أقلام فكرية
نظرية الفعل Theory of action عند أرندت وإحياؤها لفكرة "الممارسة" القديمة تمثل أحد الإسهامات الرئيسية للفكر السياسى فى القرن العشرين . وبتمييز الفعل (الممارسة) من الابتكار أو الصنع (الإنشاء) وبربطه بالحرية والتعدد، وبتوضيح ارتباطه بالتحدث والتذكر، استطاعت أرندت أن توضح مفهوم السياسة الذى أمكن فيه تناول المسائل المتعلقة بالمعنى والهوية بطريقة حديثة متطورة . علاوة على ذلك، فإنه بالنظر إلى الفعل على أنه شكل للتجمع البشرى، أصبحت أرندت قادرة على تطوير مفهوم الديمقراطية الاشتراكية والتى تتناقض تماماً مع الأشكال السياسية البيروقراطية المميزة للحقبة الحديثة (1) . فالفعل هو أساس نظرية أرندت السياسية، وقد درسته فى إطار فهمها للحرية، والمشاركة والحوار والخطاب . " فحيثما يكون الكلام ملائماً، فإن الأمور تصبح سياسية فى شكلها، فالكلام هو ما يجعل الإنسان كائناً سياسياً ". وقد اهتمت أرندت بشكل كبير بدراسة صور الفعل المختلفة وأعلنت عن عدم رضاها عن معظم التفسيرات التى قدمت لها . " إن عدم قدرة الفرد على تجميع أصول حياته فى كلمات حيث يعبر عن ماهيته من خلال الفعل والكلام تعتمد على مجال الشئون البشرية، فنحن نتواجد ككائنات تعمل وتتحدث .. " (2) .
وعليه، فإن المكونات الرئيسية لنظرية الفعل عند أرندت هى: الحرية والتعدد والإعلان أو الافشاء . وتتعلق تلك المكونات بالروابط بين الفعل والشكل الأدبى وأهمية التذكر أو ما تسميه أرندت " مجتمعات الذاكرة " . وكذلك العلاقة بين الفعل والسلطة وساحة العرض أو فضاء الظهور ؛ وركزت أرندت على "سلطة الوعد" و " سلطة الصفح " (3) . وهذا ما سوف نوضحه على النحو التالى:
1- العمل والحرفة والفعل:
تميز أرندت بين العمل والحرفة والفعل حيث تقول: " إننى اقترح مصطلح " الحياة العملية " لكى أشير إلى ثلاثة أنشطة بشرية جوهرية هى: العمل والحرفة، والفعل . إنها جوهرية لأن كل واحد منها يتطابق مع الأوضاع الرئيسية التى تعطى الحياة للإنسان على الأرض " (4).
العمل هو النشاط الذى يتطابق مع العملية البيولوجية للجسم البشرى، الذى نموه الذاتى، عملية الأيض، وتحلله الأخير مرتبطان بالضرورات الحيوية الناتجة والمدخلة فى عملية الحياة بواسطة العمل . إن الوضع البشرى للعمل هو الحياة فى حد ذاتها . أما الحرفة فهى النشاط الذى يتطابق مع اصطناع الوجود البشرى، والتى هى غير منزلة فى الفضاء حيث لا يعوض العود الأبدى الدورى للنوع فنائه . تقدم الحرفة عالم " مصطنع " من الأشياء المختلفة بشكل تام عن كل وسط طبيعى . حيث تقطن داخل حدوده حياة كل فرد، فى حين أن هذا العالم فى حد ذاته يعنى الاستمرار أو التجاوز على الكل . إن الوضع البشرى للحرفة هو الانتماء إلى العالم (5) .
وأما الفعل، النشاط الشائع بين الناس من دون توسط الأشياء ولا المادة، يطابق الوضع البشرى للتعدد ..وهذا التعدد هو تحديداً الشرط – الذى لاغنى عنه- لكل حياة سياسية ؛ وهى تقول فى هذا الصدد: " إن السياسة تقوم على واقعة التعدد البشرى " . وإذا كانت كل جوانب الوضع البشرى مرتبطة بشكل ما بالسياسة، فإن هذا التعدد بالخصوص هو شرط كل حياة سياسية . وإن المعيار الرئيسى للفعل هو التجلى الواضح للفاعل فى الكلام والممارسة . فالفعل مرتبط بالكلام ويكشف عن الإنسان وكأنه يحاول ويضرب فى الأرض وينقح فى الأفق من أجل أن يبدأ شيئاً جديداً فى العالم (6) .
