السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الدراسة هو كيف نستطيع أن نضع حدود بين مجالين من مجالات المعرفة اتجها منذ وجودهم، ضمن إطار الوعي البشري بالعالم، صوب السعي إلى فهم و تفسير جوهر و ماهية الطبيعة الكلية؟نحن نجد اليوم أن الغالبية العظمى من فيزيائيي هذا العصر قد تدربت تدريباً جيداً على أن يفصلوا ما أمكنهم بين مجالات تخصصهم وبين الفلسفة. ومن ناحية أخرى، فإن الغالبية العظمى من طلبة الفلسفة قد دربوا على الاعتقاد بأن الإلمام السطحي بالفيزياء أمراً ضرورياً لكي يحقق المرء فهماً أفضل للفلسفة. و مع ذلك، فإذا سألنا كيف يتسنى لنظرية فيزيائية أن تفسر على أنها تؤيد أو تدحض المادية أو المثالية، فإن ذلك يضع الفيزيائيين حقاً في مأزق، وإذا استشعر فيلسوف أن معلوماته في الفيزياء غير كافية فاستشار خبيراً في الفيزياء، فإنه نادراً ما يتلقى رداً مرضياً. وهناك بالطبع فيزيائيون على استعداد لأن يتقبلوا أكثر الحجج إبهاماً طالما أنها لا تتظاهر بأنها حجج علمية، ولكنّها تدعى بأنّها “فلسفية” تتفق مع الفلسفة التي استقاها الفيزيائي في طفولته. ولكن هذا الفيزيائي عندما يتحدث “كمتخصص فيزياء” فإنه يقول عادة إن كل هذه المضامين الفلسفية بشأن المادية و المثالية، هي مجرد هراء لا يصح للعالم الحق أن يوليها اهتماماً، ولكن يبقى لهذا ” الهراء ” تأثيراً قوياً وأزلياً في السلوك الإنساني، ذلك أن الفيزيائي الذي يعجز عن أن يقدم إلى طلبته تفسيراً للأصداء الفلسفية للنظرية النسبية أو الكمومية، لا يكون قد أدى واجبه كمدرس للفيزياء.[1] كذلك من غير المجدي أن يقوم الفيلسوف بتدريس فلسفة الطبيعة دون أن يناقش المضامين العميقة للثورات الفيزيائية في تصوراتنا للعالم وماهيته فهماً وتفسيراً وتأويلاً . والواقع أنّ مفاهيمنا وقوانيننا عن العالم الموضوعي الذي يدعى “الطبيعة”, غالباً ما تبنى على أساس النتاج الجدلي الناتج عن تفاعل عقلنا مع العالم. وهذا ما يجعل من الصعب في النهاية أن نحكم على النتيجة التي نتوصل إليها، هل هي خلق عقلي، أم اكتشاف لقانون طبيعي؟ وسواء أكان التفسير العلمي سببياً، أو توحيدياً، أو ناموساً طبيعياً، أو إحصائياً، أو استدلالياً، أو استقرائياً، أو أية توليفة من كل ذلك. فإن السؤال سيظل قائماً حول كيف و ما إذا كانت التفسيرات العلمية في الواقع تجيب عن أسئلتنا التفسيرية، و هل تطرح نوع الفهم الذي يشبع بحثنا إشباعاً حقيقياً ؟ إن إحدى وجهات النظر التي سادت طويلاً تقول بأن التفسير العلمي محدود، و هو في النهاية غير مشبع , لأنه لا يصل إلى عمق الأشياء . وفي بعض الأحيان يعبر هذا المنظور عن نفسه بالقول بأن التفسيرات العلمية تبين فقط كيف تجيء الأحداث، ولكن لا تبين لماذا تحدث، وهنا تدخل الرغبة بمعرفة العلّة الفاعلة في مجال التفسيرات التي يمكن أن تزودنا بها الفيزياء و الكيمياء. [2] الحدود الفاصلة بين الفلسفة والعلم ( الفيزياء نموذجاً ):
إنّ مسألة العلاقة بين الفلسفة والعلم عموماً، هي بحد ذاتها مسألة تاريخية معقدة، فالكثير من الاختصاصات كانت تعتبر علماً ولم تكن تعد فلسفة، ومنذ أيام أفلاطون، فُرزت مجالات متعددة من المعرفة على نحو متباين، ونُظر إلى كل مجال على أساس أنه علم له موضوعه الخاص في البحث، مثل الحساب باعتباره علم الأعداد، والهندسة باعتبارها علم الأشكال الفراغية، والفلك باعتباره علم دراسة حركة النجوم والكواكب، وباستثناء المجالات التي فُرزت تاريخياً باعتبارها اختصاصات منفصلة بما لها من أغراض دراسية خاصة، يوجد أيضاً اختصاصات اعتبرت علماً ذات يوم، ولم تعد كذلك بعد فترة من الوقت، كاللاهوت الذي اعتبره الاكويني أعلى العلوم. وفي وسط أوروبا بدأت الثورة العلمية من خلال أفكار كوبرنيكوس و تيكو براهي وكبلر، ثم تحولت إلى جاليليو في إيطاليا، لتنتقل إلى ديكارت في فرنسا، ثم نيوتن في إنكلترا، وكانت تلك الثورة العلمية ثورة فلسفية أيضاً، إذا كانت العلوم في فترة القرن السابع عشر هي ما يطلق عليه “الفلسفة الطبيعية. والمدقق يجد أنّ نيوتن مؤسس الفيزياء الحديثة ساهم أيضاً في الترتيب المنهجي لفلسفة العلم، كما أن ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة ساهم في إنجازات كبرى في الرياضيات و الفيزياء.
