** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نابغة
فريق العمـــــل *****
نابغة


التوقيع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة

عدد الرسائل : 1497

الموقع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة
تعاليق : نبئتَ زرعة َ ، والسفاهة ُ كاسمها = ، يُهْدي إليّ غَرائِبَ الأشْعارِ
فحلفتُ ، يا زرعَ بن عمروٍ ، أنني = مِمَا يَشُقّ، على العدوّ، ضِرارِي

تاريخ التسجيل : 05/11/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة  Empty
29032016
مُساهمةالصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة

مبروك بوطقوقة
الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة  Marina
قصتـــــي مع نـــــــــــــورا
الصداقة كمنهج للبحث في ازمنة الازمات
 مارينا دي ريخت[1]
قسم الانثروبولوجيا – الجامعة الحرة أمستردام
ترجمة:محمد عبد الحميد عبد الرحمن
خلاصة
هذه ورقة بحثية حول دور الصداقة كمنهج للبحث الاثنوجرافي والإنسانوي في اوقات الازمات. على نفس منحى روبن (2010) فإنني اجادل في الورقة بأن البحوث الأنثروبولوجية ينبغي أن تتبع أحيانا مناهج بحث غير تقليدية لدراسة بعض مناطق العالم التي يتعذر الوصول اليها بسبب النزاعات والحروب والعنف.

استخدم في هذا البحث صداقتي الطويلة مع نورا[2]، وهي سيدة يمنية تعيش في ميناء الحديدة، ومقابلتين مطولتين اجريتهما معها حول قصة حياتها كمادة بحثية لدراسة اثر الازمات على الناس العاديين. الصداقة بالنسبة لي منهجية بحثية مناسبة وذلك لأن الخواطر والرؤى التي تنبثق من الصداقة الشخصية الطويلة ربما توفر عمقا افضل من مناهج البحث التقليدية، وازعم أن الصداقة منهج إنسانوي هام في أوقات الازمات، لأننا يمكننا أن نعبر من خلال الصداقة عن تضامننا مع الناس اثناء الازمات والظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة. لكن استخدام الصداقة[3] كمنهجية بحثية يثير استفهامات جدية بسبب الخلل البين الذي ينطوي عليه توازن القوى بين الباحث من جهة والمُخبر (مصدر المعلومات) من جهة أخرى والذي يمكن ان يتضاعف اثره في اوقات الازمات، خاصة إذا اقترنت باعتبارات مالية.

الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة  Mohamed-h

المترجم
[size]
مقدمـــــــــــة
نحن في شهر مايو 2015 وقد انهيت توا مكالمة هاتفية مع نورا وهي واحدة من اعز صديقاتي في اليمن. اعتادت نورا على ان تتصل بي هاتفيا كل شهر لتطلب تحويل بعض المال لها لشراء الادوية، فهي قد اجرت جراحة قلب خطرة وقد تتعرض للموت إذا لم تتناول ادويتها يوميا. خلال السنوات الخمس عشر الماضية كنت اقدم مساعدات مالية منتظمة لنورا مرتبطة في اغلب الأحيان بمشكلاتها الصحية المستمرة. كانت نورا كأرملة تعمل في مصرف يمني قادرة على اعالة نفسها واطفالها الثلاثة لكن الطوارئ مثل المتاعب الصحية كانت فوق طاقتها. بدأت مساعدتي المالية لها بشراء نظارات طبية للمرحومة والدتها عام 1995. كنت اسدد كلفة الكثير من النفقات الصحية لنورا منذ عام 2000، وبعد ان اجرت جراحة القلب، التي ساهمت جزئيا في نفقاتها، أتولى دفع تكلفة الادوية اليومية[4] التي تحتاجها.
عندما انتقلت شرارة الربيع العربي لليمن في فبراير 2011 بعد الثورة في تونس ومصر، كنت ونورا نتطلع بشغف لليمن الجديد. وكنا نتشارك هذه المشاعر المبنية على صداقة وطيدة امتدت منذ عام 1996. لكن السنوات الأربعة الماضية لم تجعل حياتها وغالبية اليمنيين إلا اكثر مشقة ومعاناة. في يونيو 2011، عقب بضعة اشهر من اندلاع الثورة، تقاعدت نورا عن عملها في المصرف المركزي اليمني مختتمة أربعة وثلاثين عاما من الخدمة. ولم تتمكن من الحصول على راتبها التقاعدي المستحق الأول إلا بعد عام كامل. اثرت الازمة السياسية والاقتصادية والحرب التي اعقبتها تأثيرا سلبيا فادحا على حياة المواطنين اليمنيين العاديين، ففي الوقت الذي تضاعفت فيه أسعار السلع الأساسية ثلاثة مرات تقريبا تراجعت دخول المواطنين بل وانقطع بعضها تماما. حتى موظفو الحكومة السابقون مثل نورا يكافحون لتلبية احتياجاتهم الاساسية. راجع (UNOCHA 2014) .
تبحث هذه الورقة في تأثير الازمة على حياة نورا ودور المال في صداقتنا الطويلة التي تعود للعام 1993 عندما بدأت العمل في الحديدة وتعتمد أيضا على مقابلتين طويلتين عن قصة حياتها اجريتهما معها لأغراض بحثية عامي 2009 و 2013. يتعذر على في الوقت الراهن مواصلة العمل البحثي الميداني في اليمن بسبب تدهور الأوضاع الأمنية لكنني لازلت على صلة منتظمة بنورا هاتفيا، على الأقل مرة واحدة شهريا عندما تتصل لطلب النقود وقد يحدث اكثر من اتصال واحد شهريا إذا حدثت مستجدات في اليمن.
على خطى روبن (2010) الذي حرر كتابا حول دور الباحثين الأنثروبولوجيين في مناطق النزاعات، ارى انا أيضا أن الانثروبولوجيا في بعض مناطق العالم التي يتعذر الوصول اليها بسبب النزاعات والحروب والعنف تحتاج لمناهج بحث مختلفة. يدعو روبن (2010: 3) لـ “خيال انثروبولوجي عن بعد” ويشدد على “ضرورة التعاطف كتقنية بحثية لفهم وجهة النظر المحلية الاهلية حسب نظرية مالينوفسكي وكمقاربة ابستمولوجية لفهم المواقف الذاتية للناس” (روبن 2010: 4).
أود ان اناقش في هذه الورقة البحثية الفرص والتحديات التي تقدمها الصداقة كمنهج للبحث (تاليمان-هيلي 2003) خاصة في ازمنة الازمات. وفقا لتاليمان-هيلي (2003: 734)، فإن الصداقة كمنهجية تتضمن اربعة جوانب؛ أولا علينا أن نستخدم “المحادثة، الانخراط اليومي، التضامن والاشفاق، العطاء وتفهم هشاشة الاوضاع” كطرق بحثية. ثانيا، علينا ان نجري البحث على الإيقاع والخطي الطبيعية للصداقة “الزمن المطلوب قد يتغير اعتمادا على ما إذا كان الباحث والمشارك غرباء عند بداية البحث أم معارف أم أصدقاء أم أصدقاء قريبين” (تاليمان-هيلي 2003:735). ثالثا، علينا “أن نموضع بحثنا في السياق الطبيعي للصداقة” وأن نتابع المشاركين في بحثنا في حياتهم (تاليمان-هيلي 2003:735). وأخيرا علينا أن نبحث “بأخلاقية الصداقة وموقف مفعم بالأمل والاهتمام والعدالة وحتى الحب” (تاليمان-هيلي 2003:735). معظم هذه الجوانب تشكل، في وجهة نظري، جزءاً من البحث الأنثروبولوجي الميداني الجيد ( انظر أيضا جونكر 2007). وانا ازعم أن الصداقة يمكن أن تصبح منهجية بحثية مفيدة خاصة في أوقات الازمات الصعبة التي يتعذر فيها الاستعانة بمناهج البحث التقليدية.