وهذه الأنشطة الرئيسية الثلاثة الخاصة بوجودنا فى العالم: العمل والحرفة والفعل مستقلة عن بعضها البعض حيث إن لكل منها مبادئه ومنطلقاته المميزة ويحكم عليه بمعايير مختلفة . العمل يحكم عليه بواسطة قدرته على تحسين الحياة البشرية، تقديم احتياجاتنا البيولوجية المتعلقة بالاستهلاك والانتاج، والحرفة يحكم عليها بقدرتها على تكوين عالم ملائم للاستخدام البشرى والحفاظ عليه، والفعل يحكم عليه بقدرته على الافصاح عن هوية العامل، وإثبات حقيقة العالم، وتحقيق آهليتنا للحرية (7) .
وعلى الرغم من أن أرندت تعتبر الأنشطة الثلاثة (العمل، والحرفة والفعل) ضرورية على حد السواء لإكمال الحياة البشرية، حيث إن كلاً منها يسهم بطريقته المميزة فى تحقيق كفاءاتنا البشرية، فإنها تركز على الفعل المميز للبشر عن حياة الحيوانات (التى هى مماثلة لنا من حيث احتياجها للعمل للحفاظ على حياتها) وحياة الآلهة (التى نشاركها نشاط التأمل) . ومن هذه الناحية فإنه يجب اعتبار مقولتى العمل والحرفة مختلفتين عن مقولة الفعل، وإن كانتا تلعبان دوراً مهماً فى إلقاء الضوء على فضاء الفعل خلال نظام النشاط البشرى(8) .
ولذلك ترى أرندت أن الأنشطة الثلاثة جميعها، والأوضاع المتطابقة معها مرتبطة بشكل وثيق بأكثر الأوضاع شيوعاً للوجود البشرى: الميلاد والموت، الأبدية والخلود، البداية والفناء . العمل لا يؤكد الخلود البشرى فقط، ولكن أيضاً حياة الكائنات . فالعمل ومنتجاته، الصناعة البشرية، يمنحان مقياساً للبقاء والاستمرارية بناء على عبث الحياة وخاصية الزوال المميزة للذهن البشرى . وحيث إن الفعل يتدخل فى إيجاد الكائنات البشرية والحفاظ عليها، فإنه يخلق وضع التذكر، وهو المتعلق بالتاريخ . العمل والحرفة، وكذلك الفعل متأصلان أيضاً فى الميلاد، حيث إن لهم مهمة تقديم العالم والحفاظ عليه من أجل التدفق المستمر للقادمين الجدد المولودين فى العالم كغرباء . ومع ذلك، فمن بين الثلاثة، فإن الفعل ذو علاقة أوثق بالوضع البشرى الخاص بالميلاد، ويمكن للبداية الجديدة المتأصلة فى الميلاد أن تبرز نفسها فى العالم وذلك فقط لأن القادم الجديد يمتلك القدرة على بدء شئ ما من جديد، وهو الفعل . وبهذه الطريقة البديهية، فإن أحد عناصر الفعل، وبالتالى الميلاد، يعد متأصلاً فى جميع الأنشطة البشرية(9) .
2- الحرية والتعدد
والخاصيتان الرئيسيتان للفعل هما " الحرية " و " التعدد " .. أما الحرية عند أرندت فترتبط بالحياة اليومية وبالمجال السياسى العمومى ذلك أن اعتبار الحرية حقاً يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسى وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويحددان مجال تعايش الحريات . أما الحديث عن حرية داخلية "ذاتية"، فهو حديث ملتبس وغير واضح . إن الحرية، وفقاً لأرندت، مجالها الحقيقى والوحيد هو المجال السياسى، لما يوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلى وملموس إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، إن على مستوى التنقل أو التعبير أو غيرها (10) .
