في ليال الشتاء التي تطل بوجهها على المدينة النائمة منذ الساعات الأولى
للغروب ، فتحيل شوارعها الضيقة ، و أزقة ( الفوارس ) المتعرجة إلى مقار
صامتة ، خالية من المارة . يوقد الحاج محمود النار في (وجار) مجلسه لإعداد
القهوة والشاي على فحم، يصبح بعد حين بلون الذهب الصافي يتدفىء حوله رواد
مجلسه الدائمون كل ليلة .
يستعد الحاج محمود " لعتمة " هذه الليالي الشتوية منذ الغروب ، و بعد إشعال
الفحم ، يتخذ مكانة المعهود في ركن المجلس بهدوء و صبر ، فيجلس القرفصاء ،
واضعا أحد الكتب الضخمة التي يهوى مطالعتها فوق فخذيه، أو ممسكا به بكلتا
يديه ، يقرأ بتامل عميق ونظرته الطبية فوق عينيه الواسعتين، حاسر الرأس
حينا أو لابسا غترته البيضاء دون العقال … و يستمر في جلسته تلك، قارئا
لكتابه … ذاهلا عن كل من حوله ، يخيل لمن يراه بأن داخله حسرة مكتومة بين
أضلاعه، لا يريد إطلاقها، فرجولته و إبائه لا يسمحان له بالتوجع و الألم ،
يستمر في قراءته تلك حتى يطرق أحد أبناؤه باب المجلس ، مناديا إياه للنزول
إلى أسفل الدار لتناول العشاء . و يلتفت حوله أبناؤه في صخب لتناول العشاء ،
ثم يعود من جديد صاعدا إلى مجلسه منتظرا في شوق إلى جلساؤه .. هكذا كل
ليلة يشتاق إليهم ، و يزداد حبه لهم ، و هم بدورهم تشدهم رائحة المجلس
الزكية ، تلك الرائحة التي بها شيئا من عبق العبير ، و عطر الفرح ، و بخور
الليالي الرمضانية .
السبت يوليو 24, 2010 2:33 am من طرف هشام مزيان