إريش فروم
العدوان الخبيث: مقدماته المنطقية
ملاحظات أولية:
إن العدوان المتكيِّف بيولوجيًا يخدم الحياة. وهذا مفهوم من حيث المبدأ بيولوجيًا وفيزيولوجيًا عصبيًا. إنه دافع يشترِك فيه الإنسان مع الحيوانات. وما هو فريد في الإنسان هو أنه يمكن أن تدفعه الدوافع إلى القتل والتعذيب وأن يشعر بالشهوة لدى فعله ذلك، وهو الحيوان الوحيد الذي يمكن أن يكون قاتل نوعه ومدمِّره من دون أي مغنم معقول، سواء كان بيولوجيًا أم اقتصاديًا.
يبدو من البسيط أن نعرف متى يأتي الإنسان إلى الوجود، ولكن الأمر في الحقيقة ليس بسيطًا تمامًا كما يبدو. فقد يكون الجواب. إنه في وقت الحبَل، وعندما يتخذ الجنين شكلاً بشريًا محددًا، وفي فعل الولادة، ونهاية الفطام أو حتى قد يفترِض المرء أن جلَّ الناس في أوان وفاتِهم لم يكونوا قد وُلِدوا تمامًا بعد. وخير لنا أن نرفض تثبيت ساعة أو يوم لـ"ولادة" الفرد، وأن نتحدث بدلاً من ذلك عن سيرورة يأتي فيها الشخص إلى الوجود.
ولو سألنا متى وُلِدَ الإنسان بوصفِه نوعًا، لكان الجواب أصعب بكثير.
ويمكن أن نعيد تاريخ الحبَل بالإنسان إلى بدء الحياة أحادية الخلية، قبل ما يقترِب من مليار ونصف المليار من السنين، أو إلى بداية وجود اللبونات البدائية، قبل زهاء مائتي مليون سنة، ويمكن أن نقول إن نشوء الإنسان يبدأ بأسلاف الإنسان من أشباه الإنسان الحالي أو يمكن قبل ذلك.
وينبغي أن نصِل إلى فهم لطبيعة الإنسان على أساس الشرطين البيولوجيين اللذين يسِمان ظهور الإنسان. وكان أحدهما هو تحدُّد السلوك بالغرائز على نحوٍ دائم التناقص. والمنحى الآخَر الذي وُجِدَ في التطور الحيواني هو نمو الدماغ، وخصوصًا القشرة الدماغية الجديدة.
وإذا أخذنا في الاعتبار هذه المعلومات، أمكن لنا أن نعرِّف الإنسان بأنه أحد فصيلة الرئيسات الذي ظهر عند مرحلة من التطور وصل فيه التحدُّد الغريزي إلى الحد الأدنى ونمو الدماغ إلى الحد الأعلى. وهذا الاتحاد بين التحدُّد الغريزي الأدنى والنمو الدماغي الأعلى لم يحدث من قبل في التطور الحيواني ويشكِّل من الوجهة البيولوجية ظاهرة جديدة كل الجدَّة.
وطبيعة الإنسان يمكن تعريفها على أساس التناقضات الأساسية التي تميز الوجود الإنساني ولها جذورها في الانقسام الوجودي بين الغرائز المفقودة والإدراك الذاتي.
والصراع الوجودي للإنسان يُحدِث بعض الحاجات النفسية المشتركة عند كل البشر. وهي حاجات وجودية لأنها مترسِّخَة في شرط الوجود الإنساني نفسِه. ولإشباع هذه الحاجات ثمة طرق مختلِفَة تختلِف باختلاف الوضع الاجتماعي. وهذه الطرق تتبدَّى في عواطِف كالحب والرقَّة والكفاح في سبيل العدل، والاستقلال والحق والكره والسادية والمازوخية والتدميرية والنرجسية. وهذه العواطف راسِخَة من الطبع أو مندمِجَة في طبع الإنسان. والطبع هو النظام الدائم نسبيًا لكل المجاهدات غير الغريزية التي من خلالها يصل الإنسان نفسه بالعالَم الإنساني والطبيعي. ويمكن أن يعرِّف المرء الطبع بأنه البديل البشري من الغرائز الحيوانية المفقودة، إنه الطبيعة الثانية للإنسان.
