حين كتب (اندريه بريتون 1896-1966) مؤسس الحركة السريالية ديوانه الشعري الأول والمعنون ( محل الرهونات) والصادر عام 1919 قد أفصح القول عن كتاباته بكونه غير مقتنع بما يكتب و بان ما يكتبه ليس بصورة التي يطمح بان تكون قصائده وبالشكل التي تجوب في أعماقه وظل يبحث عن أسلوب يمكنه إسهام في التعبير عن مكنونات التي تغص في أعماقه وتجعله قادرا على المسك بها وإخراجها، فأثار في نفسه، وكان آنذاك طالب يدرس الطب والطب النفسي، وقد عمل أثناء الحرب العالمية ألأولى في ردهة الجملة العصبية، وعلى ضوء ذلك تجلا تأثيره الشديد بأفكار وأسلوب الذي كان يستخدمه (فرويد) في تحليل مرضى النفسانيين باستدراجهم عبر التنويم المغناطيسي لحصول منهم ما يمكن إن يبني عليه لعلاجهم وهذا ما فعله (اندريه بريتون) مع نفسه للحصول على كل ما هو في أعماقه دون أي تدخل في التفكير والبناء اللغوي بقدر ما اعتمد على ما يهذي به ويسجل على الورق كل ما يورد من مخيلته، وهو نفس الأسلوب المتبع في علم النفس (الفرو يدي) في (سرد الأحلام والنصوص التي يتم الحصول عليها بواسطة التنويم المغناطيسي) وعلى نحو ذلك راح يجمع فقرات مقتطفه تثير في نفسه من عناوين إخبار ومنوعات أخرى في هذه جريدة وتلك المجلة ويجمعها لتتشكل هذه المفردات جمل مشبعة بالألغاز، وإذ ما أخذنا قصيدة (الغابة في الفأس) التي كتبها(اندريه بريتون)عام 1932كنموذج من هذه الكتابة حيث تسرد القصيدة الإحداث المقتطفة كما يراها الشاعر على نحو الأتي :
" ..الغابة في الفأس.. "
أحد توفي منذ لحظة
لكنني إنا حي، ومع ذلك لم يعد لي روح،
لم يعد لي سوى جسد شفاف
في قراره يمامات شفافة
تلقي بنفسها على خنجر
تمسكه يد شفافة
أرى الجهد بكل جماله
الجهد الحقيقي الذي لا يزنه أي شيء
قبيل ظهور النجمة الأخيرة
إن الجسد الذي أسكنه يشبه كوخا وبسعر مقطوع
يمقت الروح التي كانت لي والطافية بعيدا
حان وقت الانتهاء من هذه الثنائية التي كثيرا ما أُعاب عليها
لقد ولى الزمن الذي كانت تغرف فيه عيون بلا نور وبلا خواتم
الكدر من غدائر اللون
لم يعد ثمة أحمر أو أزرق
إن الأحمر – أزرق بإجماع الآراء، يزول تباعا وكأنه أبو الحناء في سياج عدم الانتباه
أحد توفي منذ لحظة
لا هو أنت
لا هو أنا
ولا هم …..!
بالضبط إنما نحن كلنا
ما عداي أنا الباقي على قيد الحياة بطرق عديدة
فمثلا.. لا أزال أحس البرد
يكفي…..!
نار، نار
أو حجرا أفلقه
أو طيرا أتبعه
أو مشد أشده بحزم على خواصر النساء الميتات، حتى يبعثن، ويعشقنني بشعرهن المتعب وبنظراتهن المنكسرة
نار
حتى لا نموت من أجل مجرد أجاص منقوع في مشروب روحي
نار
حتى لا تعود قبعة القش الإيطالية مجرد مسرحية
آلو ……
المخضرة
آلو المطر ….
هذا أنا نفس الحديقة اللا حقيقي
هذا التاج الأسود الموضوع على رأسي،
إنه صرخة الغربان المهاجرة
إذ لم يكن هناك حتى الآن سوى مدفونين أحياء بأعداد صغيرة
على كل حال،
هو ذا أنا الميت ..الأول
لكن لي جسد حتى لا أتخلص من نفسي
وحتى أنتزع إعجاب الزواحف لي
يدان دمويتان
عينا نبات الهدال
فم من ورقة ميتة وكأس
الأوراق الميتة تهز تحت الكأس
ليست حمراء بالقدر الذي نعتقد
عندما تكشف اللامبالاة عن مناهجها النهمة
يدان لأقطفك
يا زعتر أحلامي المتناهي الصغر
إكليل جبل اصفراري الشديد
لم يعد لي ظل أيضا
آه يا ظلي،
ظلي العزيز
علي أن أكتب رسالة طويلة إلى هذا الظل الذي فقدته
ا تشاهد كيف
لم تعد هناك شمس
لم يعد هناك سوى مدار من أثنين
رجل من ألف
امرأة من الغياب
الفكري الواصف بالأسود الصرف
هذا الزمن اللعين
المرأة هذه تحمل باقة من الخوالد على هيئة دمي….)).
