في البداية
الكبار يتحاشون ألمرور قرب ألباب ألموصد منذ اكثر
من ثلاثين سنة ، والأطفال كانوا يخافون من ذويب فلم يجرأوا على ألمرور
فرادى، فقد صوروه لهم على أ نه يستطيع أن يقتل ثوراً برفسته ،لذا كانوا
يتآمرون مجتمعين في أوقات فراغهم للنيل منه ، ويشبعون بابه ضربـــاً
بألأقدام وألحجارة ، ويولون هاربين .
لم يره أحد منذ ذلك ألوقت ، الا ثلاث مرات . أما أخباره فقد تناقلها ألأباء
عن ألأجداد ، ينسبون اليه ألخوارق من ألأحداث ، ليبعد وا أبناءهم عنه .
ألمرة ألأولى ألتي خرج فيها الى ألشارع ، لم يكن يوماً عادياً ، فقد هرعت
ألمدينة عن بكرة أبيها عام 1947 . ايقـظـته ألأصوات ألهادرة ، وألتي لــم
يتعــــود سماعها من قبل ، فهذه التظاهرة ألأولى للمدينة في تأريخها .
أرهبه ألموقف ، فبدا مأخوذاً بما يرى . الجماهير ألمحتشدة تندد وتحتج ، وهو
لايفقه شيئاً . وقف بين الناس يسألونه فلا يرد ويسألهم ، فيبتعدون عنه ؛
خوفاً من صب جنونه عليهم .أخذته الجموع المهرولة بين زحمتها ، وما كان
بمقدوره العودة الى ألبيت ،لأنه ضل الطريق .
وفي الثانية كان خروجه مع من خرج سنة ست وخمسين ، يوم ألأحتجاج على العدوان
الثلاثي على مصر .
والثالثة يوم ( دكَة العميان ) ، التي هزت المدينة وهدوءها ألذي تعودت عليه
، اذ قام مكفوفو البصر بجريمة قتل ،وإلقاء الضحية في ألبئر التي تتوسط
الخان العائد لعائلته .
جاء به أخوه سعدان ووقف أمام ألباب ألموصد ، لحين فتحه بالمفتاح ألأثري .
دفعه الى الداخل بغضب وهو يوبخه لخروجه بدون علم منه .
تعثر في مشيته ، وتدحرج من على ألدرجات الثلاث المفضية الى المجاز الطويل ،
وقبل أن ينهض تطلع الى الجدارين العاليين المبنيين من الطابوق ألأحمر
الردئ ، واللذين لاحا له وكأنهما عجزا عن حمل ثقلهما فتصدعا صدوعاً كثيرة
وواضحة .استعان بيديه بعد أن بسطهما على بلاطات ألأرضية ألهرمة ،والتي تنزف
رائحتها خلال ألأيام الممطرة ، وقد تعودت ( نصرية ) على رشهما يومياً
بألماء أيام ألصيف ألحارة بعد أن تنظفهما بعناية .
اجتاز المجاز ووقف عند الباب المؤدية الى الرواق مبهوراً بعودته .تطلع الى
الطارمة ألمطلة على ألحوش ألواسع ، وكأنه يندب لونها ألذي أحاله ألزمن الى
لون باهت ،وقد سكنتها ألأرضة فنخرت خشبها ألواقف بأعجوبة .
تخطى نحو ألسدرة ألمعمرة ، واحتمى بظلها ألمنداح على ألأرض ، وما زالت
رائحة ألبخور عالقة بها منذ ألخميس وألأيام التالية .لما تؤديه نصرية من
طقوس ، ولم يثنها من تأدية هذه ألطقوس أي شاغل.
خرجت نصرية من غرفتها وأجتازت ألدرجتين المؤديتين لها .أصطكت أسنانها هلعاً
عندما رأته ، فسددت اليه صفعة فتلته في مكانه وأوقعته أرضاً . تقدمت من
السدرة وحركت يديها حركات عشوائية، وكأنها تشكو أو تعتذر للسدرة .
أسندت جسدها الى شباك حجرتها المطل على الحوش ، وألذي أتعبت ألشمس عوارضه
فأحنتها ، وكانت ترى من خلاله ما يدور في البيت بوضوح .
انحرفت بزاوية حادة لتراقب خطوات ذويب ألمتجه بها نحو غرفته .
افترش ألأرض ، وراح يبحث بين طيات ملابسه ألرثة ألمقددة ، وهويحاول رتقها ،
وشد أطرافها ببعض ليستر بها جسده ألنحيف . وهو يتطلع بين لحظة وأخرى الى
غرفة ( سعدان ) ألمقابلة لغرفته .يتابع ما يفعله ، وكان فيها سرير نومه
وخزانة ملابسه المجعدة دائماً ، بجانب خزانة أمواله التي لاتحصى ، ورغم كل
ما يملكه لايستطيع شراء جوراب واحد ليعوض جورابه ألقديم ألمختلف ألحجمين
والمتنافر أللونيين .وهو لم يتعود بخله بل ورثه عن أبيه ألذي تركه حارساً
على مايمتلكه .
سعدان الذي ظل يدير الخان ألذي ورثه عنه والمحال ألكثيرة بعد اثبات جنون
ذويب رسمياً.
عزف عن ألزواج ؛ عزوف اخته نصرية . لم يكن له من ألأقارب الا ماسمع به أهل
ألمدينة عن وجود أقارب له في ألمدن ألبعيدة ، كما اقتصرت علاقاته، فلم تتعد
أصابع أليد ألواحدة .و لاتهمه ألعلاقة بهم أكثر مما يهمه قدح ألشاي ألذي
يتكرمون به عليه .
أهمل كل سبب يربطه بأهل ألمدينة كأهماله منظره ، فبدا كشحاذ ، لكن ألناس لم
تهمله بل صار موضع تندرهم ، ويضربون ألمثل في بخله .حتى أنهم عرفوا أن
أباه قتل أمه بسبب علبة كبريت وقعت منها سهواً في حوض ألماء .
ـــــ*ـــــ*ـــــ*ـــــ
اجتماع فوق العادة
اجتمع الثلاثة على غير عادتهم ، كقادة أحزاب متنافرة . ولكن ألكلام أخطأهم
فلاذ الجميع بألصمت ألذي تعودوا عليه من دون أن تحط على رؤوسهم ألواهمة
دائماً ولا ريشة واحدة ، حتى الذباب الدائر حولهم لم يعيروه اهتمامهم .
تنحنح ( سعدان) بكسل فتكسر الهواء المندفع من رئتيه في مجرى تنفسه و لطم
ذويب خده بكلتا يديه كعادته حين يضجر ، وهب واقفاً ، وقبل أن يخطو أقعده
سعدان بحركة سريعة من يده وانحنت نصرية لتضع باطن كفيها على ألأرض مستعينة
بهما على ألنهوض وفض ألأجتماع ألذي لم يسفر عن كلمة ، ولكنه أومأ لها بأن
تجلس فجلست ، وهو يحاول فك عقال لسانه ليبوح بما يدور في باله، ولكنه تردد
كثيراً قبل ذلك .
كرر ذويب ضربه لخديه ونهض ، فألح عليه سعدان بألجلوس فجلس صامتاً وعيناه
تدوران في محجريهما وكأنهما تبحثان في ألفضاء عن شئ .
تململت الريح في الحوش ، فحركت أوراق السدرة المعمرة الوارفة الظلال ، مما
أجفل نصرية فهبت متقافزة كضفدع مذعور . دارت حول ألسدرة بخشوع ورهبة . وضعت
أذنها على ألجذع ألمبضع ، وهي تتخيل ألأصوات ألصادرة عنه . وضعت أذنها
ألأخرى على ألجذع وكأنها تريد ألتأكد مما تسمعه.الا أن أملها خاب وعادت الى
الغرفة تجلس ألقرفصاء أمام أخيها سعدان ألمطرق الى ألأرض يفكر بما سيقوله
لهما . وكأنه مقدم على ألبوح بأسرار خطيرة تهز قاصته ألمقفلة على ما فيها .
نهض ذويب قافزا ً وعاد لجلسته . لوى رقبته ، وراح يقضم طرف كمه . انسرحت
على عينيه خصلة من شعره ، فأزاحها بضجر .