يمكننا كباحثين أنثروبولوجيين أن نحصل على بعض الرؤى لما يحدث على الأرض دون اجراء بحوث حقلية في الموقع نفسه بواسطة صلاتنا الشخصية مع الناس في مناطق العالم التي تسودها النزاعات. لكن فترات النزاعات هذه يمكن لها أيضا أن تؤثر على الصداقات والعلاقات الشخصية بطرق مختلفة ينجم عنها توترات ومعضلات أخلاقية. في حالتي يتعلق هذا باعتماد نورا ماليا علّي وتأثير ذلك على صداقتنا. التفكر مليا حول الصداقات في الظروف الصعبة يعتبر جزءاً حيوياً من التعامل مع الصداقة كمنهج بحث. وانا استوحي الالهام من جاي واي بلاسكو (2012 : 448) التي تؤكد أن قصة صديقتها ومحاورتها أجاتا “توجه اهتمامنا إلى فردانية مسارات الحيوات الشخصية وتفرض علينا ان نستصحب الحمولة الاثنوجرافية لاعتبارات مثل الشخصية، الطوارئ والظروف وموضع الباحثين الأنثروبولوجيين ومحاوريهم (مُخبريهم) في حياة بعضهم البعض.”
هذه الورقة منظمة على النحو الاتي: بداية سأقدم وصفاً لتاريخ صداقتي مع المشاركين (المخبرين) في بحثي بصفة عامة. بعدها اعرض قصة الحياة الشخصية للمشاركة، مع الاهتمام بشكل خاص بتأثيرات الازمة اليمينة والمساعدات المالية التي قدمتها لها خلال السنوات الخمسة الماضية. في الجزء الثالث اقدم عرضا موجزا للجدال الدائر حول الصداقة في البحوث (النسوية). بعدها أناقش العلاقة المتغيرة بيني ونورا مع التركيز على التغيرات التي تطرأ على هذه العلاقة غير المتكافئة. وختاما اعود للتساؤل عما إذا كانت الصداقة مفيدة كمنهج للبحث.
بين الأصدقاء والمخبرين
لعبت الصداقات دورا مهما في مشاريع بحوثي الاكاديمية في كثير من الاحيان. اعتمد بحث رسالة الدكتوراه الخاصة بي على مقابلات روت خلالها عدد من النساء اليمنيات قصص حياتهن الشخصية. هذه المجموعة من النساء اليمنيات كن في البداية زميلات عمل ثم صرن صديقات ثم في مرحلة لاحقة تحولن لموضوعات بحث (دي ريخت 2007: 3). عملت بداية وعن قرب مع مجموعة من النساء اليمنيات العاملات في مجال الرعاية الصحية في مشروع تنموي يمني هولندي. خلال عملي، تنامي اهتمامي بحياتهن الشخصية والكيفية التي اثر بها عملهن في مجال التوعية الصحية في تشكيل هويتهن. وكنت استلهم مناهج البحث النسوية مثل ليلى أبو لغد “إنسانوية تكتيكية” (1993) لأنها تُخضع للمسائلة تلك التعميمات التي تسود في الكتابة الاكاديمية، خاصة حول النساء في الشرق الأوسط. ركزت اهتمامي على القصص الفردية وحاولت ان اسلط الضوء على خصوصيات حياة صديقاتي. تمت قراءة قصص الحياة المطولة لصديقاتي الأربعة التي تضمنها بحثي ومراجعتها بواسطة الزميلات انفسهن. بعدها قررت ان اترجم البحث للعربية واطلعت عددا من المخُبرين الأساسيين على المسودة وتقدموا بمقترحات للحذف والإضافة انظر (دي رخت 2007: 341-346).
أجريت بحوث ما بعد الدكتوراه حول العمالة المنزلية المهاجرة في اليمن في الفترة من 2003 إلى 2006 ، بتركيز خاص على النساء الاثيوبيات في اليمن. وهذه المرة أيضا اقمت صداقات مع العديد من المُخبرات الأثيوبيات اللواتي استجوبتهن لجمع مادة البحث ولا زلت على صلة ببعضهن. لكن الامر كان مختلفا هذه المرة فيما يتعلق بمنهجية البحث فقد كان البحث الميداني تقليديا وكانت الصداقات نتيجة طبيعية للعمل الميداني وليست نقطة البداية.
اتخذت علاقتي البحثية مع نورا مسارا آخراً. التقيت بنورا عام 1993 عند بداية عملي كباحثة أنثروبولوجية في مشروع للرعاية الصحية الأولية في الحديدة[5]. تلقيت من احدى زميلاتي دعوة لحضور حفل زفاف بعد ظهر يوم جمعة، كان الطقس حارا وقد أقيم الحفل في خيمة كبيرة نصبت في الشارع بين البيوت وكانت النساء المتأنقات في ملابس زاهية الألوان يجلسن على المقاعد التهامية المصنوعة من الخشب وحبال سعف النخيل. كانت نورا تمضغ القات[6] وتدخن الشيشة، دعتني للجلوس بجانبها وشجعتني على مشاركتها مضغ القات وتدخين الشيشة. عندما كنت اهم بمغادرة الحفل دعتني لزيارتها في منزلها وكتبت لي رقم هاتفها بقلم احمر شفاه على منديل ورقي.
مدفوعة برغبتي في التعرف على أناس جدد، اتصلت بنورا بعد بضع أسابيع فوصفت لي منزلها. أتذكر المرة الاولي التي ذهبت فيها لمنزلها الواقع على شارع جانبي ضيق خلف مكتب البريد في الحديدة. أوقفت سيارتي في الزقاق وبدأت اناديها لأنني لم اكن اعرف أي باب بالتحديد اطرق. كانت أمسية حارة وكان باب بيتها مغطى بستارة من القماش فقط. دخلت مباشرة إلى غرفة المعيشة المفروشة بمراتب ومساند على الأرض وتلفزيون على طاولة صغيرة. رحبت بي نورا واجلستني على مرتبة وكان اطفاها الثلاثة ولد وبنتان يلعبون في غرفة النوم. كان منزلا صغيرا بمطبخ وحمام في طرف البيت. كان الجو في البيت منعشا ومفرحا واعجبتني الطريقة التي تعاملت بها نورا معي. كامرأة اوربية بيضاء تعيش في اليمن كثيرا ما كن الناس يسألونني عما إذا كنت متزوجة، واين تعيش اسرتي، وماذا افعل في اليمن بمفردي، وكنت انزعج من هذه الأسئلة المتطفلة حول حياتي الخاصة. شعرت بالارتياح من أن نورا لم تسألني حول هذه المعلومات وكانت ترغب فقط في أن استرخي واستمتع بتدخين الشيشة معها. توطدت صداقتي مع نورا خلال سنوات 1993 إلى 1997 التي عشت فيها في الحديدة وكثيرا ما كنا نتناول الغداء معا أيام الجمعة وكنا نمضغ القات وندخن الشيشة ونذهب لحفلات الزواج وغيرها من المناسبات الاجتماعية سويا.