وهذا الشكل المعتمد على رسم وكتابة القصيدة هو الأسلوب الذي سار عليه (اندريه بريتون) في كتابة قصائده منذ ديوانه الشعري المعنون بـ(الحقول المغناطيسية) والذي أصدره في عام 1920، وهذا الديوان يعتبر أول تطبيق لهذا الأسلوب الذي غير أسلوب البناء الشعري الذي كان ساريا في أيامهم في قصائد (مالارميه) و (رامبو) و (ابولينير) و (فاليري) و (ريفيردي) ورغم إن (اندريه بريتون) كان شديد تأثير بهم ولكن لم يرغب ان يسير بأسلوبهم ويقلدهم وهو ما قاده لابتكار الأسلوب (الأوتوماتيكي) في كتابة قصائد الشعر – (( والقصيدة الأوتوماتيكية هي القصيدة النثرية التلقائية)) – والذي أعطاه بعدا فلسفيا وفكريا كانت البداية الحقيقية لظهور (السريالية) كمدرسة أدبية حين تم إطلاق تعريفا لها في البيان السريالية الأول على أسلوبه بـ(السريالية) عام 1924 كأسلوب لفكر بعيدا عن طبيعة الفكر الحقيقية ووظيفته بالآلية نفسية محضة يرغب الفنان المبدع التعبير بأسلوبها بالعمل الإبداعي نثرا وكتابة وفنا بعيدا عن رقابة العقل الجمالي والأخلاقي .
فالقصيدة (السريالية) شكلت علامة فنية مميزة في مفهوم الحداثة و في التوجه صوب الكتابة (الأوتوماتيكية) التي تجوب في أعماق الذات والتي تجوس عبر الأحلام، وحالات الجنون والهذيانات التي تستشف همومها في أعماق النفس الواعية واللاواعية و التي تقهر الواقع عبر المفارقات والتناقضات والسخرية والكتابة (الأوتوماتيكية) التي لا تعير أي اهتمام بالقواعد المنطق أو اللغة، وهذا الأمر لا يمثل نوعا من العبث ، قدر ما يمثل موقفا فكريا، ورؤيا مختلفة نحو العالم والمجتمع.
وللتوضيح بان كلمة (السريالية) لم تكن من اختراع (اندريه بريتون ) بل إن أصل هذه التسمية التي تعني (( ما فوق الواقع )) تعود إلى الشاعر والمبدع الكبير(أبولينير) الذي هو من ابتدع كلمة (السريالية) والتي وردت في كتاباته عام 1917، عن النشرة الصادرة اثر عرض مشترك لباليه تحت عنوان (استعراض) ساهم فيها كل من (جان كوكته و بابلو بيكاسو و إيريك ساتي و ليونيد ماسيني..) وكتب (أبولينير) تعليقا عن هذا العرض جاء فيه:
((… لقد وجدنا في هذا العرض نوع من الترابط الصوري الخادع بين نقيضين، فديكور المسرح والملابس كانتا على طرف، و تصميم الرقص والحركات على طرف أخر، وقد افرز هذا العرض نوع من الواقعية الرفيعة اسماه بـ(السريالية) حيث اعتقد (ابولينير) بأنها نقطة الانطلاق قد تكون لنماذج جديدة من التجليات لهذه الروح ..))
وفي عام 1917 عاد ( أبولينير) وكتب رسالة إلى صديقه المبدع ( بول ديرميه) مشيرا إلى (السريالية) بقوله :
((..اعتقد بعد تمحصي بالحركة الإبداعية واتجاهاتها بأن من الأفضل أن أتبنى كلمة (السريالية) بدلا من (فوق طبيعية) التي سبق لي أن استعملتها بكون التسمية( السريالية) لا يوجد لها لحد الآن كمصطلح لها في المعاجم، وقد يسهل معالجتها أكثر من المصطلح (فوق الطبيعية) التي استعملت كثيرا من قبل الفلاسفه…..)).
ومن هنا انطلق المبدعين الشباب و اختاروا كلمة (السريالية) لتكون اسما لمجلتهم ولحركتهم وقد نشروا آنذاك شبه بيان عن (السريالية) قبل أن ينشر (اندريه بريتون) بيانه الشهير في العام نفسه حيث حددوا أهدافهم معلنين(( بأن نقل الواقع إلى مستوى فني أعلى هو ما يؤلف، السريالية))، وفي هذا الإيضاح الذي كتبوه هؤلاء الشباب ذكروا مثالا لهذه الجمالية الخلاقة في إبداع ( أبولينير) نفسه، حيث يذكر (ماكس جاكوب) بأن (أبولينير) كتب وهو يتجول في الشارع كل كلمة ومفرده وجملة سمعها في الشارع ليخلق مما سمعه قصيدة واعتبرت من روائع ما كتبه (ابولينير) آنذاك .
وإن الذي حث هؤلاء المبدعين بنشر هذا التوضيح الذي كان أشبه بالبيان عن(السريالية) لتأكيد موقفهم الرافض للمجموعة (السريالية) الناشئة آنذاك والمحيطة بـ(اندريه بريتون) واعتبروها بكونها (سريالية زائفة)، ولكن الإحداث وأنشطة (السرياليين) المنتمين إلى أطروحات (اندريه بريتون) وهم من (الدادائيين) السابقين سرعان ما تنتشر إعمالهم وتذاع شهرتهم بينما دعاة الخط الأول للسريالية سرعان ما تنتهي وتزول مندمجين بالسريالية (اندريه بريتون).
