الأخيرين جرت في مرفقنا تطورات خطيرة لم يشهد لها مثيل منذ استحداثه قبل
ما يربو على ربع قرن من الزمان. في البدء لم نفهم نحن الموظفون الصغار
أبعاد المسألة ولم ندرك ما تخفيه الحوادث الصغيرة والتي قد تبدو لنا منذ
الوهلة الأولى منفصلةً عن بعضها البعض _ أقول لم ندرك ما تخفيه تلك الحوادث
من معاني عميقة الدلالة ومن خلفيات بعيدة الأغوار.
في مطلع الشهر الماضي أصدر السيد علوي الأقرع المدير العام أمراً يقضي بمنع
دخول الأغنام الى ساحات المرفق. ولما كان مرفقنا بدون بوابة يمكن إغلاقها
وبدون سور يحميه، ولما كانت الأغنام لا تفقه معنى للمشروع والممنوع فقد
كانت تدخل كعادتها دون أن تأبه لأمر المدير العام، مما جعل الأخير (
المدير) يكلف أحد أفراد حراسته بمطاردة الأغنام التي تقترب من ساحة المرفق.
لم يتوقع أحد أن هذا الإجراء موجه ضد شخص بعينه أو أنه يمكن أن يكتسب أي
أبعاد اقتصادية أو سياسية أو أن له أية جذور قبلية أو عشائرية ، ولم يكن
بمقدور كائن من كان تصور أن هذا الحدث التافه يمكن أن يدفع قبيلتين من أعرق
القبائل في المنطقة الى حافة الحرب بينهما . فكيف حصل ذلك؟؟ … سأقول لكم :
القضية وكل ما فيها أن أغنام الأستاذ عباد الأكرش نائب المدير العام والذي
يسكن بالقرب من إدارتنا- هذه الأغنام تأتي يوميا لتلتهم ما تحتويه الزبالة
من بقايا المواد الغذائية التي يقذف بها زبائن المقصف من الموظفين
والمتابعين، وكانت الأغنام تزداد سمنةً وانتفاخاً وكان الأستاذ علوي الأقرع
يزداد غيرةً وغيظاً نظراً لما بينه وبين نائبه من منافسة وتحاسد، مما دفعه
الى البحث عن طريقة تمكنه من الاستحواذ على محتويات الزبالة وحرمان خصمه
من الاستفادة منها .
في البدء أوعز الأستاذ الأقرع الى المتعهد على المقصف ليحتفظ له بفائض
المأكولات واعداً إياه بمكافأة ثمينة، وقد حاول هذا الوفاء بوعده غير أنه
لم يكن بوسعه إجبار الزبائن على الالتزام بطريقة معينة في التصرف ببقايا
الأكل فكل زبون يرمي بفائض أكله حيثما يريد، فتأتي الأغنام لالتهامه مما
ضاعف من حنق المدير الذي صرخ في وجه صاحب المقصف بعصبية واضحة:
ـ هل أنت معي أم مع خصمي؟ ويجيب عليه صاحب المقصف بارتباك:
ـ عفوا يا أفندم ..ولكن .. ..غير أنه يقاطعه منصرفا :
ـ أنا لا أريد لكن .. أنا اريد برهاناً عملياً!
وعلى أثرها أصدر المدير أمره المعروف بمنع دخول الأغنام، ثم بتكليف أحد
أفراد حراسته بحماية الزبالة غير أن الحارس المسكين لم يستطع القيام
بالمهمة بمفرده فهو إذ يطارد إحدى الأغنام تتسلل البقية لتلتهم محتويات
الزبالة، مما زاد ممن غضب المدير ووصف حارسه بالغبي ثم أمر بتوقيفه عن
العمل.
في اليوم التالي قام المدير بنفسه بحراسة الزبالة وأعطى أوامره لمدير
المكتب والسكرتيرة بصرف جميع المتابعين، ولكن بعض هؤلاء كان يلاحقه الى
موقع الزبالة فكان المدير يصرفهم بقوله:
ـ أي متابعات هناك مكتب ، تعالوا الى المكتب!، وعندما يناقشه أحدهم :
ـ بس يا أفندم في المكتب يقولون انك مشغول . يرد عليهم :
ـ أجل مشغول ! وماذا تظنني افعل هنا هل تراني ألعب مثلاً؟
بيد أن المدير لم يستطع المثابرة على هذه الوضعية فقد ارتفعت حالة التذمر
بين الموظفين والمتابعين من جراء تعطل أعمال المرفق الأمر الذي جعل المدير
يكلف حراسته بالتقاط أي قطعة خبر أو بقايا طبيخ وحفظها في كيس بلاستيكي
كبير الى نهاية الدوام وتسليمها للمدير, ولأن المنافسة لا يمكن أن تحدها
حدود، فقد قام النائب بدوره بتكليف أفراد حراسته بجمع ما يمكن جمعه من
محتويات الزبالة .
