أول ما يواجهنا في النزعة اللانقدية لأداة الإستقراءهو المنطق الأرسطي الذي لم يشكك أبداً بالقيمة الموضوعية التي تفرزها. فهو يعتقد ان هذه الأداة صالحة لبناء المعرفة طالما تخضع تحت تحكم بعض المبادئ القبلية التي تُضفي عليها صفة القياس المنطقي.
واذا كان هذا المنطق لا يجد في الإستقراء مشكلة ذاتية نابعة من طبيعته، فلا يعني ذلك انه ينفي عنه سائر المشاكل الأخرى؛ كتلك الموصوفة بجواز الوقوع في الخطأ العارض، وهي من المشاكل الواقعية. ولا شك ان لها حسابها في التوالد القياسي للإستقراء الأرسطي.
لكن من الناحية المبدئية يظل الإستقراء الأرسطي محكوماً باعطاء نتيجة كلية صحيحة من دون شك، طالما انها تخضع إلى حكم القضايا القبلية. فضلاً عن أن مبرره لإثبات القضايا الكلية، يعود إلى فهمه الخاص لعلاقات الطبيعة، إذ يراها تنطوي على الروابط الحتمية الخاصة بين ماهيات الاسباب والمسببات. وهو على الرغم من عدم إدعائه القدرة على إستنتاج هذه العلاقات قبلاً بواسطة العقل؛ لكنه يسلّم مبدئياً بمحكومية تلك العلاقات ضمن أطر الإعتبارات القبلية، الأمر الذي يضفي عليها النزعة العقلية؛ استناداً إلى مبادئ خاصة مثل المبدأ القائل بأن الإتفاق (الصدفة) لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً، ومبدأ الانسجام القائل بأن الحالات المتشابهة تؤدي إلى نتائج متماثلة. لذا كان اكتشاف هذه العلاقات عبر الملاحظة والتجارب لا يغيّر من الفهم الأرسطي حول رد القضايا الإستقرائية إلى الصور العقلية وما تتضمنه من إعتبارات الضرورة. ومن ثم فبهذا الإعتبار لا ينطوي الإستقراء على مشكلة منطقية تستحق الفحص والتأمل.
على ان نفس هذه النتيجة يمكن استخلاصها من دراسة الموقف العقلي الحديث من الإستقراء. فهو أيضاً يرى الطبيعة تتضمن الصور الحتمية من العلاقات، فلا يبقى للباحث من مهمة سوى تشخيصها واستخلاص كلياتها، أو العمل على تعميمها بسلام!
وقد بلغ الأمر ببعض الفلاسفة إلى ان يرد علاقات الطبيعة إلى شكل من الاشكال المنطقية. فالفيلسوف الحديث لايبنتز يرى ان من الممكن رد كل علوم الطبيعة إلى الرياضة، والمعرفة التجريبية إلى التفكير المنطقي المجرد؛ فيستنبط مثلاً من مفهوم (النار) انها حارة تُمدد الحديد وتغلي المياه، وكذلك من مفهوم (افلاطون) انه كان فيلسوفاً إغريقياً ترجع إليه نظرية المثل... الخ[1]. وهو فهم يحاكي المنطق الأرسطي في رؤيته الإستنباطية القائمة على ماهيات الأشياء.
يظل ان الفلاسفة العقليين إذا ما استثنينا منهم عمانوئيل كانت لا يتصورون وجود مشكلة تلوح المعرفة البشرية عامة والإستقرائية منها على وجه الخصوص. وحتى كانت فإنه يضع للمعرفة شروطاً قبلية تعمل على قبول ما يطلق عليه (الشيء لذاتنا)، جاعلاً (الشيء في ذاته) مما لا يمكن التعرف عليه بوجه ما من الوجوه. الأمر الذي يجعل القضايا الإستقرائية قضايا ظاهرية تتصحح بما لدينا من مقولات قبلية هي اشبه بالمبادئ العقلية الضرورية. فهو بهذا الإعتبار لا يولي لخصوص الإستقراء مشكلة خاصة.