ويكتب برغونيوكس: "مع أنه [الإنسان] يمكن أن يُعدَّ حيوانًا من الرئيسات يمتلِك كل خصائصها التشريحية والفيزيولوجية، يشكل وحده مجموعة بيولوجية لن ينازِع أحد في أصالتها... والإنسان يشعر أنه مفصول بتمزق وحشي عن بيئته، وأنه منعزِل في خضمِّ عالَم لا يعرف مقياسه، وقوانينه، ولهذا يشعر أنه مرغَمٌ على التعلُّم من مجهودِه المرير الدائم ومن أخطائه، وعليه أن يعرف كل شيء ليبقى. والحيوانات التي حوله تأتي متجمِّعَة تبحث عن الماء، وتتضاعَف أو تهرب دفاعًا عن نفسِها في وجه ما لا يُعَدُّ من الأعداء، وعندها أن فترات الراحَة والنشاط يعقب بعضها بعضًا في إيقاع لا يتبدَّل تثبتُه الحاجات إلى الغذاء أو النوم أو التوالد أو الحماية. والإنسان يفصِل نفسَه عن محيطِه، ويشعر أنه وحيد، ومهجور، وجاهِل كل شيء باستثناء أنه لا يعرف شيئًا. وهكذا كان شعوره الأول هو القلق الوجودي الذي يمكن أن يميل به إلى حدود اليأس".
حاجات الإنسان الوجودية والعواطف المتباينة الراسخة في الطبع
إطار التوجه والإخلاص
إن القدرة على الإدراك الذاتي، والعقل، والتخيل – وهي الخصائص التي تتجاوز القدرة على التفكير الوسيلي حتى عند أنبَه الحيوانات – تتطلب صورة العالَم ولموقع الإنسان فيه لها بنيتها وتماسكها الداخلي، فالإنسان بحاجة إلى خريطة العالَم الطبيعي والاجتماعي، من دونها سيكون مشوَّشًا وعاجزًا عن أن يعمل عملاً هادِفًا ومنسَّقًا. ولن يكون لديه سبيل إلى توجيه نفسِه والعثور على نقطة ثابتة له تسمح بتنظيم كل الانطباعات التي تُحدِث تأثيرًا فيه. ومن وجهة نظَر حاجتِه إلى إطار للتوجُّه لن يكون هناك أي فارِق بين أن يعتقِد بأن السحر عمومًا والسحر بمساعدة الأرواح الشريرة هما التفسيران النهائيان لكل الحوادث، أو بأن روح أسلافه ترشد حياته ومصيرَه، أو بأن الإله القادِر على كل شيء سوف يثيبه أو يعاقبه، أو بأن قدرة العالَم تقدِّم الإجابات عن كل المشكلات الإنسانية إذ يصير لعالمه معنى، ويشعر باليقين من أفكاره من خلال إجماع الذين حوله. ولكن الخريطة لم تكن مغلوطًا فيها كليًا، ولم تكن صائبة كليًا في أي وقت كذلك. بل كانت على الدوام كافية لتقترب من تفسير الظواهِر خدمةً لغرض العيش. ولا يمكن للصورة النظرية أن تنسجم مع الحقيقة إلا إلى الحد الذي تتحرر فيه ممارسة الحياة من تناقضاتها وعدم معقوليتها.
ولكن الخريطة ليست كافية لتكون مرشِدًا للعمل، فالإنسان يحتاج كذلك إلى غاية توضِّح له إلى أين يذهَب. وليسَت لدى الحيوان مشكلات كهذه. فالغرائز تزوده بالخريطة وكذلك بالغايات. ولكن الإنسان الذي يفتقِر إلى التحدد الغريزي ولديه دماغ يسمَح له أن يفكر في الاتجاهات الكثيرة التي يمكن أن يسير فيها، يحتاج إلى موضوع للإخلاص الكلي، يحتاج إلى موضوع للإخلاص يكون النقطة المحورية لكل مجاهداته... وهو يحتاج إلى موضوع الإخلاص لعدة أسباب فالموضوع يدمج طاقاته في اتجاه واحد. وهو يرفعه فوق وجوده المنعزِل بكل ما فيه من شكوك واضطراب، ويخلع المعنى على الحياة. وهو في إخلاصه لغاية تتجاوز أناه المنعزلي ويتجاوز ذاته ويغادِر سجن تمركزه المطلَق حول الأنا.
الأربعاء مارس 02, 2016 4:11 am من طرف حياة