كان زملائي في وزارة الصحة اليمنية يستغربون صداقتنا الحميمة هذه ويتساءلون عن أسبابها. تنحدر نورا من أصول يمنية اثيوبية وكان بشرتها اكثر سواد من غالبية اليمنيين. كان والدها يمنيا فيما كانت والدتها اثيوبية / ارترية. هاجر والدها لإثيوبيا في النصف الأول من القرن العشرين مثل الكثير من اليمنيين الذين هربوا من الأوضاع الاقتصادية والسياسية السيئة في بلادهم تحت حكم الإمامة[7]. تزوج بعضهم من نساء من البلدان التي هاجروا اليها وعادوا لليمن بأسرهم بعد سقوط الإمامة في ستينيات القرن الماضي. نجم عن زواج الرجال اليمنيين بنساء اثيوبيات نشوء جماعة كبيرة من ذوي الأصول المختلطة درج اليمنيون على تسميتهم بالمولدين. أثرت حقيقة ان هؤلاء المولدون ينحدرون من أصول ليست يمنية نقية؛ على وضعهم الاجتماعي ونتج عنه واحدة من الانقسامات الأكثر حدة في المجتمع اليمني؛ بين الذي يعتبرون انفسهم ذوي أصول يمنية نقية والذين يُحجب عنهم هذا الامتياز (فون بروك 1996و 148). يميل المولدون في بعض الأحيان لإنكار أن امهاتهم من أصول غير يمنية ،خاصة إذا كن افريقيات، لتجنب الوصمة السلبية والتمييز. لقد جاءوا إلى اليمن صغار السن او وُلدوا فيها ويعتبرون انفسهم يمنيين . لكن نورا على أية حال كانت فخورة بجذورها الاثيوبية الارترية، لكنها لم تتمتع بوضع اجتماعي عال كامرأة سوداء البشرة ذات أصول مختلطة.
خلال السنوات التي عشتها في الحديدة لم تكن نورا اقرب صديقاتي فحسب بل كانت اهم مخبر ومصدر للمعلومات بالنسبة لي. كانت تحب الحديث عن تاريخ المولدين وتعرف تقريبا كل ذوي الأصول اليمنية الاثيوبية في الحديدة. أصبحت شديدة الاهتمام بتاريخ هجرة اليمنيين إلى اثيوبيا وارتريا ومنهما بسبب من صداقتي مع نورا. لم تمنح الدراسات اليمنية إلا اهتماما محدودا جدا للكيفية التي اثرت بها الهجرة إلى القرن الافريقي على سكان اليمن. تركز معظم الدراسات على اليمنيين ذوي الأصول اليمنية “الصرفة” خاصة اولئك الذين يعيشون في المناطق القبلية في الأجزاء الداخلية من البلاد (راجع دريش 1989؛ فوم بروك 2005؛ كاتون 2005؛ وير 2007). لكن وعلى اية حال فقد هاجر الكثير من اليمنيين حتى من المناطق الداخلية القبلية. لم يحظ موضوع الجندر بالكثير من الاهتمام في الدراسات القليلة التي تناولت هجرة اليمنيين لإفريقيا (راجع كارمايكل 2006؛ والكر 2008؛ مانجر 2010). كانت الغالبية العظمي من المهاجرين اليمنيين من الرجال وغالبا ما تزوجوا بنساء افريقيات وعادوا بهن لليمن في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. اثناء ابحاثي لدراسات ما بعد الدكتوراه بين عامي[8] 2005 و2007 جمعت عددا من قصص تواريخ الحياة الشخصية لنساء افريقيات جئن إلى اليمن بصحبة ازواجهن. لسوء الحظ لم تكن المرحومة والدة نورا بينهن، لكن نورا اوصلتني بثلاثة من صديقات أمها اللواتي رغبن في التحدث الّى (انظر دي ريخت 2010). بعد أربعة سنوات من ذلك التاريخ أي عام 2009 أجريت مقابلة مع نورا حول قصة اسرتها وخاصة حول هجرة والدها وعودة الاسرة إلى اليمن. وأجريت مقابلة أخرى معها حول قصة حياتها في مارس 2013؛ وكنت ارغب هذه المرة في التعرف على المزيد من تفاصيل قصة حياتها منذ أن بدأت العمل حتى زواجها. كانت زيارتا العمل الميداني خلال عامي 2009 و2013 قصيرتان؛ مكثت في اليمن لأسبوعين فقط وقضيت يومين أو ثلاثة أيام فقط في الحديدة. كان من الصعب الحصول على تأشيرة دخول لليمن كما تعذر التنقل بحرية في مدينة الحديدة بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في اليمن. بالرغم من ذلك فإن الزيارتين، إضافة لصداقتي الطويلة مع نورا، شجعتني للمضي قدما في كتابة هذه الورقة عن العمل الميداني والصداقة في الظروف الصعبة.
قصة حياة نورا
عندما التقيت بنورا عام 1993 كانت ارملة وام لثلاثة أطفال، كان زوجها قد توفي بأزمة قلبية منذ ثلاثة سنوات، وكانت تعيش في منزل زوجها فيما كانت والدتها تعيش مع اختها التي تسكن نفس الحي في مدينة الحديدة وكثيرا ما كانت الام تقضي بعض الوقت مع نورا. جاءت الام لليمن مع زوجها واطفالها في ستينيات القرن الماضي وكانت متمسكة بهويتها الحبشية[9](الاثيوبية). كانت امرأة قصيرة ونحيفة وتدخن في بلد لا تجرؤ فيه النساء على التدخين عادة وغالبا ما كانت تلبس (شمّا) عندما تخرج من منزلها وهو فستان ابيض فضفاض شائع بين الإثيوبيات والإرتريات وكانت تقيم كل يوم اربعاء جلسة تقليدية لتناول القهوة وهي عادة جلبتها من ارتريا لليمن. لم تكن والدة نورا هي الحبشية الوحيدة[10] في الحديدة، عاد الكثير من المهاجرين اليمنيين من القرن الافريقي لبلادهم في الستينيات والسبعينيات مصطحبين زوجاتهم الافريقيات واطفالهم المختلطين. استقروا في منطقة بنيت خصيصا للمهاجرين العائدين من افريقيا (انظر دي ريخت 2007: 199) او في مناطق أخرى من المدينة وشكلوا جماعة متجانسة ومترابطة. هاجر والد نورا إلى اثيوبيا عندما كان في السادسة عشر من العمر. عمل حمالا في بداية حياته ثم التحق جنديا في الجيش الإيطالي ثم عمل في شركة تجارية، ثم امتلك مزرعته الخاصة وتزوج بامرأة من ذات المنطقة التي تقع فيها مزرعته. ولدت ام نورا في منطقة آرسي جنوبي اديس ابابا لكنها تربت في منطقة ارتريا الحالية وانجبت اكثر من ثمانية أطفال مات بعضهم. عاد والد نورا إلى اليمن عام 1963 برفقة زوجته واطفاله الخمس الذين بقوا على قيد الحياة وكانت نورا احدهم[11]. سقط نظام الامامة في اليمن عام 1962 مما حفز الكثير من المغتربين اليمينين للعودة إلى بلادهم على أمل ان تتطور بلادهم اقتصاديا. ومن جانب اخر، دفعت الظروف السياسية المتغيرة في بلدان المهجر في القرن الافريقي بتسريع هذه العودة الجماعية.
تولت السلطة في بلدان القرن الافريقي حكومات وطنية وتغيرت النظرة للأجانب. يضاف إلى ذلك عامل مهم وهو بدء النضال الإرتري للاستقلال عن اثيوبيا وحظيت بالمساندة من عدد من الدول العربية مما صعد المشاعر المعادية للعرب في أجزاء أخرى من القارة الافريقية ونظمت مظاهرات واسعة ضد المهاجرين العرب في بلدان القرن الافريقي. قرر الكثير من اليمنيين العودة لبلدهم، نتيجة لذلك. وعاد الذين تبقوا في اثيوبيا وارتريا لبلادهم عندما بدأ الرئيس الاثيوبي منقستو في مصادرة ممتلكات ومتاجر الأجانب عام 1970 وبدأت موجة من الإرهاب الحكومي ضدهم.
