1 ـ الحملة الدعائيَّة التوتاليتارية
وحدهما الرعاع والنخبة من يمكن أن تجتذبهما انطلاقة التوتاليتارية نفسها،
أما الجماهير فينبغي أن تُحمل إلى تأييد التوتاليتارية من خلال الدعاية.
ولما كانت الحركات التوتاليتارية، إذ تناضل في سبيل السلطة، عاجزةً عن
استخدام الإرهاب في ظل نظام دستوري ضامنٍ لحرية الرأي، إلا في حدود ضيقة
نسبياً، جعلت تشارك بقية الأحزاب ضرورة كسب المنتسبين والظهور بمظهر ذات
المصداقية إزاء الرأي العام الذي لم يكن منقطعاً بعد عن كل مصادر الإعلام
الأخرى.
لقد أدركنا باكراً، وغالباً ما أكدنا، أنه في البلدان التوتاليتارية،
يتلازم الإرهاب والحملة الدعائية، حتى ليكونا وجهين لعملة واحدة. غير أن في
ذلك جزءًا من الحقيقة ليس إلا. إذ أنى حلت التوتاليتارية وبسطت رقابتها
المطلقة، أبدلت الدعاية بالتلقين العقائدي، وشرعت في استخدام العنف لتحقيق
عقائدها الإيديولوجية وإثبات مزاعمها التطبيقية، أكثر من إخافة الناس
(وكانت قلما مارست العنف إلا في بدء تسلطها، حين وجدت معارضةً سياسية
إزاءها). ولا تكتفي التوتاليتارية بمجرد الإثبات أن البطالة لا وجود لها،
وهي حتمية مقتنعة بها، بل تعمد حملتها الدعائية المستمرة إلى اعتبار بدلات
البطالة نافلةً، وهي في حكم الملغاة. وما يوازي هذه أهمية، هو أن رفض
التوتاليتارية الإقرار بوجود البطالة، كان حري به أن يحقق، وإن بصورة غير
متوقعة، العقيدة الاشتراكية القديمة: من لا يعمل، لا ينل خبزاً. لنأخذ
مثلاً آخر: حين قرر ستالين أن "يعيد" كتابة تاريخ الثورة الروسية، اقتضى من
الحملة الدعائية المؤيدة لصيغة التأريخ الجديدة أن تتلف كل الكتب والوثائق
القديمة، وأن تقضي على مؤلفيها وقرائها في آن معاً. على هذا فإن صدور
تاريخ الحزب الشيوعي في نسخته الرسمية الجديدة، عام 1938، سجل نهاية حملة
التطهير الواسعة التي كانت حصدت جيلاً من المفكرين السوفيات. كذلك الأمر
بالنسبة للألمان، الذين شرعوا في استخدام حملة دعائية واسعة، في البلدان
الشرقية التي احتلوها، تميزت بعدائها للسامية بالأخص، من أجل أن يضمنوا
رقابة أكثر مصداقية على الشعب. ولم يكن الألمان في ذلك بحاجة إلى الإرهاب
حتى يدعموا هذه الحملة، ولم يلجؤوا إليها. وحين عمدوا إلى تصفية الغالبية
العظمى من المفكرين البولونيين، لم يكونوا مسوقين إلى ذلك بسبب معارضة
هؤلاء لهم، إنما لأن البولونيين، في معتقدهم، كانوا أغبياء، ويوم سعوا إلى
اختطاف الفتيان من ذوي العيون الزرق والشعر الأشقر، لم يكن مقصدهم إخافة
السكان، بقدر ما رموا إلى الحفاظ على "الدم الجرماني".
ولما كانت الحركات التوتاليتارية موجودةً في عالم ليس توتاليتارياً
بالضرورة، وجدت نفسها مضطرة إلى توسل ما نتعارف على اعتباره حملة دعائية.
غير أن حملةً دعائية كهذه تتوجه دوماً إلى الخارج، أكان المخاطبون شرائح من
السكان المحليين أو من البلدان المجاورة. وهذا المجال الخارجي يتبدَّى
بالغ التنوع، إذ يسع الحملة الدعائية، حتى بعد استلام زمام السلطة، أن
تلتفت شطر سكان الأمة المعنيين بالتحوّل السياسي، والذين لم ينلهم التلقين
الإيديولوجي الكافي. وفي هذا الصدد، تبين خطب هتلر التي ألقاها في قادة
جيوشه، أثناء الحرب نماذج عن الحملة الدعائية، التي جل ما تميزت بالمزاعم
الفظيعة التي ما ونى هتلر يكافئ بها ضيوفه في سعيه إلى اجتذابهم نحوه ونيل
دعمهم. كما يمكن أن يكون المجال الخارجي فريقاً من المتعاطفين الذين
يترددون في قبول أهداف الحركة الحقيقة، وأخيراً يحدث غالباً أن يعتبر من في
دائرة هتلر من الخلَّص أو أعضاء تشكيلات النخبة بعضاً من أعضاء الحزب
منتمين إلى هذا المجال الخارجي: وفي هذه الحال، يحتاج هؤلاء إلى أن تشملهم
الحملة الدعائية قبل أن تنالهم السلطة الكلية ويؤمن جانبهم.
وخشية أن يضخَّم أمر الحملة الدعائية الكثيرة المزاعم، يجدر بنا أن نتذكر
الحالات العديدة حيث بدا هتلر صادقاً حتى الفظاظة إذ مضى يحدد أهداف الحركة
الحقيقية. غير أن حالات كهذه ما كان ليتعرفها جمهور، لم يكن معداً أصلاً
لمثل هذا التماسك. يجهد الاستبداد التوتاليتاري، بصورة أساسية في قصر مناهج
حملاته الدعائية على سياسته الخارجية وحدها أو على هوائيات الحركة في
الخارج، بغية مدَّها بمادة السياسة الملائمة. وقد يحدث أن حملة التلقين
الإيديولوجي الوطنية، قد تدخل في صراع مع ميل الحملة الدعائية إلى
الاستهلاك الخارجي: وهذا ما جرى فعلاً في روسيا أثناء الحرب، ليس حين عقد
ستالين تحالفه مع هتلر، بل حينما جعلته الحرب ضد هتلر في معسكر
الديمقراطيات. وكلَّما لجأ النظام التوتاليتاري إلى الحملة الدعائية، واجه
مواطنيه بالحجة القائلة بأن الحملة الدعائية "إن هي إلا تكتيك مؤقت".
والحال أن التمييز ما بين العقيدة الإيديولوجية الميسرة للمطلعين، وبين
الحملة الدعائية وحملة التوجيه هي رهن بحجم الحركات وبالضغط الخارجي على حد
سواء. وكلما كانت الحركة صغيرة، ضاعفت من نشاطها في حملة دعائية خالصة،
أما في ما خص الضغط الذي يمارسه العالم الخارجي، الذي لا يسعنا تجاهله
بالكامل، حتى لو كان البلد المعني خلف الستار الحديدي، فكلما كان هذا الضغط
قوياً، تعاظم التزام الحكام الديكتاتوريين التوتاليتاريين في حملة دعائية
نشطة. ذلك أن النقطة الجوهرية في كل هذا إنما تكمن في أن حاجات الحملة
الدعائية يمليها العالم الخارجي دوماً، وأن الحركات التوتاليتارية نفسها
تؤثر اللجوء إلى حملات التوجيه. وبالمقابل، فإن حملات التوجيه هذه، والتي
غالباً ما يلازمها الإرهاب، تزداد بقوة الحركات التوتاليتارية أو بعزله
الأنظمة التوتاليتارية، التي تجعل الأخيرة في منأى عن التأثير الخارجي.