وليس الغريب فيما ينطوي عليه الموقف العقلي من تبرير الدليل الإستقرائي برده إلى حكم القضايا القبلية، إنما الغريب فيما تلجأ إليه العديد من الإتجاهات التجريبية من تبرير ينساق بدوره إلى حكم المصادرة القبلية. فلو درسنا مواقف كل من بيكون ولوك ومل والماركسية؛ لوجدناها خير من يعبّر عن التلبس بمثل هذه المصادرة. فمبدأ الإستقراء بحسب هذه الإتجاهات لا ينطوي على مشكلة في نتائجه وتعميماته، إنما يكفي ما يلاحظ من خبرات سابقة كمبرر لتأسيس الأحكام التي صفتها التعميم عما سوف يحدث مستقبلاً.
فاذا أتينا إلى بيكون سنجد انه أول من اهتم بالإستقراء كأداة وحيدة لتحصيل المعارف، وكان يوصي بأن على رجل العلم ان يضع في رجليه نعلين من الرصاص، وذلك كتأكيد على الإلتصاق بالتجربة والإستقراء[2]. إلا ان الإستقراء الذي اشاد به كان يقتصر على المنهج التصنيفي، إذ فيه يعرض صفة معينة تُدرس من خلال قوائم لظواهر مختلفة، فهناك قائمة تختص بالظواهر التي تمتلك تلك الصفة، واخرى فيها ما يشابه الظواهر الأولى بوجوه محددة لكنها تخلو من الصفة، وقد تكون هناك قائمة ثالثة تظهر فيها الصفة بشكل متفاوت. وغرض بيكون في منهجه التصنيفي هو لأجل التعرف على الصور الحقيقية لصفات الأشياء، ثم تعميمها على مشابهاتها، وهو لم يعن به كمنهج لدراسة تعلّق الظواهر بعضها بالبعض الآخر[3]. كما ان هذا المنهج وإن كان مفيداً في وقته، إلا ان التطورات اللاحقة التي اعقبته تجاوزت ما كان عليه من بساطة، فأولت للرياضة والفروض العلمية دوراً هاماً في البحوث الإستقرائية[4]. أما من الناحية المنطقية فيلاحظ ان عصر بيكون لم يحن له الوقت بعدُ ليدرك ما يتخلل الدليل الإستقرائي من فجوة معرفية تحتاج إلى الملاحظة والنقد.
ويمكن أن يقال الشيء نفسه بالنسبة إلى مذهب جون لوك الذي ايّد بيكون بسلامة ما استخدمه من الاداة الإستقرائية. لكنه مع هذا واجه مشكلة من نوع آخر إعترضته بطريق الصدفة. فبإعتقاده ان معرفتنا لخواص الأشياء محدودة بحيث لا تبلغ درجة اليقين ولا التعميم، وسبب ذلك يرجع إلى ضعف طريقة الإختبار التي نمتلكها لفحص الوقائع الخارجية، فلو ان هذه الطريقة تغيرت لكان من الممكن تحقيق كامل الإستنتاجات الصحيحة للقضايا الإستقرائية. والطريقة التي تصورها لوك في كسب الإستنتاج الصحيح؛ تعتمد على معرفة الصفات الأولية للجزيئات التي تتكون منها الأشياء الخارجية، فلو ان حواس الإنسان كانت قوية ونافذة إلى تلك الصفات؛ لأمكن إستنتاج كل الخواص المرئية للأشياء، كإن نستنتج مثلاً ان كل قطعة من الذهب لها قابلية على الطرق [5] .