لم يكن والد نورا راغبا في العودة إلى قريته في الريف اليمني وفضل الاستقرار بأسرته في الحديدة. توفي اثنان من أطفال الاسرة بمجرد عودتهم لليمن وغادر الابن المراهق اسرته دون رجعة[12]. بدأ الوالد حياته في اليمن بالعمل كحمال ثم التحق بشركة بناء صينية وسرعان ما مرض وتوفي عام 1970. اضطرت والدة نورا للعمل كخادمة في المنازل ثم بدأت تبيع اللحوح (نوع من الخبز الناعم الذي يخبز في البيوت) في الشوارع. تركت نورا المدرسة في السادسة عشر من العمر بدأت العمل في بنك كعاملة في عد النقود حتى تستطيع والدتها ترك العمل. تم قبولها في العمل بالرغم من محدودية تعليمها “بدأت العمل في المصرف اليمني المركزي بعد ان أكملت أربعة سنوات فقط من التعليم الأساسي. كانوا يريدون شخصا يعد النقود وليس من الضروري ان يحسن القراءة والكتابة[13]… قلت: لأمي دعي عائشة (اختها الاصغر) تكمل تعليمها” ومنذ تلك اللحظة أصبحت نورا هي العائل الرئيسي لأسرتها فيما اكملت شقيقتها عائشة تعليمها الثانوي وتدربت كممرضة. رتبت نورا للذهاب لعملها والعودة منه، مثل غالبية النساء العاملات في اليمن مع سائق تاكسي يدعي عبد الكريم. كان عبد الكريم مغرما بالموسيقى السودانية مثل نورا، وبعد شهر من لقائهما طلب عبد الكريم ان يقابل أمها بحجة انه يريد ان يتذوق طعم طبق الزغني[14] الذي تعده الوالدة. لكنها كانت مجرد حجة لمقابلة الام ليطلب يد نورا. قالت له والدتي “لماذا تسألني انا … عليك ان تسألها هي! لأن الكثير من الرجال تقدموا لطلب يدي ورفضتهم جميعا، لم اكن اريد الزواج؛ لماذا؟ لأنني سوداء البشرة، كنت اخشي ان انجب أطفالا سود إذا تزوجت برجل اسود. كنت اريد أطفالا بيض.” قبلت نورا بعبد الكريم عريسا فورا لأنه “كان ابيض البشرة.”[15]
ينحدر عبد الكريم من أصول صنعانية وقد نشأ في المملكة العربية السعودية وكان مطلقا ووالدا لطفلين كانا يعيشان مع أمهما في البداية ثم انضما لعبد الكريم ونورا. الولد الأكبر منهما ضل طريقه مبكرا وبدأ في ادمان المخدرات اثناء مراهقته وسبب لهما الكثير من المتاعب. وتزعم نورا ان القلق على الابن هو سبب الازمة القلبية التي أودت بحياة عبد الكريم. فارقها تاركا ولدا وبنتين وبفضل عملها في البنك تمكنت نورا من الانفاق عليهم وارسالهما للمدرسة. ساءت حالة نورا واصبح وضعها حرجا بعد وفاة أمها. “عندما مرضت امي تضاعفت مسؤولياتي، استمر مرضها لخمسة سنوات وكانت تعيش معي حتى توفيت .. كان ارهاقي قد وصل قمته بوفاتها وتكاثرت المصاعب .. لم يعد قلبي يتحمل يا مارينا .. وبدأت المتاعب في القلب وارتفاع ضغط الدم وتدهورت صحتي .. كانت بنتّي محظوظتان .. كنت اريد ان اري اولادي متزوجين قبل ان اموت. رتبت لزواج بنتّي بنفسي لكن زوجيهما كانا عاطلان عن العمل، قلت لنفسي هل ازوجهما لرجال فقراء ام لرجال مغتربين في السعودية ولديهم أموال وفيرة لكنهم قد يهجرون بناتي وابنائهم؟ قررت ان ازوجهم لرجال اعرفهم[16]. لكن الحياة قاسية ولم يعد بوسعي تحمل المسؤوليات.”
اجريت جراحة لنورا في قلبها في نوفمبر 2010 في مستشفى خاص في صنعاء، وتحمل مخدمها البنك المركزي اليمني نصف التكلفة ودفعت انا النصف الاخر[17]. اختير المستشفى بتوصية من البنك المركزي اليمني وقد جرت العملية بنجاح لكن الطبيب وصف لها ادوية غالية الثمن يتعذر على نورا تحمل تكلفتها. عندما عادت للعمل في فبراير 2011، اقترح عليها رئيسها ان تتقاعد لأنها عملت في البنك لأربعة وثلاثين عاما ولم يبق لها إلا عام واحد وتتحول بعدها للتقاعد الالزامي[18]. عرض عليها البنك التقاعد المبكر ووافقت نورا لكن إجراءات تسلم راتبها التقاعدي استغرقت عاما كاملا ولم تتسلم مكافأة نهاية الخدمة حتى الان[19]. في الوقت الذي بدأت فيه نورا إجراءات التقاعد المبكر، اندلعت الثورة في اليمن. خرج شباب اليمن يتظاهرون في الشوارع استلهاما للثورتين التونسية والمصرية لإسقاط الرئيس علي عبد الله صالح الذي كان يحكم البلاد منذ عام 1978. استمرت الثورة حتى وافق الرئيس علي عبد الله صالح على التنازل عن السلطة في بداية نوفمبر 2011.
تابعت نورا، المهتمة بالسياسة، التطورات في بلادها بشغف متطلعة لمستقبل افضل خاصة وان الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن كانت قد بدأت تتدهور منذ مطلع التسعينيات. تأثرت صحة نورا الجسدية والنفسية بتطاول امد الثورة واندلاع العنف ورفض الرئيس صالح التنحي عن السلطة. تزايدت متاعبها الصحية وتفاقم مرض القلب حتى انها اضطرت للسفر لصنعاء عدة مرات لمتابعة الفحوص الطبية والعلاج. غالبا ما كانت تسافر لصنعاء بمفردها في سيارة تاكسي مشتركة وكانت تقيم في فنادق في العاصمة صنعاء حيث لا تملك أقارب او أصدقاء، وكانت تتصل بي من صنعاء لتشرح لي أوضاعها وتطلب مني ان ادفع تكلفة العلاج او الادوية او الإقامة في الفنادق. كانت تبكي اثناء المحادثات الهاتفية وكنت استمع لحكاياتها واطمئنها واحول لها المال. في احدي المرات استوقف لصوص مسلحون سيارة التاكسي التي كانت تستقلها من الحديدة الي صنعاء وسلبوا كل الركاب جميع أموالهم ووصلت نورا الي صنعاء خالية الوفاض فبعثت لها بعض المال. وبعد أسابيع قليلة دفعت لها قيمة تذكرة الطائرة إلى الحديدة لأنها باتت تخشى السفر برا. ترى نورا ان توقف البنك المركزي اليمني عن دفع المعاشات والرواتب التقاعدية يرتبط مباشرة بالإطاحة بالرئيس صالح، وأن الأخير كان يقف وراء نهب البنك المركزي “منع الجميع من الدخول لمقر البنك المركزي في اليوم الذي جاء فيه رجال الرئيس صالح للبنك .. حملوا الأموال في الحقائب وحملت الحقائب إلى سيارات كبيرة وشاحنات، سألناهم لمن تحملون هذه الأموال؟ قالوا لعلي عبد الله صالح. انفق بعضها في اليمن وأخذ الباقي للخارج؛ لذلك لم يعد في البنك اية أموال.” قرر عدد من زملاء نورا تكليف محام بمقاضاة البنك المركزي اليمني لإرغامه على دفع رواتبهم التقاعدية في فبراير 2012  وقررت نورا ان تنضم للمجموعة ودفعت انا نصيب نورا من اتعاب المحامي لكن جهدهم ضاع سدى ولم يتمكن المحامون من ارغام البنك على دفع الرواتب التقاعدية ومكافأة نهاية الخدمة.
