إنه لشيء لا يقبل الجدل، أن يكون الخطاب العام حول الجنس قد تطور ببطء شديد، وهو الخطاب الذي أنهكته إيديولوجية لم تتورع عن توظيفه بغية إنتاج جنسانية ملغومة، تتميز بكونها حقل من الدلالات ومركز لعلاقات السلطة المتعددة. إن الجنس يمثل موضوع التوجس الأكبر بالنسبة لمجتمعاتنا، إنه موضوع مقلق، لأنه يخترق وجودنا وتصرفاتنا ويصرح بهشاشتنا.
إننا نجد دائما أن الأساس الذي تقوم عليه السلطة ينبني على المتطلبات الاقتصادية والايديولوجية، ومن خلالهما تمارس السلطة على الجنس علاقات هيمنة من الأعلى إلى الأسفل، وتشتغل حسب القوانين المجتمعية، وعبر المؤسسات التي تتدخل لتحديد المحظور، انطلاقا من الدولة إلى الأسرة وغيرها من مستويات الهيمنة التي تشكلها البنيات وتتمظهر في ذات الفرد. إن السلطة تلعب لعبة المشروع واللامشروع. إننا دائما نبسط مفهوم السلطة في علاقته بالجنس، من حيث كونها علاقة تنحصر في مؤسسات القانون ويخضع لها الفرد. لكن في الواقع نحن أمام سلطة عملت على قمع الأفراد، وفي نفس الوقت كانت عنصرا أساسيا لتشكيل الرغبة لديهم.
إن نجاح السلطة، كما يقول مشيل فوكو يتناسب مع ما تتمكن من إخفائه فيما يتعلق بآلياتها وقدراتها على ممارسة ايديولوجياتها، لذلك، لا نقبل السلطة إذا كانت عارية ووقحة، لأن الخطط التي تديرها، وإن كانت صريحة، فهي في الغالب تكون محدودة، وتندرج في إطار عقلانية تحدد في النهاية الاستراتيجيات الكبرى التي تدير البنيات المجتمعية.
يجب التسليم بأن السلطة نفذت إلى الجنس، انطلاقا من لعبة أسست لعلاقات غير متساوية مارست عليه نمط المنع. إن علاقات السلطة، الجنس، الجسد، شكلت سيرورة أنماط اقتصادية كآثار مباشرة للاختلالات في العلاقات بين الجنسين. إن علاقة السلطة بالجنس لا يجب اختصارها في دورها البسيط المتمثل في المنع، ولكن الأخطر في قدرتها على إنتاج أدوار جديدة للجسد الأنثوي كجسد يمثل – اقتصاد المتعة-، وهو ما يجعل السلطة التي تأتي من الأعلى إلى الأسفل تسيطر على الجسد، وتفرض عليه بالقوة مواجهات، وإعادة إنتاج أشكال أخرى من الهيمنة التي تدعمها بشكل متكرر المؤسسات على اختلافها، إنها وقاحة السلطة التي تجد سندها في مركبات المتناقضات المعرفية والثقافية والاجتماعية والسياسية.
مما لا شك فيه أن ثنائية الجنس والسلطة تشكل تجربة عبور إلى لوحة جنسانياتنا الصامتة والمكتومة، التي تفصح عن سقوط قناع لعبة التعفف الاجتماعي، الذي لا يزال ماثلا أمامنا. لقد كان هناك نوع من الألفة المتساهلة مع المحظور وغير المشروع. في الماضي القريب كانت الخطابات غير مخجلة حول الجنس، وكانت ثمة الكثير من الخروقات المرئية، وثكنات ممارسة البغاء، وكان هناك تنظيم مباح للمتعة، وأجساد معروضة بسهولة دون مضايقات، ولكن اليوم، انتقل الجنس ليقيم في مكان آخر، في البيوت، السيارات، المكاتب، فنادق المدينة بأنواع نجومها، وفي الأماكن العمومية، ورغم ذلك بات الصمت يلف الجنس، وغدا الفضاء الاجتماعي المنجب الوحيد للسلطة.
البؤس الجنسي
إنه لم يعد يعترف للجنس إلا بمكان واحد هو غرفة الآباء، أما الأن مع احتشام المواقف وتبييض الخطابات، تحول البغاء أقدم مهنة في العالم إلى غير الطبيعي وعلى كل الأجساد الأنثوية أن تدفع الثمن.