وإذا كانت الحملة الدعائية جزءاً لا يتجزأ من "الحرب النفسانية"، فإن
الإرهاب شأن آخر. إذ تلبث الأنظمة التوتاليتارية تمارسه حتى بعد أن تكون
بلغت أهدافها النفسية: فرعب الإرهاب الحق هو أنه يسود مواطنين ران عليهم
الخضوع التام. وحيث بلغت سيادة الإرهاب حدها الأمثل، كما هي الحال في
معسكرات الاعتقال، تلاشت الحملة الدعائية كلياً، في حين أنها كانت ممنوعةً
في ألمانيا النازية منعاً صريحاً. وبعبارات أخرى، فلا تعدو الحملة الدعائية
كونها إحدى الوسائل، وربما كانت الأهم، التي راحت التوتاليتارية تستخدمها
ضد العالم غير التوتاليتاري. وبالعكس، فإن الإرهاب هو من جوهر شكل النظام
الآنف. على أن وجود النظام (التوتاليتاري) لا يرتهن بالعوامل الذاتية،
والنفسانية أو غيرها، بمثل ما أن وجود القوانين، في نظام دستوري، ليس
مرتهناً بعدد الناس الذين ينتهكونها.
وفي مقابلة الحملة الدعائية، أدى الإرهاب دوراً في النازية أهم مما في
الشيوعية. إذ لم يهاجم النازيون الشخصيات السياسية، كما كانت الحال لدى
موجة الاغتيالات السياسية الأولى (اغتيال راثينو و"إزبرغر")، بل إنهم سعوا،
بديلاً من ذلك، إلى اغتيال صغار الموظفين الاشتراكيين أو بعض الأعضاء
المؤثرين في الأحزاب الخصمة، وذلك ليبينوا للمواطنين مخاطر أن يكون المرء
محض مناضل. إن هذا النوع من الإرهاب الجماعي، الذي كان يجري فصولاً في
حدودٍ ضيقة نسبياً، مضى يتعاظم بصورة منتظمة، طالما أن الشرطة والمحاكم
توانت عن ملاحقة الجرائم السياسية المرتكبة من قبل "اليمين"، ملاحقة جادّة.
لقد كان الإرهاب الآنف متكلفاً من حيث كونه "حمل دعائية للقوة"، بحسب
تعبير رجل إعلان نازي: لما تبين للناس أن النازيين كانوا أقدر من السلطات،
اعتبروا أنه أكثر أماناً أن يكون المرء عضواً في تنظيم شبه عسكري نازي من
أن يكون موالياً للجمهوريين. إن انطباعاً كهذا جعل أرسخ بسبب ما اعتاد
النازيون على فعله من جرائمهم السياسية. إذ ما لبثوا يعترفون علناً
باقترافها، ولم يكونوا ليعتذروا البتة عن "الانحرافات المرتكبة من قبل
القاعدة" ـ وحدهم المتعاطفون كانوا يعتذرون عنها ـ وبذلك يؤثرون في السكان
إذ يظهرون إزاءهم شديدي الاختلاف عن "الثرثارين" من الأحزاب الأخرى.
إن المشابهات ما بين هذا النمط من الإرهاب وبين العصابوية المحضة هي من
الحتمية بمكان بحيث لا يُحتاج معها إلى الإبانة عنها. وهذا لا يعني أن
النازية كانت من قبيل العصابوية، كما راق لنا أن نستخلص أحيانا، بل يعني أن
النازيين تلقنوا، دون أن يقروا، من تنظيمات العصابات الأميركية بمقدار ما
أدركته حملاتهم الدعائية، دون إقرار منها، من وسائل الإعلان الأميركية
التجارية.
مع ذلك فإن أمراً، يتعدَّى التهديدات المباشرة ضد الأفراد والجرائم
المرتكبة في حقهم، مخصوصاً بالحملة الدعائية التوتاليتارية: إنه استخدام
الإيحاءات غير المباشرة، المبطَّنة والمثقلة بالتهديدات، ضد كل من لا يصغون
إلى تعليمها، وقد استتبع بمقتلة جماعية تقترف بحق "الأبرياء" كما بحق
"المذنبين" دون تمييز. بينما تهدِّد الحملة الدعائية الشيوعية الناس بتفويت
قطار التاريخ، والبقاء متأخرين عن عصرهم واليأس قد تولاهم، وأن يقضوا
حياتهم غير ذوي فائدة، جعل النازيون يهددون الناس بالعيش في اختلالٍ مع
قوانين الطبيعة والحياة الأبدية، وذلك بأن يتيحوا هدر دمهم بطريقة لا مردَّ
لها وسرية.
كنا أشرنا إلى النهج الذي لبثت تتبعه الحملة الدعائية التوتاليتارية في
إبراز طبيعة إثباتاتها "العلمية"، وقارناه ببعض التقنيات الإعلانية التي
تتوجه إلى الجماهير بشكل مماثل.
ولئن كان صحيحاً أن الصفحات الإعلامية في صدر أية جريدة تمنح أمثلة عن هذا
الطابع "العلمي"، الذي يتيح لصاحب إنتاج أن يثبت أن صابونته هي "خير ما في
العالم"، مستعيناً لذلك بوقائع وأرقام و"بهيئة للأبحاث"، فإنه من غير
الصحيح أن فيض المخيلة لدى المعلنين ما كان لينطوي على عنصر من العنف، إذ
يكمن وراء التأكيد أن النساء اللواتي لا يستخدمن هذا الصنف الخاص من
الصابون يبقين مدى العمر بثرات وعزباوات. وعلى هذا فإن حلم الاحتكار
المجنون، الحلم في أن المنتوج الآنف الذي يشار إليه بأنه "الصابون الوحيد
الذي يمنح حب الشباب" سوف تكون له السلطة بأن يحرم النساء اللواتي لا
يستخدمنه من الزوج.
فلا يعدو العلم، في مثل حالة الإعلان هذه، شأن الحملة الدعائية، كونه نتاج إبدال للقوة.
وحالما تصير الحركات التوتاليتارية في السلطة تكف عن أن تكون هاجسة
بالبراهين "العلمية". وفي هذا الصدد فقد انفض النازيون عن العلماء الذين
كانوا مستعدين لخدمتهم، في حين راح البولشفيون يفيدون من شهرة علمائهم
لغايات غير علمية بتاتاً، حتى ذهبوا إلى إجبار هؤلاء على تأدية دور
المشعوذين.
ولكن تكف هاهنا المشابهات التي غالباً ما عظِّم أمرها بين الإعلان والحملة
الدعائية التي تطول الجماهير. وبعامة، فإن رجال الأعمال لا يتطارحون
المسائل مع الأنبياء، ولا يسعون إلى إثبات صحة تنبؤات هؤلاء. في حين أن
العلموية التي تتسم بها الحملة الدعائية التوتاليتارية تتميز بكونها تشدد
على النبوة بصورة أخص، وذلك بالتعارض مع الإحالة التقليدية إلى الماضي.
