" أمي والسراويل"
الشعرية للروائي العراقي زيد الشهيد وهي المطالعة الثالثة التي لا أمل من
العودة إليها يقف أمامي خالق النص شاعراً يمسك صولجان الشعر بقدرة مكينة
على التعبير والبوح دون مواربة وبشجاعة تجعل منه شاعراً يتميز بصوت منفرد
في قول الشعر هو الذي عرفناه قاصاً وروائيا ويكتب النقد بحرفية كبيرة . وهو
في مجموعته التي تنشرها له " دار أزمنة " في عمّان يدخل في تناول الحقبة
العراقية في زمن الحصار الذي أودى بأحلام العراقيين وأنهك العائلة العراقية
التي عُرفَ عنها التماسك والتواد والمحبة المتبادلة إضافة إلى التواضع
والعيش البسيط . فهو يلعن الساعة التي أجهزت على بيع حشمة الأم ثمناً لدخول
كافتريا الشاي تشبهاً بالرجال عند ابن ساخر وساخط من حصانة والديه الذين
قذفا به إلى الخيبة تلو الخيبة (1) . وجدت خالق النص " يرتدي معطف رؤاه
ويعتلي منصته الهوائية " (2) ليبحر في أطياف التفعيلة والقوافي ، تحيط به
أشباح خزائنه المفلسة التي لا تمنحه زرع المسرات في مفازة الترقب .
وجدت الناص يغمر ويغمس
القلم والموهبة في جذوة احتراق الكلمات ليمنحنا لوحات الألم والتمزق من
خلل حفريات الشعر ومكنوناته عبر مخاضات عسيرة مفعمة بحمّى الوعي لتحيا
إلوهية الصوان البشري .
ومن خلال سيناريوهات
وأبجديات المقاهي والطرق والأرصفة وجدت شاعراً مثخناً بالجراح ، رافضاً
بأسلوب زوئيلي ساخر مفعم بمفردات التقعُّر النقدي لكل اعثارات عقود عمره ،
عراقياً وانسانياً يتعامل مع الكارثة والمكائد وكرنفالات الغرابة ليكون
أمامنا هيكلاً تأكله محنة احتراق الحرف .. سلاح المبدعين . وتملؤه هواجس
كينونة التواجد والحضور الرسالي . وتوخياً للإيجاز وضغطاً لمضمون القراءة
يمكننا إيجاز الرؤى بـ :
(1) موسيقى
المجموعة
تتصف نصوص كثيرة من
المجموعة بموسيقى شعرية تحتضن الإيحاء والتصوير وتمنح التفعيلات انسجاماً
ترتيبياً خاصاً في تثوير انفعال المتلقي وشعوره . وإذا ما اتصفت بعض
الإيقاعات بملامح النثرية فهي ملامح نثرية لا تؤمن بالزحافات والعلل ؛
ولكنها تتشح بالموسيقى . ولعل أقرب نص لجمال الإيقاع ومغازلة الخليل نص (
لا تهدأ ) :
من أين نلمُّ هدوءاً محكوماً بالطعنات ؟!
