القصيدة الرقمية مدخل إلى النقد التفاعلي المقارن
مسارات ديسمبر 30, 2016 مسارات أدبية اضف تعليق 56 زيارة
د. إبراهيم أحمد ملحم
تحاول هذه الدراسة أن تؤسس لمصطلح «النقد التفاعلي المقارن» من خلال المقارنة بين مجموعة الشاعر العراقي مشتاق عباس معن «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق» التي أنتجت في 2007، وقصيدة «اعتداء للأبد» للشاعر الأمريكي م. دي.
نورمان التي أنتجت في السنة نفسها، وتؤسس كذلك لتحليل بنية القصيدة الرقمية.
إشكالية المصطلحات
قُدمت قصيدة «اعتداء للأبد» في فيديو على موقع الشاعر(1)، وعلى اليوتيوب(2)، ويمكن إيجادها ومثيلاتها بالبحث من خلال الكلمات المفتاحية «القصيدة الرقمية»، أو عنوان القصيدة، أو اسم الشاعر، ولكن ما يعنيني أن الشاعر قد استخدم هذا المصطلح لإدراج قصيدته ضمن معناه. بينما قُدمت قصيدة «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق» على قرص مرن CD، ووزعت منه نُسخ محدودة من قبل المنتج على سبيل الإهداء، وقد وضعت في أحد المنتديات على الإنترنت فترة من الزمن ثم غابت عنه، ليبقى هذا العمل الأول من نوعه مجهولاً للقارئ. ويدل وصف «التباريح» في العنوان بأنها «رقمية» على أن الشاعر يُدرج عمله أيضًا، ضمن معنى «القصيدة الرقمية».
وحتى نخرج من هذه الإشكالية، ينبغي ألا نتوقف كثيرًا عند المصطلح الذي ارتضاه الشاعر لعمله، فهذا يدخل في نسق النقد، وليس في نسق الإبداع بما في ذلك «عتبات النص». القصيدة الرقمية Digital Poem، أو القصيدة الإلكترونيةElectronic Poem، هما شيء واحد، تُسمى فيه كل قصيدة تُقرأ عبر الحاسوب، ويمكن أن تُقرأ في الوقت نفسه، عبر الورق دون أن يتأثر المعنى(3). ويصبح نعت «الرقمية» أو «الإلكترونية» غير دقيق حين تستحيل عملية التلقي عبر الورق لعمل وظّفت فيه عناصر مختلفة، منها: الصورة، والصوت، والحركة.. وباتت الكلمة جزءًا من بنية النص.
أما حصر «التفاعلية» في المساحة التي يتركها المبدع للقارئ؛ كي يتمم جزءًا من النص، فإنها ليست معيارية، لأنها يُمكن أن تُقدم على الورق أيضًا، ولكنها تصبح كذلك في حالة بناء نص على نص، أو بتعبير أكثر دقة «تحاور النصوص»، وديناميكية تشكلها في بنية حيوية. إن معنى «التفاعلية» لم يعد جامدًا؛ فقد استخدم في مرحلة البدايات للتفريق بين النص الأصلي، والنصوص التي يُضيفها القراء عليه. وقد تتبعت نصوصًا كثيرة على المنتديات العربية والإنجليزية، فوجدت أن درجة الوعي لم تصل بعد إلى المستوى المرضي عنه؛ فكثيراً ما نجد عبارات الثناء والشكر، أو الأحكام الانطباعية.. بحيث تمضي التفاعلية في طريق هشة غير ما خُطَّ لها.
إن استخدام الجرافيك، والمؤثرات الصوتية، وغيرهما من العناصر، يُخرجان العملين: «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»، و«اعتداء للأبد» من مسمى «القصيدة الرقمية» إلى مسمى «القصيدة التفاعلية»، خاصة أن معنى «التفاعلية» لم يعد بالإمكان قياسه في الكتابة، بل أصبح أكثر ارتباطًا بالذات الفردية: بما تحققه القصيدة من تأثيرات عاطفية وفكرية وجمالية في القارئ الذي بات يتعامل مع الأشياء على الإنترنت من حيث كونها «افتراضية» على الرغم من ارتباطها بمرجعية إنسانية.