والحال أن مصدر الاشتراكية الإيديولوجي شأن العرقية، لينبجس كلما أكَّد
الناطقون بلسانهما أنهم اكتشفوا القوى المخبوءة، التي سوف تكون لهم سماوية،
في التسلسل القدري الذي به يعتقدون. ذلك أن في الجماهير ميلاً شديداً إلى
"الأنظمة الإطلاقية التي تتمثل فيها كل أحداث التاريخ باعتبارها مرتهنة
بالقضايا الكبرى الأولى المعقودة بسلسلة القدر، والتي من شأنها أن تلغي
الإنسان من تاريخ الجنس البشري "(بحسب تعابير توكفيل).
ولكن، مما لا شك فيه، أن القادة النازيين لبثوا يعتقدون بالعقائد التي
استتبعت، والتي لم يكتفوا باستخدامها في سبيل حملاتهم الدعائية: "كلما
ازددنا معرفة في قوانين الطبيعة والحياة وتتبَّعناها ... ازددنا امتثالاً
لإرادة الكلي ـ القدرة. وكلما رقينا في معرفة إرادة الكلي ـ القدرة، تعاظمت
نجاحاتنا". إنه لمن الجلي أن هاتين الجملتين تعبران، وإن بشيء من التغيير
الطفيف، عن الإيمان الستاليني القائل: "كلما ازددنا في إدراكنا قوانين
التاريخ وصراع الطبقات وفي تقصيها، تضاعف الانسجام بيننا وبين المادية
الديالكتيكية. وكلما ازددنا معرفة في المادية الديالكتيكية، تعاظم نجاحنا".
على أي حال إن خير مثالٍ على ذلك هو المفهوم الستاليني القائل "بالإدارة
الصحيحة".
لقد رفعت الحملة الدعائية التوتاليتارية العلموية الإيديولوجية وتقنيتها
النبوية إلى مصاف من الفعالية في المنهج لم تعهد من قبل، وإلى التباسٍ في
المضمون. ذلك أنه، في عرف الديماغوجية، ليس من وسيلة أفضل لتجنب النقاش، من
ربط حجَّة داعية إلى مراقبة الحاضر، والقول إن المستقبل وحده كفيل بإثبات
حسناتها. مع ذلك، فإن الإيديولوجيات التوتاليتارية لم تبتدع هذا النهج، ولا
كانت آخر من استخدمه والواقع أن العلموية التي تتسم بها الحملة الدعائية
الجماهيرية باتت في حكم التداول العالمي في السياسة المعاصرة: إذ جعلوا
يؤولونها باعتبارها علامة أعم على استحواذ العلم الذي تخلق به العالم
الغربي منذ انطلاقة الرياضيات وعلم الفيزياء في القرن السادس عشر. هكذا، لا
تعود التوتاليتارية تتبدى سوى المرحلة الأخيرة من مسارٍ بات فيه "العلم
صنماً معبوداً قادراً على شفاء كل آلام الوجود شفاءً سحرياً وعلى تحويل
طبيعة الإنسان. الحق إنه كان ثمة علاقة مبكرة جداً، بين العلمية وانطلاقة
الجماهير. والحال أن "جماعة" الجماهير سرعان ما باركها أولئك الذين تمنوا
ظهور "القوانين الطبيعية في التطور التاريخي"، القمينة بإلغاء الطابع
الطارئ الذي تتسم به السلوكات الفردية. وفي هذا السبيل ذكرنا مثل
"أنفونفين" الذي، استشف "مجيء الساعة حين يصير "فن إثارة الجماهير" إلى
أرقى مكانه، بحيث يصير الفنان، والشاعر، والموسيقي قادرين على الإمتاع
والتأثير بنفس الثقة التي تلازم سعي الرياضي إلى حل مسألة الهندسة، أو عمل
الكيميائي إذ يحلل مادة ما. وعلى هذا فقد خلص هؤلاء إلى أن الحملة الدعائية
المعاصرة، ولدت في هذه اللحظة.
ولكن أية كانت نقائص الوضعية، والجدالية والسلوكية، وأياً كان تأثيرها في
تكوين "المعنى العام" في القرن التاسع عشر، فإنَّ ما اتسمت به الجماهير
المفتونة بالحملة الدعائية التوتاليتارية والعلموية، لم يكن بتاتاً
"التنامي السرطاني للقطاع النفعي من الوجود ". فالقناعة الوضعية، على حد ما
أدركناها لدى "كونت" القائلة بأن المستقبل يمكن أن يتوقع حدوثه بطريقة
علمية، إنما كانت قائمة على حكم المصلحة باعتبارها قوة ماثلة أبداً في
التاريخ، وعلى مسلمة أنه يسعنا اكتشاف قوانين السلطة الموضوعية. إذاَ، في
قلب النفعانية المعاصرة، أكانت وضعية أو اشتراكية، تقع نظرية "روهان"
السياسية، والتي بموجبها "يأمر الملوك الشعوب، وتأمر المصلحة الملك"، فتكون
المصلحة الموضوعية القاعدة "المعصومة وحدها"، و"تكون المصلحة بموجبها تحيي
الحكومات أو تميتها بحسب إساءة فهم ذلك أو حسنه". ولكن أياً من هذه
النظريات ما كانت لتطرح إمكانية "تحويل طبيعة الإنسان نفسها"، على ما ذهبت
التوتاليتارية في رؤيتها ومراميها. بل العكس، إذ تفترض هذه النظريات كلها،
ضمناً أو تصريحاً، في أن الطبيعة البشرية هي نفسها على الدوام، وأن التاريخ
إن هو إلا مسرد للظروف الموضوعية التي تتبدَّل ومجال لردود الفعل
الإنسانية حيالها، وأن المصلحة المُدركة جيداً يسعها أن تؤدي إلى تبديل
الظروف، وليس في ردود الفعل الإنسانية، في حد ذاتها. أما في مجال السياسة،
فقد لبثت العلموية تفترض أنها تضع رفاه البشرية هدفاً لها، في حين أن ذلك
بعيد كل البعد عن التوتاليتارية.