فـ(اندريه بريتون) ابتكر أسلوبه الجديد بعد انهيار (الدادائيه) التي كان الشاعر الكبير (تريستان تزارا ) قد أنشئها عام 1916 في زيورخ، وبلغت ذروة نشاطها عام 1919 بعد انتشارها الواسع في فرنسا وأقطار أوربية أخرى ولكن سرعان ما أخذت تنحصر أنشطتها بسبب صراعات داخلية ومواقفها المناهض والرافض لأشياء كثيرة مما قوض نشاطها في التطور والديمومة، وهذا عدم الاتفاق قادها إلى الدخول في نفق مظلم وهو الأمر الذي قاد بعض الناشطين فيها ومن أبرزهم (اندريه بريتون) لإنشاء مدرسته (السريالية) التي جاءت على أنقاض المدرسة (الدادائيه) حيث انتقد بشدة الحركة (الدادائيه) وطالب بتغير جذري لكل ما هو متبع في الكتابة ومن مواقف ويجب عدم الاكتفاء بالصراخ الدادائي بل يجب التغير والعمل بشكل أكثر ثورية مما كان الوضع الإبداعي قائم، حيث قال: ((.. يجب منذ الآن إن نمضي قدما وبشكل اقل فوضوية وأكثر فعالية، وان لا نكتفي بالتهجم على الفن القائم، بل علينا مهاجمة القائمين على توجيهه والتشهير بهم..)) .
فـ(اندريه بريتون) كان يشعر باستياء شديد من قصائد الشعر السائد التي تتخذ من الشعر الرمزي مادة رئيسة في بناء القصائد، فكان يشعر – وهو آنذاك كان شاعر يخطو في عالم الشعر أولى خطواته – بكثير من القلق والحيرة والامتعاض، فقرر في نفسه إما إن يبتعد عن هذا العالم أو إن يبتكر طريقة جديدة في التعبير، وكان لأرائه الكثير من الشعراء الشباب يؤيدون مثل هكذا توجهات إي تغير قوالب الشعر التقليدي ويبحثون عن اتجاه جديد لا يكون للعقل وللغة أي سلطة في كتاباتهم ومما شجع (اندريه بريتون) لتوجه لابتكار مدرسته (السريالية) هذه الدوافع مع انهيار (الدادائيه) ليكون بيانه (السريالي) الأول عام 1924 انطلاقة نحو أفاق (السريالية) التي اكتسحت معالم الفن كل الأقطار الأوربية والعالم .
فـ(الدادائيه) كانت بمثابة البيت الحاضن لنهضة هؤلاء (السرياليون) حيث في ظل (الدادائيه) نشط كل من (أندريه بريتون) و (بول إيلوار) و (فيليب سوبو) و (لوي أراغون) و (بنجمان بيريه)، ولكي نفهم طبيعة هذا الملتقى ، لابد لنا إن نتعرف عن بيئة التي ترعرعوا هؤلاء المبدعين، فالبيئة (الدادائيه) كانت إنتاج أفرزتها الحرب العالمية الأولى، وبما أفرزتها ورسختها في النفوس باللا جدوى والعدمية لتزخر حركة الحياة بالفوضوية والعبثية العدوانية وبان لا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، وأن كل شيء زائف.
بهذه المعطيات كان توجه (الدادائيين) وهم جماعات من الأدباء والفنانين والمثقفين الشبان المتمردين على كل شيء إلى ممارسة الهدم على مختلف الأصعدة، فمارسوه بكل قوة واندفاع ونشاط، فدعوا إلى إلغاء كل المدارس الأدبية و التقاليد الفنية القديمة، هاجموا العقل والمنطق حيث اعتبروه أساس الماسي بكونهما قادوا البشرية إلى أتون الحرب، فلا خلاص إلا برفض المنطق والمضي قدما بالفوضى و العبثية واللاعقلانية، من هذا المنطق انطلقوا في مهاجمة معالم الفن الذي ضل ينظر إلى الآخرين بتعالي ويترك العالم يتقوض وينهار من حوله.
ومن هنا كان انطلاق الأساسي لـ(دادائيه) هو الاحتجاج ضد المجتمع، ضد اللغة والثقافة، وضد القيم الدين والأخلاق، ضد كل الأنظمة والأيديولوجيات التي ساهمت بما أفرزته (الحرب العالمية الأولى) من إبادة وتدمير وفوضى وخلقت حالة من تشوش في المجتمعات.
ومن هنا انبثقت، ومن أحشاء مجتمع نفسه الذي تنهشه الحرب أرادت المبدعين أرادوا مهاجمة هذا المجتمع من خلال فضحه بالأعمال المخزية التي ارتكبت في ظل الحرب، فهؤلاء المبدعين آمنوا بأن المجتمع الذي ينتج الحرب بهذه البشاعة ووحشية لا يستحق الفن، لذلك أرادوا أن يكونوا ضد الفن، وأن يحاربوا الفن بالفن، و يتجاهلوا علم الجمال، ليعطوا للمجتمع صورة (القبح) لا صورة (الجمال)، وقالوا إن (الدادائيه) فن جاء لتدمر كل شيء، ملخصين إحساسهم بالعبث واللا جدوى بكلمة (العدم) و(لا شيء) وذلك لتعبير عن إحساسهم الممزق الذي سببته (الحرب العالمية الأولى) وما رافق من قتل ملايين وتهديم مدن بالكامل ومن شيوع روح الهزيمة في النفوس، لتظهر عدميتهم ليس عبر أشكال مأساوية التي جاءت في إعمال (الدادائيه) فحسب، بل بالسخرية والوقاحة والازدراء موجهين أقلامهم ضد الواقع الذي لم يكترث بمعاناتهم ولم يبال بالنتائج التي افرزها هذا الدمار في النفوس، ومن خلال ذلك أرادوا أن يهينوا كل شيء، ولكن مع هذا النقد اللاذع للمجتمع ، إلا إن المجتمع تقبل هذا النقد واحتضنه، لتشاء المعادلة إن تجعل (ما كان ضد الفن إن يكون فنا)….!