فالنظر إلى مفهوم الحرية على أنها مشكلة نظرية وقضية فلسفية ميتافيزيقية مثل قضية الوجود والعدم والخلود والزمان .. الخ هو أمر خاطئ .. ولذلك ترفض أرندت ربط الحرية بالمجال الداخلى للفرد وتقول: " إن الحقل الذى عرفت فيه الحرية، ليس باعتبارها مشكلة، بل باعتبارها جزءاً من الحياة اليومية، هو حقل السياسة " أى مجال الفعل الإنسانى العام وليس مجال الفكر: "لأن الفعل والسياسة يعتبران من بين القدرات والامكانات المتعلقة بالحياة الإنسانية، والتى لا يمكن التفكير فيها بمعزل عن وجود الحرية " . فالمجال الفعلى للحرية هو مجال السياسة باعتباره مجال الشأن العام والذى يهم الجميع . كما أنه خارج الحياة العامة يصعب إن لم نقل يستحيل قياس مدى حضور أو غياب الحرية باعتماد مؤشرات من قبيل الحق فى التعبير عن الرأى العام واحترام الرأى الآخر وضمان حقوق الإنسان والتداول السلمى للسلطة .. وغيرها من مظاهر الديمقراطية ودولة الحق والقانون والحريات العامة . " فالحرية ليست خاصية مميزة لأى شكل من أشكال العلاقات الإنسانية، ولا لأى نوع من أنواع الجماعات البشرية . فحيثما يعيش الناس فى مجموعة لا تشكل هيئة سياسية – مثل ما هو حاصل فى التجمعات القبلية أو الأسرية – فإن ما ينظم أفعالهم وتصرفاتهم ليس هو الحرية، بل هو ضرورات الحياة والحرص على البقاء " (12) .
وهكذا، " فإن الحرية هى مغزى العمل السياسى " (11) . وهى لا تعنى، عند أرندت، القدرة على الاختيار من بين البدائل المتاحة (حرية الخيار مهمة للغاية بالنسبة للإتجاه الليبرالى) أو قدرة طبيعية داخلية منحها الله للبشر . إنها تعنى " القدرة على بدء شئ جديد، لفعل ما هو غير متوقع، ممنوح لكل البشر بمجرد ولادتهم . فالفعل بكونه تحقيقاً للحرية متأصلاً فى الميلاد، فى الحقيقة القائلة بأن كل ميلاد يمثل بداية جديدة وظهور لشئ جديد فى العالم، فالولادة هى بلوغ عالم دائم بدل الانخراط فى تكرار للطبيعة، والوفاة هى الانسحاب من عالم دائم والذهاب إلى عالم الاستهلاك والاغتراب والضياع(13) .
ولقد أدركت أرندت أن كل الأنشطة مرتبطة بشكل ما بظاهرة الميلاد، فكل من العمل والحرفة ضرورىٌ لابتكار عالم يولد فيه بشر جدد بشكل مستمر . ومع ذلك، فإنه من بين الأنشطة الثلاثة، يعد الفعل أكثرها ارتباطاً بالميلاد، لأنه بواسطة الفعل يعيد الأفراد معجزة البدء الكامنة فى ميلادهم . فبالنسبة لأرندت، فإن البداية التى يمثلها كل منا بولادته تتحقق كل مرة نعمل فيها، وهى كل مرة نبدأ فيها شئ ما جديد . وكما أوضحت: " يمكن للبداية الجديدة الكامنة فى الميلاد أن تبرز نفسها فى العالم فقط لأن القادم الجديد يمتلك القدرة على بدء شئ جديد وهو الفعل " (14) .
وأرندت تفهم الفعل على أنه القدرة البشرية على بدء مجموعة جديدة من الأحداث .. والفعل نتيجة طبيعية " للميلاد ": فنحن ولدنا كأفراد من كائنات تقوم ببدايات غير متوقعة (15) . وحيث إن الفعل كبداية كامن فى الميلاد، وحيث إنه تحقيق للحرية، فهو، وفقاً لأرندت، يحمل معه القدرة على عمل المعجزات . "ففى طبيعة البداية يتم بدء شئ جديد لا يمكن توقعه أيا كان ما حدث سابقاً . وإن تلك الخاصية المتعلقة بعدم التوقع المرعب كامنة فى كل البدايات .. والحقيقة أن الإنسان قادر على فعل ما لا يمكن توقعه . فكل إنسان متفرد، ومع كل ميلاد يأتى شئ جديد فى العالم " (16) .