ولما كانت "نواة النفعية" تتلازم مع الإيديولوجيات الموصوفة، فإنَّ المسلك
المضاد للنفعية الذي اتبعته الأنظمة التوتاليتارية، ولا مبالاتها التامة
بمصلحة الجماهير، هذا المسلك مما أثار الدهشة والاستغراب، ومن شأنه أن يدخل
إلى السياسة المعاصرة عاملاً "مجهولاً". مع ذلك، فقد سبق أن أشارت الحملة
الدعائية التوتاليتارية، باكراً، وإن بصورة مبطنة، إلى مدى انصراف الجماهير
عن مصلحتها المحضة. وهكذا، سوغ هتلر لنفسه، في بدء الحرب، أن يأمر بالقضاء
على المجانين، فما عزاه الحلفاء إلى الرغبة في التخلص من الأفواه غير
المفيدة، وكانوا في ذلك مخطئين تماماً. إذ لم تكن الحرب ما حمل هتلر على
انتهاك كل الاعتبارات الأخلاقية، إنما جعل هتلر يعتبر أن المجازر الجماعية
التي توفرها الحرب هي فرصة لا تعوض من أجل الشروع في برنامج من الاغتيالات،
التي كانت، شأن كل النقاط في برنامجه، محسوبةً بآلاف السنوات. ذلك أن
التاريخ الأوربي كله، وعلى امتداد عصور عديدة، كان قد لقن الناس أن تحكم
على كل عمل سياسي من خلال المصلحة الكامنة فيه، وأن تحكم على كل الأحداث
السياسية من خلال المصالح التي تضمنتها: وفجأة يجد هؤلاء أنفسهم في قبضة
ظاهرة مجهولة وغير مسبوقة. ولطالما كانت الحملة الدعائية التوتاليتارية،
قبل توليها السلطة بكثير، تشيع كم كانت الجماهير مسوقةً بالقليل من غريزة
البقاء العتيدة، إذ لم تؤخذ مأخذ الجدِّية، بسبب طابعها الغوغائي. غير أن
الفضل في سيرورة هذه الحملة الدعائية، إنما يُعزى في أكثره إلى الوعي بأن
المصلحة، من حيث كونها قوة جماعية، لا يستشعر بها إلا إذا كانت هيئات
اجتماعية مستقرة توفر السيور الضرورية للمبادلة ما بين الفرد والجماعة، وفي
أقله إلى الديماغوجية؛ إن حملة دعائية قائمة على محض المصلحة لن يسعها أن
تكون فعالة لدى الجماهير التي يبدو أن رأس ما يميزها هو عدم انتمائها إلى
أي جسم اجتماعي أو سياسي، فإذا بها خضمِ حق حيث تتخالط المصالح الفردية في
حين أن عصبوية المناضلين التوتاليتاريين، البينة الاختلاف عن الولاء
المتطرف الذي طالما ميز المنتسبين إلى الأحزاب العادية، ناشئة من نقصان
المصلحة الشخصية لدى الجماهير المستعدة للتضحية في ذاتها. فقد أثبت
النازيون أنه يمكن أن يساق شعب بأسره إلى الحرب بشعار "وإلا وقعت كارثة"
(شعار كانت الحملة الدعائية الحربية تسعى إلى تجنبه بعناية بالغة)، وهذا في
حقبة لا بؤس ماثلاً فيها، ولا بطالة، ولا طموحات وطنية مكبوتة. ولقد تجلت
نفس الروح أثناء الحرب الأخيرة، بعض الشيء، واعدةً إياه بأن الفوهرر " في
حكمته، كان قد هيأ ميتة أيسر للشعب الألماني، تقضي بتسميمه بالغاز في حال
الهزيمة".
تفيد الحركات التوتاليتارية من الاشتراكية والعنصرية، إذ تفرغهما من
محتواهما النفعي، مصالح طبقة معينة أو أمة. على أن شكل التنبؤ المعصوم، حيث
تمثلت هذه المفاهيم، كان بات من أهم محتواها. إن أول صفة في قائد الجماهير
هي أن يكون معصوماً بصورة دائمة، وهو لا يقبل الخطأ على الدوام. إلى ذلك
فإن الاعتداد بالعصمة، لديه، يكون مبنياً على تأويله الصحيح للقوى الواثقة
من التاريخ أو الطبيعة، قوى يستحيل على الهزيمة وعلى الدمار أن يدحضاها،
طالما أنه ينبغي أن تتأكد على المدى الطويل، أكثر من كونه مبنياً على ذكائه
الخارق. وحالما يصير قادة الجماهير في السلطة لا يعود لهم سوى هم واحد،
يتجاوز كل الاعتبارات النفعية ما عداه: أن يحققوا تنبؤاتهم. في نهاية
الحرب، لم يتوان النازيون عن تركيز كل قوى تنظيمهم التي كانت لا تزال سليمة
في سبيل إحداث تدمير في ألمانيا على أكمل ما يكون ممكناً، وذلك من أجل أن
تتحقق النبوءة القائلة بدمار ألمانيا في حال خسارتها.
إن النجاح الإعلاني الذي لقيته العصمة، وأعني بها ذلك الموقف الذي ينسب فيه
إلى المؤول قوى رائية، شجع الديكتاتوريين التوتاليتارين على اتخاذ عادة
الإعلان عن مراميهم السياسية في شكل نبوي. وأشهر مثال على ذلك تصريح هتلر
في المجلس الإمبراطوري (Reichstag)، في شباط من العام 1939: "اليوم، أيضاً،
أذكر لكم نبوءة: إذا نجح رجال المال اليهود. مرة أخرى في دفع الشعوب إلى
حرب عالمية، ستكون النتيجة إبادة العرق اليهودي في أوروبا". وإذا سعينا إلى
ترجمة هذا القول إلى عبارات غير توتاليتارية، بات يعني: أنوي أن أقوم
بالحرب وأقتل اليهود الأوربيين. وذلك هو شأن ستالين الذي قال في خطابه
الهام أمام لجنة الحزب الشيوعي المركزية، عام 1930 ما مؤداه أنه إذ يهيئ
تصفية المنحرفين اليساريين واليمينيين تصفية جسدية، جعل يصفهم بأنهم يمثلون
"الطبقات المحتضرة" في المجتمع. على أن هذا التحديد لم يهب الحجَّة الآنفة
حدَّتها الخاصة فحسب، بل كان من شأنه أن أعلن أيضاً، وبأسلوب توتاليتاري
بيِّن، عن العزم في تدمير أولئك الذين تنبئ "بانطفائهم"، تدميراً جسدياً.
وفي الحالين يتحقق الهدف نفسه، فالتصفية الجسدية تندرج ضمن مسار تاريخي حيث
لا ينجز الإنسان ولا يعاني إلا ما كان ينبغي له أن يتم، على أي حالٍ وفق
القوانين الثابتة. وحالما ينفذ الإعدام بحق الضحايا، تصير النبوءة إثباتاً
للغيب استعادياً: إذ ليس من شيء حادثٍ إلا وتمَّ التنبؤ بحدوثه.
وسيَّان أكانت "قوانين التاريخ" التي "تدق أجراس الحزن" على الطبقات
وممثليها، أم كانت "قوانين الطبيعة" هي التي "تبيد" كل هذه العناصر ـ
الديمقراطيات، اليهود، الرجال الدنيا، (Untermenschen) من أعمال أوروبا
الشرقية، أو ممن يعصى شفاؤهم ـ الذين ليسوا، في أي حال، متكيفين مع
الحياة". وكان هتلر تحدَّث، وبمصادفة غريبة، عن "الطبقات المحتضرة" التي
ينبغي أن "تُباد دون أن تحدث متاعب".
إن منهج الحملة الدعائية التوتاليتارية الذي يجري بمقتضاه التنبؤ بمصير
الأعداء وإبادتهم، شأن كلٍ مناهج الحملات الدعائية التوتاليتارية، لا يعمل
تماماً إلا حينما تستلم الحركات السلطة. ويصير من العبث مناقشة تنبؤات
الديكتاتور، بمقدار ما يتبدَّى النقاش مع قاتل حول ما إذا كانت ضحيته
الجديدة قد ماتت أو لا لأن القاتل، إذ يقتل ضحيته، يسعه أن يوفر إثباتاً
سريعا حول صدقية أقواله. أما الحجة الوحيدة التي يعول عليها في مثل هذه
الظروف فتقضي في الإسراع فوراً إلى نجدة الشخص الذي يهدد التنبؤ بمقتله.
