كثيرة هي الأسباب التي جعلت المرأة على اختلاف السياق الحضاري والثقافي والفكري موضع التشريح تحت المجهر. كانت وما زالت بقعة الضوء التي تدور حولها الرغبات والانتقادات في آن. وبالرغم من تلك الهالة التي سكنت العقول، إلا أنها أحيطت بالأحكام المسبقة، التي تنوعت واختلفت توجهاتها، إلا أنها بقيت ضمن دائرة تجريد المرأة من كونها كيانا فكريا مستقلا. هذا التجريد تمثل في صور عدة؛ منها الحكم على المرأة بالأحكام المسبقة الفضفاضة التي تحمل على معان ضبابية، يمكن استخدامها وإسقاطها على قضايا لا حصر لها. من الأحكام المسبقة تلك فكرة "الضعف"، حيث تم بناء افتراض ضعف الأنثى دون الرجل على أكثر من جانب؛ فالأنثى "ناعمة"، وبنيتها الجسمية هزيلة، في حين أنيطت "القوة" بالرجل.
ولم يقف مفهوم الضعف عند هذا التعبير البسيط للمفردة، فقد حكم عليها بالتالي أنها غير قادرة على حماية نفسها، وليست غير قادرة فحسب، إنما كان الحكم قاسيا إلى درجة حسم الأمر في أنها لن تقدر أبدا. ولكن الفكرة ذهبت أيضا إلى أبعد من ذلك، وفرضت تبعات سلوكية وضوابط ومحددات للسلوك وبالتالي للطموح، فلأنها بحسب الافتراض "ضعيفة" ولا يمكن أن تحمي نفسها من المخاطر، فهي إذا في حاجة دائمة لمن لديه القوة على الحماية.
وبحسب تلكت الافتراضات وتناقض الأحكام المسبقة، فإن المرأة أيضا الأكثر قدرة على الرعاية، وتحمّل الأعباء المنزلية، بالإضافة إلى كونها "حامية" شرف الأسرة، والمجتمع، والهوية الوطنية. وفي حال وقعت ضحية اعتداء، فإنها لا تنجو من الجلد على أساس التفريط بالشرف، أو حتى الاتهام بأنها الجانية وليس المجني عليها، فـ"الضعيف" يتحول فجأة وبإرادة القوة إلى "قوي" وصاحب القرار.
ولأنني لا أدعو إلى تعزيز الصور النمطية المسلّم بها، فإني لن أنتهي من فكرة الضعف عند هذا الحد؛ لأن القوة الجسدية ليست منوطة بحال بالفرق البيولوجي الجنسي، فالقوة الجسدية تكتسب مع الممارسة. وقوة العضلات لا يمكن أن تكون حكرا على الذكور، وليست تمنح لأي ذكر. فليس كل الذكور يستطيعون العمل في مواقع الإنشاء مثلا.
وقد يسأل البعض: إذا لم لا نرى المرأة تعمل في البناء مثلا؟ رغم أنّ هناك قلة من النساء اللواتي يعملن في هذا المجال، إلا أن ذلك عموما حصيلة "طبيعية" لتراكم الصور النمطية المجتمعية في الوعي بأنّ المرأة غير قادرة على العمل في مجالات كهذه، بالإضافة إلى أنّ قدرة المرأة الجسدية هي أيضا حصيلة لطبيعة الممارسات العضلية التي تقوم بها بناء على الخبرات المناطة والمقبولة مجتمعيا. بمعنى أنه لو كانت المرأة "ضعيفة" جسديا بناء على جنسها لما استطاعت أن تمارس رياضة المصارعة على سبيل المثال.
وكما منطق الاستشراق الذي يقول بتشيكل وعي الشرق عن ذاته من خلال تعريف الغرب، فإنّ نفس أداة القوة حاولت عبر الزمن تشكيل الوعي للجنسين على أساس تعريف ذات الأنثى من خلال ذات السيطرة/الذكر، وكأنّ المرأة هي المرآة، هي الصورة المنعكسة وليست الأصل. وكأنها وجدت فقط لتكمل الحكاية، فهي لا ولن تلعب دور البطولة، وكأنّ المخرج يراها دائما ضمن الكماليات؛ فقد جاءت لترمز لقيم اخترناها زينة لنا؛ جاءت لتقدم كل ما في جعبتها من عاطفة، وعطاء، وخدمة، ورعاية، فالعاطفة لم تلصق عبثا بالمرأة دون الرجل، علما أنّ العاطفة أيضا غير قابلة للتوزيع على أساس الجنس.