ولم يتضح الانفصال الابستمولوجي بين العلم الطبيعي والفلسفة، إلا بعد الثورة الصناعية و مفرزاتها التقنية. إذ أصبح من المتعارف عليه أنه في النموذج التقليدي للتقدم العلمي، نبدأ بالجهل و الخرافات، ونتحرك باتجاه الحقيقة النهائية بتراكم متتال من الحقائق. وفق هذا المنظور ، يشتمل تاريخ العلم على شيء أكثر قليلاً من الاهتمام بنوادر الحكايات، لأنه لا يمكنه سوى أن يسجل الأخطاء السابقة وأن يعزو الفضل إلى واضعي اللبنات لفطنتهم بتقديم لمحات من الحقيقة النهائية، وهو شفاف مثل الميلودراما القديمة، فالحقيقة (كما نفهمها اليوم) هي الحكم الوحيد، وعالم العلماء في الماضي ينقسم بين الأخيار الذين كانوا على حق، و الأشرار الذين كانوا على خطأ. لكن في الفلسفة لم يكن هناك التقدم العمودي المتعارف عليه، فنجد الطابع الجدلي، بين ما يُعتقد أنه على حق وما يُعتقد إنه على باطل. الجدل الفلسفي جدل معتقدات قد يصل إلى مرتبة الحقائق فيتحول إلى علم. أما التقدم العلمي فهو تتابع مكتشفات وأفكار، قد يُصعد إلى جدل غير يقيني فيتحول إلى فلسفة. وبالتالي، إذا ما فرغ بعض رجال العلم من بحوثهم، وعمدوا إلى الكتابة عن نتائجها، وبيان أهميتها و مكانها في تاريخ العلم، وأثرها المتوقع في حياة الإنسان، وغير ذلك من موضوعات تتجاوز التقرير المباشر لنتائج البحث وخطواته، إذا ما صنع العلماء ذلك، فإنهم يدلفون إلى نخصص آخر ليس العلم ، بل فلسفة العلم. وهم بصنيعهم ذلك يتنازلون عن حصانتهم العلمية، ويقفون على قدم المساواة مع سائر فلاسفة العلم، بحيث يمكن لنا أن نقبل كلامهم أو نعزف عنه دون أن يتوجب علينا أن نتخذ من آرائهم الفلسفية نتائج تكافئ في صحتها معادلاتهم و صيغهم العلمية.[3] فإذا كان من شأن العلم، أن يشد وثاق الإنسان إلى الطبيعة، فإن الفلسفة لا بد أن تنضاف إلى العلم لكي تذكر الإنسان أنه لا يحيا في الطبيعة، إلا لكي يتجاوزها ويعلو عليها، وربّما كانت رسالة الفيلسوف الأولى أن يتوجه نحو أولئك الذين لا ينشدون سوى المنفعة، ولا يهتمون إلا بالنتائج العملية، ولا يفكرون إلا بالمستوى المادي، لكي يعرفهم بأن هذا كله لا بد وأن يفضي حتماً إلى الهبوط بمستوى الإنسان، أو القضاء على صميم وجوده الشخصي.[4] والفلسفة تنشأ من محاولات عتيدة يمارسها الإنسان للوصول إلى المعرفة الصحيحة، ذلك أن المعرفة التي يتقبلها الناس بالتسليم معيبة من ثلاث مآخذ: فهي أولاً تتعجل اليقين قبل أن تتوافر أسبابه، وهي ثانياً غامضة، وهي ثالثاً متناقضة مع بعضها البعض. وإنك لتخطو الخطوة الأولى في سبيل الفلسفة، إذا أدركت تلك النقائص، لتقيم معرفة تتميز بميلها إلى التجريب والدقة والاطراد والشمول، فإذا كان العلم يدرج الحقائق المتفرقة في قوانين تجمعها، فإن الفلسفة تأخذ منه قوانينه تلك، لتجعل منها مادتها الخامة التي منها تبدأ، وعليها تقيم بناءها.[5] ولعل هذا أيضاً ما يبرر الفرض الفلسفي الذي يفترض البساطة، حيث أدركنا بصفة عامة، منذ عصر نيوتن على الأقل، على أنه عندما نواجه بعدد من التفسيرات المختلفة الممكنة لإحدى الظواهر، فإنه يكاد دائماً يثبت في النهاية أن أبسط هذه التفسيرات هو التفسير الصحيح.