** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
الرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 النشوء التلقائيّ و أصل الحياة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نابغة
فريق العمـــــل *****
نابغة


التوقيع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة

عدد الرسائل : 1497

الموقع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة
تعاليق : نبئتَ زرعة َ ، والسفاهة ُ كاسمها = ، يُهْدي إليّ غَرائِبَ الأشْعارِ
فحلفتُ ، يا زرعَ بن عمروٍ ، أنني = مِمَا يَشُقّ، على العدوّ، ضِرارِي

تاريخ التسجيل : 05/11/2009
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2

النشوء التلقائيّ و أصل الحياة Empty
01032016
مُساهمةالنشوء التلقائيّ و أصل الحياة

.‘

ملخص
ما برهنه لويس باستور (louis Pasteur) وغيره مِن مَن أنكر النشوء التلقائي هو أن الحياة حالياً بشكلها المعقد لا تنبثق تلقائياً من اللاحياة في الطبيعة. باستور لم يبرهنعلى استحالة نشوء الحياة بشكل بسيط من اللاحياة عن طريق سلسلة طويلة ومؤاتية من الخطوات/الإنتقائات الكيميائية. وبشكل خاص، هم لم يوضحوا أن الحياة لا يمكن أن تنشأ مرة ومن ثم تتطور. لا باستور ولا غيره من الباحثين في هذا المجال خلال مرحلة ما بعد داروين أنكر عمر الأرض أو حقيقة التطور.
مقدمة
الإطار العام الذي تتكرّر فيه الكتابات المضادة للتطور، هو أنه إذا كان العلم لا يستطيع تفسير أصل الحياة فالتطور باطل، كما أن برهان بطلان "النشوء التلقائي" يعني أن التطور باطل. هذا القياس المنطقي يفشل لأن التطور (إنحدار الأنواع من أصل مشترك وتحوّلها) يحدث بصرف النظر عن أصل نشوء الحياة، أكانت بالصدفة أمْ بقانون أمْ بتصميم. ولكن هناك خطأ غادرًا آخر هنا، فالعلم لم يستبعد "النشوء التلقائي" في جميع الحالات وإنما في حالات محددة.
لهذا السبب تمت كتابة هذا المقال. سوف ننظر إلى تاريخ هذه الفكرة، ثم الى الدلائل الداحضة لها، وأخيرا سوف نتناول العلاقة بين أصل الحياة ونظرية التطور بشكل عام. كالمعتاد سنبدأ مع الإغريق. عندما نصل الى باستور، سنأخذ بعين الإعتبار تداعيات هذا الجدال على التطور. بعدها سنلقي نظرة على التطوّرات الحديثة في دراسات أصل الحياة في مرحلة ما بعد داروين وباستور.
وجهات نظر مبكرة حول النشوء التلقائي
المفكر الغربي الأول الذي اقترح أن الحياة نشأت بشكل تلقائي كان على الأرجح أناكسيماندر (Anaximanderالفيلسوف من مدينة ميليتوس (التي تقع اليوم في تركيا)، وقد كتب في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. لقد إعتقد بأن كل شيئ نشأ من الطبيعية العنصرية للكون، والذي سمّاه apeiron وهي كلمة يونانية تعني "لامحدود" أو "لامتناهي". وكجزء من محاولته تفسير الأمور التي كانت تُنسب الى الآلهة كالرعد والسماء والأرض، قدّم البيان التالي عن الحياة.
أعمال أناكسيماندر الأصلية لم تنجُ، ولكن بحسب هيبوليتس (Hippolytus) من القرن الثالث، فإن أناكسيماندر إدّعى أن الكائنات الحية تشكّلت في "الرطوبة" عندما تلقت أشعة الشمس، وأنها كانت مختلفة عما هي اليوم. بشكل خاص، ادّعى أن الإنسان في الأصل كان نوعا من السمك، وهذا على أساس ملاحظة أن الوقت الذي يحتاجه الإنسان لينضج ويستقل طويل، ولا بد أنه كان في السابق يولد ناضجا كالحيوانات وإلا لما كان تمكّن من النجاة. نظريته هذه لم تكن نظرية تطور متكاملة، غير أن هيكل (Haeckel) و أوزبورن (Osborn) إدّعو أنه كان "نبيّاً" لـكانت و لابلاس و لامارك و داروين. أناكسيماندر إدّعى أيضا أن النشوء التلقائي مستمر الى يومنا الحالي في الإنكليس وكائنات بحرية أخرى تنشأ بشكل مباشر من المادة الغير حية. {Lloyd 17-18, Osborn 33-35}
تلميذه أنكسيمانس (Anaximenes588-524 ق.م) إعتقد بأن الهواء كان العنصر الذي أعطى الحياة، الحركة، والفكر، وإفترض أنّه وجدت طينة أرضية بدائية هي مزيج من التراب والماء، وعند تعرضها لحرارة الشمس كوّنت النباتات والحيوانات والبشر بشكل مباشر.
زينوفانيس (Xenophanes 576-480 ق.م) ، أحد مؤسسي المدرسة الإلياتيكية (Eliatic) ، أرجع أصل الإنسان الى الحقبة الإنتقالية بين الحالة السائلة للأرض وتكوّن اليابسة، وهو أيضا أخذ بالرأي القائل بالنشوء التلقائي للنبات والحيوان بتكوينهما الكامل تحت تأثير الشمس. كذلك أيضا كان رأي بارمنيدس (Parmenides 544 ق.م).
إيمبيدوكليس (Empedocles 495-435 ق.م) قبِل مبدأ النشوء التلقائي للحياة، ولكنه قال بأنه كان لا بد من وجود تجارب لتراكيب مختلفة من أعضاء الحيوانات التي نشأت تلقائياً. التراكيب الناجحة كوّنت الأنواع الحية التي نراها اليوم، التراكيب الغير ناجحة فشلت في التكاثر. أوزبورن {37-40} إعتبر هذا نوعاً من الإنتقاء الطبيعي، ولكنّ حقيقة وجود تكوينٍ واحدٍ ناجحٍ لكل سلالة، وعدم تغيّر الأنواع بعد ذلك، يجعل من هذه المقارنة هشّة ضعيفة.