تنقل سعدان بنظره بين أخته وأخيه ، ثم زفر زفرة حرى اخترقت السكون ، لتعبر
من جانب وجه نصرية ،التي توقتها بيدها ألمخذولة ، وخشيت عاقبة حركتها ،
فنظرت الى سعدان وعيناها تتوسلانه عدم التعرض لها بضربة أو رفسة تودي
بحياتها .
اخرجه المشهد من صمته فقال:
ـ نصرية ، لاتخافي . أنا أخوك ، وأحبك كثيرا .
اطمأنت له ، ولكنها جلست صامته ، كحجر صلد .مدّ يده ليربت على كتفها،
فأنزاحت عنه مبتعدة ، وهي تزحف على أربع ، لأنها لم تتعود ملاطفته لها.
تجمهر ألحزن في قلب سعدان حتى فاض على هيئة حسرات متعاقبة ، وقد ذهبت
محاولته أدراج ألرياح وباءت محاولة بوحه بالفشل .
أطرفت عينا نصرية بوجل ، فتوشحت عينه بدمعة عنيدة كان يدخرها منذ وفاة أمه
.صادرها اليوم شفقة على أخويه ، وتنهد مكسوراً. ولم تبدر منه بادرة كهذه من
قبل ، ورغم البلادة الغاشية ملامحه،الا أنه اخرج من صدره في هذه اللحظة
تنهيدة من صدره ألعامر بأللامبالاة كان يقصدها، ففاضت حنجرته بسيل من
الكلمات ألمتكسرة ، منبهاً إياهم الى حبه لهم ، ولأنه لم يتعود هذه الكلمات
قال متخلصاً منها :
ـ اخوتي .
لم يرفع أحد منهما رأسه ، ولم يتجرأ أحد منهما على ألتطلع في وجهه المتجهم .
فقال لهما برقة :
ـ أنا أخوكم ألأكبر ، تمنوا ما تريدون .
انغلق ذويب على نفسه ، وانفرجت أسارير نصرية ، وقالت بصدر منشرح :
ـ أريد ...
لم تكمل جملتها ،ولكنها غطت وجهها بيدها وراحت تنظر الى وجه أخيها من خلال
فرجة أصابعها ، لتطالع ردود أفعاله ، ثم قالت له بجملة سريعة :
ـ أريد ثوباً .
قال لها وقد حاولت أساريره ألأنفراج ، وبعد صمت قال:
ـ مالونه ؟
قالت له بخجل :
ـ ثوب عرس ,
هزّ سعدان يده في ألهواء هازئاً ، وهب ذويب من مكانه وهو يردد :
ـ أنا لاأريد . أنا لاأريد .
هرول باتجاه غرفته وأغلق بابها عليه ، ومن شق طولي راح يراقب أخاه بوجل ،
وما سيصنعه لنصرية ، وألتي أغلقت فمها بكفيها ألمرتجفتين ، وكأنها ندمت على
ما طلبته ، فهي تعرف أنه لم يلبي لها طلباً بهذا الثمن .
نظر اليها سعدان نظرة فاترة ،فقالت له بانكسار :
ـ لا لا .. لا أريد ثوباً .
قالت له وقد عاودها ألأنكسار :
ـ اريد بخوراً .
قال لها مواسياً :
ـ بل سأجلب لك ثوباً مع ألبخور .
قالت مدارية خجلها :
ـ لا . هو سيجلب معه ثوباً أبيضاً عندما يعود .
قهقهت بخجل ونهضت مرتبكة تتعثر بخطواتها المتسارعة.
دارت بذهنه قصتها ، فهزّ كتفيه مستاء،ونفض عباءته ألخلقة في ألهواء ولفها
على معصمه وخرج محدثاً نفسه :
ـ يالحظي العاثر . مجنونان عليّ رعايتهما .
ثم توجه الى ألله متوسلاً :
ـ ربي أنت عوني .
جاء صوت ذويب من غرفته نائحاً :
ـ أريد أمي . أريد أمي .التفت سعدان نحوه ، وأخرج آهة طويلة متكسرة ؛
استطالت لها شفتاه ، وخرج مجتازاً المجاز ألطويل .
وقف ذويب وسط ألغرفة هائجاً ملتاعاً ، ضرب ألجدار بقبضته ، فتساقطت حفنة من
التراب .
صاحت عليه نصرية بصوت متهدج ، فيه من البلاهة والحنين ألمصطنع ، ما يفسر
علاقتهما ببعض :
ـ أمك ستأتي . انتظرها تحت ألسدرة .
خرج ممسكاً بتلابيبه وكفاه تحت ذقنه ، وهو يمرر ابهامه على ثناياه بكسل :
ـ ستأتي ؟ أجل ستأتي .
قالت له نصرية هازئة ،ثم اردفت قائلة :
ـ أجل ستأتي , إذا تذكرتك .
خرجت من غرفتها ، وبيدها مشطها ألأثري ألمصنوع من ألخشب ، وهي تسرح به
شعرها ألفاحم ، والمنسرح على كتفيها بعفوية .
جلست حذو ذويب على حافة حوض الماء ، وهي ما تزال تسرح شعرها بعناية وأناة ،
ثم قالت :
ـ ذويب ؟ هل تتذكر الدمى ألتي كانت أمي تصنعها لي ؟
خرج ذويب من شروده ، ولبس بلاهته من جديد وهو يتطلع الى وجهها ، ولم يجبها،
فأكملت قائلة :
ـ كانت تصنعها من ألطين .. أووه . أنت لاتتذكر كنت صغيراً.
قال لها متسائلاً :
ـ وكيف تصنعها ؟
وضعت ألمشط في حضنها وراحت تصف له طريقة صنع ألدمى بحركات من يديها وقالت :
ـ هكذا هل عرفت ؟
قال وما زالت عيناه تراقبان يديها المتحركتين في الهواء بخفة كصانع دمى
ماهر:
ـ عريس ؟
ضربته على كتفه بميوعة وقالت له :
ـ مجنون لاتتلفظ هكذا .. عيب.
ردّ عليها وعيناه متسمرتان نحوها :
ـ عروسة ليس عيب؟
قالت له :
ـ لا عريس.لايـرفس عروسه برجله .
ـ وأبي عريس يرفس عروسه برجله؟
ـ لاتتلفظ هذه ألألفاظ .
ـ أنا أكره ألعرسان ألذين يرفسون عرائسهم بأرجلهم .
ـ وأنا أكرههم .
ـ وأنا هل تكرهينني ؟
ـ أنت لست من العرسان .أنت أخي .
قال لها وقد لاح السرور عليه :
ـ اذن اريد عروسة .
ـ من طين ؟
ـ نعم .
ـ ولكن ليس كل العرائس من طين .
بلت المشط بألماء ثانية وراحت تسرح شعرها، وهي صامتة كمن يفكر في شئ ، ثم
قالت :
ـ العرائس أحياناً تتحول من الطين الى حقيقة
قال لها ذويب مشككاً :
ـ لاأصدق هذا .
ـ أسمع . كان ياما كان في قديم الزمان ، امرأةعملت لأبنتها ( عقربان ) من
الطين ، فأخذتها ألبنت تدفعها هنا وهناك ، وفي غفلة من أمها تحولت عقرب
ألطين الى عقرب حقيقية . لدغت ألبنت فماتت .
قال لها متسائلاً:
ـ لماذا؟
قالت له :
ـ لأنها عقرب ، وعندما جاء عريس ألأم ووجد أبنته ميتة رفس أمها على بطنها
فماتت .
ـ كما رفس ألحصان أمي ؟
قالت له ضجرة :
ـ لاأدري .
نهضت وظل هو يردد :
ووو أبي أمي .
وظل يردد ما يخطر بباله من كلمات .
عادت نصرية بكسرة مرآة لاحت عليها خدوش كثيرة فبدت كأخاديد في وجه بليد .