وضجيج اللحظة يبحثُ عن فسحةِ صمتِ
المضمون روح
الشعر وبؤرة الشعور ؛ سواء دغدغك لتجربة مماثلة وأنت تسمعه أو شاطرك هاجساً
يعتصر الإحساس ويخدش الفكر ؛ أو يثير القرف والامتعاض ؛ أو يستجلب الأمل
والتطلع . فالمضمون في ماهيته خطابٌ شفاّف يتعامل مع الوجدان ويثير في
المتلقي رغبة الالتقاء مع بواعث الدواخل بمنعطفاتها وافتراقاتها . وإذا ما
لونت ألوان طيف الشعر الشمسي قرارة الوجدان اتسمت صورة الألم دماً زعافاً
تألماً وتأسّياً أو طفقت بسمات على محيا المتلقي تناغماً واستشرافاً
لتجاربه او تجاربك . ومضامين الشاعر زيد الشهيد تشرئب متطلعة إلى إذكاء جدل
الحوارات وسماع الرأي لتجتذب المستقبل ليركز معه ويركب معه ويبلور الأفكار
والعواطف ويحلّلها .. ففي نص " روحي قبل الترميم " نلتقط بعض المضامين
لنسبر غور ما يبغيه الشاعر وما يوميء إليه إذ يقول " سأكتفي بالتدخين على
طاولة الذكرى .. ص24 وتلك كما أرى جملةٌ يعرفها المدخنون أكثر مني .. ماذا
يعني أن يلجأ الناقم والغاضب والفاقد إلى إثارة سحابات الدخان . وفي توالي
النص بشير الناص إلى يوم مولده (10/5/ 1953 ) والذي لم يحتف به ومعه نوري
السعيد بينما يستعد عبد الناصر لتأميم قناة السويس .. إلخ يقلّب معنا صفحات
التاريخ الصفراء ويدعونا في العام القادم لقطع كيكة ميلاده الممتد إلى
حشد من العقود .
وسأذكّر المتلقي للمجموعة
بما يرد من " كرنفالات العنوسة " (3) ، و" لم تعد أمي قبيلة تشهر سيف
الثأر / ولا دياونٌ تحتكم إليه في عسرتها / قبيلةُ أمي ميتة . " ص15 ..
ويمكن لقارىء المجموعة استشفاف ظلال المعاني .
( 3) اللغــة
اللغةُ الشعرية إناءٌ
للمجازات ، والصور ، والإشارات ، والإيحاءات وقد اختار الشاعر وانتخب
واصطفى منها ما حلا له واقتنع به في جودة التوصيل بصياغةٍ وحبكةٍ للالفاظ ،
وحشد الارتباطات
الموحية والخيالات الخصبة .. وقد رسم لوحاته بفنية عالية
من خلال اللغة وفق عطاءات الحجج ، والمنطق ، وتعليلات الرؤى ، وتبريرات
مساحة الإبداع التي نراها دقيقةً وواضحة . فأنتَ تسمع قرار المرأة المحاصرة
أيام حقبة العته والغطرسة والتسلط . تسمعها وهي تقول : " قررتُ ألاّ
ألبسَ سروالاً ! " ص14 وتلك برقية بامكان أي قارىءٍ ومتلقٍّ حل ألغازها
والوصول إلى المدلولات التي أوحت بها الشفرات .. إنها نفس شتيمة مظفر
النواب حين يعرّض بالعرب وهم يقذفون بأعراضهم للصهاينة ويسترقون السمع
لنبرات صراخهن المفزع ساعة المضاجعة الإجبارية حيث لا جفن يرف ور شعرة من
جلوده تنتفض لصون العِرض .
إنّه ذات النقد اللاذع
الذي ذكره زيد الشهيد وهو يلعن سنوات غياب الصابون والماء والفاتورة ؛ وهو
ذات النقد والشتيمة للحرب التي عفَّنت أقدام الرجال سنينَ طويلة بفعل لبس
البساطيل(4) التي أصبح سفحها متكئاً للتأمل وسط جبهة الأحلام الميتة وأرضها
الحرام ؛ ووسط استباحتها لمستقبل الاجيال الذي ستظل تنوء بحمله سنين وسنين
حتى تنقرض أجيال اليتم الثمانيني بعد قرابة قرن .
