في ذلك الزمن … زمن القيض و رياح ( السموم )، لم يحاول الحاج محمود أن يخفي
وجهه، و جراحه، فهو كرجال الأحساء الماشين على أشلاء الماضي . ففي كل
الاجتماعات الصاخبة التي تجمعه مع الأهالي، و في جلساته الخاصة مع أصدقائه،
كان الحاج هادئا ، لم ير قط يوما منفعلا .. فهو يتكلم بهدوء … و يتحدث كمن
بداخله حسرة ، آهة ، غير معروفة . و في أثناء صمته يطيل النظر بعينيه
البارزتين مفكرا بعيدا عن الآخرين ، قابعا في عالم خاص به .
و في ساعات الفراغ التي يقضيها الحاج محمود في مجلسه ، تجده قارئا لأشعار
المتنبي و ابن الرومي و أبو فراس الحمداني و غيرهم .. كذلك فهو معجب بكتب
التاريخ يقرئها بنهم عجيب ، و الكتب الدينية يتأملها بعمق .. إلا أنه لم
يستخدم اطلاعه قط في الجدال العقيم مع جلساؤه . بل يناقش بهدوء كعادته
دائما ، منذ أن كان شابا في العشرين … و حتى بعد أن غذى شيخا في السبعين من
العمر . عاش فقيرا مطاردا من بيت لآخر لكنه بعد ذلك تعامل بود كثير مع
الفقراء .
يتحدث بكلمات محدودة ، و يلزم الصمت ، بعد أن يفتح ( قوطية ) التبغ و يلف
له سيجارة من ( التتن ) العراقي الحار و يدخنها بهدوء ، و يطوي في داخله
حسرة غير معروفة .. آهة دفينة في أعماقه ، يعتقد البعض إنها راجعة إلى أيام
انكساراته القديمة في معترك الحياة ، و البعض يفسرها بأنها حزنا على ابنته
الصغيرة المريضة .
كان الحاج محمود يعمل بصمت و يصل أقرباءه و بالأخص المحتاجين منهم دون ضجيج
أو تفاخر … بل لم يكن يتحدث عن هذه الصلات ، إنما يسمع عنها لاحقا من
الأقرباء أنفسهم أو من صبيانه و معاونيه أحيانا أخرى . و كان يقبل على
العمل كإقباله على عبادته .. ففي كل يوم يرتدي ثيابه ، غترته و عقاله ، و
يضع على كتفيه النحيلتين ( بشتة ) الأسود النجفي .. و يخرج من زقاق (
الفوارس ) الضيق الطويل متوجها إلى محلاته التجارية في الشارع العام . و
أثناء سيره إلى محلاته التجارية يقف أحيانا عند هذا الصديق أو ذاك مسلما و
مرحبا . و لا يعود إلى الدار إلا الظهر ، و عند خروجه بعد الظهر لا يعود
إلا عند الغروب … حيث يبدأ العمل من جديد في التجهيز لليلة جديدة في مجلسه .
فلم يكن يعرف الكسل مطلقا ، و يكره الاتكال على الآخرين في قضاء حاجاته و
حاجات عياله . يتذكر أنه بدأ العمل و هو لم يتجاوز السبع سنوات من العمر و
لم يتوقف عن العمل حتى بعد أن تجاوز السبعين ، حينما غمض عينيه للمرة
الأخيرة .
و في ظل الأعمال الكثيرة التي يزاولها من إدارة تجارته الضخمة ، و واجباته
الاجتماعية و الأسرية ، كان يداوم على زيارة الأقارب و يعود المرضى منهم ، و
يحتفل معهم في اعراسهم ، و يواسيهم في أمواتهم ، كان تاجرا لكن أصدقائه من
المشائخ ، و كان يجالسهم و لم يدرس العلوم الدينية قط
السبت يوليو 24, 2010 9:34 am من طرف نابغة