كذلك ان الماركسية هي الأخرى قد خلت من العنصر النقدي للإستقراء ولم تقدّر وجود مشكلة منطقية فيه، وموقفها من علاقات الطبيعة يشابه الموقف العقلي، حيث ترى ان هذه العلاقات يتجاذبها شكلان من الروابط، إحداهما روابط حتمية، والأخرى عرضية أو صدفوية، وكلاهما محكومتان بمبدأ السببية العامة. فكما تقول: ‹‹ان كافة الظواهر التي تجري في الطبيعة مشروطة سببياً، فليس هناك من عملية، من حادثة إلا ولها اسبابها. لكن ليس كل ما حدث، أو يحدث الان في الطبيعة أم المجتمع شيئاً ضرورياً. فالى جانب الضرورة هناك صدفة موضوعية واقعية هي شكل لتجلي الضرورة وتكميل لها... فبالنسبة إلى الإنسان يكون الموت مثلاً امراً طبيعياً، لكن السنة التي يموت فيها ـ ناهيك عن الساعة والدقيقة! ـ هي صدفة إلى حد ما، تتوقف على عدد من الاسباب والظروف غير المشروطة على نحو محدد تماماً بالضرورة المعنية. وليس من الصدفة مثلاً ان يضغط الغاز على جدار الوعاء في درجة معينة من الحرارة، ولكن العرضي هو ان الجزيئات التي تضرب على الجدار هي هذه الجزيئات وليست تلك. كذلك فإن من الأمور الحتمية ان يتحلل نصف نوعي عنصر مشع خلال نصف دور تحلله، لكن العرضي هو أية ذرات تحللت في هذه الفترة وايها لم تتحلل››[6].
فبهذا الفهم لعلاقات الطبيعة لا توجد هناك مشكلة منطقية للإستقراء، إذ مع لحاظ توفر ذات الشروط في علاقات الطبيعة لا بد أن تكون النتائج المستقبلية واحدة باضطراد. الأمر الذي يتأسس عليه التنبؤ بمجرى الوقائع والاحداث[7]. والميزة الخاصة لهذا الموقف هي انه يعود إلى إتجاه لا علاقة له بالمنطق العقلي، لكنه يتلبس بمصادراته القبلية. فيكفي ان نلاحظ الإشكالين التاليين:
1 ـ إن الإعتقاد بالسببية العامة لا دليل عليه وفق المباني التجريبية؛ بإعتبارها من المبادئ الكلية غير المشروطة، فهي تتجاوز إطار الرصد لعلاقات الطبيعة.
2 ـ إن الخضوع للمنطق التجريبي لا يبعث على كشف الضرورة في علاقات الطبيعة، وبالتالي سيفقد التعميم الإستقرائي مبرره لهذا الإعتبار.
وينطبق هذا الحال على آراء الفيلسوف التجريبي جون ستيوارت مل، رغم ما فيها من نضج متكامل قياساً بما سبق. فهو من أبرز الرجال الذين إهتموا بمعالجة الإستقراء وتحليله رغم عدم إكتراثه بالمشاكل الذاتية التي كشف النقاب عنها ديفيد هيوم. وهو وإن كان متأثراً بأفكار هذا الأخير لكنه يختلف معه في الموقف من الإستقراء. فلأنْ كان هيوم يرى الإستقراء منطوياً على عقدة ذاتية؛ فإن الأمر عند مل غير محمول على محمل الجد. ولإنْ كان الأول يبني تحليله للإستقراء من خلال مبدأ السببية؛ فإن الآخر يصادره إبتداءاً، وعليه يقيم استكشافه للسببية. هذا بالاضافة إلى ان فهمهما للسببية مختلف، فهي عند مل تنطوي على الضرورة، وعند هيوم مجرد تتابع زمني.
ويلاحظ في موقف مل وجود مصادرتين أساسيتين كالتالي:
الاولى ايمانه المطلق بمبدأ الإستقراء كأداة صحيحة وسليمة لكسب المعارف جميعاً من دون إستثناء. فحتى العلوم التي يعتبرها المذهب العقلي اولية كعدم التناقض والعلية ومبادئ الرياضيات؛ فإنها عند مل مستمدة من التجربة والإستقراء، بل وتخضع إلى تفسير قوانين تداعي المعاني التي ادلى بها هيوم[8]. وكما يقول: ‹‹إن اصل كل العلوم، حتى تلك العلوم الإستنباطية أو البرهانية هو الإستقراء››[9].