جلست على حافة ألحوض تتابع تسريح شعرها ، وتمسد وجهها بفرح ، وكأن ألسنين
ألخمس وألثلاثين لم تترك لها اثراً عند مرورها .هاهي تطالع صورتها في كسرة
ألمرآة بعينيها ألسوداويين الدائرتين بمحجريهما على مهل وبريقهما يخترق
بؤرتيهما خارجاً الى ألفضاء ألمسكون بألشمس .
وضعت المرآة بين ساقيها لتضفر جدائلها بكسل مشبوب بنشوة غامرة ، وهي ترسم
في خيالاتها صوراً تدنيها من لذة مخفية ، تنعكس انفعالاتها على ألوجنتين
ألمرصعتين ، فتترجمها شفـتاها ألنديتان .
تركها ذويب وزحف نحو ألشجرة . تناول شظية طابوقة وأخذ يحفر ألأرض بها وهو
يردد :
ـ عروسة يا عروسة .
قالت له نصرية دون أن تلتفت اليه :
ـ اسكت .
استمر في الحفر وكأنه لم يسمعها ، علا صوته مما اضطرها الى رفع صوتها ،
وبلهجة آمرة قالت له :
ـ اسكت اسكت وإلا ضربتك .
ردّ عليها مبتهجاً :
ـ سأصنع لنفسي عروسة بهذا ألطين .
التفتت اليه مذعورة ، وهبت واقفة ، وتركت المرآة تتدحرج بين قدميها فخدشتها
، ولكنها لم تعرها أهتماماً ، خلصت ألشظية من يده بحركة عنيفة ، وأمسكت به
من ابطيه ورفعته عن ألأرض وهي تقول:
ـ ماذا تفعل يا مجنون . أتريد إغضاب حارس ألسدرة ألملك ألصالح.
ضربته على وجهه فتلقى ألضربة بساعديه وقال :
ـ أريد عروسة .
قالت له وهي ترتجف خائفة :
ـ أيها ألمجنون .
تخلص من قبضتها وولى مهرولاً وهو يردد :
ـ ملك ، ملك ، ملك .
حاولت أن تلحق به ولكنه دلف الى غرفته وأغلق ألباب عليه وهو يكرر:
ـ ملك تعال ملك تعال .
انتقلت عدوى جنونه اليها ، فشدت شعرها بقوة وصرخت صرخات متتالية ثم وقعت
منهوكة القوى .
خرج من غرفته حذراً ودار حولها ، ثم انحنى عليها ورفعها، إلا أنها أنسرحت
من بين يديه الى ألأرض بهدوء فقال لها :
ـ اتريدين ضربي ؟ هيا افعلي بي ما شئتي .أها..
صفع خديه بكلتا يديه ، وكرر ذلك عدة مرات ، الى أن تخلصت من تراخيها ، عند
ذلك تركها وولى هارباً .
فركت عينيها بكلتا يديها وكأنها تطرد ألخدر عنهما .
استقامت في جلستها . نهضت متراخية وهي تنفض عن ثوبها ما علق به ، وقالت :
ـ انتظر عقابك أيها ألمجنون .
ضحك بكل جنونه ثم صاح :
ـ ملك كلك .
تماسكت في وقفتها وقد صالبت يديها على صدرها، ثم مدتهما بخشوع وتمتمت
بكلمات غير مفهومة وكأنها تتوسل حارس السدرة بعدم معاقبتها على ما اقترفه
ذويب . بعدها جاء صوت ذويب كألنواح :
ـ ملك . ملك نصرية ملك .عروسة نصرية ملك .
هرولت نحوه . دفعت ألباب بقوة لفتحها فلم تطاوعها . عادت أدراجها وكان
ألمساء يزحف ببطئ . أخرجت من غرفتها بخور ( جاوي ) وشمعة . سوت ألتراب فوق
ألحفرة ألتي حفرها ذويب ، ثم غرست ألشمعة فوقها ، وجمعت بعض ألأعواد
وألأغصان أليابسة . أوقدتها بخشوع ألعابد ، وعندما تجمرت ألقمتها بحفنة من
ألبخور ، فتصاعد ألدخان كثيفاً . كررت ذلك ثلاث مرات ، وعادت الى غرفتها
المظلمة ، وقد امتزج عبق ألبخور بالستائر المنقوعة بألرطوبة .
فعلت ذلك على غير عادتها ، فأليوم ألسبت ، في حين كانت تقوم بهذا ألطقس في
كل ليلة جمعة ، اعتقاداً منها بأن حارس ألسدرة لا يأتي إلا في هذه الليلة .
كانت في كل يوم خميس تقوم بإعداد نفسها وتزيينها، ثم ترتدي بدلتها ألتي
احتفظت بها من يوم زفافها على طليقها
كانت ذلك اليوم ضيفة على أهلها ، وهي لم تتجاوز الربيع السابع عشر بعد.
أنيقة رائقة كوجنتيها ألمتوردتين ، تترقرق نسائمها كأنعكاس قرص الشمس على
صفحة ماء منسابة برفق.
وقفت حذو أمها متشبثة بخصرها المتراخي تحت طوية ساعدها البض . دخل أبوها
ألذي يشبه سعدان في صورته وهيأته ، وقد ورث عصبيته من والده ألذي كان يخشى
حفيف أوراق ألسدرة وحركة أغصانها . وكم من مرة حاول إقتلاعها ، فخوفوه من
ذلك على اعتبار أن أشجار ألسدر مساكن مقدسة للملائكة ويقربها الجن
والشياطين من خلالها . وخوفوه أكثر عندما قالوا له ( إن من يقطع سدرة عليه
أن يضحي لها بذبح يرضي به سكنتها ) ، فيمتنع عن قطعها ويرجئ ذلك في كل مرة
يزمع على ازالتها . كيف له أن يضحي وحذاءه ألمصنوع من ألنسيج ألمحلي أثقلته
ألخيوط المضافة له في كل مرة يصلح بها ذلك ألحذاء .
أعياه ألهوس وهدته ألوساوس وهو يعد أمواله ألتي ضجت بها علب الصفيح
المدفونة تحت ألأرض .
كانت زوجته تخشاه ، فهو سيد البيت في حله وترحاله ، حتى أنها تتخيله
بجانبها ان كان غائباً عنها . كانت مثال الزوجة المستكينة لكل ما يفعله بها
زوجها . يضربها ، فتصمت ويشتمها ، فتبتسم له غير مبالية بألفاظه ألقبيحة .
أفلتت نصرية يدها عن خصر أمها وتقدمت نحو والدها لتحيته بإبتسامة لم تعرف
ألطريق الى قلبه ، حيث كان مشغولاً بعلبة ألثقاب ألسابحة في حوض ألماء .
أزاحها عن طريقه وأمسك بأمها . صفعها صفعة قوية ، فسقطت ألأم على ألأرض .
جمع أعواد ألثقاب بقلب ملهوف ، وعاد للأم . رفع قدمه أليمنى ورفسها بشدة
فتكسرت أترابها ، وغابت عن ألوعي ، ولم يتركها بل سدد اليها رفسة أخرى ،
وأنحشر في غرفته وهو ما يزال يسب ويشتم ويصيح باعلى صوته :
ـ أكد وأتعب طوال النهار وأنت تبذرين بلا وجع قلب . ألا لعنة ألله على
ألمبذرين .
انحنت نصرية على أمها باكية ، وشعرت بأنفاسها تتقطع . أرادت حملها بيديها
ألمرتجفتين فلم تسعفها قوتها .
تعرق جبين ألزوجة وهوت يدها الممدودة الى نصرية . وضعت نصرية يدها على قلب
ألأم فلم تشعر بأية حركة . صرخت صرخة مجنونة اهتزت لها أركان ألبيت ، مما
جعل ألأب يخرج من غرفته مهرولاً زاعقاً آمراً بعدم ألصراخ ولما لم تسكت عن
الصراخ ، رفع يده ليضربها ولكنها قالت له ببرود :
ـ لقد ماتت أمي .
ترحم لها ودون أن يدري أطرفت عينه عن دمعة ، ثم صمت طويلاً قبل أن تسأله
نصرية :
ـ هل ماتت أمي حقاً ؟
لم يكلف نفسه بألرد سوى أ ن قال كلمة واحدة :
ـ غطها .