وهــكذا، ما يميز البغاء أنه يعـاقب عليه القانون الجــــنائي ليثــبت أنه يدخـل في المحـظور، نفاقنا الاجتماعي نفاق أرغم الجسد الأنثوي على أن يكون جسدا موصوما منفصلا ومرافقا للفضاء العام في نفس الآن، لأنه من الضروري أن نبقي على الممارسات الجنسية اللامشروعة وندرجها في خانة الإنتاج والربح تبعا لإرادة السلطة – اقتصاد المتعة-فالبَغِيُّ والقوادة ومؤسساتها والزبون والأسرة والدولة والماخور، حولوا المتعة ووضعوها في خانة الأشياء، وجعلوها في أماكن تقدم فيها خدمات جنسية بأسعار متفاوتة. هنا فقط نقول، أن الجنس اتخذ أشكالا واقعية ورمزية توجد في طرف آخر من المجتمع الذي اختار لنفسه الطهر الحديث والفرض والتحريم والصمت. فكيف يمكن أن نقرأ تاريخ البغاء كتاريخ واقعي له علاقة حميمية بالسلطة والجسد، ونتحدث عنه بين الخطاب ويعتبر مفيدا في فراش البَغِيُّ، هل يمكن أن نخرق القانون الذي كان غائبا في فترات تاريخية معينة، ونخرج البغاء المهنة إلى الواقع، أم أن الأمر من دون شك يحتاج إلى ضمانة سياسية؛ لأنه يرتبط بعمق تاريخ أنماط الإنتاج، وتبضيع جسد المرأة. إن مؤسسة البغاء هي الفضاء الأكثر أمنا والأكثر سراً لتصريف الجنس الذي خضع للقمع داخل المؤسسات.
إن مهنة البغاء لم تقابلها بنيات المجتمع برفض أساسي، بل إنه بالعكس من ذلك تماما، قد شغلت أجهزتها لإنتاج حتميات تحكمت في تطلعات الأفراد وأفعالهم. إذا كان يتعين علينا فهم الجسور أو الخيوط التي تربط الفرد بالمجتمع، والتي تجعلنا نقول عندما نريد فهم الفعل من الداخل: ” لو كنت في نفس الوضعية لقمت بنفس العمل”، فإننا سنعتبر أن الفرد البَغِيُّ سجينة ظروف اجتماعية معينة وأنها محكومة بواقعها، ويتعين علينا معرفة من أوجد تلك الظروف ومن ساهم في تشكيل ذلك الواقع، وتكون أنداك ضحية، لأنها ترغب في التغيير ولا تقوى عليه. وفي المقابل إذا كانت الفرد البَغِيُّ مسؤولة عن أفعالها فهي قد تقوى على التغيير لكنها ولاعتبارات معينة لا ترغب فيه. إن المشكل المطروح هنا، يجعلنا نشير إلى المؤامرة عندما يتعلق الأمر بالمجتمع، لأن مهنة البغاء نقطة الهشاشة؛ التي منها نؤكد عجزنا كمجتمع وضرورة عندما يتعلق الأمر بالفرد والأسرة، وحينها تشبه قطعة الليل التي يحملها كل مجتمع في ذاته. إننا نقبل مهنة البغاء بالضرورة ونعترف بها، لكن في المقابل لا نتقبل البَغِيُّ وننتقدها ونلومها ونحتفظ لأنفسنا بالحق في النظر إليها نظرة وصم.
نقول دائما البغاء أقدم مهنة في العالم، والبغايا يعرفن وضعيتهن كعمل يقمن به. تتحدث مؤشرات الواقع عن مهنة تتموقع بين المحظور والمسموح، والاعتراف بالمنفعة الاجتماعية لمهنة موصومة اجتماعيا وثقافيا.
إن الواقع الاجتماعي لمهنة البغاء ووضعية الفرد البَغِيُّ، تحولت إلى أداة للمتعة بفعل فوضى البنيات الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية، والتصاق حاضرها بماضيها ومستقبلها، علما أن مجتمعنا لم يقطع بعد مع الإرث الأبوي/السلطوي، ولم يحدث تحولا على مستوى المساواة بين الجنسين.
إننا لا نستطيع افتراض وجود عالم بغائي منفصل عن العالم الاجتماعي، ولكن البغاء مؤسسة وعالم موضوعي، لا نعتقد أنه من السهل التغاضي عن العلائق الوظيفية بين مؤسسات القوادة ومهنة البغاء والأسرة المستحدثة، وهذا يعني أننا ما زلنا تاريخيا نخضع الجنس، الجسد، للاستراتيجيات الكبرى للسلطة والمعرفة.