تزايدت متاعب نورا الصحية في خريف 2012 ونصحها الطبيب بإجراء جراحة تشخيصية في القلب لتحديد أسباب اوجاعها فذهبت لصنعاء ولمستشفى اخر هذه المرة، حيث أصيبت بصدمة عندما علمت ان العملية الجراحية الاولي التي أجريت لها كانت خدعة لا طائل منها. “لم اشعر باي تحسن عقب العملية الجراحية وعدت للمستشفى حيث قالوا لي اصبري بضع أيام وبقيت هناك لأيام وطلبوا مني أن ادفع 70.000 أو 80.000 او 90.000 ريال[20].” وبتلك الطريقة لم ادرك انهم يخدعونني وانهم لم يفعلوا شيئا (لم يجروا عملية حقيقية). في البداية اعتقدت ان مشاكلي الصحية نتجت عن العملية لكني فهمت الامر لاحقا، لم يفعلوا شيئا، اخذوا المال فقط.”
عندما افاقت نورا من صدمتها قررت من مقاضاة المستشفى واكتشفت ان هنالك مرضى اخرون كثر بقصص مشابهة. اتضح ان المستشفى اللبناني الذي أجريت فيه العملية لنورا له صلة وثيقة بأحمد علي عبد الله صالح نجل الرئيس السابق وان غش المرضى كانت وسيلتهم لكسب المال. غادر البلاد جميع الأطباء اللبنانيين الذين اجروا العملية اثر تدهور الأوضاع السياسية في البلاد بتدبير من اطراف سياسية معينة وفقا لنورا. مرة اخرى عجز المحامون عن استعادة حقوق نورا، في بداية الامر كانت متفائلة بأنها ستعوض ماليا عن كل الاضرار التي لحقت بها، وقد انصفتها المحكمة بالفعل لكن الأموال التي وعدت نورا بالحصول عليها لم تأت قط. لم تجر جراحة ثانية في القلب حيث رضيت بأوجاعها واستعانت عليها بتناول الأدوية يوميا.
في ذات الوقت، تزايد تدهور الأوضاع السياسية في اليمن حيث استولي المتمردون الحوثيون المنطلقون من محافظة صعدة في شمال اليمن قرب الحدود مع السعودية، على العاصمة صنعاء ووسعوا نفوذهم الي منطقة الحديدة. نجم عن الانتصارات التي حققها الحوثيون سلسلة من الصدامات والهجمات التي شنها تنظيم القاعدة. احتل الحوثيون القصر الرئاسي في صنعاء في يناير 2015 لرفضهم تقسيم اليمن لأقاليم حسب مسودة الدستور الجديد الذي اتفق عليه؛ لأن ذلك يعني تخليهم عن عدد من المناطق التي كانوا يسيطرون عليها. استقال الرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته في 22 يناير 2015 بعد أن اجبرهم الحوثيون على توقيع اتفاق جديد. وضع الحوثيون الرئيس عبد ربه منصور هادي قيد الإقامة الجبرية في منزله لكنه تمكن من الهرب إلى عدن. عندما تقدم الحوثيون إلى عدن؛ هرب الرئيس هادي إلى المملكة العربية السعودية ودعا مؤتمر قمة عربي في مارس 2015 لمساعدته في مواجهة الحوثيين. شن تحالف عربي بقيادة السعودية ضربات جوية ضد الحوثيين في اليمن في الخامس والعشرين من مارس 2015 مما شكل تصعيدا للنزاع وحولها لحرب واسعة مكتملة الأركان.[/size]
كانت نورا قلقة جدا بشأن الوضع في البلاد، كانت تخشى ان يحاول الحوثيون إعادة نظام الامامة في اليمن لأنهم زيديون ينتمون لنفس الاسر التي كانت تحكم اليمن في عهد الامامة. وفهمت نورا أيضا ان الرئيس على عبد الله صالح كان وراء التوسع السريع للحوثيين وسيطرتهم على اليمن. بالرغم من أن الرئيس السابق خاض عدة حروب ضد الحوثيين عندما كان في السلطة، اصبح من الواضح ان صالح يدعم الحوثيين لإشاعة عدم الاستقرار في البلاد لإعادة أنصاره للسلطة.منهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة :: تعاليق

نابغة
رد: الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة
مُساهمة الثلاثاء مارس 29, 2016 3:36 pm من طرف نابغة
نصحها ابناؤها بالكف عن متابعة الاخبار السياسية لأنها تؤثر على صحتها. عندما سيطر الحوثيون على الحديدة في سبتمبر 2015 فقد ابن نورا عمله في الميناء وكذلك زوج بنتها: “توليت مسؤوليتهم صغارا وها أنا احمل نفس المسئولية وهم رجال، زوّجتهم واعتقدت انني سأرتاح لكنني لم أجد الراحة، لم يعد قلبي يحتمل ما يحدث وعندما أجريت لي العملية لم يجروها كما يجب، حتى الأطباء خذلوني.”
الصداقة في الانثروبولوجيا، الصداقة كمنهج بحث
كانت نورا مهتمة بالسياسة دائما، واستمتعنا بمشاهدة الاخبار سويا والتحادث حول الأوضاع في اليمن. وكان للتطورات السياسية في اليمن خلال السنوات الأربعة الماضية تأثيرا كبيرا على حياة نورا، وكنت اشاركها قلقها حول مستقبل اليمن في المحادثات الهاتفية التي تجري بيننا. كنت ادون بعض الملاحظات عقب محادثاتنا الهاتفية أحيانا، لكنني كنت انظر لهذه المحادثات الهاتفية في غالب الأحيان كصداقة خالصة وليست صداقة بحث. ومع ذلك وعندما تزايد الاعتماد المالي لنورا علّى بدأت أفكر في الكتابة عن الكيفية التي تطورت بها علاقتنا. وقد عانيت من التغيرات التي طرأت على علاقتنا كما ترددت دائما في اتخاذ القرار حول ارسال المال لها او الامتناع عنه. لكنني كنت انظر الى هذه التغيرات باعتبارها انعكاسا لفارق القوى بيننا: أنا كامرأة عازبة جيدة التعليم، بيضاء اللون منتمية للطبقة الوسطى تعمل في وظيفة ذات راتب جيد في جامعة هولندية، ونورا كامرأة سوداء نالت تسعة سنوات من التعليم الأساسي فقط، ارملة بثلاثة أطفال، تعمل صرافة في بنك يمنى في بلد متخم بالمشكلات السياسية والاقتصادية. يُفترض ان يبنى الأنثروبولوجيين علاقات وثيقة بمخبريهم ومصادر معلوماتهم لكن الصداقة ليست موضوعا لنقاش واسع في الانثروبولوجيا[21]. حظيت العلاقات بين الأنثروبولوجيين ومصادر معلوماتهم الرئيسيين باهتمام أوسع. وصف كاسجراند (1960 xi): الذى جمع عشرين سيرة شخصية كتبها انثروبولوجيون عن مخبريهم (مصادر معلوماتهم) – وصف – هذه العلاقة باعتبارها ارتباطا إنسانيا ذي طبيعة فريدة لأنها غالبا ما تجمع أشخاصا ذوى خلفيات ثقافية متباينة وتتضمن قدرا كبيرا من الندية والعلاقة التبادلية. بالنسبة للعلاقة التبادلية يرى فيرث (199: xiv) أنه “عادة ما تكون سيطرة الأنثروبولوجيين على الموارد المادية اكبر لكن بمرور الوقت وتحقق التكافؤ في الشخصيات تتغير هذه العلاقة لتبنى على الندية والتساوي او تقل أهميتها ويتم تجاهلها.” من الواضح ان هذا تفسير إيجابي للعلاقة لكن علاقات البحث غالبا ما تستبطن قدرا كبيرا من عدم توازن القوى وكذلك علاقات الصداقة بين الأنثروبولوجيين ومخبريهم. وقد أشار الباحثون النسويون بشكل خاص لأهمية موضوع اختلال ميزان القوى وعدم التكافؤ في علاقات البحث.
