تمرّ بعض المجتمعات بأحداث صاعقة مؤثّرة. تنقلب معها الأوضاع،
وتأخذ اتّجاهاً أشبه ما يكون بالزلزال بطابعه الهدمي المخلخل، حيث لا
ترتجّ الصورة وحسب، ولكنها تنشرخ وتتمزّق وتذهب بدداً؛ كأنها لم تكن. وفي
حمّى التبدد لهذه الصورة، ثمّة من يستعجل الرصد والتقاطَ الهشيم المبدد
الطائر في الحدث الزلزال؛ سعياً للتثبيت والتسجيل. وحينها يغدو العمل مجرّد
وثيقة؛ مدوّنة أرقام ودفتر إحصاء للخسائر والنكبات. وابداً لن يتوفّر لها
النسيج الضّام الذي تتحوّل معه إلى شاهدٍ يكسوه اللحم والدم وينبض بحرارة
الحياة التي فرّت مع الصورة ومنها. ذلك أن استعجال الرصد يلحّ على استجماع
الصورة في شمولها وفي هيئتها العامة، وتذهب منها التفاصيل والأشياء
الصغيرة، بما هي العمق والأصل والموئل الذي تتحدّدة به ماهيّة الصورة
وكنهها بأبعادها الإنسانية والوجودية. المختبر الغائر تتصنّع فيه الروح
وتلتمّ الملامح؛ التعبير الأصيل الذي يحتاج إلى عملٍ وتنقيب للوصول إليه
وموافاته في تربته الأولى البعيدة عن الرصد اللحظي والوقتي والعرضي. هي
مساحة الاختمار التي بها ينضج العمل الإبداعي، ويفارق مصير الوثيقة
العارية. أتحدث عن حرب الخليج الثانية؛ حرب صدام على الكويت وإخراجه منها
بقوّات التحالف، وما أعقبها من آثار تخلّلت الحياة الاجتماعية والاقتصادية
والثقافية في المجتمع الخليجي. ومنها ما حدث للأخوة من اليمن؛ المقيمين في
المملكة العربية السعودية؛ حيث تبدّلتْ بهم الأحوال، وصاروا صدى لوضعٍ لا
يد لهم فيه. صاروا مجلى للفرز السياسي، أحد مفاعيل ما بعد الحرب. وتحتّم
عليهم أن يجرعوا من كأسٍ مرّة، لم يدروا كيف خبّأها لهم الزمن ولا كيف
داراها عقودا طويلة؛ حتّى بغتتهم الواقعة ورفعتْ الكأسَ إلى شفاههم، تحمل
في انسكاب قطراتها مرارة التحوّل وعصف الانشداد بين عاطفتين قاصمتين؛ بين
وطنين؛ منفيين؛ السعودية واليمن.
هذا الزلزال الكبير وإفرازاته هو مدار
رواية الكاتب اليمني الشاب أحمد زين في " تصحيح وضع " ـ دار الانتشار
العربي، بيروت، 2005 ـ والتي وضعتْ بينها وبين الحدث المسافة الزمنية
الكافية للاختمار والاستواء، بسبيل التحقّق الفني ونضوج الرؤية الطالعة من
التفاصيل، ومن تأمل الحدث خارج قشرته بالولوج في انعكاساته الداخليّة على
شخوص الأزمة؛ النّتاج الساري في الخبايا، تتقرّاه عينٌ وصّافة تأتلق
بالشعر، وتحثّ على ملاقاة الكائن الذي فرمتْه مطحنةُ السياسة وطوّحتْ
به في مجرى الريح؛ يعاني انشقاقَ الذاكرة وحربها على " مجهول " يترصّده
دركيّو الحدود والمهرّبون، ولسعةُ النظرات المعريّة الواخزة، وفضيحة
الروائح المأهولة بما ينفض الجسد ويحوّم طيرَ الروح متخبطاً في فوضى
الأماكن التي لم تعد أماكن. الأماكن التي وسعتْهَا الروحُ، لكنّها ضاقتْ
بالجسد وفزّزتْهُ منشطرا عن بيتٍ ـ بحسب باشلار ـ يستحيل نسيانه.