وقبل أن يستلم قيادة الجماهير السلطة من أجل أن يلووا عنق الحقيقة لصالح
مزاعمهم، تتبدَّى حملتهم الدعائية منطبعة باحتقار جذري حيال الوقائع في حد
ذاتها: ذلك أن الواقائع، بنظرهم، رهن كلياً بسلطة من يسعه صنعها. فأن يؤكد
المرء أن المترو القائم في موسكو، هو الوحيد في العالم، لا يغدو كذباً إلا
حالما يعجز البولشفيك عن تدمير كل المترويات عداه. وبعبارات أخرى، فإن
تقنية التنبؤ المعصوم عن الخطأ، لتكشف، وبصورة أفعل من كل تقنيات الحملات
الدعائية التوتاليتارية الأخرى، عن هدفها الأخير في افتتاح العالم، طالما
أن القائد التوتاليتاري لا يسعه أن يُحقق كل تنبؤاته المزعومة إلا في عالم
يصير في متناول رقابته كلياً.
إن كلام العلموية النبوية ليستجيب حقاً لحاجات الجماهير التي كانت قد فقدت
نقطة تعلقها في هذا العالم، وباتت مستعدة في أن تنخرط في صفوف القوى
الأبدية والقاهرة، والتي يعود لها الفضل، وحدها، في أن تحمل الإنسان، هذا
السابح في خضم العداء وأمواجه، إلى شطآن الأمان. "إننا نصنع حياة شعوبنا
وإدارتنا على أتم ما ينسجم مع أحكام علم الوراثة"، لبث النازيون يقولون،
مثلهم أيضاً البولشفيون الذين ما برحوا يؤكدون لأنصارهم أن للقوى
الاقتصادية قيمة حكم من أحكام التاريخ. لذا، فإنهم يعدون الناس بانتصار
يكون مستقلاً عن الهزائم والانتكاسات "المؤقتة" في بعض المشاريع المخصوصة.
والواقع أن الجماهير، بعكس الطبقات، تلح في طلب النصر والتقدم في حد
ذاتهما، وفي شكلها الأكثر تجريداً، ذلك أن الجماهير الآنفة ليست مرتبطة
فيما بينها برابط المصالح الخاصة والجماعية التي يشعرون إزاءها بكونها
ضرورية لوجودها واستمرارها على اعتبارها فريقاً واحداً، والتي يسعها
التأكيد عليها حتى وإن عاكستها كل الظروف وانعدمت كل الحظوظ حيالها. فما
كان يهمها (الجماهير)، ليست القضية التي قد تنصر فيها، أو المشروع الخاص
الذي يقلى نجحاً أكيداً، إنما النصر في أية قضية، والتقدم في أي مشروع أو
مبادرة.
ولئن كانت الحملة الدعائية التوتاليتارية تجلِّي في تقنيات الحملة الدعائية
المخصوصة بالجماهير، إنها لا تبتدعها ولا تشرع وحدها في افتتاح موضوعاتها.
إذ أن التقنيات والموضوعات المذكورة كانت قد أعدت في السنوات الخمسين
السابقة التي شهدت انطلاق الإمبريالية وانفكاك الدولة الوطنية، حالما دخل
الرعاع إلى معترك السياسة الأوربية وشأن محركي الجمهرات في ما مضى، كان
الناطقون بلسان الحركات التوتاليتارية يملكون شكاً لا يخطئ إزاء كل
المواضيع التي لبثت تهملها الحملة الدعائية المعتادة لدى الأحزاب أو الرأي
العام، أو تخشى الخوض فيها. وكل ما يكون مخبوءاً يصير ذا دلالة عالية، دون
أي اعتبار لأهميته الجوهرية. إذ لا يخفى أن الرعاع يذهبون في ظنهم إلى أن
الحقيقة هي كل ما كان المجتمع الراقي قد أسدل عليه ستاراتً من الصمت، أو
ألقى عليه غطاءً من فساده.
وإذا ما دعي إلى اختيار موضوع، يكون المقياس الأول في انتقائه مقدار السر
الذي فيه، بل السر في ذاته. ولا يعود لمصدر السر الآنف أية أهمية: ربما كان
رغبة معلَّلة وقابلة للإدراك سياسياً في الاحتفاظ بالسر، كما هي الحال في
المخابرات البريطانية، أو المكتب الثاني الفرنسي، أو متطلبات التآمر
بالنسبة للفرق الثورية، كما هي الحال في الشيع الإرهابية، الفوضوية وغيرها،
أو بنية الجمعيات التي كان محتواها، السري في الأصل، صار إلى العلن منذ
فترة طويلة، والتي ما زالت طقوسيتها وحدها تحفظ لها قدراً من السرية (شأن
الفرق الماسونية)، أو تكون خرافات قديمة كانت قد حاكت أساطير حول بعض الفرق
(شأن اليسوعيين، واليهود). ولأن كان النازيون أقدر موهبة في اختيار
موضوعات مماثلة، فإن البولشفيين أمكنهم أن يضبطوا هذا الفن بصورة تدريجية.
غير أن هؤلاء قلما اعتمدوا على الأسرار المقبولة تقليدياً، بل جعلوا يؤثرون
ابتداءاتهم المحضة ـ ومنذ العام 1935، راحت تتوالى المؤامرات العالمية
الشديدة الغموض والسرية، الواحدة تلو الأخرى، في الحملة الدعائية
البولشفية: إذ جرت، بادئ الأمر، مؤامرة التروتسكيين، ثم مؤامرة العائلات
المئتين (200)، وأخيراً حدثت الدسائس الإمبريالية (أي الكونية) الشنيعة
التي جعلت تقترفها الاستخبارات السرية البريطانية أو الأميركية.
إن الفعالية التي يمتاز بها هذا النوع من الحملات الدعائية من شأنها أن
تسلط الضوء على أحدى خصائص الجماهير المعاصرة الرئيسية. إذ لا تعتقد
(الجماهير) بشيء مما هو مرئي، ولا بواقع اختبارها نفسه، وهي لا تثق بسماعها
ولا بعيونها، إنما بمحض مخيلتها، التي تطلق العنان لافتتانها بكل ما هو
كوني ومتماسك في نفسه. والواقع أن الجماهير لا تقنعها الوقائع، حتى وإن
اختلفت، بل تماسك النظام الذي تشكل جزءاً لا يتجزأ منه في الظاهر. وإذا ما
أجمع النقاد والناس على أهمية الترداد، في الحملات الدعائية الموجهة إلى
الجماهير، فلأنهم يعتبرون الأخيرة غير قادرة على الفهم ولا على التذكر،
والحق، أن الترداد لا يكتسب أهميته إلا لكونه يقنع الجماهير بتماسك ظاهرةٍ
ما في الزمن.
وما تأبى الجماهير الإقرار به، هو الطابع الطارئ الذي فيه يطفو الواقع.
وإذا وجد المرء الجماهير مهيأة سلفاً لتقبل كل الإيديولوجيات، فلأن هذه
الأخيرة تشرح الوقائع باعتبارها أمثلة خالصة عن قوانين، وتستبعد المصادفات
بأن تبتدع سلطة عليا وكونية تصدر عنها كل الحوادث والمجريات. وعلى هذا فإن
الحملة الدعائية التوتاليتارية تزهر في هذا الهروب عن الواقع شطر الوهم،
ومن المصادفة نحو التماسك.