[6] وفكرة أن قوانين الطبيعة التي ندركها هي القوانين نفسها التي يجري العمل بها في أماكن أخرى وأزمنة أخرى، هي فكرة لا يمكن إثباتها، على أن هناك رغم هذا أدلة و قرائن كثيرة في صف ذلك. فطرح هذا الفرض قد أدى إلى خلق نظريات لها قدرة تنبؤية وهي كما يبدو، قد أعطت تفسيرات متماسكة للظواهر التي نلاحظها اليوم في الكون. وبكلمات أخرى، فإن افتراض هذا الفرض الذي هو أساساً افتراض فلسفي، قد أدى إلى خلق نظريات علمية هي فيما يبدو معقولة، ومن الواضح أن الذي يحملنا على استبعاد بعض الجوانب أو المجالات من المذاهب الفلسفية الذائعة الصيت هو مقارنة تلك الجوانب بما بلَغه العلم الآن من نتائج مخالفة. فكأننا نضمر اعتقاداً أو اقتناعاً بأن العلم هو مقياسنا الذي نحتكم إليه في مسائل المعرفة، وبالتالي ننكر أن تكون الفلسفة منافسة له تقدم السلع نفسها تحت علامات تجارية مختلفة. ومن هنا تنبعث معظم ضروب الريبة في الفلسفة، لأن المقارنة بين ما يقدمه كل من الفلسفة والعلم من معرفة، لن تؤدي إلى إنصاف الفلسفة، فسنجد الفلسفة عندئذ غامضة بسبب لغتها الخاصة، وسنراها غير مجدية لأنها لا تزودنا بحلول أو تفسيرات دقيقة كالتي يقدمها العلم، وسنحكم عليها بأنها عبث لا طائل تحته، لأنها تكشف عن خصومة وشقاق دائم بين مختلف الآراء لا يفضي إلى غير البلبلة والشك .[7] ذلك أنّ أسلوب صياغة القواعد العلمية، يختلف عنه عند صياغة المشاهدات العلمية، المشاهدات هي أسلوب يعبر عن نصوص عن بعض النقاط، بينما تستخدم المبادئ العامة للعلم تعبيرات مثل “القوة” و “الجهد” و “الطاقة” …، ولا يمكن على الإطلاق أن نستنبط أي شيء عن الحقائق المشاهدة والنصوص الخاصة بالتعبيرات المجردة. ويمكننا مثلاً في الميكانيك أن نعرف ما هي دالة النتغيرات (س , ع , ص) بالنسبة للمتغير (ز) إلاّ أن ذلك لا يدلنا بأي شيء عن الكون الذي نشهده. فبالإضافة إلى القواعد والمشاهدات يجب أن يشتمل منطق العلم على الصلة بين المفاهيم المجردة للعلم والتعبيرات الخاصة بالمشاهدات، وتسمى مثل هذه الصلات “تعريفات العمليات”، أو القواعد الخاصة بدلالة الألفاظ، ومناقشة هذه القواعد أمر يخص فلسفة العلم.[8] ومن هنا قد يختلف تناول المفاهيم وتوظيفها بين كل من رجل العلم و الفيلسوف، فوحدة المفاهيم التي كانت مألوفة سابقا بين التصورات الميتافيزيقية لنتائج العلم، لم تعد اليوم كما كانت بعد ثورات الفيزياء والبيولوجيا، ومن ذلك قانون السببية. إذ يقول رسل في كتابه “بحوث غير مألوفة”: “يتخيل كل الفلاسفة، من كل المدارس، أن التسبيب هو إحدى البديهيات الأساسية في العلم، و مع ذلك، فمن الغريب أننا في العلم الحديث، كالفلك التثاقلي، لا نرى لكلمة. سبب. وجوداً على الإطلاق، وأعتقد أن قانون السببية , مثله مثل الكثير مما يفوت على الفلاسفة، هو أثر من مخلفات عصر مضى، وقد ظل باقياً مثل النظام الملكي، لا لشيء سوى الافتراض الخاطئ بأنه لا ضرر منه”. وبالتوازي مع ذلك نجد أن خطوات العمل في العلوم الحديثة، تجمع بين