تم الاحتفاء بفكرة “اخوات على نطاق العالم” (Global sisterhood) في سبعينيات القرن الماضي وتم تشجيع الباحثات النسويات على اجراء بحوث فعالة للمساعدة في تحسين ظروف حياة النساء موضع بحوثهن. خضع هذا الموقف لتساؤلات واسعة واعتَبر ساذجا في الثمانينيات والتسعينيات واعطيت أهمية اكبر للطرق المختلفة التي تتحول بموجبها علاقة البحث لعلاقة استغلالية (ويتكر 2011: 57). اتخذ فسيزوران (1997: 614)، بين اخرين موقفا نقديا من الباحثين النسويين الذين ادعّوا ان علاقات بحوثهم كانت مبنية على الصداقة: “استُخدم مصطلحا صديق ومخبر بطريقة تبادلية (كمترادفين)… وغالبا دون تقديم تفسيرات او تعليقات حول التناقضات وعلاقات القوى التي تنطوي عليها العبارتان.” استخدمت ويتكر(2011: 65) الصداقة كمنهج في بحثها حول تحالف نساء ايرلندا الشمالية. وبينما تُعرف الصداقة دائما باعتبارها قائمة على المساواة والتبادلية والندية فإنها ترى ان الصداقة لا يمكن ان تصبح خالية من السياسة وعلاقات القوى وان مقاربة اكثر سياسوية للصداقة ربما تكون افضل في مساعدتنا على التعرف على الموضوعات الأخلاقية والأبستمولوجية في العمل الميداني النسوي وفى مضمار السياسة. ” (ويتكر 2011: 65). تبدو مشكلات علاقات القوى وعدم التكافؤ اكثر وضوحا اثناء الكتابة. حاول الأنثروبولوجيين النسويون تجسير الهوة بين الباحثين ومخبريهم باستخدام طرق جديدة في كتابة الاثنوجرافي (انظر على سبيل المثال، بهار 1990؛ ابولغد 1993؛ بهار وغوردون 1995؛ فرانك 2000).
طورت جيليا فرانك (2000: 3) مصطلح “السيرة الثقافية” في كتابها حول العلاقات التي بنتها خلال عشرين عاما من العمل البحثي مع النساء الامريكيات المعوقات. وتَعتبر منهجية السيرة الثقافية مزجا بين المناهج الاثنوجرافية وتاريخ الحياة الشخصية. تختلف السير الثقافية عن قصص الحياة بتضمنها مواد اثنوجرافية تعتمد على ملاحظات منتظمة جمعت بواسطة الباحث شخصيا وعلى مدى زمني طويل اثناء المشاركة في حياة الأشخاص موضع البحث، على ان يضع الباحث في اعتباره تأثيره الشخصي في عملية جمع المعلومات والتوصل لاستنتاجات في المقام الأول لأهميتها” (فرانك 2000: 21). تصف فرانك علاقتها القديمة الوطيدة بديانا والكيفية التي سمحت لها بها ديانا للدخول في حياتها كباحثة ولكن كصديقة أيضا. وتصف أيضا ابعاد علاقة القوى في صداقتهم والطرق التي استجابت بها ديانا لكتابات فرانك وعلاقات القوى المستبطنة. لم تقبل ديانا الوضع التابع الذى يجعلها امرأة تتم الكتابة عنها وفى لحظة معينة قررت ان تكتب بنفسها كتابا عن حياتها.
بالرغم من الطرق التجريبية الكثيرة لكتابة الأثنوجرافيات يبقى الأنثروبولوجيين في اغلب الأحيان هم المؤلفون؛ ويظل المخبرون هم من يُكتب عنهم. تحدت جاى بلاسكو ومخبرتها وصديقتها دى لاكروز هيرنارديز (2012) هذا التقسيم التقليدي بكتابة مقال مشترك حول صداقتهما طويلة الأمد. قدمت جاى بلاسكو (2010؛ 2011) وحللت قصة مخبرتها الرئيسية وصديقتها الحميمة اغاتا ليرا[22] في مقال آخر، اما الآن فقد قررتا ان تستخدما طريقة اكثر تجريبية للتوصل الى “أثنوجرافيا تضامنية وندية” وفى الخلاصة تعلنان: “كانت علاقتنا غير متكافئة ليس لأن بلوما كانت اكثر ثراء لكن لأن ليريا كانت صديقة بالدرجة الأولى بينما كانت بلوما صديقة وانثروبولوجية في نفس الوقت. حتى تحقق الانثروبولوجيا طاقتها الكامنة في تغيير العالم؛ لا ينبغي فقط الاعتراف بمثل هذه العقبات، بل ينبغي التقليل من شأنها. نأمل ان نكون قد ساهمنا مساهمة متواضعة في هذا المشروع بالكتابة سويا عن حياتنا وعن صداقتنا وعن عوالمنا.” (جاى بلاسكو ودي لا كروز هيرنارديز 2012: 14).
ومن المثير للاهتمام ان معظم النقاشات حول الصداقة في مجال البحوث تعتمد على وضعيات تطورت فيها علاقات صداقة بين الباحثين ومخبريهم موضوع بحثهم لكن ماذا عن البحوث التي انطلقت أصلا من صداقة قائمة؟ من النماذج على مثل هذه البحوث بحث تيلمان – هيلى حول الصداقة بين المثليين والأشخاص العاديين (2001؛ 2003). بدأ البحث بمشروع فصل دراسي استجوبت خلاله ليزا تيلمان – هيلى صديقا مثليا حول صداقاته وامتدت لمشروع بحثى استغرق ثلاثة سنوات. تدعو تليمان –هيلي لاعتماد الصداقة كمنهج بحثي مستوحية تقاليد الانثروبولوجيا التعريفية ومناهج البحث النسوية. وهي ترى أن هذا المنهج يضمن عددا من المزايا للباحثين والمشاركين في البحث: “تستدعي الصداقة كمنهج؛ ندية جذرية وتحولا من دراستهم هم إلى دراستنا نحن.” (تيلمان – هيلى (2001: 2003). وبالرغم من انها تناقش قضايا أخلاقية مثل القبول الواعي والمدرك، الحفاظ على السرية، الكرم والاريحية، إلا إنني افتقد فيها تناولا معمقا للمعضلات الأخلاقية التي تنجم عن علاقة الصداقة المرتبطة بصداقة البحث.” وإحدى هذه المعضلات هي تلك المتعلقة بدور المال وبشكل خاص كيف يؤثر عدم التكافؤ المادي في الصداقة والصداقة البحثية. ويكتسب هذه الامر أهمية إضافية عندما يدرس الباحثون أشخاصا لا يحظون إلا بموارد مادية شحيحة.
أنا ونورا : صداقة في زمن الازمة
عندما مددت يد العون لنورا لأول مرة بشراء نظارة طبية لامها، كنت ادرك انني أقوم بعمل مثير للجدل وسط الغربيين الاخرين الذين يعيشون في اليمن. كان هنالك نقاش يتجدد دائما، وسط الجماعة التي كنت انتمى لها هنا، وهم خبراء المساعدات التنموية الأجانب، حول تقديم العون المادي للزملاء والأصدقاء. وكان الرأي السائد هو؛ ان علينا ألا نمنح المال، لأن ذلك سيؤدي إلى المزيد من المطالب المالية، وإلى نشوء حالة من التبعية. بما أنني نشأت على الأفكار المسيحية التي تدعو إلى اقتسام الخيرات مع المحرومين والاقل حظا، وتأثرت بالأيديولوجيا النسوية حول التضامن مع النساء اللواتي يعشن ظروفا صعبة، فقد اتخذت موقفا مغايرا وقررت ان اساعد الأصدقاء المقربين وقت الحاجة[23].