غير أن الوهن الرئيسي في الحملة الدعائية التوتاليتارية يكمن في أنها لا
يسعها إرضاء رغبة الجماهير في أن ترى عالماً متماسكاً بكليته، وممكن الفهم
ومتوقعاً، دون أن تدخل في صراع خطرٍ مع الحس المشترك. فإذا ما صيغت، مثلاً
كل "اعترافات" المعارضين السياسيين في الاتحاد السوفياتي، بنفس العبارات
وفيها يقر هؤلاء بنفس الدوافع، قبلت الجماهير المتعطشة إلى التماسك بهذا
التوهم على أنه إثبات فائق على صدق طواياهم، في حين أن العقل السليم ينبئنا
بأن هذا التماسك هو ما لا يمت إلى العلم بصلة، ويبين لنا أن هذه
الاعترافات مختلفة. وإذا شاءت الحملة الدعائية التوتاليتارية أن تبرز صورةً
أظهرتها وكأن الجماهير ذاتها تلبث تطالب بتكرار حدوث أعجوبة الترجمة
السبعينية تكراراً ثابتاً، حين عمد سبعون مترجما، معزولين عن الناس، إلى
اجتراح ترجمة الكتاب المقدس عن اليونانية ترجمة منسوخة طبق الأصل. ولئن كان
الحس المشترك لا يسعه قبول هذا السرد إلا باعتباره أسطورة أو أعجوبة، فإنه
يمكنه، إلى ذلك، أن يسوقه حجة على أمانة كل كلمة من الترجمة الآنفة أمانة
مطلقة.
وبعبارات أخرى، لئن كان صحيحاً أن الجماهير هاجسه دوماً بالرغبة في تجنب
الواقع، لأنها بسبب شعورها بالاستئصال الجوهري، لا يسعها أن تتحمل الظواهر
العارضة وغير المدركة، فإنه يصح أيضاً أن لعطشها إلى الوهم صلة معينة مع
خصائص النفس البشرية التي تسارع بنيتها المتسقة إلى الإحاطة بكل مصادفة
محضة. إن فرار الجماهير من أمام الواقع يشكل إدانة للعالم حيث تجبر على
العيش دون أن تقدر على الاستمرار، طالما أن المصادفة باتت هي قانونه
الأسمى، وطالما أن الكائنات البشرية تحتاج إلى تحويل الظروف الفوضوية
والعارضة، بصورة ثابتة، إلى ترسيمة من التناسق النسبي. وعلى هذا فقد كانت
انتفاضة الجماهير ضد "واقعية" الحس المشترك، ضدَّ كل "معقوليات العالم"
(بورك Burke) نتيجة تنثّرها، وفقدانها موقعها الاجتماعي. وكانت (الجماهير)
فقدت، في الآن نفسه، كل مجال العلاقات الجماعية هذا الذي يهب الحس المشترك
معناه. ولن يعود، بالتالي، ثمة مكان، في ظل انسلاخا الروحي والاجتماعي هذا،
لرؤية متأرجحة تقوم على الترابط ما بين الاعتباطي والمتوقع، وبين العارض
والضروري. لذلك لا يسع الحملة الدعائية التوتاليتارية أن تشتم، بصورة
مهينة، الحس المشترك إلا حين يعدم هذا قيمته. ذلك أن مبادرة الحملة
الدعائية التوتاليتارية الآنفة تقضي بمواجهة التنامي الفوضوي والتصدي
لاعتباطيِّ الانحطاط التام، أو الخضوع لإيديولوجية ذات تماسك بالغ القساوة
ومتوهمٍ بغرابة لا تقاس: على الأرجح تختار الجماهير التوجه الثاني مستعدة
لأن تدفع ثمنه غالياً من تضحيات الأفراد فيها ـ ليس لأن الجماهير غبية أو
منحرفة، بل لأن هذا الانفلات يوفّر لها حداً أدنى من الاحترام لذاتها، وسط
الكارثة العميقة.
وإذا كانت الحملة الدعائية النازية قد أجازت في استغلال عطش الجماهير إلى
تماسكها، فإن المناهج البولشفية جهدت في تبيان كيف أن للتماسك هذا أثراً من
القوة في الرجل المنتمي إلى الجمهور المنعزل، تبياناً مخبرياً. ولما كانت
السياسة السوفياتية السرية، في حيرة من أمرها لأجل إقناع ضحياها بذنبهم عن
جرائم لا يكونوا قد ارتكبوها، وكانوا عاجزين غالباً عن اقترافها، راحت تعزل
كل العوامل الواقعية وتستبعدها كلياً من اعترفات هؤلاء، بحيث يصير منطلق
السرد، الذي يتضمن الاعترافات، المختلفة، وانسجامه، دامغين مفحمين. في
موقفٍ مماثل، يبين الخط الفاصل ما بين الوهم والواقع مشوشاً من فظاعة
الاتهام وتماسكه الداخلي: وهذا ما يتطلب ليس قوة في الشخصية تؤهل المرء
الصمود في وجه تهديدات ثابتة فحسب، بل ثقة عالية في وجود كائنات بشرية أخر
(أقارب، أصدقاء، جيران) لا توقن البتة في "السرد"، حتى يتسنى للمرء هذا
الصمود إزاء تجربة الاستسلام لإمكانية الذنب الذي تكون غاية في تجريديتها.
إن حالة قصوى من الجنون المختلق هذه لا يمكن أن تمثل إلا في عالم
توتاليتاري. والحال أنه يقوم جزءاً لا يتجزأ من الجهاز الدعائي في الأنظمة
التوتاليتارية التي لا قبل لها أن تستغني عن الاعترافات في سبيل العقاب.
وفي حين كانت "الاعترافات" من اختصاص الحملة الدعائية البولشفية، تبدَّت
الحملة الدعائية النازية بمثابة الحذلقة المثيرة للغرابة، والتي تقضي في
تشريع الجرائم عبر إدارة استعادية وارتجاعية. وفي الحالين، تلبث الغاية
واحدةً، أن يكون المجتمع متماسكاً.
لطالما أوحت الحركات التوتاليتارية، قبل أن تستلم زمام السلطة، لإقامة عالم
منسجم مع عقائدها، بوجود عالم متوهم ومتسق العناصر، عالم يرضي حاجات النفس
البشرية أفضل من الواقع نفسه، ذلك أن الجماهير المقتلعة، إذ تدخل إلى هذا
العالم بمحض المخيلة، تستشعر فيه الأمان المنزلي، وتجد نفسها في منجى من
الضربات المتواصلة التي تكيلها الحياة الواقعية والاختبارات الحقيقية
للكائنات البشرة ولآمالها.
على هذا فإن قوة الحملة الدعائية التوتاليتارية تكمن في قدرتها المتعاظمة
على قطع الصلة ما بين الجماهير والعالم الواقعي ـ وذلك قبل أن تملك الحركات
السلطة على أسدال ستار من حديد بغية الحيلولة دون أن يعكر أحد، بنتفة من
واقعيته، هدأة عالمٍ مرعب متخيل تماماً. أما العلامات الوحيدة التي قد
يهبها العالم الحقيقي أسماع الجماهير وهي قيد تفككها ـ والتي تجعلها كل
ضربة قدرٍ جديدة أكثر سذاجة ـ إنما هي نسيانات هذا العالم: المسائل التي
يكره مناقشتها في العلن، أو الشائعات التي لا تجرؤ على مناقضتها لكونها تمس
نقطة حساسةً، وإن بطريقةٍ مبالغ فيها ومشوهة.