ديموقريطوس (Democritus 450 ق.م) وأناكسوغوراس (Anaxagoras 500-428 ق.م) أيضا تبنّيا التفسير المتعلق بالطينة الأرضية، ولكن أناكسوغوراس إعتقد بأن الجراثيم (البذر) الخاصة بالنباتات ُوجِدَت في الهواء منذ البداية، وتلك الخاصة بالحيوانات ُوجِدَت بالأثير. {أوزبورن 42-43}
أرسطو
كل هذه التصريحات تعتمد على الخواص الكامنة في عناصر الكون. الحياة هي نتيجة النزعات الطبيعية للعالم. عند أرسطو (Aristotle 384-322 ق.م) نجد أكثر وجهات النظر الإغريقية تعقيداً. لقد قال بوجود أربعة عناصر وعنصر خامس أُطلِق عليه لاحقا مسمى "الجوهر" (quintessence) أو "الأثير" (ether) والذي يوجد فقط في السماء وراء القمر. العناصر الأربعة الأرضية هي بالطبع التربة والهواءوالماء والنار، وهي تمثل المبادئ الأساسية من حرٍ وبردٍ وجفافٍ ورطوبة. { للإطلاع على المزيد من المناقشات أنظر Toulmin and Goodfield 1962a and 1962b }
لقد إعتبر أرسطو أن خواص الكائنات الحية كانت بسبب الخليط من هذه العناصر الخاص بكل جزء من الجسد، بالإضافة الى قوةٍ محركةٍ أطلق عليها إسم "pneuma" والتي ترجمة الى "anima" في الاتينية وتعني "روح". في الحقيقية، كان هناك عدد من الأرواح تتعدد من النمو الى الحركة، الإحساس، الشعور، التفكير، وعند البشر العقل.
في كتاب تاريخ الحيوانات يشير أرسطو في أكثر من موضع الى أن أنواع ما من الحيوانات تنبثق بشكل مباشر من العناصر و "الروح" الخاصة بالمواد:
بالنسبة للحيوانات، فإن بعضاً منها تنبثق من والدين من نفس النوع، بينما تنمو أنواع أخرى تلقائياً بدون مساهمة أنسباء. في هذه الحالات من النشوء الطبيعي، تأتي بعض هذه الكائنات من تعفن التربة أو النباتات، كما هي الحال عند عدد من الحشرات، بينما ينشأ آخرون تلقائياً من إفرازات الأعضاء المختلفة داخل أجساد الحيوانات.{539a18-26}
إذن، كقاعدةٍ عامة، كل الصدفيات تنمو عن طريق النشوء التلقائي في الوحل، ويختلفون فيما بينهم بإختلاف المواد؛ المحار ينمو في الطين، الكوكل (cockles) والصدفيات الأخرى المذكورة أعلاه تنمو في القيعان الرملية؛ وفي تجوّفات الصخور نجد المزقييات و البرنقيل والأنواع الشائعة كالبطلينوس و اللُّزَّيق. {547b18-22}
أنواع أخرى من الحشرات لا تنحدر من والدين حيين، ولكن تنشأ تلقائياً: بعضها من الندى المتساقط على أوراق النبات، بشكل إعتياديٍ في أوقات الربيع، كما أنه ليس من النادر نشوؤها في الشتاء عندما تكون هناك فترةٌ مديدةٌ من الطقس المعتدل والرياح الجنوبيّة؛ أنواع أخرى تنمو في الطين المضمحل أو في الروث؛ بعض منها في لحوم الحيوانات والبعض الآخر في فضلاتها أو في الفضلات الفاسدة أو في الفضلات التي لا زالت داخل الحيوانات، كالديدان الطفيليّة والديدان المعويّة. {551a1-10}
أنواع أخرى من الحيوانات الدقيقة كعث الثياب تنشأ، كما سبق وذكرنا، في الصوف أو المواد المصنوعة من الصوف. وهذه الحيوانات الدقيقة تأتي بأعدادٍ أكبر إذا كانت المادة الصوفية مغبّرة؛ وتكون هذه الأعداد كبيرة بشكل خاص إذا وُجد عنكبوت مغلق عليه داخل القماش أو الصوف، إذ أن هذه الكائنات تمتص أي رطوبة قد تكون هناك فتجفف المادة الصوفية. هذه الدويدات توجد أيضا في ملابس الرجال.
وهناك كائن آخر يوجد في الشمع القديم المهمل وفي الخشب، وهو الأصغر بين الحيوانات الدقيقة وأبيض اللون، يطلق عليه إسم "العث" أو "القراديات". نعثر في الكتب على أنواع أخرى من الحيوانات الدقيقة، بعضها يشبه الدويدات التي توجد في الملابس، والبعض الآخر يشبه عقارب عديمة الذيل ولكن صغيرة جداً. كقاعدة عامة، يمكننا القول أن هذه الحيوانات الدقيقة يمكن العثور عليها عملياً في كل شيئ، في الأشياء الرطبة التي تجف، أو في الأشياء الجافة التي تترطب، طالما تتوفر فيها شروط الحياة.{557b1-13}
في الحقيقة، بعض الكتّاب يجزمون بأن سمك البوري ينمو تلقائياً. في هذا الإصرار هم مخطئون، إذ إنّنا نعثر على البيض عند الأنثى ، والسائل المنوي عند الذكر. غير أن هناك نوعاً من البوري ينمو تلقائياً من الطين والرمل.