التحليل
تتألف بنية القصيدتين من عناصر، يؤدي كلٌّ منها وظيفة حيوية في العمل بحيث لا يمكن القول: إن عنصرًا ما جاء هامشيـاً، إلا في حالة وجود خلل في البنية، ومن هذه العناصر:
أولاً: الكلمة
تعطينا الواجهة الرئيسية، لقصيدة «تباريح رقمية»، انطباعًا بأن الكلمة المفردة تقود إلى سلاسل من الكلمات المنتظمة في جُمل قصيرة، مكثفة المعنى، ليست فضفاضة في الوصف أو الاستغراق في العاطفة، وأن طبيعة انتقاء الكلمات جاءت عبقرية؛ فقد فضَّل الشاعر الكلمة التي ترتبط بالتخيل فتعطي المعنى على الكلمة التي ترتبط بالمعنى مباشرةً، كما نجد في قوله: «ستذبحُ خطوتي كل لقيط ينزُّ بدربي»؛ فقد استخدم «ستذبحُ» بدل «ستُبعد»، واستخدم «لقيط» بدل «غريب»، واستخدم «ينزُّ» بدل «يظهر»؛ لتصبح العبارة كلها تفعيلاً للمعنى المرتبط بالتخيل. واستخدم التناص حيث تكتسب الكلمة في سياقها قوة مضاعفة من خلال قوة الكلمة التي تناصَّت معها، كما نجد في قوله: «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها.. وأرضي تنثُّ ملوكًا». كانت «أيقنتُ» عبارة عن أيقونة في حد ذاتها، تحيل إلى نص يبدأ بها. وكذلك في الأيقونات الأخرى. وقد انتظمت الكلمة في أشكال مختلفة، في: القصيدة العمودية، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، فأدت دورها بفعالية، على الرغم من الخلل البيِّن في الموسيقى ببعض المواضع، كما نجد في قوله: «عندها ستمطر أضراسها ويصحو الصباح»، وقوله: «تباغتني لأفتح التاريخ.. ومثلي يفتح التاريخ إن شاءت أنامله».
وتعطينا الواجهة الرئيسية، لقصيدة «اعتداء للأبد» الانطباع السابق نفسه؛ فهو يقول مثلاً عن الجدول المتصدع: «إنها تأكل عينيَّ/ هاتين العينين الجائعتين»، ولكن الكلمة التي نشاهدها تتحرك، كانت تسير جنبًا إلى جنب مع صوتين مختلفين، الأول: الشاعر حيث يقرأ النص بطريقة رأسية من أعلى إلى أسفل، والثاني: امرأة غير محددة حيث تقرأ النص بطريقة أفقية. القراءتان توكبهما حركة تداخل في الكلمات، ما يلقي عبء المتابعة اللحظية حتى لا يفوت المتلقي شيء.
ثانيًا: الصورة
تشتمل الواجهة الرئيسية في «تباريح رقمية» على صورة ثابتة في الوسط تقريبًا، وهي لتمثال استطاعت الشرائط الثلاث التي تلتف حول رأسه، فتضع ملامحها القاسية على فمه؛ إذ يبرز اللسان من خلال الشريط الأول والثاني، وتبرز الشفة السفلى من خلال الشريط الثاني والثالث. أما العينان، فهما مغمضتان بسبب التألم من شدة كتم الصوت. إنها العتبة التي توحي منذ البداية بأن العمل كاملاً ليس سوى إخراج ما في النفس إلى المتلقي.
كانت الصورة تُعرض بجانب الكتابة، وكأنها في جزيرة معزولة عنها، على الرغم من قوة إيحائها، ولكنها لم تصل إلى مستوى التضافر معها لإيصال المعنى، أو التأثير الجمالي والعاطفي بوصف العمل خلية واحدة. هذا ما نجده أيضاً في لوحة الفنان سلفادور دالي عن الزمن التي نجد فيها الساعات السائلة، والأغصان اليابسة الجرداء..التي كتب بجانبها نصًّـا، وفي أعلاها شريطاً يبدأ بكلمة «عاجل». وحتى عندما جعل الصورة خلفية للنص، كانت تقوم وحدها، وليس في نسق ذلك التضافر مع العناصر الأخرى.