بهتت نصرية ، ثم ضجت بألضحك . مال ألأب عليها وقادها الى غرفتها . بعد ذلك
ناحت طويلاً ، وضحكت أكثر.
كل هذا وذويب ألذي لم يتجاوز عمره ألعشر سنوات واقف يتابع ما يجري .
انهار ألأب قرب ألجثة ألهامدة يقلبها بيد مرتجفة ، يدعو ألله أن يعيد لها
روحها .
يأس ذويب من أمه ، فأتجه الى نصرية يسألها بأنكسار :
ـ هل ماتت أمي ؟
زمجرت بوجهه ودفعته خارج غرفتها وهي تقول :
ـ اذهب أنا لست أمك .
هرول الى أبيه يائساً ، أقعى أمامه ، وأصابعه تعصر شفتيه وكأنه يمنعهما من
ألصراخ ، ثم سأل أباه :
ـ لماذا قتلت أمي ؟
لم يتمالك ألأب أعصابه ، صفعه ثم رفسه ، فأرتطم رأسه بحافة حوض ألماء
ألأسمنتي . نهض مذعوراً ويداه تحاولان أيقاف ألدم ألشاخب من مؤخرة رأسه .
تطلع بوجه أبيه صارخاً مولولاً ، ولما لم يجد ألأهتمام منه سكن أمام ألجثة
بخشوع يسائلها . حاول والده أحتضانه عله يكفر عن جريمته فولى منه هارباً .
دخل غرفته وأحكم أغلاق رتاجها ، وهو يصيح بأعلى صوته :
ـ أمي أمي . أمي ماتت . ماتت أمي .
دخل سعدان . وألدهشة مرسومة على وجهه مما يسمع ويرى . أمه ممددة على ألأرض
وأبوه راكع جنبها ، ونصرية في غرفتها تبكي وتضحك ، وذويب ما زال يردد ( أمي
ماتت . ماتت أمي ) .
سأل والده عما يجري ، فرد عليه ببرود :
ـ لقد ضاع كل شئ .
قلب جثة أمه ، لم يكن فيها نفسُ . تمدد حذوها وظل ينوح نواح ألثكلى حتى
أصابه ما أصاب أخويه .
بعد أن ثبت جنون نصرية طلقها زوجها ، ولكنها ظلت تنتظره كل خميس ، ليعيد
لها ثوب زفافها ، وسجنت نفسها مع ذويب بين جدران ألبيت ألهرمة .ويقال أنها
لم تخرج حتى عندما أخبروها بوفاة والدها ، وكذلك ذويب اعتصم في غرفة أمه ،
والتي صارت بعد ذلك غرفته ، وقد اغتيل فرح ألعائلة منذ ذلك أليوم .
طقوس خميسية
أليوم خميس ، و نصرية تعد ألعدة لأتمام طقوسها . تهيئ نفسها . تُخرج بدلة
زفافها من ألصندوق ألعتيد ، تعلقها في مسمار صدئ . تضع قدر ألماء فوق
ألطباخ ألنفطي ، وتجلب طاسة الحمام ألتي ورثتهاعن امها، ثم تجلس بأسترخاء ،
لتخلص شعرها من عقده ، وتنشره للشمس . تناولت وعاءالحناء المعرض للشمس منذ
الصباح ، رشته بقليل من الماء، فنزع لونه ومال الى أللون ألأشقر . جلست
قرب ألحوض وأوكأت ألمرآة على جانبه ، وراحت تلطخ شعرها بأناة ، وهي تحاول
جعل أللطخة متساوية على شعرها ، بعدها نفضت يدها وشدته بخرقة بالية .
وقبل عودة سعدان للغداء أنهت طقس ألحناء وألبهجة مرسومة على وجهها .
اجتمعوا على سفرة ألغداء المتواضعة وألتي لا تتلاءم وما يمتلكونه من أموال ،
حتى أنها لم تتعب نفسها بإعدادها ، كونها أقل شأنأً من موائد الفقراء في
المدينة .
تجشأ سعدان معلناً انتهائه ، ومسح ذويب يديه بملابسه وانسحب بهدوء زاحفاً
على عجيزته ، في حين ظلت نصرية تلوك مضغتها بملل .
جاء طقس الشاي اليومي ، ولم يدم طويلاً ، فملعقة شاي واحدة لكوب شاي واحد
لاتأخذ كثيراً من الوقت .
خرج سعدان لعمله وانزوى ذويب في غرفته .
كل شئ هادئ في البيت ، لم يقلق سكونه سوى رنات قبقاب نصرية في رواحها
ومجيئها ، وهي تتهئ للأستحمام . أطفأت ألطباخ وحملت قدر الماء الحار
وأدخلته الى ألحمام ، ثم أغلقت ألباب .
تعرت تماماً ، وتفحصت جسدها ألبض بشهوة وقالت :
ـ متى ستأتي ياسيدي ؟ ألليلة! سأعد لك هذا أللحم ألطري ، سأكون وليمتك
ألمشتهاة .
أصاخت ألسمع لذويب وهو يصيح :
ـ أخرج واجهني لا تختبئ خلف ألسدرة ، إن كنت فارساً حقاً ؛ هيا واجهني .
امتطى قصبة وجعل منها حصاناً وراح يخب حول ألشجرة . صهل عدة مرات ، ثم توقف
وصاح :
ـ أخرج أيها ألجبان . هيا أخرج وبارزني كرجل .
لوح بألعصا / ألسيف وقال :
ـ هذا سيفي ألذي أتحداك به . هيا أخرج .
كرّ على عدوه ألمزعوم وبارزه بقسوة ، وعمل سيفه في جذع ألشجرة ، وتصاعد
حماسه حتى أوهنه ألتعب ، فسقط من على جواده / ألقصبة ، فطار سيفه من يده
وركع مهزوماً على ألأرض ؛ يتوسل ألفارس أن لايتعرض له . ناح بحرقة ، ثم علا
صراخه حتى بح صوته وامتد على ألأرض منهوكاً ، فخرجت كلماته واهنة ضعيفة
وقال متحدياً :
ـ افعل ما شئت أيها ألفارس لقد خسرت ألمعركة . هيا اجهز علي .
طالت معركته مع ألوهم ألذي صنعه طوال تواجد نصرية في الحمام.
خرجت ورأته ممدداً على ألأرض . اتجهت الى غرفتها دون أن تعيره اهتمامها ،
فقد تعودت أن تراه على هذه ألحالة .
صفقت ألباب خلفها ، فتحرك ألغبار المتراكم جبهة الباب وأنهال عليها ، خلعت
وشاحها بجزع ونفضته خارج ألغرفة وأعادته على رأسها .
تربعت متكئة على ألجدار ؛ تسرح شعرها ألمبلول ، مترنمة بلحن ابتكرته هي
بلهجتها ألشعبية ألدارجة ، تستنهض به فارسها ألموهوم ، وهي تتصوره قادماً
على فرس أبيض يرفس ألأرض بحافره .
تطيبت بعطر مسفوف نثرته في مفرق شعرها وبين طيات ملابسها .
تناولت بدلة زفافها ألمعلقة على ألمسمار ألصدئ ، ثم ارتدتها على مهل وكأنها
تخشى عليها من ملامسة ألأرض . تفحصتها بإهتمام ، وغطت رأسها بوشاح أبيض
باهت مبرقش ألحواف . دفعته قليلاً الى ألخلف لتبرز خصلات من شعهرها ،
وسرحتها على جبينها حتى وصلت حاجبيها ، فغطت طرف عينها . رفعته ليستقر على
جبهتها الناصعة .
خطت خطوات وئيدة مستعرضة جسدها أللدن ، ثم رفعت مجمرة ألبخور بحذر وفي يدها
ألأخرى خلصت من بين طيات ملابسها في ألصندوق ألصاجي شمعة صغيرة . اتجهت
الى ألسدرة بخشوع ورهبة بدت على خطواتها ألمرتبكة .
وضعت ألمجمرة على ألأرض وجمعت حزمة من ألأغصان ألمتساقطة من ألسدرة . كسرت
من لوح مهمل شظية لتقلب بها ألجمر . أوقدت ما في ألمجمرة حتى صارت ألأغصان
جمراً. القمتها بألبخور ، وغرزت ألشمعة قربها .