ينبثق عنوان الرواية من
جملةٍ تُكتَب في دفتر الإقامة الذي أصبح من اللازم أن يحمله اليمني في
السعودية أسوةً بغيره من المقيمين الوافدين. وهذا لم يكن قبل الحرب. ينبغي
لليمني تبعا للتغيير في الأوضاع أن يجد كفيلاً يستلحقه في دفتر عمالته،
وتنكتب معه هذه الجملة " تمّّ تصحيح وضعه " وبذلك يكتسب وجوده المشروعيّة
والقانونيّة، وإلا فإنّه مضطر للخروج من البلاد، أو للتخفي؛ " مجهولاً "
يستره الظلام والغرف النائية الطرفية. هذا " المجهول " في الظرف السياسي
الساخن كيف يصحّح وضعه، ومن يقبل به؟.. الوضعيّة ليست مربوطة بالنسبة إليه
بفرصة عمل وفقط. إنها حياة؛ مسيرة عمرٍ كانت " هنا ". ذاكرة تفتّحتْ
وازدهرتْ " هنا ". لم يكن " هناك " في الوطن/ الاسم إلا الوجود الهش العابر
والذاكرة البعيدة المتفلتة من الجدّات ومن ضبابٍ لا يحضر إلا على سبيل
الطرفة عن جنود الإمام أو عن الجنود المصريين في حقبة حرب الستينات. صورة
غائمة لا تنتمي ملامحها وجذورها إلى " هناك ": ( فالوطن الذي نحتفظ به كصور
عتيقة، ليس له أدنى شبه بمسقط الرأس ذاك، ربما هو مجرّد ذريعة فقط، حتّى
لا نتيه أكثر أو نتبدّد بلا هويّة في الخواء واللامكان، هل هو أكثر من
خدعة، نتقبّلها في مهاجرنا بصدر رحب ـ ص 167 ). قال الخدعة في صيغة سؤال،
سوى أنّه لا يحمي ولا يبعد ولا يؤجّل الواقعة والحقيقة، حين يكشفها الحنين
مرتطماً بأفواج المتسللين؛ ينتظرون رحمة العبور الآمن المتواطئ نحو الـ "
هنا " بما هي المكان الجوهري والحميمي؛ تدفّقتْ منه الحياة وأينعتْ في
فضاءٍ هو الروح الموشوجة إلى " البيوت " و" الشوارع " و" الناس ". المسألة
ليست تصحيح وضع عمل ومهنة. هي أبعد من ذلك وأشدّ غوراً. إنها الحياة،
والعمر الذي سال في مجرى معلوم. كيف له الآن أن يسدّد وجهته ويعيد صبّ
مياهه في مجرى آخر وفي ذاكرة جديدة: ( تلك البيوت التي لم يستطيعوا حملها
كحقائب ويعودون بها إلى بلادهم تركوها خلفهم، في بلاد الغربة التي لم
يتصورا يوما الرحيلَ عنها هكذا ببساطة؛ حارساً لا ينام على ظلالهم التي
تنشب في لحم المكان ـ ص 16 ). هذه هي المعضلة لـ " تصحيح وضع ". ليس
بالمستطاع تكوير الزمان واجتراح المعجزة بإنشاء صفحة بيضاء يتدوّن فيها
مقامٌ واحد. ولعل ما يؤكّد هذه الصعوبة الإشارة إلى مكان كتابة الرواية في
ختامها بين صنعاء والرياض. دلالة صعوبةٍ وانشقاق وتزلزُلٍ، تتشهّى الخلاص
في الموت، لأنه وحده يمكن أن يمثّل " المكان الآمن والهويّة الأبدية ". على
هذه الخلفية اليائسة والموحشة نفهم الصورة التي تبدّت عليها الجموع
المنثورة في عراء الحدود: ( كانت تلك الوجوه مثلما فرائس جاهزة، لصياد
متهوّر يختبر أكثر من اللازم قدراته على البطش بفريسته، أو يتلذّذ على نحو
مبالغ فيه بتأمل صيده غير الثمين بما يكفي، لأن يتعجله بطلقه، مطيلاً ما
شاءَ له تهوّرُه أمدَ حياته ـ ص 151 ). صورة الانكسار والخذلان والخيبة
المريرة في انتظار الطلقة؛ من أية جهةٍ تأتي فهي خائنة. ليس العتبُ ما
يعتمل هنا على الصيّاد المتهوّر. إنّها أنّةُ الارتطام ولوعة الاكتشاف
بانسداد المنافذ أمام الطريدة المبخوسة؛ تفتّش عن صيغةِ جِلْدِها؛ عن
صبغتها الضائعة؛ المضيّعة. ولا تني تحفر عنها في غشاوةٍ وانفعال: ( كأننا
نفتش عن تحفةٍ من الخزف، صغيرة ونادرة، بين كومة ضخمة من القش ـ ص 109 ).
إنها حرب الذاكرة والهويّة والوعي؛ الشقاء الذي لا تصحّحُ وضعَهُ السياسةُ
أبداً، بل تزيد اضطرامه. وهذا ما يقوله هذا العمل الإبداعي الجميل، الغني
بالتفاصيل المشربة بالشعريّة التي لا تأتي من الكلمات، ولكن من وجع الحالة
وسبرها عبر الوصف الذي ينفذ إلى الخلجات؛ يستظهر الدم الساخن الملفوح بلهب
المشهد، وقتَ يسلّم الشخص مجبراً؛ بيته؛ روحه. ويعاين غيره يقطنه، ويبقى
على مبعدةٍ منه، لا يستطيع الآن إلا أن يطوّف بالنظر ويتحسّس كيانه ـ بحسب
باشلار أيضا ـ المفتت دون بيت: ( يبقوْنَ بعيدا عنها، تلك البيوت التي
باعوها. عيونُهم فقط عليها، تتحسّس النوافذ الخشبية، الباب الحديدي الكبير
بظلفته المواربة أبداً. " لا زالت لمسة ترباس الباب في أصابعي ". قال وهو
يفرك أصابعه الخشنة. لحظة امتدت تلك الكف لتناوله الثمن القليل.. ثمن ماذا؟
الجدران، الحجرات، السقف أم ثمن الحيوات التي تسكنها إلى الأبد. عند ذاك
أحسّ كأنما سُرقَ عمرُه؛ سُلِخَ من جلده ـ ص 26 ). هذه التفاصيل وغيرها
تنساب من شقوق حياة شخوص الرواية: شائف؛ قبول؛ سالم؛ قاسم؛ تاجر القماش؛
الجدّة... تبين عن عسر المحاولة؛ عسر الوضع وعسر تصحيحه.
الخميس سبتمبر 16, 2010 3:54 pm من طرف سميح القاسم