ذواتأكد الباحث التونسي، فؤاد بنعلي، أنّ الفكر الفلسفي السياسي والأخلاقي يتجه أكثر إلى "تناول كيفيّة التعايش السلمي وفق قواعد معيّنة"، فصار همه الأساسي يتجلى في "كيفيّة إنقاذ البشريّة من سلطان السياسة الماكر والمخاتل من جهة، وصرف نظر الإنسانيّة عن أخلاق مثاليّة ومطلقة قد تلقي بها في ميتافيزيقا الغيب من جهة أحرى".
وتحدث الباحث في دراسته حول "الأخلاق في السياسة من خلال محاضرة ماكس فيبر "مهنة رجل السياسة والتزامه"" المنشورة بموقع "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، عن "كيفيّة توحيد الشأن العامّ السياسي حول مشروع مجتمعي مشترك بعدما مزّقته الصراعات السياسيّة"، وكيفية التأسيس "لقيم أخلاقيّة متجانسة تكون المرتكز الأخلاقي للفعل السياسي".
[size]
وقد تناول، الأكاديمي التونسي، الموضوع عبر عنصرين: يحمل الأول عنوان "في إيتيقا السياسة". أمّا الثاني، "فنقديّ بالأساس لموقف فيبر من الإشكالية موضوع البحث"، مركزاً نقده لما سمّاه "بالقراريّة الفيبريّة" التي عرّفها ب "الحياد الكلّي للسياسة عن كلّ المعايير الأكسيولوجيّة، وبالتالي من حقّ السياسي أن يمارس العنف متى كان ناجعاً دون الاحتكام لعقل عملي يكون بمثابة الضابط الأخلاقي".[/size]
في إيتيقا السياسة: تناول، صاحب الدراسة، عرض فيبر لقاعدتين أساسيّتين للفعل السياسي هما: "إيتيقا الاقتناع" و"إيتيقا المسؤوليّة"؛ فبالنسبة لإيتيقا الاقتناع، بدأ بتعريف الاقتناع من خلال معاني "الصرامة والحكم والالتزام وجودة الرويّة"، وهي "في جملتها ضوابط شخصيّة تشرط الفعل الأخلاقي"، مما يجعل "الاقتناع بحدّ ذاته شكلاً من أشكال الانضباط أو الالتزام التي يطبّقها الشخص على نفسه كي لا يسقط في ممارسات لا أخلاقيّة"، مؤكداً أن إيتيقا الاقتناع "تجد الشكل النظري والفلسفي في صياغتها لدى الفيلسوف الألماني كانط". غير أن النسخة الكانطيّة لإيتيقا الاقتناع انتقدها فيبر، بل إن هذا الأخير "يذهب أبعد من ذلك نحو دحض النسخة التي تترجمها الأخلاق المسيحيّة" التي يسمّيها بـ"إيتيقا الإنجيل المطلقة"، ويقول ب "محدوديّتها في توجيه الفعل السياسي نظراً لقدسيّتها المطلقة والمتعالية على واقع البشر".
إن فيبر في مقارنته بين إيتيقا الإنجيل المطلقة وإيتيقا رجل السياسة يستنتج "مثاليّة الأولى وواقعيّة الثانية"، شارحاً كيف أن الأولى "تختصّ بطابعها اللامشروط وبتعاليمها الثابتة عبر الزمن"، في حين يعتبر الفعل السياسي "مشروطاً بمعطيات تتعلّق بحالات مخصوصة (casuistique) معرّضة دوماً للتغيّر"، لينتهي الباحث في الأخير إلى "أنّ منطلقات إيتيقا الاقتناع لا تكفي كي يكتسب الفعل السياسي كامل صفته الأخلاقية"، مما دفع فيبر إلى تناول مشكل "الالتزام السياسي" عبر النظر إليه من زاوية مغايرة "هي زاوية نظر إيتيقا المسؤولية". كما توقف عند المنطق الفيبري الذي يعتبر التوفيق بين إيتيقا المبادئ (الاقتناع) وإيتيقا التبعات أو النتائج (المسؤوليّة) شرط إمكان "الالتزام السياسي"، دون أن يبيّن كيف يتمّ هذا التوفيق، ممّا يجعلنا نشكّ، يقول الكاتب، "في إمكانه، ونعتبره مجرّد تلفيق نظري". فرجل السياسة في نظر فيبير يجب "أن يوفّق بين الاقتناع والمسؤوليّة وإلا فلن يكون سوى هاوٍ أو انتهازي".
إن فيبر في مقارنته بين إيتيقا الإنجيل المطلقة وإيتيقا رجل السياسة يستنتج "مثاليّة الأولى وواقعيّة الثانية"، شارحاً كيف أن الأولى "تختصّ بطابعها اللامشروط وبتعاليمها الثابتة عبر الزمن"، في حين يعتبر الفعل السياسي "مشروطاً بمعطيات تتعلّق بحالات مخصوصة
فرجل السياسة، إذن حسب وصف فيبر "مجبول على مواجهة خطر داهم يتمثّل أساساً في ممارسة العنف لأجل تحصيل الخير الاجتماعي"؛ أي أنه يطبق "المبدأ البراغماتي في السياسة، وهو الغاية تبرّر الوسيلة". وهنا يتساءل، صاحب الدراسة، ألا يكون في استعمال العنف تحت أيّة غاية كانت، ضرباً لأخلاقيّة "الالتزام السياسي" في العمق؟ ألا نلحظ مع فيبر تردّداً بين الأخلاق والسياسة، أيّهما نختار؟ وهو ما "يعكس، في نظره، التردّد ذاته بين إيتيقا الاقتناع وإيتيقا المسؤوليّة"، غير أن الكاتب يجد في الموقف الوجودي السارتري ما يتيح لنا "حسم التردّد بين إيتيقا الاقتناع وإيتيقا المسؤوليّة، ليصبح الفعل الإنساني نابعاً من قرار حرّ ومسؤول في استقلاليّة تامّة عن أيّة أخلاق مؤسّسة مسبقاً".
وفي نقد القراريّة الفيبريّة، يرى الكاتب أن توفيقية فيبر لم تنجح في تغطية التردّدات التي عبّر عنها في محاضرته، وبالتالي عرف قراره بشأن منظومات القيم تذبذباً، ما قاده إلى تدشين ما يسمّى "بالتيّار القراري". ويشرح أن هذا التيّار الفكري يعني إقصاء كلّ الاعتبارات الأخلاقيّة من ميدان البحث العلمي والفعل السياسي؛ ممّا يفتح المجال واسعاً أمام "حرب القيم". فالمشكل بحسبه أنّ فيبر "سبّق المسألة السياسيّة وهمّش المسألة الخلقيّة"، إذ اعتبر "أنّ تاريخ البشر عبارة عن حرب بين القيم، ممّا يؤدّي إلى أنّ القيم الملهمة للفعل السياسي تظلّ دائماً غير مبرّرة بالعقل". ولعلّ هذا ما يجعل السياسة تقترب أكثر من الفعل التراجيدي المتمثّل في العنف غير المبرّر، وبالتالي تحولها إلى تهديد "للقيم الخلقيّة مهما كان مصدرها".
غير أن "لا معقوليّة الفعل السياسي" و"أولوية السياسي" أنتجت، حسب الباحث التونسي، "ردّة فعل إيتيقيّة، تمثّلت في البحث عن حلول لأزمة السياسة والأخلاق على حدّ سّواء" مسترعياً في ختام دراسته الانتباه إلى "نظرية الفعل التواصلي" لهابرماس بصفتها أهم هذه الحلول الوجودية والإيتيقيّة "التي تتكوّن من جملة من الضوابط الأخلاقيّة، وذلك لغاية تحقيق السلم الاجتماعيّ كقيمة عليا مقاومة للعنف مهما كان مأتاه ومهما كانت مبرّراته".
السبت أبريل 08, 2017 6:32 pm من طرف فؤاد