ورغم النجاح الذي حققته (الدادائيه) إلا إن رغبة الفنانين والمبدعين أرادوا تغير صورة التي انطلقت منها حركة (الدادائيه) إلى أكثر إجادة وأكثر حرية ليتجهوا إلى (السريالية) عالم فتح أوسع مجالات التعبير والحرية وعلى كافة المستويات الفنية بعد ان أحسوا بان (الدادائيه) أصبحت حركة غير مجدية ان لم تصبح عقيمة كعقم الواقع الذي احتجوا ضده وقد قال عنها (اندريه بريتون ) في كتابه (مقابلات) عام 1918 ((…. بدء لنا بان الدادائيه تفتح الأبواب على مداها، ولكن سرعان ما اكتشفنا بأن تلك الأبواب كانت مفتوحة على رواق يلتوي دائريا….)).
ومن هنا أعلن (اندريه بريتون) و (ايلور) و (سوبو) و (ارغوان) و (بيريه) وآخرين موت الدادائيه وولادة (السريالية) ليرفعوا شعارهم الجديد ( الخلق والإبداع والحرية).
وهنا لا بد من وقفه للإيضاح بان بعض الفنانين (الدادائيين) والذين دخلوا (السريالية) احتجوا عن إعلان (موت) الدادائيه بقدر ما أرادوا تصحيح هذه المفردة من (الموت) إلى (التحول) والى (التغير)، ففي كتاب ( صور ذاتية) للفنان الكبير ( مان ) والمنشور عام 1963 يقول ((…الدادائيه لم تمت، إنها ببساطة تحولت، نظرا لأن الحركة الجديدة – ويقصد السريالية – كانت مؤلفة من كل الأفراد البارزين في المجموعة الدادائيه….)) .
فمن حطام الحركة (الدادائيه) التي كانت تتوجه إلى الهدم فإن (السريالية) تتوجه نحو البحث عن طاقة الخلق والى التوجه نحو الحياة، ليس إلى الهدم و تدمير مظاهر الواقع فحسب بل إلى خلق واقع جديد، لتشرق (السريالية) كحركة فنية تعبر عن رغبة الشعراء والكتاب والفنانين في الغوص إلى ما وراء الواقع الظاهري نفسه، والسعي إلى إثارة الفكر من خلال فهم جديدة للأدب والفن .
ومن هنا جاءت انطلاقة ( السريالية) لتباشر ممارسة أنشطتها وفعاليتها بشكل ملفت وواسع الانتشار مع نشر (اندريه بريتون ) البيان الأول حيث أشار في هذا البيان إلى التسمية (السريالية) بوصفها تكريما لذكرى (أبولينير) الذي توفي في تلك الفترة وتكريما لجهوده، حيث قال :
(( لقد أطلقنا أنا و سوبو اسم(السريالية) على هذا النمط من التعبير الصرف الذي توصلنا إليه والذي أردنا أن نفيد منه أصدقاءنا، وأحسب أنه لم يعد هناك اليوم مجال للرجوع عن هذه التسمية بعد أن طغى مفهومنا على المفهوم أبولينير….(( .
وتلا البيان(السريالية) الأول ظهور العدد الأول من إصدارهم تحت عنوان (الثورة السريالية) في عام 1924، و في (البيان السريالية الأول) قال (اندريه بريتون):
((…السريالية هي آلة نفسية محضة بواسطتها نحن نعتزم – شفويا أو كتابيا أو بأية طريقة – عن وظيفة الفكر الحقيقية… الفكر الذي هو إملاء، في غياب أي رقابة يمارسها العقل وخارج أي استغراق جمالي أو أخلاقي…((.، و فلسفيا، فان ((السريالية تقوم على الإيمان بواقع فائق لبعض أشكال توارد فكري، أهملت حتى حينها، وبقدرة الحلم العظيمة، وبتصرف الذهن المجرد من الغاية. كما ترمي إلى الهدم النهائي لجميع التراكيب النفسية الأخرى، وإلى القيام مقامها في حل قضايا الحياة الرئيسية…)).
وقد أشار (أندريه بريتون) بان البعد المستقبلي لـ(السريالية) هي بكونها ((سوف تكون لأن الازدهار الكلي للسريالية لا ينبغي البحث عنه في بيان بل في الاستجابة التي تحث عليه ….)).