تربعت خلف ألمجمرة تتلو ما يجود به بالها من تعاويذ ، وبين فترة وأخرى
تعاود القام ألنار بألبخور ، فيتصاعد منها ألدخان وتأخذه ألريح حيث تتجه ،
حتى ملأ عبقه ألحوش . تحركت بوجل ودارت حول ألمجمرة وهي تتمتم بكلمات مبهمة
تربطها جميعاً بلازمة تقولها بحرقة ( تعال ).
يمر عليها ألوقت متكاسلاً ، فتخمد ألنار ويضيع أملها كما في كل مرة ، فتعود
الى غرفتها يائسة مكلومة .
تبدأ بنحيب مكتوم سرعان ما يتصاعد ويملأ ألغرفة ، وما بين يأسها وأملها
ألقادم ؛ تنتحي جانباً وتخلع بدلتها ، لترتدي ثوبها ألذي تعودت أن تعتني به
وتعطره بعد كل مرة تقوم بغسله ، ثم تقول بعد تصعيد أنات متتالية :
ـ سيأتي ألخميس ألقادم . أجل سيأتي طائري ألجميل ليحط على أغصان ألسدرة .
سأنتظره كل خميس . لا بد له أن يأتي في أحد ألخميسات ألقادمة . لقد قال لي
ذلك . سيأتي يوم الخميس .
تركن بعد إعياء في ألزاوية ألشرقية ، لتنشر ألقرآن على رأسها وهي تتلو ما
تيسر لها من آ ياته ، لطرد المردة وألشياطين ألضاج بهم رأسها ، وبصورهم
ألممسوخة على هيئة حيوانات مفترسة وأشكال خرافية لم يستطع السوي تصورها .
قطع تفكيرها صوت وقع أقدام سعدان ألقادم من الخان . جلس على عجيزته العجفاء
بتكاسل . وضع مفتاح ألباب ألأثري أمامه وتطلع الى نصرية ألتي تحاول أتمام
مراسم طقوس هذا ألخميس . أراد محادثتها ، لكنه أرجأ حديثه وأخذته أفكاره
الى أليوم ألذي ختم به ألقرآن ألذي ماعاد يحفظ منه سوى آيات متفرقة لايعرف
سورها .
شغل باله بيوم وقوفه بين ألصبيان مزهواً ينتظر مراسيم زفافه وألطواف به في
ألمدينة وهو يرتدي أبهى حلة ،بمناسبة ختمه القرآن وهي آخر مرة لبس فيها
ملبوساً يليق بكرامة أنسان ثري .
نهضت نصرية فتعثرت بالبساط الرث المفروش بمحاذاة الجدار المهترئ . قدم لها
(الزنبيل) ، أخذته منه بجفاء وهي تعرف ما بداخله . بصل أحمر مع طماطم رديئة
وكومة من الخضار التي تعافها الحيونات . ادرك ماتقصده بفعلها هذا . أخرج
من جيبه قطعتين من الحلوى وأعطاها لنصرية قائلاً :
ـ خذي هذه لك ولأخيك .
أخذتها منه وأعطته ظهرها ونادت على ذويب بتندر ، فهب راكضاً ووقف أمامها
باستقامة وهو ينظر الى ما في يدها :
ـ خذ هذه لك .
ملأت كفه بقطعتي الحلوى فتقافز فرحاً وهو ينادي :
ـ حلو حلو حلو حلو .
صرخت به نصرية موبخة :
ـ أسكت وإلا أخذتها منك .
انزوى عند جذع السدرة مقرفصاً ، وأكل بعضها بتلذذ ولاكها بارتياح ،
صاح سعدان آمراً :
ـ كل واحدة واحتفظ بألأخرى .
تركته نصرية لوحده وأكلت الحسرة ألحرى من صدرها ما أكلت .
أعدت ألعشاء واجتمعوا يمضغون زادهم بملل ، وقبل أن ينتهوا تجشأ سعدان ،
فأنبعثت من فمه رائحة ألفجل ، مما جعل نصرية تبتعد عنه وتقوم مستاءة .
تبعها بعينيه هازئاً من تصرفها وقال :
ـ مجنونة .
احضرت نصرية ثوب سعدان ، عرضته أمامها تتفحصه وتبحث عن ألفتق ألذي رأته
بألأمس ، هيأت ألأبرة وأدخلت فيها ألخيط ، ثم تابعت عملية ألرتق .
ظل يتابعها وكأن في صدره غصة يريد التخلص منها فقال:
ـ أخية ، ألا يمكن أن تقصري ألخيط ، كي لاتذهب فضلته سدى ؟
أخذت ألثوب بين يديها ونهضت متجهة نحوه ، ثم رمته بنفاذ صبر في حجره وقالت :
ـ خذه وأرتقه بنفسك .
وقبل أن تجتاز عتبة ألغرفة سحبها من طرف ثوبها وأجلسها أمامه قائلاً :
ـ هيا اكملي خياطته ، فأنا ذاهب لأنام .
قالت له وهي تتنفس بعمق :
ـ هذا أحسن ، فألنوم عافية .
أخرج مفتاحاً من جيبه ألجانبي ألعميق أدخله في ثقب باب غرفته وعالجه بحرص
وحذر . خطى نحو سرير نومه . أفرغ ما في جيبه من نقود بحرص . عرضها على
ألفراش وعدها على مهل ، وهو يفرز الورقية والمعدنية كلاً على حدة .
فتح الخزانة ببطء وأخرج منها كيسا من القماش ، فتحه وأدخل فيه الدراهم
ألواحد تلو ألآخر ، ثم مسدّ بقية ألأكياس ألمملؤة ، و رصها بكلتا يديه وهو
يضع ألكيس ألأخير فوقها .
أغلق ألخزانة وحاول أن يمتد إلا أن السرير صر ّ من تحته فأجفله ، ثم راح
يتفحص ألغرفة بوجل ، لالشئ ولكنه اعتقد ان هناك من يشاطره الغرفة . تطلع
الى الشباك ألواهن المغطى بكيس كان قبل ذلك يحفظ فيه ألأسمنت ، حاول أن يصل
الى ألفانوس المعلق بسلك طويل وسط الغرفة لتذليله . اضطجع مهدودا وعيناه
عالقتان في السقف يعدان ألاعمدة ألتي ترك ألقنديل سخامه عليها منذ زمن
والده.
صاح كعادته في كل يوم :
ـ نصرية ؟
لم ترد عليه فقد تعودت على ذلك وتعرف ما يريده ، ولما لم ترد عليه جاءها
صوته كألمخنوق :
ـ نصرية لاتسهري طويلاً ولا تنسي أطفاء المصباح .
أكملت رتق ألثوب ورمته جانباً ، لتعدّ فراش نومها ألأنيق .خلصت شعرها من
الوشاح ومسدته برغبة الحالم ، وعيناها ساهيتان حيث يمتد حلمها حول محيط
السدرة وانتظار فارسها ألذي رسمته مخيلتها. بلباسه الناصع البياض وكوفيته
المدلاة اطرافها، ينبعث منها عطراً شمته وعطرت به جسدها .
اختلجت وجنتاها خجلاً فأحمرتا وهي تستعد لأستقباله ، ومن خلال فرجة ألباب
مدت بصرها بحذر ، شعرت بأنفاسه تخترق أذنيها المنصتتين لوقع أقدامه . حاولت
أن تمد يديها وتأخذه الى صدرها ، فلم تمسك سوى الفراغ .
عادت من خيالها الى واقعها ، وأغلقت ألباب بأحكام ، ثم إمتدت على سريرها
بأرتخاء ، فعاودتها أفكارها ثانية تلعب معها لعبة عودة ألفارس .
رأته يهبط من قمة ألسدرة طائراً ناصع ألبياض ؛ بجناحين غطت ألسدرة وما
حولها ، وقدمين تكادان تمسان ألأرض . ناجته بروح ولهة ، تتوسله بألأقتراب
منها وضمها الى صدره ألمنقوع برائحة ألبخور ، ليشفي غليلها بقبلة تصهر
شغفها ألمزمن . أقسمت عليه بكل ماهو مقدس لديه ، وبكل ما هو صالح في هذه
ألدنيا ألتي حرمتها منه .