في «اعتداء للأبد» حضرت الصورة حضورًا قويًّـا؛ فالصورة الأولى تمثل غروبًا للشمس، يظهر عنوان القصيدة عليها باللون الأسود، ثم تبدأ حركة الصورة بشكل موجي من اليمين إلى اليسار، فتلتف حول نفسها.. وفي هذه الأثناء تظهر الكلمات: «كشخص ما يستطيع أن يمتلك هذا/ هذا، لهذا أستطيع أن أمتلكه»، متزامنة مع الصوتين بتقنية 2D، وتزداد الحركة لتشكل ما يشبه الدوامة، لتظهر كلمات أخرى: جدول متصدع/ تغيُّر هذه الخطى التي أمشي بها/ أنا أمتلكه/ ليس كما لاحظت» ثم تتحول الدوامة للون الأسود بزرقة خافتة، ومن اليسار لون أخضر متموج بالأسود، لتتشكل صورة طبيعية أخرى.
لقد كانت تحولات الصورة اللونية، وصولاً إلى اللون الأسود الغالب، تؤكد هذا التغير المتسارع في البيئة من حولنا نحو الأسوأ، وكانت حركة الصورة بما يشبه حركة الدوامة حيث تلتف الصورة حول نفسها، تؤكد عجز الشاعر عن إيقاف هذه الحركة إلا عن طريق الخيال. وكانت حركة الصورة التالية، بالطريقة نفسها، تؤكد أن اعتداءنا على البيئة سيبقى مستمرًا، ومن أجل ذلك، سنبقى نعاني، هو ما أكدته الكلمة أيضًا.
ثالثًا: الصوت
حضر الصوت في مجموعة «تباريح رقمية» كما حضرت الصورة، موحياً بجو النص، لكنه ليس جزءًا أساسيًّـا من تشكيل المعنى، وقد جاء في نمطين بارزين: الموسيقى، والنشيد، بوصفهما خلفيتين للنص المعروض. هناك خلل في الصوت بأكثر من موضع، كما نجد في نص «يعقوب»، إضافة إلى فقدان السيطرة على ضبط مستوى الصوت، وعلى ضبط تزامن عرض النص مع الصوت حيث كان يتأخر في بعض المواضع.
واستطاع الصوت في قصيدة «اعتداء للأبد» أن يتزامن مع عرض الكلمة بطريقتين: رأسية بصوت الشاعر، وأفقية بصوت امرأة مجهولة، وفي الصوتين يظهر الصدى بطريقة تمتزج مع أفلام الرعب حيث أصوات الأشباح أو الكائنات غير البشرية. وظهرت أصوات تختلط فيها الرياح بحركة مجرى الماء في لوحتين؛ لكي تُخرج اللوحة، متضامنة مع الحركة المتموجة على نفسها، عن الجمود. ولكن الصوت المهيمن على العمل بقي للإنسان، ولكنه ليس بالصورة الطبيعية. وهو ما يجعل فكرة انعكاس التلوث البيئي على الإنسان أكثر قوة.
رابعاً: اللون
اللون الغالب على الواجهة الرئيسية هو الأزرق، ولعل هذا ما دفعه إليه عنوان المجموعة الشعرية «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»، وما يلاحظ أن الشاعر استخدم الألوان الداكنة؛ لأن جو النص حافل بالحزن على ما أصاب الوطن (العراق)، وكأنه «يعقوب» المحاصر بالعمى، وهو ما يبدو بقوله:
«يا وطني المحاصر بالعمى
من أين لي بقميص الوتر الذي خاطته لي كف النخيل؟
وأنا الذي تخضرُّ في شفتي أهداب الرحيل».
الشاعر هو الإنسان الحزين الذي يمزقه ما يجري، ويراقب ما يجري بمرارة عبر نشرات الأخبار، وهو ما يوحي به الشريط الذي جعله أصفر اللون، ومتكررًا بصورة لافتة يبدأ بقوله «عاجل»، ولكن ما يأتي بعده، يتعلق بانعكاس الخارج على الذات من حيث الخوف والضياع كقوله: عاجل: ..
باتجاه مخيف..
تأخذني خطوتي
أما لون الكتابة فقد اتخذ اللون الأحمر؛ للدلالة على خطورة ما يحدث في الخارج، وفي الوقت نفسه، خطورة تأثيره في الذات.
