مفاعيل كموميّة كالتّشابك الكمومي quantum entanglement ، والموضعيّة الكموميّة الفائقة superposition q.، والتشفير الكمومي q. cryptography ومبدأ هايزنبرج في الريبة، وغيرها من المبادئ، محاولة تفسير عمق الظّاهرة البيولوجيّة وفق تلك المفاعيل الكموميّة.
تاسعاً: استكمالاً لبحث ظاهرة الخبرة الواعية والإرادة تشتبك الدراسات والتّجارب في نطاقين منهجيين، فإحداهما، أي البيولوجيّة تستند إلى مجموعة من القوانين والمبادئ البيوكيميائيّة والجينيّة والتطوريّة الّتي تبدو حتّى الآن قوانين وسمات بيولوجيّة للظّواهر الحيّة في الطبيعة، وتشكّل الكشوف التجريبيّة عاملاً حاسماً في الكشف العلمي متسقاً مع البنية النظريّة، فمثلاً تمّ بناء الأسس الحديثة لعلم الوراثة بناءً على اكتشاف الحلزون المزدوج (الدنا DNA) ، كذلك الأمر مع الفيزيولوجيا الّتي اقترنت بالكشوفات التشريحيّة والتّجارب الفيزيائيّة الحيويّة، بينما يشكل النّطاق المنهجي الآخر، أي الفيزياء الكموميّة على وجه التّحديد عالماً يحكم ويفسر تلك الظّواهر البيولوجيّة في مستواها الصُغري، وهي هنا أي الكموم قد أنجزت بناءها النظري والتجريبي بمعزل عن الظّواهر البيولوجيّة، ومن ثمّ تمّ البحث عن تلك المفاعيل الكموميّة في صلب الظّاهرة الحيّة، ومن هنا فإنّ المبادئ المنهجيّة والنظريّة يجري تعرفها فيزيائياً في المنظومات الحيّة. وفق ما تقدّم تشكل الخبرة الواعية ميداناً رحباً لالتقاء تلك العلوم ولبلورة منهجيّة جديدة في دراسة وتفسير الحياة.
عاشراً: وفقاً لنظرية سانتياغو الّتي تمت صياغتها من قبل فاريلا وماتورانا فإنّ العقل ليس نتاجاً مباشراً للفعاليات الدماغيّة، حيث تحتفظ المنظومات الحيّة بآليات التّجدد والتّنظيم الذاتيّ، وكما أسلفنا فهي منظومات مغلقة تنظيمياً ومنظومات مفتوحة طاقياً، كذلك حري بنا الانتباه إلى أنّ البنية العلائقيّة بين تلك المنظومات تشكّل أساساً مهماً في تعرف الظّاهرة العقلية، ولسنا في معرض التّصديق بأنّ الأفكار تملك وجوداً خاصاً بها بمعزل عن الكائنات البشريّة. لقد استنتج (ماتورانا) أنّ التّنظيم الدائري للمنظومة العصبيّة يحدث في كلّ المنظومات الحيّة وفق سيرورة سببيّة مغلقة تسمح بالتّغير التّطوري للحفاظ على هذه الخاصيّة الدائريّة، وليس في اتّجاه فقدانها. ولقد أفترض أيضاً أنّ المنظومة العصبيّة ليست منتظمة ذاتياً وحسب، بل ذاتيّة الإحالة أيضاً، بحيث أنّ الإدراك لا يمكن النّظر إليه كتمثيل لواقع خارجي، بل يجب فهمه كخلق مستمرّ لعلاقات جديدة ضمن الشبكة العصبيّة، ونقول: ” إنّ نشاطات العصبونات لا تعكس بيئة مستقلة عن المتعضي الحيّ، لذلك فهي لا تتيح إنشاء عالم خارجي موجود بشكل مطلق”. وَوفقاً (لماتورانا) .. إنّ الإدراك perception، والاستعراف cognitive عموماً لا يقوم بتمثيل واقع خارجي، بل يواصِف specify واقعاً من خلال سيرورة التّنظيم الذاتيّ في المنظومة العصبيّة. وَوفقاً لذلك أفترض أنّ سيرورة التّنظيم الدائريّ ذاتها بوجود منظومة عصبيّة، أو بدونها تتطابق مع سيرورة الاستعراف. لذلك فإنّ المنظومات الحيّة هي منظومات استعرافيّة. تسري هذه العبارة على جميع المتعضيات سواءً كانت تمتلك منظومة عصبية أم لا.
-خاتمة:
على ضوء ما قدمنا من استنتاجات يبدو من الجليّ خصوصيّة المنظومات الحيّة الّتي تضيف بكونها -حيّة- تحدياً كبيراً للمعرفة الفيزيقيّة الماديّة. إنّ فكّ شيفرة كلّ ما هو حي يعني البحث عن منهج جديد لدى دراسة تلك المنظومات بعيداً عن الاختزال الفيزيائي، وإن كان يصحّ في بعض المستويات من الظّاهرة الحيّة. إنّ ظواهر كالانبثاق والتّطور والتّعقيد والتّنظيم الذاتيّ والديناميك اللاَّخطي، ليست فقط ظواهر وإنّما مبادئ حاكمة لمجمل المنظومات الحيّة، ولن تكون معرفتنا عن العالم الطبيعيّ متكاملة إلاّ إذا أخذنا بالحسبان ومنهجياً تلك القوانين في صلب المعرفة العلميّة عن الكون. وإذا كانت الأفكار تغتذي من بعضها فإنّ النظريات تفسح المجال لرؤية أكثر شموليّة للوجود الحيّ والوجود الماديّ. إنّنا نتطلّع بشوق من أجل تأسيس منطق جديد في الكشف العلميّ يأخذ في الحسبان الوجود الحي، ليس فقط كظاهرة منبثقة عن عمليات فيزيائيّة وكيميائيّة ، بل كبنية متكاملة من القضايا المنطقيّة والحيويّة أيضاً، وإذا كان تاريخ المنطق يستند إلى المنطق الصوري والرمزيّ، فإنّ المنطق الحيوي يضيف تصوراً نظرياً وتجريبياً وعقلياً جديداً. ليس هذا استطراداً برغسونياً ولا قضايا أنطولوجيّة فلسفيّة، وإنّما مجموعة من التعريفات والقضايا شديدة الصّلة بأسس الفهم والتَّفسير العلميّ.