لقد برهنّا من خلال الحقائق التي سردناها فوق، أن أنواعاً معينةً من الأسماك تأتي الى الوجود بشكل تلقائي، من دون أن تكون منحدرة من بيض أو من تلاقح. هذه الأسماك ليست بيوضة ولا ولودة، وإنما تنبثق من أحد مصدرين، من الطين، أو من الرمل، ومن ثَمّ من المواد المضمحلة التي تخرج كزبد؛ على سبيل المثال، ما يطلق عليه زبد الأسماك الصغيرة، يخرج من الرمال. هذه الأسماك الصغيرة غير قادرة على النمو ولا على التكاثر؛ بعد أن تعيش فترة تموت وتحل محلّها كائنات جديدة. إذاً، بإستثناء فترات قصيرة، يمكننا القول إن هذه الكائنات تتواجد على دوام العام. {569a21-569b3}{ مذكور في Lennox 233}
يعطي أرسطو تفسيراً نظريّاً في كتابه "نشأة الحيوانات"، المجلد 3، المحور 11. بعد إعادة إدّعاء أن بعض الحيوانات وليس كلها، ومن أصناف مختلفة، تنشأ تلقائياً من المادة، يفسّر لماذا تفعل ذلك:
كل تلك الكائنات التي لا تولد أو تباض، تنشأ تلقائياً. كل الأشياء التي تتشكل بهذه الطريقة، سواء في الماء أو التربة، ظهورها الى الوجود مرتبط بالتعفّن وخليط من مياه الأمطار. عندما تنفصل العناصر النقية لتدخل في تكوين المادة الحية، بقايا المزيج تأخذ هذا الشكل. لا شيئ يأتي الى الوجود من التعفّن، وإنما عن طريق المزج الخلّاق؛ التعفّن والشيئ المتعفِّن ليسا إلّا بقايا ذلك المتكوَّن من المزج. لا شيئ يأتي الى الوجود من كلية شيئ آخر، كما هو حال المنتجات الفنيّة؛ فلو فَعَلَت لما كان هناك فن، ولكن كما هو الحال، الفن يزيل الأجزاء غير النافعة، والطبيعة تفعل ذلك أيضاً. النباتات والحيوانات تنشأ في التربة والماء، لأنه يوجد ماء في التربة، وهواء في الماء، وفي كل الهواء يوجد حرارة، لذا فكل شيئ مليء بالروح. لذلك تنشأ الكائنات الحية بسرعة أنّما أُغلِقَ على هذا الهواء والحرارة في أي شيء. عندما تكون مغلقة بإحكام، تُسخَّن السوائل المكوِّنة وتنتج منها فقاعات زَبَدِيّة.سواءً كان الشيء الناشئ أكثر شرفاً أو أقل، يعتمد على تبني المبدأ العقلي؛ هذا يعتمد مجددا على الوسط الذي يحدث النشوء فيه والمواد المتضمنة.
باختصار، الأشياء تنشأ من المادة غير الحية، لوجود "حرارة حيوية، نفَس، والذي هو موجود هناك من الأساس، ونسب ذلك والعناصر الأخرى المغلفة بالهيكل المكون يحدد نوع الكائن.
أنكر أرسطو أنه كان للعالم، الكرة الأرضية، بداية، فهذه عملية تحدث طوال الوقت، ليس في البداية فقط، طبقاً للمفكرين الإغريق الأقدم. وبوضع تأثير أرسطو على التفكير لاحقاً في الاعتبار، بالتحديد خلال العصور الوسطى، فإن أفكاره تشكل نوعاً من "الثابت" كخلفية تبناها المفكرون الغربيون إلا اذا كانوا ضده من الأساس في موضوع معين. وعلى سبيل المثال، فقد قال فرانسيس بيكون في روايتهأطلانطس (1614) أنه كان ممكناً لبطله "اليهودي" أن
".. يشرح النيازك ويمثلها -- على أنها ثلوج، برَد, مطر، أمطار صناعية على هيئة أجسام لا ماء، رعد، برق، وأيضاً تولدات من أجسام في الهواء -- كضفادع، ذباب، وأنواع أخرى مختلفة."
باختصار، التولد الذاتي كان ممكناً حتى في الهواء، ولكن في كل تلك الادعاءات التي جاءت ما بعد أرسطو،فقد كانت الأجسام والكائنات البسيطة هي ما يستطيع التولد ذاتياً، وليس البشر بكل تأكيد. مع هذا الاعتقاد، اتفق ثاوفرسطس (370 - 288 ق.م) كما فعل أغلبية الكتاب خلال العصور الوسطى حتى بدايات علم الأحياء الحديث في القرن السابع عشر، بمن فيهم الآباء المسيحيون الأوائل، أوريجانوس وأوغسطينوس.
علم الأحياء الحديثة المبكر وتحديات التولد الذاتي
في عام 1651، نشر ويليام هارفي (1578 - 1657) كتابه (عن الجيل) ، حيث ابتدع التعبير الشائع (كل <حياة> من بيض).
ولكن، ورغم هذا التعبير، فقد سمح باحتمالية وجود حياة متولدة ذاتياً، وعلى هذا، وبعكس ما تقول الأسطورة، لم يكن هارفي أول من عارض التولد الذاتي، رغم أنه قال أن الكثير من حالات التولد الذاتي الواضحة كانت نتيجة لبذور غير مرئية تم نثرها وبعثرتها في الهواء.
تكلم الفيزيائي والخيميائي يان بابتست فان هيلمونت (1579 - 1644) عن التولد الذاتي للفئران. فقد كان يعتقد أن الفئران تنشأ بتحضين قنينة من القمح وخرق قديمة في خزانة مظلمة دافئة.
في عام 1668 شرح فرانسيسكو ريدي (1626 - 1697) أن اليرقات (الديدان) ، وبعكس ما كان يقوله أرسطو, لا تنشأ ذاتياً،ولكن من بويضات يضعها ذباب بالغ. اللحم الذي يغطى حتى لا يصله الذباب يكون خالياً من اليرقات، على عكس اللحم الذي يمكن للذباب الوصول إليه. وبكونه عضو في أكاديمية التجارب في فلورنسا, فقد قام بعمل تجارب في هذا الصدد متتبعاً تطور يرقات الذباب من البيض، على لحوم مختلفة من ضمنها لحم الأسد، الضأن، الأسماك، الثعابين، وقد تم نشر النتائج كـ تجارب على تولد الحشرات، وقد قال، مستخدماً كلمة (ديدان) مشيراً إلى اليرقات:
"بدأت أعتقد أن كل الديدان الموجودة في اللحم ناتجة عن الذباب وليس التعفن، وقد تأكدت بملاحظة ذلك. قبل أن يتدود اللحم،حام حوله ذباب من نفس النوع الذي توالد داخله لاحقاً. الاعتقاد الذي لا يبنى على التجربة هو لا شئ. لذا وضعت ثعبان (ميت)، بعض الأسماك، وشريحة من لحم العجل، في أربع قنينات واسعة الفوهة، والتي أحكمت إغلاقها. ثم ملأت نفس العدد من القنينات وتركتها مفتوحة. تمت رؤية الذباب يدخل ويخرج باستمرار من القنينات المفتوحة. تدود اللحم والسمك فيها. لم يكن هناك دود في القنينات المغلقة، رغم أن المحتويات كانت متعفنة ونتنة. في الخارج، على أغطية القنينات المغلقة، كانت بضع يرقات تبحث بلهفة عن شق للدخول.