وهكذا فإن ميلاد كل فرد هو وعد ببداية جديدة: فالفعل يعنى القدرة على الافصاح عن النفس وانجاز ما هو غير متوقع ؛ وهو ما يتفق تماماً مع هذا التصور القائل بأن معظم الأمثلة الملموسة للفعل فى العصر الحديث والتى ناقشتها أرندت هى حالات الثورات والانتفاضات الشعبية . فادعاؤها بأن " الثورات هى الأحداث السياسية الوحيدة التى تواجهنا بشكل مباشر وهى حتماً لها مشكلة فى البداية " يعد محاولة لإيجاد مساحة سياسية جديدة، مساحة يمكن أن تظهر فيها الحرية كحقيقة مرتبطة بالانتماء .. إلى - العالم . والمثال المفضل لأرندت هو الثورة الأمريكية لأن فعل التأسيس فيها أخذ شكل تأسيس للحرية . ومن أمثلتها الأخرى نوادى الثورة الفرنسية، مؤتمر باريس لعام 1871، تأسيس السوفيت خلال الثورة الروسية، المقاومة الفرنسية لهتلر فى الحرب العالمية الثانية، والثورة المجرية عام 1956 . ففى كل تلك الحالات كان لدى الرجال والنساء الشجاعة لقطع أنشطتهم الروتينية، للتقدم عبر حياتهم الخاصة من أجل خلق فضاء عام يمكن أن تظهر فيه الحرية، والعمل بطريقة تجعل من ذكرى أعمالهم مصدراً للإلهام فى المستقبل . وتبعاً لأرندت، فإنهم للقيام بذلك قد أعادوا اكتشاف الحقيقة المعروفة لليونانيين والتى تقول بأن الفعل هو أسمى نعمة للحياة البشرية، وهو ما يعطى لحياة الأفراد قيمة (17) .
وأما التعددية فهى الخاصية الرئيسية الأخرى للفعل . فكل فعل هو مبادرة، ولا يمكن القيام به بمعزل عن الآخرين، وبعيداً عن تعددية المؤديين الذين يحكمون على الأداء. فالفعل يحتاج إلى التعدد بنفس قدر احتياج المؤديين للجماهير، بدون وجود الآخرين وتقديرهم، وسيتوقف الفعل عن أن يكون نشاطاً ذا قيمة . ويمكن للفعل أن يوجد فقط فى سياق يحدده التعدد، بقدر احتياجه للظهور بشكل عام، مبرزاً نفسه من خلال الكلمات والأعمال، وحائزاً على قبول الآخرين (18) .
لقد أقامت أرندت العلاقة بين الفعل والتعدد بواسطة موقف أنثروبولوجى . فهى ترى أن " الحياة " هى الوضع الذى يطابق نشاط العمل، و " الانتماء - إلى – العالم " هو الوضع الذى يطابق نشاط الحرفة، وهكذا فإن " التعدد " هو الوضع الذى يطابق الفعل . وهى تعرف " التعدد " فى ضوء الحقيقة القائلة: " بأن "الناس" وليس " الإنسان " هم الذين يعيشون على الأرض ويسكنون العالم " . وتقول إنه وضع الفعل البشرى " لأننا جميعاً متماثلون وإن كان لكل منا حياته ووجهة نظره عن العالم " . وبفضل التعدد يصبح كل فرد قادراً على العمل والتعامل مع الآخرين بطرق مميزة، وهذا هو ما يسهم فى صياغة شبكة الأفعال والعلاقات المختلفة والتى قد يصعب التنبؤ بها . وهذه الشبكة من الأفعال تشكل مجال الأعمال البشرية، تلك المساحة التى يرتبط فيها الأفراد مباشرة – ومن دون وساطة الأشياء – من خلال " اللغة " . فالعلاقة واضحة بين الفعل واللغة (19) .
الخميس مارس 24, 2016 10:59 am من طرف نابغة