عدت لهولندا عام 1998 بعد أن عشت في اليمن لستة سنوات وعندها بدأت مساعداتي المادية المنتظمة لنورا. في البداية كانت تتصل بي من وقت لأخر ربما بضع مرات في السنة، لكن مساعداتي لها بدأت تكبر تدريجيا. كنت اعرف انها تعيش أوضاعا صعبة كأرملة وام لثلاثة أطفال ودون أقرباء من الرجال يساعدونها. في مقابلة معها عام 2013 عبرت نورا عن وضعها بالقول: “انا اعاني من المرض بسبب المشاكل الكثيرة التي تواجهني. في بعض الأحيان عندما يفقد شخص ما والديه فإنهما يتركان له شيئا ما، بعض المال او بيت وربما يتلقون المساعدة من الأقارب. أما أنا فقط ورثت الفقر والظروف القاسية فقط، كل الذين حولي ماتوا وتحملت المسئولية عنهم جميعا، ماتوا وتركوا لي المعاناة، ولم اعد قادرة على تحملها، كنت قوية لكني صرت ضعيفة الآن واحاج لمن يساعدني.”
صرنا نتواصل اكثر، عندما أصبحت الهواتف النقالة في متناول الجميع، وتزايدت مطالب نورا المالية. كانت غالبا ما تعطيني إشارة بمكالمة مقطوعة وعندما اعود للاتصال بها تخبرني انها بحاجة لبعض المال. تدهورت حالتها الصحية، لكن هنالك احتياجات مالية اخري كان يجب تلبيتها أيضا فقد رتبت نورا زواج بنتيها وولدها وهو امر باهظ التكلفة في اليمن[24] خاصة بالنسبة للرجال. لم يكن لدى ابنها عملا منتظما وكان من الصعب عليه الحصول على عروس. تعذر الزواج على الكثير من الشباب بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية كما هو الحال في الكثير من بلدان النصف الجنوبي من العالم (انظر هونوانا 2012).
قررت ان أساهم ماديا في زواج انجال نورا، خاصة ابنها، على أمل أن يتمكن من رعاية امه بعد ان يتزوج ويكون اسرته الخاصة به. لسوء الحظ لم تتمكن نورا من الاستغناء عن مساعدتي بعد زواج أولادها واستمرت مطالبها المادية. عندما أصبحت نورا بحاجة لإجراء جراحة في القلب حاولت أن امتنع عن المساعدة وأن أوضح لها ان المبلغ المطلوب كبير وإنني لن أتمكن من المساهمة. وكانت النتيجة انها لم تجر العملية وواصلت مهاتفتي بين وقت واخر حتى استسلمت للضغوط ووافقت على دفع نصف التكلفة. أوضحت لها في محادثاتي الهاتفية أن موضوع النقود يؤثر على صداقتنا: ولم اعد اتصل بها هاتفيا خشية أن تطلب المزيد من المال واتردد في الرد عليها عندما تتصل وتقطع بقصد أن اعيد الاتصال بها لأني اعرف أنها ستطلب مالا. وقد وصلت حد أن احسب لها مجموع المبلغ الذي اعطيته إياها منذ عام 1998؛ صدمت حين اثرت الموضوع بهذه الطريقة وردت علّى قائلة: “في الصداقة لا تحسب مثل هذه الاشياء يا مارينا.” فهمت ما قالته وعنته، لكنني استغرقت وقتا طويلا قبل ان اكف عن الحساب، وقبلت بطريقة أو بأخرى إنني ادعمها ماديا. وقد بررت مساعدتي لها لنفسي وللأخرين بأنني أعيش بمفردي وليس لدى شريك حياة أو أطفال ولا أقارب او اشخاص يحتاجون لمساعدتي المالية. لدى عمل باجر جيد، وجزء محدود من قرض عقاري، وليست لدى اية اعباء مالية أخرى. إضافة لذلك استخدمت مجاز “قريبة مُتخيلة” لوصف علاقتي بها؛ نورا بالنسبة لي بمثابة اخت فهي تستقبلني بكرم وصداقة ومحبة عندما أكون في اليمن وابنائها ينادونني “خالة” وغالبا ما تحاول نورا ان ترد على الهدايا بأن تمنحني مكانا أقيم فيه عندما أزور الحديدة وبأن تطبخ لي وتجعلني اشعر أنني في بيتي. عندما نكون سويا فإننا نتبادل الافراح والاتراح ونتناقش فيما حدث خلال يومنا سواء في حياتنا الخاصة او في الشئون العامة وفي العالم من حولنا.
عندما أكون في هولندا، فإن نورا دائما تسألني عن ابي واخوتي وعن عملي وحياتي الخاصة، لكن محادثاتنا الهاتفية تتركز حول حياتها. فهي تتصل عادة عندما تحتاج للمال او عندما يحدث شيء في اليمن، وانا اتصل بها فقط عندما اتسلم مكالمة او طلب مكالمة منها أو في الأعياد والمناسبات الدينية. في بعض الأحيان لا أتمكن من الرد على مكالماتها بسبب الانشغال الزائد او وبسبب من انزعاجي من مطالبها بمزيد من المال مباشرة عقب تحويل المساعدة الشهرية لشراء ادويتها، وفي بعض الأحيان لا أرد على مكالماتها التي تفوتني حتى تتصل مرة أخرى، لكنني في النهاية ارد عليها واحول لها المال. تذكرني علاقتي المالية بنورا بعلاقة الكثير من المهاجرين، خاصة القادمين من البلدان النامية بذويهم في بلدانهم الاصلية، فهم كثيرا ما لا يرغبون في الاتصال ببلدانهم الاصلية ولا يردون على المكالمات من أقاربهم هناك؛ خشية أن يطلبوا منهم المساعدة المادية. يسود في تلك البلدان اعتقاد بأن المهاجرين في حالة مادية ممتازة وانهم قادرون على مساعدة ذويهم ماديا. وبالرغم من التبريرات التي سقتها أعلاه، إلا إنني لا اشعر بالارتياح للجانب المالي من علاقتنا، وكثيرا ما تساءلت: لماذا؟ احد الأسباب هي حقيقة إنني اكره الشعور بأنني مجبرة على تحويل المال لها. كان الامر سيصبح سهلا بالنسبة لي لو كنت ابعث لها المال من وقت لأخر؛ لأنني احب أن افعل ذلك طوعا عوضا عن اتصالها بي لتطلب مني النقود. بعد العملية الجراحية التي أجرتها نورا، اتفقنا على ان احول لها مبلغ مائة دولار في اليوم الأول من كل شهر لتشتري بها ادويتها. خلال السنوات الثلاثة الماضية تزايد المبلغ باستمرار واصبحت التواريخ التي يجب أن تشتري فيها ادوية جديدة تتغير باستمرار. علاوة على ذلك فإن نورا كثرا ما تتصل هاتفيا بين تحويل واخر بسبب من الطوارئ الصحية. وهنالك عامل اخر يزعجني ذي صلة بالشعور بالذنب. غالبا ما احول لها النقود لأنني اشعر بالذنب بسبب ظروف حياتي المرفهة، وحقيقة إنني لا يمكن أن اساعدها بشيء سوى ان ابعث لها المال خاصة في الظروف التي تعيشها اليمن حاليا. وتبقى مساعدتها ماليا واحدة من الأشياء القليلة التي يمكن أن افعلها اضافة للاهتمام والتعاطف. ومع ذلك فإنني اشعر بالأسف لأن علاقتنا يشوبها جانب مالي؛ اثر عليها سلبا حسبما اعتقد. يجادل فيرث انه “بمرور الوقت وتحقق التساوي في الشخصيات فأن الفروق بين الباحث الانثروبولوجي ومخبريه الرئيسيين تميل إلي أن تصبح اقل أهمية ويتم تجاهلها نسبيا.” في حالة علاقتي بنورا استعصى تجاهل الفروق المادية بيننا.