و (السريالية) بهذا المفهوم ساهمت في تغيير الوعي الحديث بكونها لم تكن مجرد حركة ظهرت وبرزت في زمن محدد، بل هي رؤية و قوة حيوية تعلن عن حضورها باستمرار، حتى في عصرنا الحاضر ونحن نعيش (القرن واحد والعشرين)، وفي مختلف الأشكال الفنية والأدبية، بكوننا اليوم نلمس تأثير (السريالية) في الثقافتين الغربية والشرقية، لأنها قلعت الحواجز الاصطناعية لخلق عالم ستكون فيه لـ(لرغبة) الكلمة الأولى والأخيرة، لأنها تمس كل مظهر من مظاهر الحياة لأن هدف (السريالية) هو التخلص من الكابح الاجتماعي والأخلاقي والجمالي، وهي في نفس الوقت ترفض أن تسجن نفسها داخل حدود الذات، ذلك أن مبدأها يفرض عليها أن تبحث عن التأليف الفاعل بين الذاتي والموضوعي، ففي (السريالية) نجد المقابلات بين الذات والموضوع، بين الأحلام الفردية وأحداث الحياة المادية والاجتماعية، بين القيم الباطنية الفرويديه وأكثر الاتجاهات ثورية (الماركسية الينينيه).
فـ(السرياليون) يمضون قدما في الاعتقاد بان الواقع لا قيمة له ما لم يفتح طريقا إلى ما فوق الواقع بمعنى(السريالي) الذي هو ليس نقيضه بل بالأحرى هو وعي حاد بإمكانية الواقع، فمثل هذا الاكتشاف يحرر فينا الإحساس بالدهشة، بكون (السرياليون) يرفضون في المطلق أي استخدام للعقل، وسعوا إلى تقويم اختلال التوازن الذهني بالتماس العون من أشكال المعرفة اللاواعية من الحلم و المخيلة الشعرية و الصدفة الموضوعية مؤكدين على الشعور أكثر من الفكر وعلى الصورة أكثر من الكلمة و على الغريزة أكثر من المنطق، بكون انجاز المبدع يرتكز على استعداده وقدرته على خوض المجازفات، مسلحا بالشك لا اليقين، ومتجنبا إتباع أساليب أو طرق و أشكال التعبير الثابتة، وهنا فان ( اندريه بريتون) يضرب مثلا في بيانه الأول قائلا: ((ان حركتنا السريالية، تشبه النظر إلى قمة جبل جليدي عائم والاعتقاد بأنه يمثل كل شيء، في حين يكمن حضوره الأقوى وقيمته الأعمق في الجزء الخفي الذي يوجد تحت السطح))، بكون (السريالية) تعطي أهمية كبرى على وسيلة تحرر شامل للفكر، لتحرير العقل لان حقل (السريالية) هو (العقل البشري الذي هو مصدر اللا متناهي، النبع الذي لا ينضب في الخيال .
فالسريالية بالتالي ليست أسلوبا فنيا محضا بل وسيلة لاستقصاء وتحري الواقع، فهي أكثر من مجرد اتجاه فني أو قواعد لضبط الإنتاج الفني، لان الفن ليس غاية بحد ذاته، ليس مجرد إنتاج أثر (قصيدة أو لوحة) بقدر ما هو تعبير عن موقف لان (السريالية) في أعمق معانيها، أسلوب حياة، ونهج يمكن القبول بألغاز الوجود والتسامي على العجز والهزيمة والتناقضات، وهي تتخطى الطموحات الأدبية ساعية لتحويل العالم والى تغيير الحياة، وإعادة تشكيل الإدراك الإنساني بالمفهوم الثوري بكون (السريالية) حركة ثائرة ليست ناجمة عن نزوة فكرية وإنما عن صراع مؤسس بين قوى الروح وشروط الحياة.
فـ(السريالية) تمثل الأزمة الروحية التي نجمت عن التطورات الأيديولوجية في (القرن التاسع عشر)، وقد نجحت في إنتاج تقنية للكتابة والرسم تنقل رؤية مادية وصوفية للكون، فالإبداع (السريالي) هو خلق وثورة وتجديد وان إنتاجهم الفني والشعري ما هو إلا إبداع يكمن بفيضه إلى الخروج عن المألوف ويعمل على الهدم والتجاوز ورسم معالم وحدود وسمات أسلوبية وإيقاعية جديدة تحتاج إلى تدخل عوامل أخر تساعد المنهج من أجل اكتشافها, من هذه العوامل المساعدة للحدس بالتعبير الصوفي وقراءة الشعر بالشعر.
ومن هنا فإننا في القصيدة (السريالية)، وهي (قصيدة ميكانيكية) ليس لها حدود ولا قوانين غير مغلقة تفتح نفسها بشكل دائم على التجربة، فهي تنطلق من الكتابة من الفراغ وترصيص الكلمات لتشكل القصائد الحديثة واللعب بها تحت يافطة التجريب من دون رابط لغوي ودلالي وجمالي وإيقاعي و بلا رؤية شعرية استيطاقيه، قصيدة مليئة بالرموز والإشارات والإيماءات التي لا تنكشف مدلولاتها بسهولة أو من القراءة الأولى, وإنما تحتاج إلى وقفة طويلة وتحليل عميق ومتابعة سياقات القصيدة وصورها المتشابكة غير مترابطة من أول القصيدة إلى آخرها يرتبط وجودهما مع الإثارة والنشوة والدهشة والهزة النفسية والإعجاب وانتقاء مفردات غير مألوفة تورد من هنا وهناك و رصفها بشكل مفاجئ وغير مألوف .
فالشاعر (السريالي)، شاعر ليس لديه شيء يعبر عنه وحسب، بل هو الشخص الّذي يخلق أشياء بطريقة جديدة انه يمزج بين الواقع والخيال، فهو يمارس الهدم على مختلف الأصعدة، لأنه يريد إلغاء كل التقاليد والمدارس الأدبية والفنية القديمة، فالرغبة الجامحة في أعماقه تقوده إلى مهاجمة كل ما هو منطقي وعقلي فـ(القصيدة السريالية) قصيدة (دينامكية أوتوماتيكية)، مفعمة بالحيوية والنشاط، وهي إنتاج روح عدمية أفرزتها المعاناة وضياع الإنسان.