وفي تتبعنا لنصوص
المجموعة التي نتلمسها تشكل تميزاً في ابداع قصيدة النثر ثمة مفردات اتخذت
طابع التكرار ودخلت قصدية الشاعر بغير ما عفوية حتما ، مثل : الأحلام /
الجنون / الضحك / الحرب / الموت / الجبهة / الغربة / المكائد / الكتابة /
الروح / الشتيمة / الريح / الأشباح / الكوارث .. وفي دلالتي القَناعية أن
تداولها التكراري جاء بقصدية التعبير عن تمزقات روح إنسان اليوم وتشظيه ،
وتجسيد أمانيه العاثرة بأذيال الأقدار الهوجاء . وأخيراً أقول إن افضاء
مبدعنا صيرني كمتلقٍّ أعيش هواجسه المعلنه وأشق عليه خلوة الكتمان
والاحتباس كذلك لأتعرف عليه إبناً لأم عراقية ؛ يتألم لها ويأسى لهربها من
انقضاض شرطة التفتيش عليها وهي تبيع السجائر على أرصفة عمّان ‘ ويخشى على
عفّتها من أن تدوس بساطيل الرقابة على أذيال ثيابها المهلهلة ، فتنتهك
وتتعرى قسراً .
إن مجموعة ( امي
والسراويل ) أعطت لقصيدة النثر هويتها التي تجعل من هذه القصيدة أثيرة لدى
جيل الشعراء الذين رأوا فيها حداثة ينبغي لهم أن يتسايروا معها مثلما
تطاوعت هي لتسايرهم في همومهم وبوحهم ؛ فاتجه الاثنان نحو مراقي الشعر
وبهائه و، وحشود شعرائه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أمي والسراويل /
مجموعة شعرية / زيد الشهيد – إصدار دار أزمنة ( عمّان ) – 2004
(**) عبد الله الناصح /
شاعر عراقي .. صدرت له مجموعة " تأودات جسد " – الطبعة الاولى 2004
(1) في مقطع من نص " أمي والسراويل " الذي حملت المجموعة
عنوانها منه يشير الشاعر :
أمس .. باعت
أمي آخر ما تبقى لها
من الحشمة ،
عندما شاهدت سروالها
معلقاً في "
سوق الهرج " ؛
وعلمت أنَّ أخي
هو الذي فعل ذلك
لكي يجلس في
مقهى يشرب شاياً
والنص يشي بشفرة تشير إلى
بعدٍ سياسي يكتشف منه المؤول إلى أن الأخ هو مرموز للدكتاتورية التي تخوض
الحروب وتزج بشعبها وشرف الأمة في حروب ساحقة من أجل أن تدخل هذه
الدكتاتورية في حركة التاريخ ولنا من هذه النماذج نيرون وهتلر وموسوليني
وستالين ,... .
لأنَّ
أطيافه الكلمات / ومعطفه الرؤى ،
(3) نص " أختي والكرنفالات " :
شمساً
بيضاء ، / وسماءاً طائرة / وحصاناً اخضر صاهلاً ، / ونهراً لا يكف عن الجذل
، /
وقلباً
من أحرفَ راعشة ، / وبناتً يمتشقنَ الاحلام ، / وأولاداً يحتشدون بالتصفيق .
فركلت
القلبَ ، / وكسرت الشمسَ ، / وسرقت النهر / ولوَّثت السماء / وأذَّلت
الحصان /
وأجهزت
على البنات والأولاد .
فإذا
بأختي تمتلىء ، بكرنفالات العنوسة .
(4) مقطع من ( أخي والبساطيل )
لا تتهموا أخل
بالجنون / فأخي ليس بمجنون . / أخي فقط يهزأ من لعبةٍ / اسمها " الحرب " . /
وفي ل معركة يجمع
بساطيل / الجمود الميتين ، / أو الهاربين ، / أو الذين نسوا أن لهم وطناً /
صار مسخرةً بفعل
البيانات / الخرافية ، ليصنع جبلاً .
جبلاً يصنعُ أخي
،،، ويضحك !!
الغريب ، أنَّ
قذائفَ الأعداء / لا تطاله . لأنهم لا يهابونه . / مجنونٌ بعرفهم ، فمن أين
تأتي /
رصاصاته القاتلة ؟
/ وكيف يُساق الموت بفعلٍ من / مجنون ؟!!
ولأنه بعرفهم
كذلك / تركوه يحصي بساطيل المعارك ، / ويلقي شعراً كالهذيانات .