ولعب اللون في «اعتداء للأبد» دورًا حيويًّـا في القصيدة تغيَّرت ألوان الصورة الواحدة؛ فصورة الجبال الصغيرة المكسوة ببعض الثلوج وأمامها بحيرة صغيرة، التقطت قبل أن يخيم الليل بلونه الداكن، تتغير لتميل إلى اللون الأخضر، ثم تفارقه إلى الأسود ثانية؛ فاللون الأول هو الطبيعي الذي يفرضه تغير الزمن، والثاني، هو الذي يتجلى بعد انقضاء الليل، أما الثالث، فهو التأثير السلبي لحركة الإنسان السلبية في الطبيعة. وقد استطاع في صورة أخرى، أن يشكل باللون فقاعات سوداء داكنة تخرج من رأس جبل يتوسط آخرين، لتمتد حتى تشكل صورة مجزَّأة، تمتد كبقعة ماء متناثرة في ثلاثة أجزاء، تتحد معًا، ثم تتسع لتغطي الصورة. وما ذلك إلا ليقول لنا: إن المشكلة ما لم نعالجها ستطال كل شيء في حياتنا، ولن نستطيع عندئذ أن نجد لها حلاًّ.
وفي نهاية القصيدة، تتحرك الكلمات باللون الأحمر:
نعم/ الظلام/ يمتلك الهواء/ هذا/ الجسد كما/ يجري/ الدم
وخلفيتها سوداء داكنة. ثم يضع مستطيلاً بشكل علوي لونه أزرق، وكُتب بالأعلى عنوان القصيدة. ويتغير لون هذا المستطيل بسرعة: أزرق يميل للأخضر، فدرجة أخرى من الأخضر، فدرجة أخرى منه أيضًا، فأصفر، فبرتقالي، فأحمر، ثم يغيب كل شيء. استطاع الشاعر باللون أن يجعل الظلام الذي أحدثته حركة الإنسان بأشكال مختلفة جزءًا من حياتنا.
خامساً: الحركة
استطاعت حركة الشريط الإخباري في مجموعة «تباريح رقمية» أن تعطينا فكرة عن تسارع الأحداث بصورة مدمرة للأعصاب. أما النص، فحركة رؤوس الأصابع على كلماته تُظهر ما كان مختفياً فترة خاطفة من الزمن، ثم تغيب. وهذا ما يتناسب مع طبيعة الأعمال التفاعلية التي يتطلب إنتاجها أن يكون ظهور الكلمة فيها خاطفًا، شأنه في ذلك شأن العناصر الأخرى.
وتبدو هذه السرعة أيضًا، في «اعتداء للأبد» حيث يتطلب متابعة دقيقة من المتلقي؛ ليلاحق حركة النص بالتزامن مع الصوتين، وحركة الصور، وألوانها المتغيرة.. ليصل عبر الحركة في كل عنصر من العناصر إلى معنى، ينتظم في المعنى الكلي للعمل.
سادسًا: الروابط التشعبية
إن الروابط التشعبية التي تقوم عليها مجموعة «تباريح رقمية»، تهب للمتلقي قدرًا كبيراً من الحرية في الاختيار والتنقل، ولكنها تصبح عديمة الجدوى حين تحيل إلى موضع غير بعيد في الصفحة نفسها، كما حدث في قوله: «رذاذ من النور». وقد اتخذت شكلاً واحدًا وهو الكلمة التي تضغط عليها، فتحيلك إلى نص، كما هو الحال في الواجهة الرئيسة؛ إذ يكفي أن تنقر على كلمة «الحنظل» ليظهر لك النص الذي يبدأ بهذه الكلمة، أو الكلمة متضامة مع كلمات أخرى، مثل: «اضغط فوق ضلوع البوح» التي كتبها مرتين متتاليتين في الناحية اليسرى من الواجهة الرئيسية.
ليست هناك روابط تشعبية في «اعتداء للأبد»؛ لأن طبيعة العمل جاءت بصورة فيديو. هذا العمل لا يسلب المتلقي حريته، وإن كان يضعه أمام عمل واحد غير متنوع، ولكن هناك أموراً تجعل قسطًا من الحرية للقارئ متوافراً أيضًا؛ إذ يمكن تقديم أو إيقاف مؤقت للفيديو، ويمكن التحكم بالصوت.. لكن ما يعنينا أكثر هو العمل نفسه؛ فقد وفر ما يستطيع أن يُشعر المتلقي بالحيوية، وهو السرعة الخاطفة، وكثافة المعنى في كل شيء حتى ليشعر أن الرتابة والتقليدية ليستا مطروحتين.