رأته وقد تداخلت ملامحه ببعضها ،ثم انفرجت عن فارس قوي لا يشق له غبار ،
وقامته ألمديدة تكاد تصل عنان ألسماء . تشع من وجهه أنوار بهية فيها من
القدسية ما جعلها مبهوته وقد أحجمت عن الكلام .
تابعت هبوطه من على ألسدرة الى ألأرض ، أخذتها رعشة أرخت ساقيها ، حتى
لامست ألأرض .
رأته يمد لها يديه بساعديه ألمفتولين ، وهو يطلب منها ألدنو منه . ازدادت
رهبتها وأعيتها عن ألوقوف ، مما جعله يتلاشى من أمامها ويتداخل مع أفنان
ألسدرة ألوارفة ، وألنور ينبعث من بين كثافتها باهراً ، يغشي عينيها ،
فأغمضتهما ، وبعد برهة فتحتهما فلم تر غير ألسدرة .
مدت عضدها بتكاسل ووضعت عليه رأسها ألمثقل بألأوهام فنامت نوماً عميقاً ،
حتى استل ألفجر خيوطه من بين جنبات ألليل وطرق مسامعها صوت ألمؤذن .
أكملت صلاتها وقد استنجد ألصباح بضياء ألشمس فأرسلت أشعتها حامية ، لتبعد
عنها خدر ألنوم ، وهي تطالعها من خلال شقوق ألباب وزجاج ألشباك أ لمهشم .
استيقظت مرحة مبهورة بألضوء ألدافق الى ألغرفة ، وراحت تقارنه بذلك ألنور
ألمنبعث من فارسها ألذي بات بين أفنان ألسدرة .
فتحت باب ألغرفة فصادفها سعدان يحث خطاه نحو ألمجاز ألطويل قاصداّ ألخان
ألذي ورثه عن أبيه . تابعته بنظراتها حتى سمعت إصطفاق ألباب خلفه ، فتأكدت
من خروجه .
ــــــــــــــ
ألخان
اجتاز سعدان ألشارع حتى نهايته ، وعند مفترق جانبـّي ألسوق . انعطف يساراً
غير مكترث بألمارة وكأنه غائب عن ألوعي . لم يشغله في تلك أللحظة سوى
ألأسراع وحث ألعميان ألخمسة سكنة ألخان ألدائميين على الأستيقاظ.
طرق الباب طرقات متتالية ، فسمع صوت ازاحة ألرتاج عن موضعه . دفع الباب
بقوة ودخل كعادته يتفحص الغرف الشاغرة عله يجد ساكنا جديدا يشغل احداها .
تابع حركات العميان محذراً إياهم بما يعترضهم ، فلم يعيروه انتباهاً ، فهم
قد حفظوا مسالك الخان عن ظهر قلب
جلس على كرسيه الهرم وظل يتابع حركتهم النشيطة . أنزلوا ألدلو في ألبئر
ألسحيقة ، أخرجوه وأخذ كل واحد منهم كفايته من ألماء ، وتركوه معلقاً وسط
ألبئر .
غسلوا وجوههم وأفرغوا ما في بطونهم في ألزريبة الموجودة ظاهر الخان ،
وألمخصصة لدواب ألنزلاء .
قبل خروجهم للتسول في طرقات ألحي وسوقها ألطويل ، أخذوا يتندرون على
ألمتصدقين عليهم ، حتى ملأت ضحكاتهم ألخان هرجاً وضجيجاً .
قال أحدهم يسأل ألآخرين :
ـ أنظروا لحالي . هل يرثى له ؟
أجابه أفطنهم وأكثرهم دراية :
ـ إلا ثوبك ألجديد .
قال متفاجئأ وقال :
ـ وكيف عرفت ؟
فرد عليه :
ـ وهل في ذلك صعوبة أيها ألمغفل ؟ألا تشم رائحته ألطيبة في حين رائحتك
مقرفة ، ومقرفة جداً .منذ متى لم يذق جسدك طعم ألماء ؟
أجابه بإستهزاء :
ـ منذ ذلك أليوم ألذي جروك للسباحة فيه جرا .
أجابه بتندر :
ـ أسأل من الله أن يرزقك سترة جديدة .
قال له متفاجئاً :
ـ منذ متى نزلت عليك ألرحمة ، حتى تسأل ألله أن يرزقني سترة ؟
قال له مداعباً :
ـ لاحباً فيك ، ولكن حتى لايتصدق أحد عليك .
ردّ عليه بأستياء :
ـ وما ألذي سيدخل كيسك ؟
قال له متشفياً:
ـ سيمتنع أهل ألكرم عن عطائهم إليك ، وبذلك نتخلص من منافس عتيد .
وعلق آخر قائلاً:
ـ انه يوم نتمناه لك من كل قلوبنا يا أخي ألعزيز .
ردّ عليهم بإستياء :
ـ لهذا أفقدكم ألله أبصاركم وأسأله أن يذهب ببصائركم .
قال له منافسه بأستهزاء :
ـ دعاؤك غير مقبول ياصاحب ألعينين ألكحيلتين .
مطّ شفتيه ورفع طرفه الى ألسماء ويداه ممدودتان بتضرع الى الله ويسأله أن
يستجيب دعوته .
توافد القرويون على الخان كعادتهم ، ربطوا دوابهم في الزريبة ظاهر ألخان ،
ثم عرضوا على سعدان بضاعتهم ألتي لاتتعدى ألسمن ألحيواني والقليل من ألحنطة
وألشعير وجلود ألحيوانات ، حتى ألنافقة منها ومقايضتها بألشاي وألسكر
وألتمر ألذي باتت عفونته واضحة .
كل هذه العمليات تقوم بها ألنساء ألقرويات ، ورغم ألثمن البخس الذي يدفعه
سعدان لهن ؛ كن في بعض الاحيان يتصدقن على ألمتسولين ( ألعميان ألخمسة )
المقيمين في الخان ؛قبل خروجهن للتبضع من ألسوق .
اتخذ سعدان ألغرفة ألأولى المحاذية لباب الخان لمعاملاته وتجارته .
ثلاث من القرويات جلسن قبالته وفتحن صرارهن ألواحدة تلو ألأخرى . ألأولى
كانت تحتوي صرتها على نبات ألسمسم ، وبعد أخذ ورد حول ألسعر اتفق معها ودفع
لها ثمنه ، وهو يتحسر قائلاً :
ـ خسارة ، والله خسارة .
دفع للأخرى دون أن يتعامل معها ، فرفضت ألمبلغ ، إلا أنه صرخ بوجهها موبخاً
رافضاً ألشراء ، فتوسلته بقبول ما عرضته عليه وبألثمن ألذي يرضيه ، فقد
خشيت أن تعود الى بيتها ولم تبع ما جلبته معها . ملأ للثالثة قربتها دبساً
وقد يكون مخلوط بألماء مع بعض ألفلسان ، فرضيت بذلك.
خرج ألنزلاء ألدائمون الى حيث يجدون من يتصدق عليهم، في حين انشغل سعدان
بألبيع وألشراء مع زبائنه من أبناء ألمدينة وألذين يتصيدون ألقرويات وشراء
بضائعهن بأبخس ألأثمان ، وبيعها على سعدان . بأرباح زهيدة ، بصفتهم وسطاء
بين سعدان وألباعة .
عند الضحى ركنوا كل ما اشتروه في الغرفة ، وكل صنف بصنفه .
قدم له أحدهم لفافة تبغ فقال له :
ـ بني هذا يضر بألجيب وألصحة ، ولكن لا بأس سآخذها منك.
التفت ألرجل الى من كان بجنبه وقال له هامساً :
ـ لقد امتنع عمنا عن شرائها وليس عن تدخينها .
بعدأن انفض الباعة من حوله وكاد الخان يفرغ منهم ؛ نادى أحدهم وطلب منه عود
ثقاب لأشعال لفافة ألتبغ ودس ألعلبة بعد ذلك في جيبه دون أن يعترض عليه
ألرجل ، فقد تعود على ذلك .