وهكذا خرجت قصائد (السريالية) لـ(اندريه بريتون) في أولى انطلاقته في رحاب عالم (السريالية) في ديوانه (الحقول المغناطيسية) حيث في هذا الديوان الشعرية تظهر تجليات لـ(اندريه بريتون) واضحة المعالم لعالم يرفض التقاليد والمقاييس التي تلزم الشعر، ليأتي ديوانه (الحقول المغناطيسة) بقصائد لا تلتزم بأي جنس أدبي او تجمع فيما بينها، فهي قصائد بلا قافية ولا وزن وسرد كيفما اتفق وشخابيط وتكرار وبتر حروف وعدم تنقيط الكلمات واندماج أرقام الحسابات مع الكلمات، وهذا ما قاد (اندريه بريتون) في الكتابة بالمفهوم جديد رغبة منه ليتجاوز مفهوم القصيدة النثرية بنص اسماه (اسماك ذوبانية) وهي كتابة تشمل على 32 نصا وضع (مقدمة) لها ثم نشرها لتصبح فيما بعد هذه (المقدمة) بعد ان أخذت بعدا منقطع النظير و شهرة واسعة بين الأوساط الثقافية الأدبية والفنية لتصبح هذه (المقدمة) الرائعة فيما بعد بمثابة (البيان السريالي الأول) .
ومن نصوص (اسماك ذوبانية) نختار لتوضيح شكل ومحتوى القصيدة (السريالية) أكثر:-
((…. (أسماك ذوبانية) ..
أقل من الوقت الذي نحتاجه لنقولها،
أقل من الدموع التي نحتاجها لكي نموت
أحصيت كل شيء
ها هي
أجريت تعدادا للحجر
فكان بعدد أصابعي وأصابع أخرى
وزعت مناشير للنباتات
لكنها رفضت أن تأخذها
شاركت الموسيقى للحظة واحدة
والآن لا أعرف ماذا أقول في الانتحار
فإذا أريد أن أنفصل عني
فالمخرج من هذا الجانب
وأضيف بخبث
المدخل
المدخل من الجانب الآخر
أترى، ما الذي تبقى عليك لتفعله
الساعات
الأسى
ليس لدي أي إحصاء معقول لهما
فأنا وحيد
أنظر عبر النافذة
لا أحد يمر
بالأحرى لا يمر أحد ، أشدد على (يمر).
السيد هذا ألا تعرفونه……!
إنه السيد (الشخص ذاته).
أقدم إليكم السيدة
سيدة وأطفالهما
ثم أنكص على عقبي
أعقابي هي أيضا تنكص
لكن لا أعرف على ماذا تنكص بالضبط
أستشير توقيت القطارات
أسماء المدن استبدلت بأسماء أشخاص
مسوني عن قرب
هل أذهب إلى (ألف)
هل أعود إلى (باء)
هل أغير في (عين)
نعم
طبعا سأغير في (عين)
شرط أن لا يفوتني القطار إلى الضجر…!
وصلنا:
الضجر،
المتوازيات الجميلة
كم هي جميلة المتوازيات تحت قائم الله العمودي….)).
ومن نص أخر من نصوص(اسماك ذوبانية) لـ(اندريه بريتون) نختار أيضا :-
((…. لشخص ما،
ذات يوم يجمع في كأس من الطين الأبيض زغب الفواكه
وقد طلى بهذا البخار مرايا عدة
وعندما عاد بعد زمن طويل،
كانت المرايا قد اختفت…..!
نهضت واحدة بعد الأخرى
وخرجت مرتعشة
وبعد زمن أطول،
اعترف شخص ما بأنه قد التقى عند عودته من عمله، بإحدى هذه المرايا،
فأقترب منها تدريجا وأخذها إلى بيته
كان شابا مبتدئا جميلا جدا،
ملابس عمله الوردية جعلته يشبه حوضا مملوءا بالماء غسيل
فيه جرح ما
ولرأس هذا الماء ابتسامة
كأن ألف طير يبتسم في شجرة ذات جذور غائصة،
صعد المرآة بسهولة في بيته
وكل ما تذكره هو أن بابين قد أصطفقا عند مروره، مقبض كل واحد منها كان يؤطرها لوح زجاجي ضيق
كان قد أبعد ذراعيه ليسند حمله الذي وضعه فيما بعد بألف حذر في زاوية الغرفة الوحيدة التي كان يسكنها في الطابق السابع،
ثم خلد إلى النوم
طوال الليل، لم تغمض له عين
كانت المرآة تتغور انعكاسا سحيقا لم يعرف من قبل ولمدى لا يصدق
لم يكن للمدن سوى وقت الظهور بين سمكيها.