وازدادت الأمور تفاقماً عندما نشب النزاع بين أفراد حراسة المدير وحراسة
النائب، هذا النزاع الذي ما لبث أن تحول الى عراك بالأيدي لم يفضّ إلا بعد
تدخل من كان موجوداً من زبائن المقصف، وهو ما جعل المدير يطرح القضية في
الاجتماع الدوري لمجلس الإدارة.
في بداية الاجتماع سارت الأمور بشكل طبيعي وكان الجميع يتحدث حسب الأيتيكيت
مؤكدا على المصلحة العامة والسلوك الحضاري والقيم الجمالية ورفع وتيرة
العمل … ولكن الصدور كانت تغلي بالحقد الدفين والضغينة المكبوتة التي يمكن
أن تشتعل لهباً في أية لحظة، وهكذا فما أن بدأ النقاش يلامس القضية
الجوهرية التي عقد من أجلها الاجتماع – قضية الزبالة _ حتى بدأت الأحقاد
تعبر عن نفسها، فقد أصر المدير على اتخاذ قرار يمنحه وحده الحق في التصرف
بموضوع الزبالة، لكن النائب الذي استغل قرب منزله من المرفق وقدرة أغنامه
عل الكر والفر طلب اتخاذ قرار يقضي باعتبار الزبالة لا تدخل في صلاحية
الإدارة ولا المجلس الإداري.
كان واضحاً أن كلاً من المدير ونائبه يحاول توجيه مقررات الاجتماع بما يخدم
مصلحته، وتصاعدت حدة النقاش عندما اتهم المدير نائبه بالانتهازية واللؤم.
ـ إذا هناك انتهازي أو لئيم في هذا المرفق فهو أنت دون غيرك!
رد عليه النائب بحدة.
ـ أنا انتهازي يا قليل الحسب والنسب؟! صرخ المدير غاضبا.
ـ يجب عليك أن تعرف من هو قليل الحسب والنسب !انه أنت وكل آل الأقرع!
ـ آل الأقرع أهل أصالة وعراقة وليسوا كآل الأكرش !!
رد المديرونهض من مقعده مكشراً باتجاه النائب.
وكما في الحالات المشابهة تصاعد تبادل الشتائم والاتهامات والتقاذف
بالأوصاف والعبارات الجارحة ليتحول الى اشتباك بالأيدي والرجم المتبادل
بالأحذية وطفايات السجائر، وبعد السيطرة على الموقف انقسم أعضاء المجلس إلى
ثلاثة أقسام:
ـ أكثر من ثلث الأعضاء أظهروا انحيازاً واضحاً الى جانب موقف المدير العام .
ـ مثلهم تقريبا تعاطفوا مع نائب المدير، أما البقية وهم الأقلية فقد اكتفوا
بالحياد، وقلة قليلة منهم استهجنت الموقف وانسحبت من الاجتماع احتجاجاً
على هذا الهبوط في سلوك الإدارة ونشاط المجلس والمرفق عموماً .
هذا الحدث العاصف صار حديث الناس في كل مكان، ولو أن القضية توقفت عند هذا
الحد لهان الأمر، ولكن المدير ونائبه قاما بنقل خلافهما الى قبيلتيهما
ليبدأ تبادل التحرشات والشتائم والاتهامات بين أفراد القبيلتين كما نشبت
حوادث عنف هنا وهناك كادت أن تؤدي الى اندلاع الحرب بين القبيلتين لولا
تدخل الخيرين من الطرفين ومن القبائل المجاورة، فبعد طلوع ونزول وذهاب
وإياب اقترحت مجموعة الوسطاء حلاً معقولاً ينص على أن تكون الزبالة (موضوع
النزاع) من نصيب أي إنسان يثبت أنه عديم الحسب ضعيف النسب، لا تربطه أية
صلة بالأصالة القبلية وعراقة الانتماء إليها، باختصار أيَ إنسان " قليل
الأصل".
وكادت القضية أن تحسم لولا أن المدير ونائبه وبعض أعضاء مجلس الإدارة قد
سارع كل منهم للإعلان أنه "قليل الأصل"وأنه على استعداد لإحضار الوثائق
التي تؤكد ذلك، وبناء عليه يطلب كل منهم أن تكون الزبالة من نصيبه وحده مما
زاد المشكلة تعقيداً وجعلها قابلة للتصاعد من جديد وفي أية لحظة.
السبت يوليو 24, 2010 2:25 am من طرف هشام مزيان