إن البناء الثقافي والأحكام المسبقة هي التي حكمت على المرأة كونها الطرف "الضعيف" بالعاطفة، في حين حرمت تلك الأحكام الذكر من أنواع العاطفة إلا ما يخدم مصلحة الـ"سلطة" كعاطفة الغضب. وهكذا تكون المرأة المرآة من جديد، كلما كانت أضعف، يكون الذكر أقوى، وكلما كانت أكثر عاطفية باتجاه العواطف السلمية كالحزن، والحنان، والبكاء والألم، يكون الرجل أكثر عقلانية.
شكّلت الذكورية ذاتها من خلال قمع الآخر "الأنثى"، وترسيخ كل الصور النمطية والافتراضات المسبقة التي تعزز مؤهلات الذكر للسيطرة على كل المستويات، فصانع القرار هو الذي يمتاز بالحكمة، والحكمة ارتبطت ثقافيا بجنس الذكر، على الرغم من أنّ الحكمة تمثل مرحلة متقدّمة من تراكم الخبرات والقدرات الذهنية والرؤية الثاقبة للأمور، فهي بالتالي غير مرتبطة بالدور الإنجابي والفرق البيولوجي. ولو كان الأمر كذلك، لكان كل ذكر "لقمان".
قانون القوة واحدٌ على اختلاف شكل ومستوى ونكهة اللعبة. ويقضي قانون القوة بأن تبنى الثنائيات من خلال المقارنة والتضاد، فما يخسره الآخر تكسبه أنت. وهذا بالضبط ما ينطبق على قضية الحقوق، الأدوار، والعلاقات بين الجنسين. إذ أنّ القوة حكمت على "الأنثى" بالتبعية الدائمة والذائبة في كل التفاصيل دون استثناء، حيث جاءت الأحكام المسبقة وتشكيل صور لكيف يجب أن تكون الأنثى وكيف يكون الذكر مجرد مبررات لديناميكيات نزع السلطة ومنحها.
إنّ قدرات الذكر والأنثى على حدّ سواء هي حصيلة تركيبة بنيوية لخطاب القوة الثقافية المهيمنة على الخاص والعام، على العقول والأجساد، وتكرار تعزيز الصور النمطية يؤدي إلى تكرار إثبات نظرية القوة، بتحديد مسار الأنثى وإنجازاتها.
ليس من السهل تفكيك ما قد قام بتشكيل الوعي على مدار السنين، ولكنّ الأهم هو الإدراك بأنّ الفرق الجنسي البيولوجي هو ليس فرقا في مستوى الإنسانية، ولا يعطي أحد الجنسين امتيازا أو انتقاصا، فكلاهما كيان، ووعاء فكري لتداخلات خطابية متشابكة. وإذا تواجدت الفرص العادلة فلن يكون هناك محددات مرتبطة بالجنس. المحددات تكون بافتراضهما "أصلا" و "صورة"؛ فالتكاملية لا تعني التطابق. هي ليست صورة، بل هي تطبع صورتها وترحل، لفضاء آخر تشرق فيه من جديد على وجه آخر من العالم.
ومهما حاولت أشكال القوة الأبوية أن تساويها بـ"الأشياء"؛ أشياء تحتاج المحرّك لتوجيهها، وتحريكها كما يجب، والتنقل بها، واتخاذ القرارات عنها، و"حمايتها" بمنعها من السفر، وتجريدها من رغباتها، وفطرتها وأحلامها فقط لأنها خلقت "أنثى"، فإنّ الهمزة لا تنفكّ تقاوم بين المدّ والقطع، لأن الـ"مرأة" ليست أبدا "مرآة".