أما المصادرة الثانية فهي انه قام بتبرير ما ينشأ لدينا من تعميمات مستقبلية طبقاً لما يلاحظ من ثبات في الوقائع المضطردة في الماضي[10]. فهذه المصادرة تعتمد على ما تنتجه المصادرة الأولى في توليد الخبرات السابقة، والتي تصبح فيها الطبيعة بمثابة الكتاب الذي يمكن أن يحكي ما فيه دون حاجة لاضافة خارجية. الأمر الذي يتطلب ان يكون المتطلع إليها مؤمناً بما تضفي عليه من حقائق، إذ لا مهمة للباحث سوى ان يصِف ما يجري فيها من غير إضافة عقلية أو ذاتية.
هكذا فبحسب المصادرة الأولى لا فرق لأداة الإستقراء من أن تكشف ما عليه الطبيعة من علاقات؛ سواء إتصفت بالخضوع للسببية أو كانت صدفوية عديمة النسق. أما بحسب المصادرة الثانية فإنها يمكن أن تقوم بدورها اعتماداً على ما تنتهي إليه المصادرة الأولى في الكشف عن السببية، فهي تقوم بتعميم الحكم على الحالات المستقبلية؛ تبعاً لإفتراض الاضطراد المرصود في الخبرات السابقة. فستيوارت مل يعتبر التجربة قد علمتنا بأن علاقات الطبيعة ليست فوضوية عشوائية، بل تسير على نسق واحد مركب من عدة اطرادات جزئية تسمى قوانين الطبيعة. وكما يقول: ‹‹اذا تأملنا الاطراد في سلوك الطبيعة المفترض في كل تجربة، فمن الملاحظات الأولى التي تكشف نفسها ان الاطراد في هذه الحالة ليس إطراداً واحداً وإنما هو في الحقيقة عدة اطرادات. فالإنتظام العام ينتج عنه وجود إنتظامات جزئية، وسلوك الطبيعة على العموم ثابت، لأن سلوك كل الظواهر المختلفة تنظمها حقيقة معينة تحدث بلا تغيير عندما تتواجد ظروف معينة، ولا تحدث عندما تغيب هذه الظروف››. ويقول أيضاً: ‹‹فملاحظة الاطراد في سلوك الطبيعة، هو في حد ذاته شيء معقد، ومركب من جميع الاطرادات المتفرقة التي توجد من جهة الظاهرة الفردية. هذه الانتظامات المختلفة، هي ما نسميه في حديثنا العام بقوانين الطبيعة››[11].
وعلى العموم يعتقد مل بوجود نوعين من الاطراد، أحدهما دال على الإقتران في الوجود؛ من قبيل ملاحظة ان كل زنجي يقترن مع ظاهرة تجعد الشعر، وكل صيني يقترن مع انحراف العينين. أما الآخر فهو دال على الإقتران في التتابع، ويطلق عليه السببية، سواء كانت عامة أو خاصة[12]. فكل ظاهرة تسبق أخرى بإطراد وكانت بينهما علاقة ضرورية لا تقبل الانفكاك فإن الأولى تسمى علة والأخرى معلولاً، إذ لا تعني العلة إلا مجموعة الشروط والظروف التي متى تحققت فلا بد للمعلول ان يقع بصفة مطردة. فهذه الصفة من الاطراد يمكن تعميمها بحسب المصادرة الثانية، إذ ان قانون تداعي المعاني يجعل الذاكرة تعيد الظواهر بنفس النسق الذي كنا نراه ثابتاً في الطبيعة، طبقاً للضرورة المستنتجة بواسطة الإستقراء[13].
الأربعاء مارس 23, 2016 9:10 am من طرف نابغة