طريق الاستنتاج المنطقي الدقيق، وطريقة المشاهدة الحسية، وذلك بحصر الاستنتاجات المنطقية في نطاق نظام أصولي (بديهيات ونظريات) وإبراز الهدف من المشاهدات الحسية بتطبيق التعريفات التشغيلية على النظام الأصولي. وهذا ما عبر عنه الفيلسوف المنطقي “فتجنشتاين” الذي وصف علاقة النظم الشكلية بالقوانين المادية من خلال الكون وقوانين نيوتن، مؤكداً أن وصف الكون بالميكانيكا النيوتينية لا تؤكد شيئاً بشأن الكون. وكذلك يؤكد أينشتاين أن قوانين نيوتن ليست وصفاً للكون، ولكنها أداة يمكن أن تصنع هذا الوصف إذا استخدمت استخداماً سليماً، ومن ثم فإنه لا جدوى من قوانين الميكانيكا ما لم تكن مقترنة بتوجيه لكيفية استخدام هذه الأداة، و يتمثل جزء من هذا التوجيه في التعريفات التشغيلية للعبارات المستخدمة في القوانين. الميكانيكا هي محاولة لبناء كل الفروض الحقيقية التي نحتاجها لوصف الكون، وذلك طبقاً لخطة بسيطة. [9] لذلك يمكن القول أنّ الفلسفة نظرة شاملة تحيط بكل جوانب النشاط الإنساني فكراً وسلوكاً، فإذا كان في وسع العلوم أن تقول شيئاً في كافة موضوعات المعرفة، فإنها تقف عند تخصصاتها لا تعدوها، ولا بد أن نكون في حاجة إلى من يضم شتات هذه الموضوعات جميعاً في وحدة أو موضوع واحد، يتخطى به تفصيلات عناصره، ويعقد بينها الصلات، ويسد الفجوات. فالعالم، أو الوجود، أو الحياة بكل جوانبها، والإنسان بكل ألوان نشاطه، لا يمكن إلا أن يكون موضوعاً لعلم من العلوم، وكذلك البحث في أصول تلك العلوم من افتراضات سابقة وأسس منهجية يسلّم بها الباحث العلمي، وقد لا يصرّح بها في عمله، ليست من شأن العلم، وكذلك الاستباق إلى ما يمكن أن تفضي إلى نتائج العلوم في المستقبل بالنسبة للإنسان وعالمه. وليس من شأن العلوم أن تقيم الحدود أو تزيلها أمام تطلعات الإنسان نحو معرفة العالم الذي يحدق به من كل جانب، كما لا تعين بكل تخصصاتها، ما ينبغي على الإنسان أن يتخذه من موقف أو قرار إزاء مشكلاته. ولكن الفلسفة يمكن أن تضطلع بذلك.[10] و بالإجمال، يمكن التحدث عن ثلاثة جوانب تنقلنا من العلم إلى فلسفته:
- الجانب الأنطولوجي الذي يتصل بنظرية الوجود الفلسفية، و الذي يعنينا منها بالنسبة للعلم، هو المترتبات الفلسفية على تلك التصورات أو المفهومات العلمية مثل المادة، والطاقة، والموجة، وتركيب الذرة، وطبيعة المجال والحركة. فكل تلك المفهومات قد تبعث لدى بعض الفلاسفة تساؤلاً عن الوحدات الأساسية التي يمكن أن يُنسج منها الكون، ومهما تكن الإجابة على ذلك التساؤل، فإنها إجابة لا تندمج في تكوين العلم نفسه، بل هي إجابة تنتمي إلى فلسفة العلم، أي أن قبولنا أو رفضنا إياها لا يعتمد على الاستدلال العلمي، بل يقوم على ما ارتضيناه من نسق فلسفي. فقد أصبح الفرض القائل أن الفارق بين العلم والفلسفة، هو أن الأفكار العلمية قابلة للاختبار تجريبياً، بينما الأفكار الفلسفية غير قابلة لذلك. يُنتهك الآن بوتيرة تتزايد أبداً، ومن الطريف أن نلاحظ أنه أثناء الجزء المبكر من القرن العشرين، كان الفلاسفة يكدحون بشدة لجعل نظام المعرفة لديهم أكثر صرامة. أما الآن، فإن علماء الفيزياء الذين كان الفلاسفة يحاولون بكل جد محاكاتهم، هم الذين يدخلون أفكاراً لا تقبل الاختبار في نظام معرفتهم، وأصبح هذا أمراً أكثر وأكثر وقوعاً .