وهكذا، فإن لحم الحيوانات الميتة لا يمكن أن يولد ديداناً إلا إذا أودع بيض الحي فيه"
أكمل تجاربه مستخدماً الشاش، بنفس النتائج.
لم يدحض ريدي التولد الذاتي كما لاحظ ماجنر،لكن تجاربه قلصت الصراع بالفعل من تولد الكائنات العيانية (المرئية) إلى عالم النقاعيات والحييوينات الصغير الجديد الذي اكتشفه أنطوني فان ليفينهوك. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل يعتقد أن (العفصة) تتولد ذاتياً. في أعمال لاحقة، كـ أنتونيو فالسينيري (1661 - 1730) مثلاً، الذي وضح عام 1700 (دبابير العفصة) تضع بيضها في النبات قبل أن تتكون (العفصة) حول اليرقة, كما فعل مارتشيلو ملبيجي (1628 - 1694) ويان زفامردام (1637 - 1680) في عام 1669، في حين وضح رينيه أنطوان فيرشو دي ريومور (1683 - 1757) في كتابه مساهمات في تاريخ الحشرات (1737 - 1748) أن الحشرات التي كان يُعتقد أنها تتولد ذاتياً، تنشأ في الواقع من البيض.
أنصار التولد الذاتي اللاحقين كانوا عادة من دعاة الوراثة اللاجينية في جدالات التولد، والمعارضين كانوا من دعاة التكوين المسبق. هاتان كانتا وجهتي النظر النظريتين حول طبيعة تولد كائنات جديد: دعاة التكوين المسبق اعتقدوا أن نمط التولد متضمن في البذور، كل جنين مغلف في جنينه الوالد، رجوعاً إلى الخلق، في حين اعتقد دعاة الوراثة اللاجينية، كما اعتقد أرسطو أن كل جنين يتكون من مادة غير متمايزة بشكل منظِم. وهكذا اضطر دعاة التكوين المسبق إلى رفض التولد الذاتي، طبقاً للفرض المطروح.
أكد العالم والرياضي والفيلسوف الشهير جوتفريد لايبنتس (1646 - 1716) وجود "جزيئات حية" والتي سماها <موناد> (كائنات دقيقة أحادية الخلية), والتي منها نبعت كل الأشياء. ورغم أنه تبنى رؤية ثابتة للطبيعة، فقد اعتقد بوجود مقياس للتعقيد وأن الكائنات البسيطة جداً تألفت مباشرة من كائنات دقيقة أحادية الخلية (موناد). وقد أثرت رؤيته على عدد كبير من علماء الأحياء من بعده.
نيدهام وسبالانساني
قابل عالم الطبيعة العظيم جورج دي بوفون (1707 - 1788 والمعروف بـ بوفون حتى بين الفرنسيين) قساً كاثوليكياً انجليزياً،القس جون نيدهام (1713- 1781) ، اختصاصي مجاهر ماهر بارع قابله بوفون في رحلة إلى انجلترا، قرر قرابة عام 1738 محاولة دحض أعمال لوي جوبلو (1645 - 1723). كان لوي قد حاول إظهار أن النقاعيات (كائنات بسيطة موجودة في الضخ إلى المادة العضوية, مهدبات غالباً) لم تتوالد ذاتياً بغلي وسط, ووضع جزء في إناء محكم الغلق وجزء في آخر مفتوح. المحكم لم يتم ضخه بهذه الكائنات. ولكي يثبت أن الوسط ما زال مناسباً للحياة، عرض المادة المغلقة للهواء وسرعان ما انضمت هي الأخرى.
عندما كرر نيدهام التجارب بحثٍ من بوفون, وجد أنه, بالغليان أو بدونه, بإحكام الغلق أو بدونه، فإن الحياة تنشأ في أوعية المرق. استنتج أن هناك قوة سالبة في كل جزء من المادة، تماماً كنظرية بوفون في وجود "قالب داخلي" لتوالد الكائنات الأكبر. وقد تم نشر النتائج عام 1748 في المعاملات الفلسفية للجمعية الملكية.
اعترض الأب لادزارو سبالانساني (1729 - 1799) وقرر دحض نتائج نيدهام وبوفون. كان كذلك أستاذاً في جامعات ريدجو،مودينا، وبافيا، كما كان عمله المعملي عالي المستوى. قال أن الكائنات الدقيقة يجب أن يكون لها مرحلة أكثر دقة من النمو،وعلى هذا قرر أن المشكلة لا يمكن حلها باستخدام مجهر. وفي عام 1767 قام بنشر بيانه مناقضاً بوفون ونيدهام، قائلاً:
"سعيت لاكتشاف ما اذا كان الغليان سيضعف أو يمنع إنتاج الحيويينات في الضخ، قمت بإعداد أحد عشر نوعاً مختلفاً من البذور، غليتها لمدة نصف ساعة. الأوعية كانت مغلقة نوعاً بقطع من الفلين. وبعد ثمانية أيام، فحصتها مجهرياً لأجد الحيويينات فيها كلها، ولكن بأنواع مختلفة، إذن، فالغليان في حد ذاته لا يمنع إنتاجها."
إذن فهو قد حاول استبعاد الهواء، واضعاً ضحات في سلسلة من خمس قوارير. واحدة منها تُركت مفتوحة، والأربع الآخرين أُحكم غلقها وغُليت، كل سلسلة لمدة تزيد بـ 30 ثانية عن الأولى. بعد يومين، كانت السلسة المفتوحة مكتظة، وسلسة الـ 30 ثانية احتوت على كائنات أصغر، في حين لم يكن في الباقية شئ تقريباً. وقد أظهر أن مدة الغليان عليها عامل، حيث أن بعض الكائنات كانت أكثر مقاومة للحرارة من غيرها. وبغلي الأوعية محكمة الغلق لمدة تتراوح ما بين 30 - 45 دقيقة, أظهر سبالانساني أنه لا حياة سوف تنشأ طالما أن الوعاء محكم الغلق.