مدن من الحمى شقت عبابها النساء فقط من جميع الجهات،
مدن مهجورة،
مدن ذات عبقرية أيضا،
تعلو بناياتها تماثيل متحركة،
وبنيت فيها مصاعد الحمولة على شكل البشر،
مدن عواصف فقيرة،
وهذه المدينة أجمل وأكثر تهربا من الأخرى التي فيها القصور والمعامل على شكل أزهار:
فذات اللون البنفسجي مثلا كانت مربط قوارب،
عوضا عن الحقول ثمة سماوات على الوجه الآخر من المدن،
سماوات ميكانيكية،
سماوات كيميائية،
سماوات رياضية،
حيث كانت صور البروج تتحرك،
كل واحدة في محيطها،
إلاّ أن الجوزاء كانت تعود أكثر من الأخرى،
أستيقظ الشاب في الساعة الواحدة فزعا إلى المرآة مقتنعا أنها أخذت تميل منحنية إلى الأمام وعلى وشك أن تقع
استقامها بصعوبة،
فإذا هواجس أخذت تساوره،
حتّى قرر أن العودة إلى الفراش
أمر خطر
فبقي جالسا على كرسي أعرج على بعد خطوة فقط من المرآة وبمواجهتها بالضبط
شعر بتنفس شخص غريب في الغرفة…
لاشيء
ثم رأى شابا أسفل الباب الكبير،
والشاب هذا كان عاريا ولم يكن خلفه سوى منظر أسود ربما مصنوع من ورق محروق
فقط أشكال الأشياء بقيت وكان من الممكن التعرف على جوهر هذه الأشياء المسبوكة منه
في الواقع، ليس في الأمر خطورة
فبعض هذه الأشياء كانت تعود له
مجوهرات،
هدايا حب،
بقايا طفولته،
بل حتى قنينة العطر هذه التي لا يمكن العثور على سدادتها
أما الأشياء الأخرى فكانت غريبة عليه،
ومما لا شك فيه أنه لم يستطع استجلاء ما تنطوي عليه من وظيفة في المستقبل القريب
كان المبتدئ ينظر أبعد فأبعد في الرماد
خامره ارتياح فيه شيء من الشعور بالذنب، من رؤية هذا الشاب المبتسم ذي الوجه الشبيه بكرة في داخلها ضريسان يطيران، يقترب من يديه
أخذه من خاصرته التي هي خاصرة المرآة
أليس كذلك، وما إن غادرت الطيور، حتى ارتقت الموسيقى طول الخط الأبيض الذي كان يتركه وراءه طيرانهم
ما الذي حدث في هذه الغرفة؟…!
المهم، أن المرآة منذ ذلك اليوم لم يعثر عليها،
ولم أقرب فمي من إحدى شظاياها المحتملة الوجود،
من دون أن يصيبني انفعال شديد حتى لو لن أرى في آخر الأمر ظهور الخواتم المصنوعة من زغب الطير،
البجع على وشك الغناء. ….)).
فهذا المحتوى للقصيدة (السريالية) والتي هي قصيدة (أوتوماتكية) بكونها تجمع المفردات والجمل كيفما اتفق وتكتب كما تأتي بعيدة عن أية صياغة ذهنية عقلية قائمة وبعيدة عن قواعد اللغة ونصوص البلاغة وحسابات الوزن، فهي تتبع السرد التلقائي بكل ما تأتيه العشوائية، سرد لنصوص وأحلام وكلام هذيان لهذي واقع تحت تخدير وجمع مفردات أينما وقع عليها البصر من الإعلانات او من عناوين الجرائد والمجلات والكتب او من كلام يسمعه الشاعر او الفنان او الأديب للمتحاورين في المقهى او الشارع او الجالس في الباص والقطارات، وهذا الأسلوب السردي الذي يلتجئ إليها الشاعر في كتابة قصائده أصبت سمة أساسية لمنطلقات الكتابة الشعرية الحديثة والتي عرفت في عالم القصائد (السريالية) ومدخلا أساسيا إلى القصيدة الشعرية المفتوحة بعيدة كل البعد عن قوالب وتقنيات القصيدة المعروفة عنها قبل الحداثة أي (القصيدة التقليدية القديمة) لتصبح القصيدة كما يعرفها (اندريه بريتون) في (السريالية) قصائد (غير ملتزمة) و (اوتوماتيكية)، و بكل مقاييس (مفهوم اللا التزام) شكلا ومضمونا، لتحتضن فضاء النثر المفتوح، فضاء الشعر (الأوتوماتيكي) على كل الإبعاد والاتجاهات ومتحررة من مقاييس اللغة لتواكب ما يملئه الأحلام لهم من إشكال للغة مبهمة وغير واقعية وقد تكون واضحة ومنطقية في إشكال أخرى هو جمع بكل المتناقضات لا حدود للمستحيل في لغة القصيدة الشعرية(السريالية) وقد أوضح (اندريه بريتون) هذا التداخل اللامعقول والمتناقض مع اللغة في القصيدة في عرض قصير قدمه في كتابه (غاسبار الليل) والذي نشره في مجلة (أدب) عام 1921 حيث ذكر (( …. بعدم وجود شرط أخلاقي للجمال، وعلى ضوء ذلك أخذنا الاهتمام بشيء آخر مغاير لسباق العوائق، فمن غير مقبول أن تتغلب اللغة على صعوبات مقصودة في علم العروض، أو أن يقتصر طموح الشاعر على تعلم الرقص في العتمة بين السكاكين الحادة والقناني المكسورة….)).
وعلى هذا النحو كانت القصائد (السريالية) تكتب ومن تلك النصوص أيضا نختار هذه النصوص المعنون بـ( خصوصي ) تقول القصيدة :-
(( ..خصوصي..