[11] وأصبح من المسلم به اليوم أنه في الفلسفة القديمة كان الموقف العلمي مندمجاً في الموقف الطبيعي الفلسفي. وكان الخطأ الذي ارتكبه الفلاسفة هو أنهم نظروا إلى الموقف الطبيعي على أنه يمثل العلم في الوقت ذاته، ورأوا أن مقولاته “كفكرة الجوهر ” تعبر أيضاً عن الأسس الأولى للعلم. أي أنَّ طبيعة الأشياء تفهم فهماً كاملاً من خلال الموقف الطبيعي، بحيث لا يحتاج إلى البحث عن أي صورة أخرى لها، مخالفة لصورتها في حياتنا اليومية، وهذا هو ما يعلل ظاهرة عدم التفرقة بين الفيلسوف والعالم في العهد القديم. وفي عصر انفصال العلم عن الفلسفة فقد ارتكب الفلاسفة الخطأ المضاد، وهو محاسبة الموقف الطبيعي عن عجزه عن تفسير الظواهر العلمية. [12] ذلك أنَّ الفلسفة ليست وسيلة مختصرة للوصول إلى نفس طراز النتائج التي تنتجها العلوم الأخرى. إنّ كل المعتقدات العلمية – أو أغلبها – معزولة من التحديات المباشرة للملاحظة بشبكة من المقولات الأخرى، والفروض والفرضيات المساعدة الَّتي يؤمن بها العالم.
- إنّ تاريخ العلوم حافل بالبحوث حول مقولات عدة عدت ذات أهمية بسبب القيم والمصالح والأهداف للرجال الذين هيمنوا على العلم. وبالمثل فقد غابت عن تاريخ العلم مسارات كثيرة للبحث لأن من خلال نفس القيم كانت الموضوعات التي تستكشفها غير ذات شأن.[13]
- الجانب الابستمولوجي المتعلق بنظرية المعرفة الفلسفية، وهي النظرية التي تتألف من محاور ثلاثة، يحدد الأول إمكان المعرفة، بمعنى هل يملك الإنسان حقاً القدرة على بلوغ الحقيقة عن طريق العلم؟ ويعين المحور الثاني طبيعة العلاقة بين الباحث و موضوعات بحثه، هل هي إنشاء عقله، أم هي وقائع خارجية مستقلة عن إدراكه، هل يمكن مثلاً القول بأن الإلكترون موجود؟. ويشغل المحور الثالث بأدوات أو مصادر المعرفة، هل هي العقل، أم الحدس، أم معطيات الحس. إذ يمكن للمرء أن يقول مداعباً أن “العلم هو ما نعرف، و الفلسفة هي ما لا نعرف”، و لكن يجب أن يضاف إلى ذلك بأن التأمل الفلسفي فيما لا نزال لا نعرف، قد بيّن بأنه ذا قيمة أولية للمعرفة العلمية المضبوطة.؟ فظنون فيثاغورس في الفلك , و أناكسمندر في التطور،و ديمقريطس في تركيب المادة الذري، زود رجال العلم فيما بعد بفرضيات، كانت متعذرة في الوصول إلى أفهامهم لولا الفلسفة. ويمكننا القول أن الفلسفة من الناحية النظرية على الأقل، تنطوي جزئياً على وضع أطر للفرضيات الشاملة الكبرى الذي لم يستطع العلم حتى الآن تجربتها و قياسها، ولكن حين يصبح في الإمكان تجربة هذه الفرضيات، تصبح عندما يتم تحقيقها، جزءاً من العلم و لا تعود محسوبة كفلسفة.[14] وبالمحصلة نقول أن الفلسفة ليست وسيلة مختصرة للوصول إلى نفس طراز النتائج التي تنتجها العلوم، فإذا كان لها أن تصبح دراسة أصيلة حقيقية، فيجب أن يكون لها مجال خاص بها وأن تستهدف نتائج لا يمكن للعلم إثباتها أو نقضها.