حين اعترض نيدهام قائلاً أن الحرارة سوف تجعل الضخ نفسه عقيماً - غير مناسب لنشأة حياة - كسر سبالانساني أعناق الأوعية، وسرعان ما ظهرت الحياة المعتادة.
هذا لم يوقف الجدال - آخرين كرروا التجارب بنسب نجاح وفشل متفاوتة. ثيودور شفان (1810 - 1882)، والذي كان واحداً من مؤسسي (نظرية الخلية), أظهر أن الهواء الذي تم تسخينه لن يسبب التعفن في مرق معقم ما بين عامي 1836 و 1837, لكن السبب كان غامضاً، ربما لأن الهواء الذي تم تسخينه (تكليسه) لا يسمح بالتنفس. أظهر الكيميائي الفرنسي لوي جوزيف جي ـ لوساك (1778 - 1850) أن تجارب سبالانساني احتوت على الأكسجين، الذي كان ضرورياً للتخمر والتعفن، باثبات أن ضفدعاً تمكن من العيش فيه. آخرين كـ فرانز شولتز (1815 - 1873), هينريش شرودر (1810 - 1885) ، و تيودور فون دوش (1824 - 1890) ، حاولوا جميعاً حسم الأمر بلا جدوى.
واستمرت الجدالات.
ورغم الجدالات النظرية، قام طاه فرنسي هو نيكولاس أبيرت (1750 - 1841) بتطبيق نتائج سبالانساني على الطعام تجارياً،بوضعه في زجاجات نظيفة مغلقة بغير إحكام بقطع من الفلين وغليه. وقد تم نشر هذه التقنيات عام 1810, وكانت المؤسس لصناعة التعليب. شأن صناعي آخر ظهر في الصدارة في ذلك الوقت - التخمير. وكان الرجل الذي قام بحل هذه المسألة هو لويس باستير.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

النشوء التلقائيّ و أصل الحياة :: تعاليق

نابغة
رد: النشوء التلقائيّ و أصل الحياة
مُساهمة الثلاثاء مارس 01, 2016 9:58 am من طرف نابغة
لويس باستير.
القرن التاسع عشر قبل لويس باستور
خلال القرن التاسع عشر, كان هناك من يومنون بالتوالد الذاتي. أحد أهم هؤلاء كان لورنز أوكن (1779 - 1851), أحد أتباع جوته, والذي قدم عام 1809 نظرية "وحل - بحر" عن نشأة الحياة, تماماً كما فعل أناكسيماندر. كان مؤمناً أنها تحدث حيث يلتقي البر والبحر، وأن قرباً دقيقة من الرغوة تحتوي على ثلاثة مبادئ للحياة - التغذية، التنفس، الهضم. وهو مع ذلك لم يكن ثابتاً على مبدئه وقام بادعاءات متناقضة - ككون الإنسان منحدر من نسل ساحل دافئ لطيف في الهند.
ومثل أوكن, آمن جان باتيست لامارك (1744 - 1829) ، أحد تلاميذ بوفون، كذلك بالتولد الذاتي، على النقيض من معلمه،وجعله لأول مرة حجر الزاوية في التحول عام 1809. ومع ذلك، وعلى عكس نظرية دارون التي أتت لاحقاً، افترض لامارك أن كل جنس (نوع) هو نتيجة لحدوث تولد ذاتي مستقل، وأنه مستمر حتى يومنا هذا - كل جنس تطور بقدر ما بقي في الوجود. وقد كتب:
"في عمق مياه العالم القديم، و كذا في وقتنا الحاليّ، قامت تكتّلات صغيرة من المادّة بالتجمّع على نفسها. تحت تأثير الضوء، استطاعت بعض العناصر الحراريّة و الكهربائيّة أن تتمكّن من اقتحام هذه الأجسام الصغيرة، بحيث أصبحت هذه الكريّات قادرة على امتصاص و إطلاق مختلف الغازات؛ لتبدأ هذه الكريّات بالقيام بتحرّكات مهمّة.و هكذا استطاعت النباتات و الحيوانات بأن توجد. من المحتمل أنّ أشكالا أرقى من الحياة قد ظهرت بهذه الطريقة. و بالتالييمكننا القولبأنّ الطبيعة دائما خلاّقة".
قبل لامارك بقليل، قام جدّ داروين، الدكتور إرازموس داروين، بكتابة قصيدة بعنوان ''معبد الطبيعة ''، و التي حظيت بتقدير كبير في وقتها، غير أنّها لم تحظ بالكثير من التقدير لاحقا، كتب إرازموس يقول:
و هكذا، بغيرِ ما آباءٍ، و بمحض تخلّق تلقائي
بزغت أوّل البذور على الأرض الحيّهْ
و يضيف:
حياةٌ عضويّة في عمق أمواجٍ بلا شطآني
نَمَتْ و ترعرعتْ في كهوف لؤلؤيّهْ
إلخ. هذه الأشكال الأوّليّة من الحياة بدائيّةٌ و صغيرة جدّا، حيث منها ستتطوّر أشكال أكبر لاحقا. في كتاب الزونوميا (1794) Zoonomiaلإرازموس داروين، استطاع هذا الأخير أن يخمّن أوّل أشكال الحياة، يقول:
‘’ هل من الممكن أن يكون نوعٌ واحد من الحياة الدقيقة، هو أصلُ كلّ الحياة العضويّة؟ ‘’
و على كلّ، لا لورنز أوكن و لا لامارك، و لا حتّى إرازموس دارون استطاع أن يؤثّر على العالم الأكاديميّ في ذلك الوقت، في فرنسا، فقط إتيان جيوفري(1725-1810) Étienne Geoffroy استطاع أن يدافع عن أفكاره، أمّا في بريطانيا، ف فقط روبرت غ رانتRobert Grant ، صديق و معلّم تشارلز داروين لاحقا، استطاع أن يعرض أفكاره التطوّريّة هناك!