إذاً توفر هذه النقاط الحساسة لمزاعم الحملة الدعائية التوتاليتارية عنصر
الصدقية والاختبار الواقعي اللذين تحتاج إليهما في سبيل أن تردم الهوة التي
تفصل الواقع عن الوهم.
وحده الإرهاب يسعه أن يعتمد على التوهم الخالص، على أن الإيهامات المزعومة
التي كانت تبثها الأنظمة التوتاليتارية، مدعومةً بالإرهاب، لم تكن لتبلغ
كمال اعتباطها، رغم كونها أكثر فظاظة وفجوراً، وأكثر فرادةً، بهذا المعنى،
من إيهامات الحركات التوتاليتارية نفسها. (ينبغي للمرء أن يكون ذا قدرة، لا
أن يكون ماهراً، حتى يسعه أن يروج صيغة جديدة للثورة الروسية، لم يكن فيها
أي فرد يحمل اسم تروتسكي وما كان قائدا للجيش الأحمر). ومن جهة أخرى، فإن
مزاعم الحركات التوتاليتارية هي أكثر دقةً وبراعة، إذ تتمسك بكل مظاهر
الحياة الاجتماعية والسياسية التي تكون محجوبة عن عيون العامة. وتفلح في
ذلك، على خير ما يرام، حين تكون السلطات محاطة بأجواء من السرية.
وتكتسب الأخيرة، في عيون الجماهير، حيث كونها "واقعية" على أرقى درجة،
لاعتبارها تعالج شؤوناً حقيقية يكون وجودها محتجباً عن الناس. والحال أن
أخبار الفضائح التي تروح تتفشى حول حياة المجتمع الراقي، وفساد رجال
السياسة، وكل ما ينمى إلى الصحافة ذات الإثارة، كل ذلك يصير في أيديهم
سلاحاً تتجاوز أهميته طابع الإثارة المحض.
أما التوهم الأكثر فعالية في الحملة الدعائية النازية فكان ابتداعها وجود
مؤامرة يهودية عالمية. والواقع أن الإصرار على الحملة الدعائية المعادية
للسامية كان نهجاً سائداً لدى الديماغوجيين منذ نهاية القرن التاسع عشر،
وتواتراً في ألمانيا والنمسا منذ عشرينيات القرن الجاري. وكلما راح مجموع
الأحزاب وأعضاء الرأي العام يتجن مناقشة المسألة اليهودية، صار الرعاع على
قناعة بأن اليهود كانوا يمثلون القوى القائمة تمثيلاً حقيقياً، وأن المسألة
اليهودية رمز خبث النظام في مجموعة وانعدام شرفه.
لم يكن محتوى الحملة الدعائية المعدية للسامية احتكاراً نازياً، ولا أمراً
جديداً وأصيلاً بصورة خاصة. إذ كانت المزاعم بوجود مؤامرة يهودية عالمية
متداولة منذ قضية درايفوس، وكانت تستند إلى العلاقات الدولية المتبادلة
الموجودة وسط شعب متوزع في أرجاء العالم كلها. ثم إن المظان المبالغ فيها
حول سلطة اليود العالمية كانت أقدم من ذلك بكثير، حتى ليمكن أن نرجعها إلى
نهاية القرن الثامن عشر حين باتت مرئية الصلة الوثيقة التي قامت بين رجال
المال اليهود والدول الوطنية. أما تمثيل اليهودي باعتباره تجسيداً للشر
فيعزى بعامة إلى بقايا أعمال عدائية وذكريات خرافية تعود إلى القرون
الوسطى، والواقع أن لهذا التمثيل صلة وثيقة مع الدور الأحدث والغامض الذي
راح يؤديه اليهود في المجتمع الأوروبي، منذ تحررهم. وإنه لمن الأكيد أن
اليهود، باتوا منظورين أكثر من أي مضى وبوتيرة متعاظمة، في الحقبة التي تلت
الحرب العالمية الأولى.
وبالمقابل، فقد اعتبر اليهود أن النقطة الهامة في كل ذلك الضجيج الذي أثير
حولهم، هي أنهم باتوا "منظورين" من وجهة معاكسة تماماً لموقعهم الحقيقي
ولدرجة قدرتهم، وعلى هذا فإن كل تقليص في الاستقرار وفي قوة الدول الوطنية
كان من شأنه أن يمس مباشرةً بالمواقع اليهودية. ولما كانت غلبة الأمة على
الدولة موفورة النجاح، حال ذلك دون أن تحافظ الآلة الحكومية على موقعها فوق
الطبقات والأحزاب، وبهذا صارت التحالفات مع الشريحة اليهودية من السكان
عديمة الجدوى، بحكم أن الجماعة الأخيرة ألفت نفسها خارج صفوف المجتمع وظهرت
بمظهر غير المبالي بسياسة الأحزاب. بيد أن تعاظم اهتمام البورجوازية
الإمبريالية بالسياسة الخارجية وتأثيرها المطَّرد على آلية الدولة، تلازم
مع رفض عنيد من قبل الغالبية العظمى من طبقة الأثرياء اليهود التخلي عن
تقليد التجارة المصرفية لصالح الالتزام في مشاريع هندسية، وكان من شأن
مجموع هذه العوامل أن وضع نوعاً من حد لمنفعة اليهود، من حيث كونهم فريقاً،
إزاء الدولة، كما حال دون الامتيازات التي لبث يجنيها هؤلاء من التمايز
الاجتماعي الذي كان سائدا فيما مضى. والواقع أن الجماعات اليهودية القاطنة
في أوروبا، عمدت بعد الحرب العالمية الأولى، إلى التمثل بالشعوب الوطنية،
أبداً كما فعل اليهود الفرنسيون في بدء الجمهورية الثالثة.
ومما لا شك فيه أن الدول المعنية كانت واعيةً التبدل في المواقف: وقد عاينا
ذلك في العام1917، حين سعى الحكم الألماني، وفق تقليد بالغ القدم إلى
استخدام يهود ألمانيا في سبيل التمهيد لمفاوضات سلام مع الحلفاء. وبدل أن
يخاطب الحكم الألماني القادة اليهود الذين تعترف بهم جماعتهم اليهودية
ممثلين لها، التفت شطر الأقلية الصهيونية الصغيرة وذات التأثير الضئيل في
وسط اليهود. ذلك أن الحكام الألمان كانوا يمحضون هذه الأخيرة ثقتهم، لكونها
لا تزال تعتقد بوجود شعب يهودي متفرد بذاته ومستقل عن أية مواطنية، مما
يجعل الأقلية المذكورة جديرة بأن تؤدي خدمات ذات صلةٍ بالعلاقات الدولية،
ومن وجهة نظر دولية. وقد اتضح، مع ذلك، أن هذه المبادرة، حيال اليهود، كانت
خطأ اقترفه الحكم الألماني: إذ جعل الصهاينة يقومون بعمل لم يسبقهم إليه
أي مصرفي يهودي على ألإطلاق، وهو أنهم وضعوا شروطهم الخاصة وقالوا للحكم
إنهم لن يتفاوضوا إلا في شأن سلام دون إلحاقاتٍ ولا تعويضات. وهكذا انقضى
عهد اللامبالاة اليهودية القديم في مسائل السياسة، وقد بات من المحال
استخدام الأغلبية اليهودية لأنها ما عادت معزولة عن الأمة، في حين كانت
الأقلية الصهيونية عديمة المصالح، لكونها ذات أفكار سياسية خاصة بها.