- الجانب الاكسيولوجي: وما ينضوي تحت نظرية القيم في الفلسفة، ولا يعني هذا في فلسفة العلم ربط العلم بالأخلاق فحسب، بل يتسع لكل أنواع القيم، فضلاً عن تصوير العلم كمشروع إنساني يستهدف غايات معينة مستخدمة وسائل محددة لتحقيقها. دون إغفال البحث في تاريخ العلم وسيكولوجيته.[15] إذ يميز التجريبيون عادة ما بين الحقائق والقيم، و يلاحظون أن العلم منذ زمن طويل يتسم بأنه متحرر من القيم . فهو يلتزم بوضوح بألا يسمح للأذواق، أو التفضيلات، أو الرغبات، أو الآمال، أو ما نحب وما لا نحب: أو المخاوف، أو العداوة والبغضاء، أن تتحكم فيما يمكن قبوله كمعرفة موضوعية. إن تحقيق ذلك بشكل تام وفعّال قد يتطلب أن نكون قادرين على التمييز ما بين الأحكام الواقعية والأحكام القيمية، وهو أمر يرى بعض الفلاسفة أنه مستحيل، إذ يرون أن وجود أحكام قيمية في العلم هو أمر لا يمكن تجنبه، وعليه فإن محاولة التخلص منها في العلم هو نوع من الخطأ. [16]
وعلى ذلك نجد أن بين الفيلسوف الإنساني القديم، ورجل العلم، جسر واحد، وتاريخ العلم وإقامة ذلك الجسر، هما حاجة هذا العصر. ولست اعلم أيهما أفقر: أهو الفيلسوف الذي لا يدرك قيمة العلم، أم رجل العلم الذي لا يقدر الجمال و لا يعرف التحضر، ولا يأبه للثقافة أو لقيمة الإنسان. لا أعرف أيهما أسوأ من نظيره: أمثالية بغير معرفة، أم معرفة بغير مثل. إننا نحتاج إلى كليهما متساويين , حتى نضرب في أسباب التقدم و نمهد السبيل لفجر عصر مقبل، عصر النهضة الإنسانية الجديدة.
الحدود المشتركة بين الفلسفة والعلم ( الفيزياء نموذجاً ):
تغدو الحدود التي فصلت بين العلوم والفلسفة ليست حدودً قاطعة، بل هي أشبه بالفصل الهلامي بين تصورات كلا المعرفتين دون الفصل القطعي بين المفاهيم التي يدرسها الفلاسفة والنتائج المتمخضة عن اكتشافات العلماء. مثلاً ينص القانون الثاني لنيوتن أن القوة هي حاصل ضرب الكتلة في التسارع، والتسارع هو السرعة بالنسبة للزمن. لكن ما هو الزمان؟ إنه مفهوم نظن جميعاً أننا نفهمه وهو مفهوم يشكل أساس من أساسيات الفيزياء، لكن تبقى صعوبة تحديد ماهية الزمان بالغة الصعوبة، إذ لا يمكن إحالة تلك إلى الساعات والثواني، لأن ذلك يحدد قياس للزمان، و هو قياس يحدد بالزمان وليس الزمان ذاته، والأمر نفسه يطبق على المكان. وقد ترك العلم مسألة تفسير الزمان للفلسفة لفترة استمرت على الأقل 300 عاماً، حتى مجيء نظرية النسبية حيث بدأ الفيزيائيون يشاركون في محاولة الإجابة عن هذا السؤال. وتدين أفكار أينشتاين الخاصة حول الزمان، التي أدت إلى استنتاج أن الفترات الزمنية تختلف باختلاف الأطر المرجعية، تدين هذه الأفكار بالكثير للفيلسوف لايبنتز الذي انتقد مفهوم نيوتن عن الزمان والمكان كأوعية مستقلة عن ما تحتويها بشكل مطلق .[17] وهذا ما يبرر الصلة الوثيقة بين الفيزياء والفلسفة. ففي الفكر القديم حينما كانت العلوم أجزاء من الفلسفة، لم تكن الصلة صلة جزء بكل وحسب، وإنَّما كانت فوق كلّ ذلك صلة اهتمام من الفلسفة الأولى بتحليل وتبرير المبادئ و المسلمات التي تقوم عليها العلوم، وفي الفكر الحديث بعد أن استقلت العلوم شيئاً فشيئاً عن الفلسفة، ظلت تلك الصلة قائمة ولكن بطريقة مختلفة، إذ عُنيت الفلسفة في نطاق اهتمامها المنطقي بالتعرف على مناهج العلوم، أو طرائق التفكير التي كفلت للعلوم تقدماً مطرداً بعيداً عن الفلسفة وطرقها، فنشأ في ذلك في أحضان الفلسفة فرع من الدراسات المنطقية هو الميتودولوجيا، أو مناهج العلوم. وفي الفكر المعاصر، تجاوزت الصلة بين العلم والفلسفة تلك الحدود، فنشأت في العلوم نفسها، حركات نقد ذاتي لبنائها العلمي من داخله، لاختبار الأفكار و المبادئ أو الأسس التي يقوم عليها البناء، و بيان الارتباط بينها وبين قضايا العلم ونظرياته المشتقة منها.