باستور، التخمّر، العدوى، و إثبات السالب:
في الفترة التي تلت انتشار الأفكار التطوّريّة حول الحياة، كانت هناك إشكاليتان مُلحّتان في حاجة إلى حلّ، كلتا الإشكاليتين ارتبطا بنظريّة النشوء الذاتيّHeterogenesis(النشوء الذاتي= ظهور الحياة من أشكال متحلّلة من الحياة، على غرار الآبيوجينيسيسAbiogenesis ، و هي كلمة تمّت صياغتها لاحقا على يد العالم هينري هاكلسي،و التيتشير لتخلّقالحياة من موادّ غير حيّة في الأصل(.
الإشكاليّة الأولى كانت متعلّقة بمصدر الأمراض، و بالتحديد، مصدر الديدانالطفيليّةو الديدان المثقوبةFlukes ، أمّا الإشكاليّة الثانيّة فكانت تبحث عن أسباب حدوث عمليّة التخمّر Fermentation. بالنسبة للإشكاليّة الأولى، فهي مسألة تتعلّق بالصحّة العامّة، متمثّلة في وباء الكوليرا الذي أصاب إنجلترّا في سنة 1831، و في سنة 1848، في 1853، و كذا في سنة 1861.بينما الإشكاليّة الثانيّة كانت ذات أهمّية كبرى في مجال صناعة الخمور و زارعة الكروم.دعونا نبدأ بمسألة عمليّة التخمّر أوّلا!
كانت هناك نظريّتان بخصوص مصدر الكائنات الدقيقة في عمليّة التخمّر، النظريّة الأولى طرحها المهندس الفرنسيّ تشارلز كانيارد لاتورCharles Cagniard-Latour ، تقترح نظريّة تشارلز لاتور بأنّ الخميرة، باعتبارها العنصر الأساسيّ في عمليّة التخمّر، تحتوي على كائنات عضويّة دقيقة تقوم بإنتاج عمليّة التخمّر عن طريق عمليّات التمثيل الغذائيّMetabolism ( و هو مصطلح تمّت صياغته بعد سنوات قليلة منطرف شوانSchwann ، أحد مكتشفي نظريّة الخليّة).
أمّا النظريّة الثانيّة، فقد اقترحها العالم الشهير أنطوان لافوازييهAntoine-Laurent Lavoisier ،في سنة 1789، و قد ناصر هذه النظريّةَ العالِمُ الألمانيّ يوستوس فون ليبيغ Justus von Liebig (1802-1873). اقترحت نظريّة لافوازييه بأنّ التخمّر عمليّة كيميائيّة ناتجة عن تعرّض عصير العنب للهواء، أو ناتجة عن تحلّل مركّب النيتروجين، و الذي يتسبّب بدوره في تحلّل باقي الأجسام.طبعا، هذا التفسير الكيميائيّ للتخمّر، و مع أنّه مدعوم من طرف فريدريك فولر Friedrich Wöhler في أبحاثه حول البولةUrea ، إلا أنّه واجه مشكلة، ففي أثناء عمليّة التخمر، لوحظَ بأنّ الكائنات الدقيقة في الخميرة تكبرُ، لذلك، فتفسير هذا الأمر لا يكون إلا بإرجاعه لأحد الأمرين: إمّا أنّ هذه الكائنات الدقيقة كانت تكبر بسبب عمليّات كيميائيّة، ممّا يعني نظريّة النشوء الذاتيّ Spontaneous Generation، و إمّا أن تكون هذه الكائنات الدقيقة قد حصلت بسبب عدوى.
في سنة 1837، تأكّد الباحثون الثلاثة (كانيارد لاتور، فريدريك كاتزينغ، و شوان) بأنّ الخميرة كانت عبارة عن كائنات حيّة، بالنسبة للباحثين كانيارد و كاتزينغ، فقد اكتشفا بأنّ الخميرة تتسبّب في تحلّل السكّر فقط عندما تكون حيّة، أمّا شوان، في محاولته لإثبات بأنّ النشوء الذاتيّ لم يحدث في اللحم،فقد أظهر بأنّ الهواء الذي وضع في أنابيب الاختبار بقصد التأكيد على أنّ اللحم لن يتعفّن إذا كان مغليّا، في حين يعتبر هذا الهواء عنصرًا حيويّا يساهم في نموّ الخميرة المستعملة في قصب السكّر المغليّ.في الحالة التي لم يحدث فيها تخمّر، قام شوان بتفحّص الخميرة مستنتجا أنّها فطريّات، و أنّ عمليّة التخمّر تحدث حينما تستهلك الخميرةُ السكّرَ و العناصرَ النيتروجينيّةَ ،ممّا يتسبّب في تحويل هذه العناصر إلى كحول.لقد كان شوان محقّا، غير أنّ هذا الأمر لم يكن معروفا حينها، لذلك رفض لابيغ فرضيّة شوان.لذلك فعلى الرغم من وجود أقليّة من العلماء الذي اعتقدوا بأنّ كائناتٍ دقيقةً هي التي تتسبّب في عمليّة التخمّر، إلّا أنّ الأغلبيّة من العلماء ظلّوا متمسكّين برأيهم حول أنّ التخمّر عمليّة كيميائيّة، و بأنّ التخلّق الذاتيّ كان هو السبب في خلايا الخميرة.
مسألة العدوى كانت هي الأخرى مسألةً مثيرة للنقاش، في حين أنّ البعض قد يعتقد بأنّ النجاح الذي حقّقه جوزيف ليستيرJoseph Listerفي مجال تقنيّات التطهير في سنة 1865 قد حسم النقاش حول العدوى و أثبت بأنّها نتيجةٌ للمِمْراض.Pathogen إذْ إنّ شوان نفسَه قد اقترح بأن تكون جسيمات التعفّنSeptic particles نتاجا لخلايا، و ليست خلايا بحدّ ذاتها.و على أيّة حال، هذا كلّه كان بعد باستور.و الأهمّ من ذلك، كان عملَ جون سناوْJohn Snow الذي تتبّع أصل الكوليرا التي انتشرت في مدينة لندن في سنتيْ 1849 و 1855وصولاإلى بعض الآبار.