وكان لإحلال الأنظمة الجمهورية بديلةً من الأنظمة الملكية، في أوروبا
الوسطى، من مثل إقامة الجمهورية الثالثة في فرنسا لخمسين سنة خلت على هذا،
أثر على الجماعات اليهودية، إذ أكملت تفكيكها. والحق أن اليهود كانوا قد
فقدوا الكثير من تأثيرهم حين أقيمت الأنظمة الجديدة، في ظروف لم يكن لها
(الأنظمة) فيها أية قدرة ولا أية مصلحة في حماية اليهود. وفي أثناء مفاوضات
السلام في فرساي، أفيد خاصة، من اليهود، باعتبارهم خبراء، حتى أن المعادين
للسامية أنفسهم أقروا، آخر المطاف، بأن المضاربين اليهود الصغار لما بعد
الحرب، وكانوا في نظر الغالبية من الوافدين الجدد، لم يكن لديهم روابط مع
ممثلي ما سمي بالدولية اليهودية زعماً. (إذ كان هؤلاء الوافدون الجدد يخفون
وراء نشاطاتهم التدليسية، التي جعلت تميزهم بوضوح عن شركائهم في الدين
المماثلين لهم، مسلكاً يشبه إلى حد بعيد اللامبالاة القديمة المعهودة إزاء
القواعد المعمول بها في محيطهم).
إذاً، جعلت الحملة الدعائية النازية، وسط شرذمة من الفرق المعادية للسامية
المنافسة لها وفي مناخ مثقل بالعداء للسامية، تنمي منهجاً كان مختلفاً عن
كل المناهج ما عداها وأرقى منها. مع ذلك، لم يكن أي من الشعارات التي
أطلقها النازيون جديداً أو مبتكراً ـ ولا حتى تلك الصورة الماهرة التي راح
يبثها الهتلريون عن الصراع الطبقي الذي سببه جشع رجل الأعمال اليهودي، إذ
يستغل عماله، ويعمد أخوه، في الآن نفسه، إلى مخاطبتهم في حوش المصنع حاثاً
إياهم على الإضراب. أما العنصر الوحيد والجديد في دعاواهم، فكان أن الحزب
النازي مضى يتطلب من المنتسبين إلى صفوفه إثبات عدم نسبة يهودية، غير أنه
ظل غامضاً للغاية بالنسبة للإجراءات التي يمكن أن يتخذها حيال اليهود حالما
يصير في السلطة، وذلك رغم برنامج "فيدر" (Feder). والحال أن النازيين
وضعوا المسألة اليهودية في مركز حملتهم الدعائية، بحيث لم تعد المعاداة
للسامية شأناً يتبادل الناس حوله مختلف الآراء وإن مخالفة الأغلبية أو هماً
من هموم السياسة الوطنية، إنما باتت الاهتمام الحميم لدى كل فردٍ في وجوه
الشخصي. إذ لن يسع أحد أن يكون عضواً في الحزب إن لم تكن "شجرة نسبه"
منتظمة، وكلما بعدت شجرة نسب أحد المنتسبين، ارتفع مقامه في التراتبية
النازية. كذلك الأمر، فقد جعلتedv p,gilK id HKil fhj,h
“jjjjjjjjuui8ioooookkkkkkk البولشفية، وإن بتناسق أقل، تحوّل العقيدة
الماركسية إلى مجال لانتصار البروليتاريا انتصاراً حتمياً يجدر الانتساب
إليه، إذ صورت للمنتسبين إليها أنهم "بروليتاريو المولد" وأظهرت، بالمقابل،
كل الأصول الطبقية الأخرى مهينة وشائنة.
وكان من نباهة الحملة النازية أن حولت العداء للسامية إلى مبدأ ذي تعريف ـ
ذاتي ، منقذةً إياه من تقلبات الرأي المحض. إذ لم تلجأ إلى إقناع
الديماغوجية الجماهيرية إلا باعتبارها مرحلة تمهيدية ولم تبالغ البتة في
تقدير أثرها المستديم. وهذا ما وفر لجماهير الأفراد المنتثرين، والعصيين
على التحديد، وغير المستقرين والتافهين، وسيلة تعريف ـ ذاتي وتماهٍ، من
شأنها أن ترمم احترامهم لأنفسهم وإن بصورة جزئية، ذلك الاحترام الذي كان
يجزيه إياهم توظفهم في المجتمع فيما مضى، فتخلق لديهم نوعاً من الاستقرار
المفتعل الذي يصنع منهم خير مهيئين للتنظيم. وبفضل هذا النوع من الحملات
الدعائية أمكن الحركة النازية أن تقدم نفسها باعتبارها امتداداً مصطنعاً
لتجمع جماهيري، فتعقلن المشاعر، التافهة أساساً، وتهب الأفراد المعزولين في
مجتمع منتثر أهميتها والأمان الهستيري.
والحال أن نفس الانكباب الحذق على شعارات صاغها آخرون بعد أن اختبروها،
تبدى لدى النازيين إذ راحوا يعالجون مسائل أخرى. وفي حين كان انتباه
الجمهور موزعاً وبصورة متساوية ما بين القومية والاشتراكية، إذ كان الظن
سائداً في أن هاتين العقيدتين متعارضتان وتشكلان خط التلاقي ما بين اليمين
واليسار، انبرى "الحزب الوطني ـ الاشتراكي للعمال الألمان" (أي الحزب
النازي) متقدماً بتوليفة يجدر بها أن تفضي إلى الوحدة الوطنية، وهي كناية
عن حل دلائلي تزعم سمتاه الاثنتان "الألماني" و"العمال" توحيد قومية اليمين
وأممية اليسار تحت لواء واحد. بل إن اسم الحكم النازي نفسه بدا يحتاز
محتوى كل الأحزاب الأخرى السياسي، ويزعم ضمها إليه جميعاً بصورة ضمنية.
ولئن كانت بعض الأحزاب، فيما مضى، قد حاولت دمج العقائد السياسية التي يزعم
أنها متناقضة (الوطني ـ الاشتراكي) وأفلحت في سعيها، فإن النازيين حققوا
دمجهم الآنف بحيث بدت كل الصراعات البرلمانية بين اشتراكيين وقوميين، وبين
من يزعمون أنفسهم عمالاً قبل كل شيء وبين من كانوا ألمانيين بالأولى، بدت
وكأنها ستار يحجب وراءه خلفيات مخيفة ـ ثم أليس العضو في الحزب النازي كل
هذا في آن واحد؟
وتجدر الإشارة إلى أن النازيين، وحتى في بدايات تسلطهم، حاذروا طويلاً من
استخدام شعاراتٍ من مثل الديمقراطية، وجمهورية، وديكتاتورية، أو ملكية
لكونها تحدد نوعاً من النظام مخصوص التعيين.ـ وقد حدث كل هذا، وكأنما
أدركوا أنهم باتوا مبتكرين دوماً، في هذه النقطة وحدها، وبصورة تامة. وعلى
هذا أمكن أن تستبعد كل مناقشة حول شكل النظام النازي المقبل، باعتبارها
ثرثرة في شأن شكليات محضة ـ فالدولة، بحسب الحملة الدعائية البولشفية، إن
هي إلا أداة في صراع الطبقات.
مع ذلك، تعمد الحملة الدعائية النازية، وبصورة مواربة ومثيرة للغرابة، إلى
الإجابة عن التساؤل حو