[18] وإذا استعرضنا آراء أعظم المبدعين في علوم القرن العشرين وجدنا أنهم يؤكدون على حتمية وجود رابطة وثيقة بين العلم والفلسفة، إذ يقول لويس دوبروي: “نشأ في القرن التاسع عشر حاجز بين العلماء والفلاسفة، فالعلماء ينظرون نظرة شك إلى تأملات الفلاسفة التي كثيراً ما بدت لهم و قد أعوزتها الدقة في الصياغة، كما أنها تدور حول قضايا عديمة الجدوى و لا حل لها. أما الفلاسفة فلم يعودوا بدورهم مهتمين بالعلوم الخاصة لأن نتائجها كانت تبدو محدودة. ولقد كان هذا التباعد ضاراً بكل من القلاسفة والعلماء”.[19] وقد حاول هوايتهيد إلقاء بعض الضوء على الصلات الوثيقة بين العلم والفلسفة، إذ يقول: “من شأن العلم والفلسفة أن يتبادلا النقد، وأن يمد كلّ منهما الآخر بالمواد الخصبة التي تسمح له بالتقدم، وعلى حين أن المذهب الفلسفي يقوم بمهمة توضيح الحقيقة الملموسة التي يجردها العلم، تجيء العلوم فتتخذ مبادئها من تلك الوقائع الملموسة التي يقدمها المذهب الفلسفي، وليس تاريخ الفكر سوى القصة التي تروى لنا عن مدى نجاح ذلك المشروع المشترك أو فشله “[20] . كما يحدثنا عن العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والعلم معترفاً بأهلية كل منهما، فكل منهما يعاون الآخر. ومهمة الفلسفة أن تعمل في وفاق مع الأفكار على نحو ما تتضح في الوقائع العينية للعالم الواقعي. وهي تسعى نحو تلك التعميمات التي تحدد الواقعية الكاملة للوقائع التي بدونها تغوص أية واقعة في التجريد. بينما العلم يقوم بالتجريد ويقنع بفهم الواقعة على أساس من بعض جوانبها الجوهرية. والعلم والفلسفة، يتبادلان النق، ويقدم كل منهما للآخر المادة المثيرة للخيال، و لا بد للمذهب الفلسفي أن يقدم تجليه للواقعة العينية التي تقوم العلوم بالتجريد منها. وكذلك العلوم لا بد أن تعثر على مبادئها في الوقائع العينية التي يعرضها المذهب الفلسفي. إذ يعد هوايتهد أن تاريخ الفكر هو قصة لمدى النجاح أو الإخفاق في ذلك المشروع المشترك .[21] من هذا المنطلق تظهر أهمية العلاقة الوثيقة بين العلم والفلسفة، فالمشكلات التي تعالجها وتكتشفها علوم كالفيزياء بشكل خاص، ثمّ الكيمياء، بل و حتى الوراثة و البيولوجيا، هي قريبة بدرجة ملموسة إن لم تكن مطابقة للمشكلات التي تعالجها أو تطرحها الفلسفة، وإن كانت طريقة وضع المشكلات في كلا الميدانين مختلفة إلى حد ما منهجياً، ذلك أن العلم يقيم محور تفكيره غالباً على التجربة نفسها، التي يبدأ منها أو ينتهي إليها بالضرورة، كما أنه يعالج معطيات الحس، حيث تظل تركيباته العقلية مهما اختلفت معطياتها خاصة بشكل أو بآخر مع أشكال التجربة المباشرة، في حين نجد الفلسفة بالرغم من أنها تسلّم في مجملها بالنتائج التجريبية للعلم وتركيباته النظرية، إلا أنها تتأمل الدلالة أو مجموعة الدلالات التي تقرها العلوم من أجل أن تقوّم الجانب الذي علينا أن ندركه من الواقع، مستعينة بنقد دقيق ونفّاذ. لذلك بإمكاننا القول أن العلم دون فلسفة عبارة عن تجارب عشوائية مبعثرة، والفلسفة بلا علم تجريد عقيم. قيمة بذاتها فقط.