على الرغم من أنّ النظرة الشائعة في ذلك الوقت تقول بأنّ العدوى ناتجة عن الانتقال من شخص لآخر، إلّا أنّ معظم الباحثين في هذا المجال اعتقدوا بأنّالعدوى نتيجة لجسيمات غير عضويّة، و هذه هي النظرة نفسها التي نستطيع تتبّع تاريخها وصولا إلى جالينوس، و الذي اعتقد بأنّ الأمراض كانت تنتقل نتيجة للتلوّثMiasmas .
اعتقد ثيودور شوان بأنّ الخلايا قد تكون متشكّلة من نتاج الخلايا كتلك المادّة المحيطة بالخليّة و التي يسمّيها بالسايتوبلاستيما.Cytoblastema في حين اعتقد صديقه في التنظير ماثياس شليدين Matthias Schleiden بأنّ كلّ الخلايا قد تكوّنت من بُنًى تتواجد في خلايا أخرى. أما هوغو فون موهل Hugo von Mohl فعلى الرغم من أنّه قد اعتقد بأنّ الخلايا قد تكوّنت بشكل عامّ نتيجة الانقسام المباشر،إلا أنّه قد صرّح بشكل عرضيّ بأنّ التشكّل الحرّ للخليّة قد يحدث بشكل مستقلّ عن النبتة الأمّ في الفطريّات الطفيليّة، و كذا في خلايا الخميرة، إلخ.
عالم الأمراض الشهير رودولف فيرشاو Rudolph Virchowوافقَ روبيرت رومارك Robert Remak في قوله بأنّ التشكّل الحرّ للخلايا كان بعيد الاحتمال تماما مثل نظريّة النشوء الذاتيّ.في سنة 1855اعتبر فيرشاو نظريّة النشوء الذاتيّ ضربًا من الهرطقة أو نوعًا من عمل الشيطان، كما اعتبر فيرشاو بأنّ ثيودور شوان هو الذي أعاد إحياء نظريّة generatio aequivoca القديمة، و هو الاسم الذي كان يطلق على نظريّة التخلّق الذاتيّ.و في الأخير يؤكّد فيرشاو على أنّ أيّ نوع من الحياة يكون في حاجة لمصفوفةMatrix ، أو لتنظيم مسبق ، يقول:
’’الحياة لا تتواجد في السوائل على هذا النحو، و لكن فقط في أجزائها الخلويّة. إنّه من الضروريّ أن نقوم باستبعاد السوائل الخاليّة من الخلايا من مملكة الحياة... ستظلّ الحياة دائما شيئا مميّزا، حتّى لو اكتشفنا يوما ما بأنّ الحياة، بأدقّ تفاصيلها، قد نشأت بشكل ميكانيكيّ..‘‘
قال فريشاو قولته المأثورة و المعروفة بشكل كبير :Omnis cellula e cellula بمعنى :كلّ الخلايا تأتي مِن الخلايا .غير أنّه لم يكن بإمكانه أبدا أن يقوم بتوضيح هذا المبدأ الذي قام بتأسيسه، لسبب واحد بسيط، و هو أنّك لا تستطيع أن تثبت نفيًا مطلقا أو إيجابا مطلقًا بناءًا على عدد محدود من المشاهدات. و على الرغم من أنّ فيرشاو قد هاجم فكرة الأصل اللاخلويّ للخلايا، إلّا أنّ نظريّة الخليّة نفسَها كانت قد بدأت تتعرّض للتعديل لكي تلائم فكرة البروتوبلازم.و التي ستصبح فكرة مهمّة في فترة ما بعد باستور.
كان هناك محاربون آخرون يجادلون بخصوص نظريّة التخلّق الذاتيّ، من بينهم كيرستيان إيهرينبيرغ Christian Ehrenberg و هو معارض للنظريّة، و من الجانب المدعّم لهذه النظريّة، كان هناك فيليكس دي جاردانFelix dujardin،و آخرون كثر.
كان هناك نقاش مثير للجدل حول ما إذا كانت الديدان الطفيليّة و ديدان الكبد المثقوبة قد نشأت في المرضى بسبب تلفٍ في الأنسجة أم بسبب العدوى. ففي بريطانيا على سبيل المثال، تمّ نشر 240 صفحة بخصوص هذا الموضوع،و الذي كانَ يحيطه نوع من الغموض لكون الطفيليّات تمتلك أشكالا متمايزة في كلّ جيل متعاقب، لذلك كان من الصعب التعرّف على الطفيليّات المعديّة لأنّها تمتلك شكلا مختلفا. تمّ اكتشاف ظاهرة تعاقب الأجيال على يد عالم الحيوانات الدانيماركيّ ييبتوس ستينسترابJapetus Steenstrup في سنة 1842.
بوشيت و باستور:
بدأ مديرُ متحفِ التاريخ الطبيعيِّ في مدينة روان الفرنسيّة، فيليكس أرخميد بوشيت Félix Archimède Pouchet، بدأ بعرض مجموعة من الأوراق على أكاديميّة العلوم في باريس سنة 1855، في محاولة لإثبات نظريّة النشوء الذاتيّ، حتّى أنّه حاول أن يثبت نوع الظروف التي حدث فيهاهذاالنشوء الذاتيّ. قام بعنونة مشروعهب Heterogenesisو الذي أصبح عنوانًا لمجلّد ضخم في سنة 1859.
تماما مثلَ بافن و نيدهام، اعتقد بوشيت بأنّ النشوء الذاتيّ لم يكن حادثة عرضيّة، و إنّما نتيجةً للقوى الحيويّة في المادّة، و التي كانت متواجدة بشكل قبْليٍّ على شكل مادّة عضويّة. وفقًا لبوشيت، العوامل المسبّبة في حدوث النشوء الطبيعيّ تشمل المادّةَ العضويّةَ، الماء، الهواء، و المناخ المناسب.أظهرت نتائج بوشيت، كم يزعم، بأنّه الرغم من أنّ كلّ الحياة في المملكة الحيوانيّة قد خرجت من البيض، إلا أنّ هذا البيض، قد نشأ في فترة معيّنة نتيجةً للنشوء الطبيعيّ.كتب بوشيت يقول:
'' النشوء الذاتيّ لا يُنتج كائنا بالِغًا، إنّ النشوء الذاتيّ عمليّة شبيهة إلى حدّ بعيد بعمليّة التوالد الجنسيّ، و هي مبدئيّا عمليّة عشوائيّة تقوم بإنتاج الحياة ''.