جلس يمضغ دخان اللفافة على مهل وينفثه على مهل .
حلّ الظهر وعاد المتسولون الى الخان . جلسوا متفرقين ؛ يعدون مدخولهم
أليومي على مهل ، وهو ينظر اليهم ويتحسر بعمق ، وكم تمنى أن يمتهن ألتوسل ،
ثم قال :
ـ رزق بلا مشقة .
علق أحدهم على قوله :
ـ يا لك من حسود . هل تبدل ماعندك بما عندي ؟
أفحمه ألرد فظل ساكتاً. وقام متسول آخر وتعثر بعصا رفيقه ، فقال له متندراً
:
ـ هل صبت عصاك من الرصاص ؟
علق آخر قائلاً :
ـ لالا هذه خزانة متنقلة .
امتعض صاحب العصا وقال :
ـ قاتلكم الله .
وقال ألذي تعثر :
ـ آهٍ لو أمتلك هذه ألعصا ، لتركت ألتسول من زمان .
وتندر آخر قائلاً :
ـ آه لوتعلمون ما فيها .
واستفسر آخر وكأنه لايعلم ما بها :
ـ هيا اخبرنا بما فيها .
سكت ولم يردّ عليه ، فقال ألأول :
ـ انها محشوة بما يكفي ألتصدق به على عشيرة بأكملها .
تململ صاحب العصا وأخفاها تحت ثوبه وقال :
ـ أللهم اجعل بيني وبينهم سدا .
فقال ألآخر :
ـ أللهم امسخني جرذاً لأتلذذ بطعمها .
قام صاحب ألعصا وقال قبل أن يخرج :
ـ سأترك لكم ألخان وما فيه .
قال ألذي تعثر بألعصا :
ـ خذ ألخان وما فيه وأترك لنا عصاك .
بعد خروج صاحبهم اجتمعوا في غفلة من سعدان ، وبعد فترة قصيرة ارتاب مما
يخططون له ، فقال لهم :
ـ أراكم تتربصون بصاحبكم شرا؟
لم يجبه أحد ، فتفرقوا ذاهبين الى غرفهم . وما كان منه سوى أن يغلق باب
غرفته ويخرج للغداء .
لم يتعود ألمجئ الى عمله عصراً ، فيظل ألخان بعهدة ألعميان . ألذين أجتمعوا
بعد آذآن المغرب يخططون للأطاحة بصاحبهم وألأستيلاء على عصاه .
ــــــــــــــ
بعد القيلولة خرج متجهاً لصاحبه ألأثير ألذي يقضي معه ساعات ألعصر في محل
عطارته ، وبعد المجاملة وألترحيب ؛ يطلب له قدح شاي من ألمقهى ألقريبة،
يشربه على مهل ويترعه بلفافات تبغ حتى يمتلئ صدره دخاناً ، مما يضطره
للسعال وألبصاق في الطريق دون اكتراث ، ثم يتحدث له عن هموم عمله وعن نزلاء
الخان وما يصدر عنهم من نوادر ، لكن أليوم حدثه حديثهم فأرتاب صاحبه
ألعطار وأعاره سمعه وأهتمامه ثم سأله :
ـ وما ألذي يريدونه من صاحبهم ؟
قال بشرود ذهن :
ـ أعتقد أنهم يريدون سرقة عصاه / ألكنز كما يسمونها .
وقال ألعطار مأخوذاً :
ـ وربما يقتلونه !
ردّ عليه سعدان مستخفاً بألأمر :
ـ لالا ، أنهم لايجرؤون على ذلك ؟
قال له صاحبه ألعطار متسائلاً:
ـ ولم لايفعلونها .
قال سعدان :
ـ انه مجرد اعتقاد .
ثم استدرك وقال :
ـ انهم شياطين وقد يفعلونها .
ودع صاحبه قبل موعده المعتاد وجعل طريقه يمر على ألخان . دفع ألباب وتأكد
من إغلاقها ، بعد أن سمع حركة رتاجها ألخشبي تململ في مكانه وقال لمن في
الداخل
ـ دعها مغلقة ، ولا تحاولوا ألعبث .
*ــــــ*ــــــ*
عسعس ألليل واختلط صوت الجنادب بعواء متقطع لكلاب سائبة ، وأعلن ألحراس
ألليليون حضورهم من خلال أصوات صافراتهم .
نزغ ألشيطان في قلوب ألأربعة ، فملأها طمعاً مما حدى بهم الى تنفيذ ما
خططوا له ، حين تأكدوا من أن خامسهم غطّ في نوم عميق.
قال كبيرهم والمخطط ألأول :
ـ إياكم وكشف ألسر أو عدم ألمشاركة في هذه ألعملية .
توجهوا نحو خامسهم وأحاطوا به ، تحسسوا جسده ، فشعر ببرودة أطرافهم ، وحاول
أن يصرخ مستنجداً فأكموا فمه بوسادته ،رفس رفسات متتالية محاولاً تخليص
نفسه فلم يفلح ، بادر اثنان منهم للتشبث بأطرافه وأنقض ألرابع على رقبته
بعد أن رفسه رفسة حصان عنود .
رمح ألرجل طويلاً وهو يصارع للتخلص منهم ، فلم يستطع ، جحضت عيناه
ألعاطلتان فبان بياضهما ، وأرتخت أعضاؤه وهدأ هدوئاً لم تند من بعده حركة .
جردوه من ملابسه وتركوه عارياً ثم حملوه أربعتهم وألقوه في ألبئر ، فأحدث
سقوطه صوتاً أجفلهم ، فتراجعوا وقال كبيرهم :
ـ ها قد تخلصنا منه .
وسأل أحدهم :
ـ وماذا بعد ؟
قال ألكبير :
ـ عليكم بعصاه .
قال ألثالث ببرود :
ـ كدنا أن ننسى أمر ألعصى ألتي قضي صاحبنا من أجلها.
تراكضوا الى مضجعه ألخالي ، وتزاحموا عند باب ألغرفة للفوز بألعصا / الكنز .
فتشوها بدقة وأيديهم تعبث بأرضيتها وجوانبها عبث ألأطفال لايلوون على شئ .
وبأمر من كبيرهم تم توزيعهم على ألغرف ألأخرى ، وبعد شتائم وكلمات بذيئة
وجهها لهم قال :
ـ لقد اشتركنا جميعاً بهذه ألمصيبة ، وعلينا اقتسام ما في العصا على بعضنا .
أضناهم ألبحث و دبّ الشك في نفوسهم واقسم كل منهم للآخرين بعدم ألعثور
عليها .
قال ألكبير :
ـ لابد من أنه خبأها في ألزريبة .
وكذلك تدافعوا في ألممر ألمؤدي إليها ، وأختلطت في أيديهم فضلات ألحيوانات
بفضلاتهم ، ولم يعثروا على شئ.
قال أحدهم :
ـ لابد من أنه خبأها عند سعدان ألجلف .
وقال آخر :
ـ تعالوا نكسر غرفة سعدان .
فقال ألكبير :
ـ ألا يكفي ماتورطنا به ؟
بعد صمت طويل دبّ الشجار بينهم وأخذوا يتهمون بعضهم ، فصاح ألكبير :
ـ خلصوا أنفسكم ودعوا ألشجار جانباً .
فرغت جعبهم من الكلام ؛ هدأواً هدوء حذراً ، يفكرون بما سيجلبه لهم ألصباح
من مصائب ، وقال أحدهم:
ـ واي عاقل سينتظر الصباح و ليس هناك سوى ألهزيمة.
هبوا جميعاً واقفين مرة واحدة ، توزعوا على غرفهم وجمعوا مايخصهم ، فتحوا
ألباب وتسللوا بخفة ، وفي نهاية ألسوق ألطويلة أستوقفهم ألحارس ألليلي
يسألهم عن وجهتهم والليل مازال فيه بقية، رد عليه كبيرهم :
ـ ذاهبون لباب ألله .
وقال ألحارس :
ـ ولكنه ألليل !
قال أحدهم :
ـ ان كان ليلاً أو نهاراً فما حاجتنا نحن ألعميان الى ألضوء؟
تركوه يتابع خطواتهم وأجتازوا ألسوق مسرعين .