والعلوم التخصصية ذاتها تثير تساؤلاتها الفلسفية التي تدخل في صميم استنتاجاتها التجريبية والنظرية، ففي الفيزياء مثلاً؟ ماذا تعني الريبية، هل الإلكترون موجة أم جسيم، أم كلاهما، أم لا هذا و لا ذلك، بل هي إسقاط لتصوراتنا التي نراها من خلال آلاتنا التي اخترعتاها لهذه الغاية؟ كيف نتعامل مع الاحتمالات؟. و في علم الكونيات: هل الكون محدود؟ هل هو لامتناهي؟ ماذا بعد الثقب الأسود؟ ماذا يعني الزمن و التزامن؟ ما هو الانفجار الكبير؟ و ما حدث قبله؟ ما الذي يشكل الطاقة السالبة والمادة العاتمة في الكون؟ ما هي جسيمات الجاذبية كمومياً؟. و في البيولوجيا أيضاً: هل التطور اختزالي قائم على متواليات جينية، أم طفرات شمولية؟ هل نظرية غايا تفسر آلية تفاؤلية للعلاقة بين الأرض والحياة، أم أن التطور قائم على أساس الصراع بين الأنواع؟ هل هناك ذكاء اصطناعي؟. في علم النفس كذلك: كيف نفهم اللاوعي؟ الذات؟ العقل والتفكير؟ هل الإرادة حرة أم ضرورة؟ ما هو الإدراك – الحدس – الجنون؟ . والمسائل التي أثارها النقد الداخلي للعلوم الطبيعية، هي مسائل ذات طبيعة فلسفية عريقة، ما طبيعة الزمان والمكان، وما الحركة؟ كيف يمكن تطبيق التصورات الهندسية؟ كيف يمكن أن يكون الزمان بعداً رابعاً؟. إن عالم الطبيعة الذي يتخذ موقفاً نقدياً من علمه القائم، ويحلل الأسس والمبادئ تحليلاً نقدياً ليجيب على مثل تلك المسائل الفلسفية، يتوقف عندها بالضرورة عن أن يكون عالماً طبيعياً وحسب، إذ أنه يصبح عندها فيلسوفاً يفلسف أو يقوّم علم، ويسهم معه الفيلسوف في مناقشة وتحليل تلك المسائل الفلسفية العريقة في قدمها عند الفلاسفة.[22] كذلك، فقد هزت تطورات الفيزياء والرياضيات في القرن العشرين، الثقة بالمادية الحتمية الفلسفية، أكثر مما هزتها الحجج الفلسفية. ذلك أن محاولة توسيع مدى النظرية الحتمية الفيزيائية لتنسحب على العمليات غير القابلة للملاحظة مثلما تنسحب على العمليات القابلة للملاحظة،قد اتضح أنها مناقضة لما يتبدى من اللاحتمية على مستوى ما هو تحت الذرية في الطبيعة الذي يتم يه انتهاك مبدأ “الأسباب ذاتها تعطي النتائج ذاتها”.[23]
- و في الختام: إن كان للعلم أن يقدم لنا عبرة فلسفية، فأجد أن العبرة الأهم هي التواضع. لقد كتب الفكلي الشهير ادينغتون في كتابه “الكون المتمدد ” المنشور سنة 1933 قائلاً ” كثيراً ما تأكد لنا في علم الفلك صحة درس التواضع، إذ أنني أبغض القول بأننا ننتمي إلى طبقة الكون الأرستقراطية . فالأرض كوكب متوسط , ليس عملاقاً كالمشتري، و ليس واحداً من الكواكب الهامشية شأن الكواكب الأصغر، والشمس نوع متوسط من النجوم , ليست عملاقة كنجم ” العيوق ” لكنها في الوقت نفسه أعلى من طبقات النجوم الدنيا، لذا يبدو أنه من الخطأ القول بأننا ننتمي إلى مجرة استثنائية تماماً “[24] يبدو أن الاعتدال حتى على الصعيد الكوني، هو ما جعل حياتنا على هذا الكوكب، ووجود هذا الكوكب كجرم قابل للحياة، تنتقل من الإمكانية إلى الفعل.