تفاقم أثر عدم التكافؤ المادي بيننا بسبب حالتها الصحية وما ترتب عليها من احتياج لعملية جراحية وادوية مكلفة، واهم من ذلك تدهور الأوضاع في اليمن. يشير البعد المالي في علاقتنا وشعوري بالذنب بوضوح؛ إلى أن مقولة علاقة الصداقة القائمة على التكافؤ والتبادلية قد تم تصويرها على نحو مثالي. ويصدق هذا على وجه الخصوص في أوضاع الازمات الاقتصادية والنزاعات والحروب. يمكن للصداقة ان تصبح وسيلة للتعبير عن التضامن والتعاطف مع الأصدقاء في المناطق التي تسودها النزاعات. ويمكن للصداقة أيضا ان تصبح أداة مفيدة للبحث لفهم تأثيرات النزاعات على الحياة اليومية للناس. ومع ذلك؛ يجب أن تخضع الصداقة نفسها للبحث وتصبح موضوعا له، خاصة في أوقات الازمات. وهذا مما يجعل أهمية الصداقة كوسيلة “للتخيل الاثنوجرافي عند بعد” (روبن 2012: 3) اكثرا جلاءً ووضوحا. دائما ما تؤكد لي نورا مقدار اهتمامها بي وتقديرها لي وانها لم تكن لتتمكن من مواصلة حياتها دون مساعدتي. وهي تفسر دعمي المادي لها بعبارات دينية “إنها ليست منك او مني، إنها من الله، إن الله يحبك وانت طيبة القلب، وأنت تحسنين لمن لا يملكون شيئا. في بعض الأحيان أسأل نفسي … بالله لماذا تساعدني هذه المرأة؟ نعم والله يا مارينا لذلك الحد … اجيب نفسي قائلة؛ انها ليست منها ولا مني؛ إنها من الله .. لقد أعطاها الله لي وهي تساعدني لأني ليس لدّى شخص اخر في هذه الدنيا، ولأني فعلت الكثير من الخير لأجل الاخرين، ولذلك ادخلها الله في طريقي ويعطيها ما تريد في حياتها، والله يعطي الناس ما في قلوبهم فقط.” التأويل الديني لنورا لمساعدتي المالية لها يمكن تفسيره باعتبارها طريقة للقبول بدعمي المالي لها والحد من شعورها بالذنب بسبب ذلك. عقب العديد من النقاشات بيننا حول دعمي المالي لها، أصبحت نورا تدرك جيدا أن مساعدتي لها ليست أمرا مسلما به ولن يستمر للابد.
خلاصة: أصدقاء ام قرابة متخيلة (مجازية)؟
أجادل في هذه الورقة بأن الصداقة يمكن ان تصبح منهجا للبحث ووسيلة لإظهار تضامننا من الناس الذي يعيشون في ظروف سياسية واقتصادية صعبة. وقد استخدمت صداقتي مع نورا نموذجا لذلك. نورا واحدة فقط من ملايين اليمنيين الذين تأثروا سلبا بالأوضاع في بلادهم. لكن قصتها تمكننا من ان نتبين الكيفية التي تحولت بها أوضاع الكثير ممن كانوا يعيشون في أوضاع مالية مستقرة نسبيا بفضل وظائفهم الحكومية ليواجهوا الفقر. إضافة إلى عرض قصة حياتها، فقد ركزت اهتمامي على دور الصداقة في أوقات الازمة خاصة دور الدعم المادي للأصدقاء والمخبرين. كانت نورا محض صديقة في البداية لم تتحول لمخبر ومصدر للمعلومات إلا في مرحلة لاحقة، عندما أصبحت انا مهتمة بتاريخ اسرتها وتاريخ اليمنيين الاخرين من ذوي الأصول المختلطة. كان دعمي المالي نتيجة لصداقتنا، لكن ماهي طبيعة صداقتنا الآن؟ وهل ما زلنا أصدقاء الآن؟ ام تحولت صداقتنا لشيء اخر نتيجة لدعمي المالي لها؟ ماذا تعني الصداقة بالنسبة لها؟ وماذا تعني بالنسبة لي؟ وهل لدينا نفس الأفكار والتصورات حول معنى الصداقة والدور الذي يلعبه المال فيها؟ وبأي طريقة تختلف صداقة نورا بالنساء اليمنيات الاخريات عن صداقتها لي؟
في لقائي بنورا واستجوابي لها في فبراير 2013 تحدثنا بشكل مفتوح عن دعمي المالي وما يعنيه بالنسبة لها وبالنسبة لي لكننا لم نتناول موضوع صداقتنا. بتأمل علاقتنا؛ اجد نفسي قد خلصت إلى أن طبيعتها اقرب إلى علاقة قرابة متخيلة اكثر منها علاقة صداقة. البعد المالي في علاقتنا، وخاصة حقيقة شعوري بأنني ملزمة بتحويل النقود لها، علامة تدل على أننا لم نعد مجرد أصدقاء. ولم تعد علاقتنا طوعية مبنية على أساس الندية والتبادلية والتكافؤ. عوضا عن ذلك أصبحت علاقة محتومة على كلينا: نورا تحتاج لدعمي المادي لتعيش، وانا ملزمة أخلاقيا بتقديم ذلك الدعم لها. دائما ما تشير نورا إلى اننا “اقتسمنا العيش والملح” وهو تعبير تقليدي قبلي يعني أن الذين تشاركوا وجبة واحدة سويا يصبحون أفرادا في اسرة واحدة. وهي تقول لي أيضا: انني اهم من اختها بالنسبة لها وأنني رأيت وتابعت أولادها يكبرون وانهم ينادونني “يا خالة” وبهذه الطريقة تجعل نورا علاقتنا علاقة قرابة متخيلة (مجازية) معززة التزامي الأخلاقي بدعمها.
دائما ما يستخدم الناس القرابة المتخلية والمجازية وشبكات الأصدقاء كوسيلة للحصول على المكاسب وتيسير حياتهم المادية كما أوضحت كارول ستالك (1975) في دراستها الاثنوجرافية حول مجتمع السود في مدينة نيويورك. لكن لهذه الشبكات أهميتها أيضا في خلق الالفة والمودة والندية التبادلية، لذا يجب ألا ننظر إليها باعتبارها محض أدوات نفعية. عدم التكافؤ المادي بين الأصدقاء وخاصة اعتماد احدهما على الاخر، تؤثر على الصداقة إلى حد كبير. تظهر حيرتي وشكوكي العاطفية حول دعمي المالي لنورا أن عدم تكافؤ القوي في علاقتنا ليست أحادية الجانب. لأن نورا أيضا تملك نفوذا وقوة ذات اثر على، وانا أجد صعوبة في خلق التوازن. لم تتحقق (بعد) في علاقتي بنورا “التبادلية والندية الجذرية” التي ظهرت في بحوث تاليمان-هيلي (2003) وجاي بلاسكو ودي لا كروز هيرنانديز (2012).
 
امتنان وعرفان
 

الصداقة كمنهج للبحث الإثنوجرافي في أزمنة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: