تحاول دراسة الباحث التونسي محمد إدريس إماطة اللثام عن علاقة النصوص الدينية بالنصوص الأسطورية، وذلك بالوقوف عند وجوه الائتلاف والاختلاف بين تلك النصوص، رغم إقرار الباحث بأنّ بلوغ كلمة الفصل في شأن تلك العلاقة ليس بالشأن اليسير في ظل تعدّد الرؤى والمقاربات التي عالجت المسألة. الدراسة التي حملت عنوان "الأسطورة والنص المقدّس: ماهية الأسطورة في العهد الجديد والقرآن الكريم" ونشرها موقع "مؤمنون بلا حدود" عاينت ماهية الأسطورة، باعتبارها خطاباً رمزياً، كما تطرق في جانب آخر إلى منزلة الأسطورة في النصوص المقدّسة، متأملاً دلالات "أساطير الأوّلين" في المتخيّل العربي الجاهلي، وفي النص القرآني.
ويستعين الباحث بجهود كلود ليفي ستراوس الذي يقارب الأسطورة لسانياً، ملاحظاً أنّ الأسطورة مثل اللّغة لها مدلول ثقافي وحضاري، يمكّننا من تفسير مجموع القيم الأخلاقية والمعارف والقواعد وأنماط السّلوك والمحرّمات والمنتجات الفكرية والمنجزات المادية؛ فالأسطورة وفق هذا التصوّر لها صلة وطيدة بجميع جوانب حيواتنا.
ويذهب أرنست كاسيرر، من جهته،إلى نفي أنْ تكون ثمّة قطيعة بين المعارف الوضعيّة النّظريّة والمعارف المُؤَسَّسَةِ على البعد الأسطوريّ، ذلك أنّ الفرق بين الأسطورة والعلم لا يعدو أنْ يكون نوعيّا لا يمسّ الجوهر.
وفي سياق متصل، يذهب الباحث إدريس إلى بيان أن النصوص المقدّسة الثلاثة (العهد القديم، العهد الجديد، القرآن الكريم) عمدت إلى النأي بنفسها عن الأسطورة بأنْ اتخذت منها موقفاً سلبياً؛ ففي تلك النصوص كانت الأسطورة خداعاً ووهماً، فكيف لنا بعد ذلك القول بوجود صلة بين الأسطورة والنّصوص المقدّسة للأديان الكتابية؟
وفي نظر الباحث، فقد قام موقف النّصوص المقدّسة من الأسطورة على الإقصاء والإلغاء؛ فهي تنفي نفياً قاطعاً أنْ تكون لها صلة بالأسطورة، بل تعتبرها توأماً للخرافة. على أنّ ما يدفعنا إلى النظر في منزلة الأسطورة في النصوص المقدّسة ما ألفيناه من تشابه بين أحداث النصوص المقدّسة وأحداث الأساطير المصريّة واليونانيّة، متسائلاً: هل يعني ذلك أنّ قصص الأنبياء والرّسل أساطير صيغت في شكل جديد؟
ويوضح أنّ في قصص الأنبياء والأمم البائدة، وفي مشاهد العقاب والثواب في الآخرة، أسطرة للفضاء والزّمن والحدث، وفي ما يتّصل بهذه المسألة، نقول إنّ النصوص المقدّسة لا تقلّ شأناً عن الأساطير القديمة، معانقة لعالم العجيب والغريب المملوء بالخوارق والآيات والمعجزات.
ويجلّي الباحث الموقف فيما اتّخذه الأحبار من الأسفار غير القانونيّة (مكابين الأوّل، مكابين الثاني، طوبيا، الحكمة،...) وكذلك في الموقف الإنجيلي من الأسطورة.
كما يقف عند دلالات عبارة "أساطير" الّتي استعملها "العهد الجديد" في سياقيّن حجاجيين مختلفين، السّياق الأوّل، يتعلّق بالتّهم الّتي وَجّهها أنصار الشريعة الموسوية إلى المؤمنين بالفداء وقيامة يسوع. أمّا السّياق الثّاني، فيتعلّق بالتّعاليم المخالفة للتّعاليم المسيحيّة، والّتي نشرها "الأنبياء الكذّابون"، فكانت عبارة "الأساطير" في كلا السّياقين دالة على بعد تهجينيّ للأفكار والقيم الّتي يحملها الآخر أيّا كان. فإذا بالأساطير صنو للبدعة والهرطقة، ولكلّ ما من شأنه أنْ يمسّ بالحقائق الدّينيّة (الفداء والصلب، القيامة،).
وفي حديثه عن موقع الأسطورة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، يتناول الباحث محمد إدريس المقصود بـ"أساطير الأولين"، إذ يرى أن "القرآن الكريم" لم يحدّد المقصود بـ"الأولين" تحديداً دقيقاً، إذ يحتمل أنْ تكون العبارة دالة على السّابق من الأجداد والآباء، وقد تكون دالة على أخبار السّابق من الأنبياء، وقد تكون دالة على السّابق من الأمم البائدة، وقد تكون دالة على ما كان يُقصّ من أخبار يصيب منها القوم متعة مع الوعي بأنّها من نسج المتخيّل وصنعه.
ويرى كذلك، أنّ اعتبار المقصود بـ"أساطير الأوّلين" أخبار السّابق من الأنبياء، أمر غير مستبعد في ظل الأخبار التي أكّدت وجود أنبياء ومتنبِئين قبل محمّد (ص) من جهة، والزعم بأنّ العرب كانوا في انتظار قدوم رسول منهم يعلمون اسمه ويعرفون صفاته، حتّى إنّ البعض سمّى الأبناء محمّداً طمعاً في أنْ يكون الابن النّبيّ الموعود.
لقد ظلّت مواقف النّصوص المقدّسة من الأسطورة، وفق الباحث، محكومة بالخلفيّة الثّقافيّة الّتي نشأ فيها كل نص دينيّ؛ فاستخدام عبارة "الأسطورة" لم يخرج في النصوص المقدّسة - لاسيما "العهد الجديد" "القرآن الكريم" -عن الدّائرة الحجاجيّة التي قامت بين الدّين الجديد وأنصار الدّين القديم. فإذا بنا إزاء تصوّرين للعالم، تصوّر جعل الأرض محور الوجود فيها الإنسان يحيا ويموت، وإليها يعود (تناسخ الأرواح، الصدى والهامة،...)، وتصوّر رأى في الأرض دار فناء؛ فالحياة الحق في عالم أخروي غيبي.