أمعن ألحارس في ألموقف ، فتوجس خيفة إذ لم يفعلها أحدهم من قبل ، ويخرج عند
منتصف ألليل . تخطى نحو الخان ، فوجد ألباب مفتوحاً وألظلام مطبقاً ،
اشرأب بعنقه الى داخل ألخان فلم يتبين شيئاً . أغلق ألباب ونفخ في صفارته
منبهاً ألسراق وغيرهم على وجوده.آخذاً السوق ألطويل ذهاباً وإياباً ، وهو
يقلب ألموضوع في باله علّه يهتدي الى سبب خروجهم في هذا ألليل جماعة ، ونسي
صافرته ألأثيرة فلم ينفخ بها .
لاحت بوادر فجر الخميس وتكشفت بعض أسرار ألليل ، فبانت من تحتها ملامح
ألسوق رغم ألغشاوة ألمحيطة بألأشياء .
تخطى ألحارس نحو ألخان ، تطلع في ألغرف ، فلم يجد ما يثير ألريبة ، وكعادته
هيأ نفسه للوضوء استعداداً لصلاة ألصبح .
أدلى دلوه في ألبئر ، وعندما أفلته من يده أرتطم بشئ صلب . مدّ رأسه في
ألبئر فلم يتبين له شيئا ً. اوقد عود ثقاب وقربه من فتحة البئر ، فلاحت له
شعثت ألأعمى ألمقتول . وجف قلبه وتطلع في ألبئر بإمعان ، فلاح له رأس
ألضحية بوضوح ، ولكي يتيقن مما يرى ، مدّ يده وأوقد عودين من الثقاب ،
فتيقن أنه رأس لرجل غاطس .
تقلد بندقيته وهم خطاه باتجاه مركز ألشرطة هلعاً ، غير مصدق ما رأى .
ــــــــــــــ
تجمع ألشرطة حول ألبئر ، وراحوا يتفحصون ألضحية وبعد جهد أخرجوا ألجثة ،
وقد علق أصبعها في خيط من ألنايلون مربوط بطرفه عصا غليظة وألطرف ألآخر
مربوط بدعامة ألبئر .
مدوا ألجثة على ألأرض ، وبدأوا ألبحث في زوايا ألخان علهم يجدون ما يرشدهم
الى ألقاتل . وفي خضم ألضجة ألتي أحدثها ألشرطة قال ألحارس وقد انتبه
الجميع لقوله :
ـ لقد فرّ الجناة عند منتصف ألليل .
وسأله ألمكلف بألتحقيق :
ـ وهل تعرفهم ؟
قال ألحارس :
ـ أجل . انهم ألعميان ألقاطنين في ألخان .
أمر أحد الشرطة بأستدعاء سعدان ، وكعادته تقلد بندقيته وراح مهرولاً ،
وألمدينة ما زالت تغط بنومها ألعميق ، وتوقف عند باب بيت سعدان ، وطرقه
طرقات سريعة ومتتالية .
استقيظ سعدان وقد أخذ منه ألهلع مأخذاً وقال :
ـ من يطرق ألباب في مثل هذه ألساعة .
توجه الى الباب وتبعته نصرية والفرحة طاغية عليها وهي تقول :
ـ أجل . لقد جاء كما وعدني . انه يوم ألخميس .
نهرها سعدان بشدة وأعادها الى غرفتها ، تمنعت أول ألأمر ، إلا أنه هددها
فرضخت للأمر .
فتح ألباب ألذي لم يطرقه أحد في مثل هذه ألساعة أو غيرها ؛ بيدين مرتعشتين ،
فطالعه وجه ألحارس بعينين وجلتين وهو يستعجله على الخروج معه ، فقال سعدان
:
ـ ماذا؟ ماذا هناك ؟
قال له الحارس :
ـ هيا ارتدي ملابسك وتعال معي .
قال سعدان بوجل :
ـ ما وراءك ؟
قال الحارس وقد زاد من قلقه :
ـ ألشرطة تنتظرك في ألخان ؟
اقتربت نصرية من الباب لتستطلع ألأمر ، ولما لاح لها وجه ألحارس ولت هاربة
وهي تخفي وجهها عنه بكلتا يديها .
تنبه سعدان لحركة نصرية ، ثم التفت ناحية ألحارس يسأله:
ـ ما ألذي حدث ؟
قال ألحارس بجزع :
ـ ستعرف .
بعد أرتداء ملابسه خرج مع ألحارس ونسي الباب مفتوحا، فتبعه ذويب وجلاً
يتلفت حوله ، وحين رؤوه بعض ألمارة تحاشوه ومنهم من عاد من حيث أتى .
اقترب من سعدان وأمسك بكمه ، فنهره وأمره بألعودة الى ألبيت ، إلا أنه شدد
من قبضته ، فطلب سعدان من الحارس أن يمهله لحظة لأعادة أخيه الى ألبيت .
سحب ذويب من شعفته وقاده الى البيت ، ودفع به الى ألداخل وأغلق ألباب ،ثم
التحق بألحارس مسرعاً .
في الطريق الى ألخان لعبت ألهواجس برأس سعدان ، وشعر أن هناك دخاناً كثيفاً
يخرج من فروة رأسه . توسل ألحارس أن يطلعه على ألأمر ، إلا أن ألحارس أحجم
عن الكلام ، وأشار له بيده يحثه على ألأسراع .
فغر فاه ووقف مشدوهاً ، وزاد الموقف عمقاً ؛ جحوظ عينيه . تراخت أوصاله ،
حتى أنه كاد أن يسقط أرضاً ، لولا ألحارس ألذي أسنده بيديه وأعانه على
ألوقوف ، لكنه ظل كعجينة تتطوى بين يدي خباز .
أحضروا له علبة صفيح صدئة وأجلسوه عليها لصق الجدار المواجه للجثة . تحاشى
النظر إليها ، وراح يستنجد بألأولياء والصالحين لتخليصه من هذه ألورطة .
لم يهدأ ولم يقر له بال، وبعد برهة اخذت أنفاسه تعيد رتابتها ، ولكن سؤآل
ألمأمور أعاد لها توترها بسؤاله :
ـ ما قولك في هذا ؟
قال برهبة :
ـ غطوها رجاء.
فسأله ألمأمور بصرامة :
ـ دع الجثة وشأنها ، وحدثنا عما جرى .
قال سعدان متسائلاً :
ـ ومن أين لي أن أعرف ما جرى ، وقد أحضرتموني الى هنا وأنا في عز ألنوم .
وبعد أن ألح عليه ألمأمور بألسؤال ، أقسم بأغلظ ألأيمان بأنه لايعرف ما حدث
، وكرر ألمأمور سؤآله بصيغة أخرى قائلاً :
ـ ألم تشك أو ترتاب ؟ أو بإختصار ، هل كنت تتوقع هذا ألحادث ؟
أجابه متلعثماً :
ـ أجل . كنت أتوقع قدومهم على فعل شئ ، ولكن ليس ألقتل .
قال له ألمأمور لذا توجب ذهابك معنا الى مركز الشرطة لتدوين أفادتك .
قال سعدان متفاجئاً :
ـ مركز ألشرطة ؟!
قال له ألمأمور مواسياً :
ـ لاتخف نحن نعلم أنك برئ من هذه ألتهمة براءة ألذئب من دم يوسف ، ولكنها
ألأجراءات ، وعلينا تدوين ماتعرفه عن ألحادث .
تردد سعدان عن الذهاب ، إلا أن ألمأمور قال قاطعاً ألطريق عليه :
ـ هيا بنا ، وأنتم .
وجه كلامه الى ألشرطة :
ـ خذوا ألجثة ألى المشفى لتشريحها ، ثم اختموا ألخان بألشمع ألأحمر .
اقتادوا سعدان ألمتعثر في مشيته وقد أخذه ألذعر ، ونظراته تبحث عمن ينجده
من هذا ألموقف ، شعر ألمأمور بحراجة موقفه فقال له :
ـ ما ذا دهاك ؟
قال له سعدان بشفتين مرتجفتين :
ـ عفواً
الخميس فبراير 10, 2011 8:59 am من طرف هشام مزيان