معتمرا
قبعة رصاصية اللون،
طفق يتقلب على ملصق أملس
ريشتان فردوسيتان تقومان لديه مقام مهمازين
أما هي،
فمن مفاصلها الخاصة في أعلى طبقات الهواء تنطلق أغنية الأجناس المشعة.
وما يبقى من المحرك المضرج بالدم يكتسحه الزعرور
في هذا الوقت يسقط الغواصون الأوائل من السماء.
وفجأة يلطّف الجو،
وأخذت الخفة كل صباح تهزهز شعرها الملائكي فوق أسطحنا
ما الفائدة،
ضد السحر المؤذي،
في هذا الكليب الضارب إلى الزرقة ذي الجسد المأسور بلفافة لولبية من الزجاج الأسود…
ألا تستطيع عبارة (مدى الحياة) أن تشعل لمرة واحدة لا غير…!
خيطا أبيض من خيوط الفجر الشمالي البيضاء، يصنع منه غطاء طاولة يوم الحساب…)).
ومن قصائد (اندريه بريتون) نختار أيضا قصيدة (الارتباط الحر) حيث تقول القصيدة :-
((…..امرأتي التي لها شعر من نارِ حطب
التي لها أفكار من بروق الحرارة
التي لها خصر ساعة رملية
امرأتي التي لها خصر ثعلب مائي بين أسنان نمر
امرأتي التي لها شفتانِ،
من فيونكة شعر
ومن باقة نجومٍ في عظمتها الأخيرة التي أسنانها آثار فأرة بيضاء على الأديمِ الأبيض التي لسانها من كهرمان وزجاجٍ مصقولين
امرأتي التي لها لسان قربانٍ مطعون التي لها لسان دمية تفتح عينيها وتغمضهما التي لها لسان حجر مدهش
امرأتي التي لها أهداب خربشات كتابة طفل التي حاجبا عينيها حافة عش للسنونو
امرأتي التي جبينها ألواح اردوازية لسقف دفيئة استنبات وبخار على الألواح الزجاجية
امرأتي التي كتفاها من الشامبانيا ومن نافورة لها رؤوس دلافين تحت الجليد
امرأتي التي معصماها من أعواد الثقاب
امرأتي التي أصابعها من الحظ ومن آس القلب التي أصابعها من الهشيم المحصود
امرأتي التي لها إبطان من فراء السمور
ومن جوز شجرة الزان
ومن ليلة القديس يوحنا
من شجيرات استوائية
ومن عش سمك ملائكي ذات الذراعين اللتين من زبد البحر ومن حواجز الأنهار ومن امتزاج الحنطة والمطحنة
امرأتي التي لها ساقين من ومضات تخطف الأبصار ذات حركات دولاب الساعة واليأس
امرأتي التي لها ساقين من لب البيلسان
امرأتي التي لها قدما أحرفٍ أولى التي لها قدما سلاسل مفاتيح، قدما عصافير تشرب
امرأتي التي لها عنق من شعيرٍ غير مضروب
امرأتي التي لها حنجرة من وادي التبر من مكان لقاء في صميم مجرى التيار التي لها نهدان من الليل
امرأتي التي لها نهدا رابيتين بحريتين
امرأتي التي لها نهدا بوتقة ياقوت التي لها نهدا طيف وردة تحت الندى
امرأتي التي لها بطن نشر لمروحة الأيام التي لها بطن مخلب هائل
امرأتي التي لها ظهر طائر يفر عموديا
و التي لها ظهر زئبقي
والتي لها ظهر من النور
و التي لها قفا عنقٍ من حجر ملمس وطباشير مبتل ومن سقوط كأس شرب منها للتو
امرأتي التي لها وركا زورق شراعي صغير
و التي لها وركا شمعدان وريش سهام ومضات ريش طاووس أبيض بندول غير مبال
امرأتي التي لها ردفان من الطَّفْل الرملي والحرير الصخري
امرأتي التي لها ردفان من ظهور البجع
امرأتي التي لها ردفان من الربيع التي لها فرج سوسنة
امرأتي التي لها فرج من طمي التبر ومن خلد بحري
امرأتي التي لها فرج من عشب بحري ومن بومبونات قديمة
امرأتي التي لها فرج مرآوي
امرأتي التي لها عينان مغرورقتان بالدموع التي لها عينان من بزة بنفسجية ومن إبرة ممغنطة
امرأتي التي لها عينان من السافانا
امرأتي التي لها عينان من ماء للشرب في السجن
امرأتي التي لها عينان من حطبٍ تحت الفأس دائما
التي لها عينان من مستوى ماء وهواء وتراب ونار….)) .
وهكذا خرجت القصيدة (السريالية) والأدب (السريالي) وفنها، لتشمل كل أشكال المعرفة والثقافة، ليتم توظيفها من أجل تقديم رؤية ثورية جديدة للعالم.
فقد انضمت إلى هذه الحركة الأدبية والفنية، أدباء وفنانين وشعراء وسينمائيين ومصممين كبار و استقطبت الحركة عناصر شبابية وامتد تأثيرها في الغرب والشرق، مما ازدادت حيوية وثراء وانتشارا لتصبح أهم حركة أدبية و فنية في (القرن العشرين) بل وتعدت تأثيرها إلى عصرنا الحاضر وربما سيستمر تأثيرها إلى ابعد من عصرنا بكونها مازالت أكثر جاذبية وأكثر حداثة وتجديدا وتأثيرا في النفس.