سابعاً: الأنا الشاعرة
يمكن تعريف (الأنا) الشعرية بأنها تلك التي تحرك الشاعر من الداخل للحفاظ على الشعر متوثبًا، وإبعاد الشاعر عن الطمأنينة والسكون؛ لأنهما عاملان معطلان لهذا التوثب. وهذا يستوجب التضحية بـ(أنا) الإنسان التي تطالب بالطمأنينة والسكون، كما هو حال سائر الناس(4). وما لم نصل في نقدنا إلى تعرف حركة (الأنا) الشاعرة، سيبقى نقدنا آليًّـا، يؤدي وظيفته التقليدية، ولكنه لا يرتبط بالشاعر بعلاقة حميمية.
ليست القصيدة التفاعلية نتاج ترف في الحياة، بل إنها نتاج قلق عليها، كما هو الحال في «اعتداء على الأبد» حيث التخوف على سير حياتنا نحو مصير مجهول ما لم تتوقف حركة الإنسان السلبية في تخريب البيئة. ويشير نورمان خارج النص أن قصيدته هذه كانت استكشافًا للإجابة عن السؤال: هل تمتلك القصيدة الشاعر، أم أن الشاعر هو الذي يمتلك القصيدة؟ وربما جاءت الإجابة في الكلمة حيث قال: «الكلمات هي التي تتحكم بالشاعر». ولما كانت القصيدة تولد بنية واحدة، وإنْ كانت القصيدة التفاعلية تُبنى على مراحل بفعل طبيعتها، فإن الشاعر لا يستطيع أن يراها مجزَّأة، بل مكتملة، وهذا ما يجعلها حياة له، بل أقوى من الحياة؛ لأنها تضاعف وجوده في الدنيا، وتبقى تحمل اسمه بعد رحيله عنها. وإنها نتاج قلق على الوطن، وحزن وترقب، كما هو الحال في «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»، بل إنها الصرخة المدوية في عالم صامت حيث لم يتبقَ للشاعر سوى اللسان والشفة السفلى اللذين يظهران من خلال الشرائط الكاتمة للأصوات. لقد كانت العناصر التي تتألف منها بنية العمل: الكلمة، والصورة، والصوت، واللون، والحركة.. تؤدي معاني متضافرة، وما تخلَّف عن تأدية هذه المعاني، فهو خلل في هذه البنية.
إن استخدام الجرافيك، والمؤثرات الصوتية، وغيرهما من العناصر، يُخرجان العملين: «تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق»، و«اعتداء للأبد» من مسمى «القصيدة الرقمية» إلى مسمى «القصيدة التفاعلية»، خاصة أن معنى «التفاعلية» لم يعد بالإمكان قياسه في الكتابة، بل أصبح أكثر ارتباطًا بالذات الفردية: بما تحققه القصيدة من تأثيرات عاطفية وفكرية وجمالية في القارئ الذي بات يتعامل مع الأشياء على الإنترنت من حيث كونها «افتراضية» على الرغم من ارتباطها بمرجعية إنسانية.
الخاتمـة
على الرغم من أن إنتاج القصيدتين كان في السنة نفسها، وأنهما تسيران في اتجاهين مختلفين، الأول: اتجاه يستخدم الروابط التشعبية بطريقتها التقليدية، ويوظف كثيرًا من العناصر السابقة بالطريقة نفسها. والثاني:
اتجاه يستخدم الفيديو، ويطور نفسه بشكل سهمي(5). في الاتجاهين، الشاعر هو الذي ينهض بالعمل كاملاً. الاتجاه الأول، على الرغم مما سبق، كان يمكن أن يستمر، فيتطور، كما تختلف القصيدة الأولى عند الشاعر عن القصيدة في الزمن الراهن. أما الاتجاه الثاني، فما زال المضي فيه عندنا غائبًا في الوقت الذي تخطو فيه القصيدة الغربية للأمام بسرعة مذهلة.
يُفترض أن يكون التقدم التقني المعاصر جاذبًا للشعراء في الوطن العربي لإنتاج قصائد تفاعلية باللغة العربية الفصيحة، أو اللهجات المحلية كالشعر النبطي.. ولكننا نجد أنفسنا أمام تجربة وحيدة، لا تستطيع أن تشكل ظاهرة.