بكلمات أخرى، لقد اعتقد بوشيت بأنّ التوالد الجنسيّ هو عمليّة عشوائيّة تسبّبت فيها قوى حيويّة تماما مثل عمليّة النشوء الذاتيّ. كما اعتقد بوشيت بأنّ هذه العمليّة قد حدثت تحت الرعاية الإلهيّة، بعيدا عن القول بالصدفة. و نشير إلى أنّ نظريّة النشوء الذاتيّ قد تعرّضت للهجوم سابقًا لكونها نظريّة لادينيّة، و بينما كانت النسخة القديمة من هذه النظريّة تقول بالتجمّع العشوائيّ للجزيئات، تبنّت نسخة بوشيت القول بالعناية الإلهيّة.
لقد اعتقد بوشيت بأنّ هذه الرعاية الإلهيّة قد شملت فعل الخلقِ الأوّل، كما شملت كلّ ما تلاه من الأحداث. لقد كان بوشيت يحاول انتزاع نظريّة النشوء الذاتيّ من المادّيّين. فكتب يقول '' إنّ قانون النشوء الذاتيّ، بعيدا كلّ البعد عن المساس بالقدرة الإلهيّة، لا يمكن إلا أن يثبت عظمة هذا الخالق ''.يلاحظ فارلي، بأنّ باستور لاحقا سيتجاهل إيمانَ بوشيت و تقواه في ما يخصّ هذا الموضوع.و الأنكى من ذلك، أن بوشيت كان مختصّا بالبحث حول أصل الحياة في المادّة العضويّة الخاصّة بحياة أخرى قديمة، و لم يكن يحاول البحث عن أصل الحياة في المادّة الجامدة:
''إن نجاح الحياة في الظهور على سطح الأرض قد حصر المادّة في دائرة ضيّقة لا تستطيع اختراقها، إنّها ـ أي المادّة ـ تتعرّض للجذب و الدفع بشكل مستمرّ بسبب هذه الظاهرة الأبديّة ـ يقصد الحياة ـ. إلّا أنّ الجسيمات العضويّة ـ و التي تتجمّع حينًا لتكوّن لنا كائنا حيّا، و تتنافر حرّة في الفضاء حينًا آخرـ ليست أقلّ حيويّة بمعيّة الحياة الكامنة فيها، و التي تتحيّن الفرصة التي تتجمّع فيها هذه الجسيمات معًا لتخرج من حالة كمونها و تتمظهر كحياة. من الواضح أنّه بالنسبة للجسيمات العضويّة، لا يوجد شيء اسمه الموت، إنّما فقط انتقال من حياة لأخرى ''.
الاستثناء الوحيد لهذا، هو بالطبع، الخلقُ الإلهيّ الأوّل، و كل ما دونه يكون في حاجة لقوى السبك.
غير أنّ لويس باستور (1822ـ1895) قد عارض نظريّة النشوء التلقائيّ. عرضت الأكاديميّة الفرنسيّة للعلوم جائزة ألومبرت بقيمة 2500فرنكٍلكلّ من ينجح في تسليط الضوء على سؤال ما يسمّى بالنشوء الذاتيّ، فاز باستور بهذه الجائزة سنة 1862 لمقالته المعنونة ب'' حول الكريّات المنظّمة المتواجدة في الغلاف الجوّيّ''أو Mémoire sur les corpuscules organisés qui existent dans l'atmosphère ،و قد تمّ نشر هذه المقالة في الحوليّات في السنة المواليّة.
في مقالته، وصف مجموعة من التجارب الأنيقة التي وُضعت أساسًا من أجل تخطيئ زعْم بوشيت بأنّه لم توجد أيّة كائنات عضويّة في قواريره، مؤكّدًا بأنّه لا الهواء المستعمل، و لا الماء احتوى على جراثيم في تجربة بوشيت، و بأنّه قد قام بتعقيم القوارير و المواد باستعمال الحرارة،لقد ركّز باستور على نقطة أخرى بخصوص التجربة: الحوض الزئبقيّ الذي قام استعمله بوشيت من أجل تبريد قواريره، يزعم باستور بأنّه في هذا الحوض، استقرّ غبارٌ يحملُ جراثيم في قوارير بوشيت، و هو ما أدخل هذه الجراثيم في قواريره المغلقة.
و بطبيعة الحال، فإنّ باستور لم يستطع أن يثبت بأنّ بوشيت يمكن أن يكون قد ارتكب هذا الخطأ، كان عليه أن يبيّن بأنّه في حالة تمّ إخراج القوارير بشكل نظيف، فإنّه لن تتطوّر أيّة جراثيم، لذلك حصل على مجموعة من القوارير ذوات الأشكال المختلفة التي صُمّمت خصّيصا لتسمح بحركة مرور الهواء، بحيث تمنع مرور الغبار الذي من الممكن أن ينقل معه الجراثيم إلى داخل القوارير التي تحتوي على حساء معقّم. بعد هذا، ظلّ السائل نقيّا لأشهر عديدة، كما يلاحظ أحد كتّاب السيرة الشخصيّة.
'' كان الملاحِظُ أمام فرضيّتيْن اثنتيْن بخصوص أصل هذه الجراثيم: إمّا أنّها أتت من الجسيمات الصلبة التي تتاطير في الهواء مثل الصوف و القطن، و إمّا أنّها أتت من الأبواغ التي تتواجد في العفن أو بيض النقاعيّات. قال باستور "أفضّل الاعتقاد بأنّ الحياة قد نشأت من حياة أخرى على أن أعتقد بأنّها نشأت من غبار" ''.
في نقاشات و تجارب لاحقة، تمّ أخذ عيّنات من الهواء المتواجد في سقوف الكاتدرائيّات من طرف بوشيت، كما تم أخذ عيّنات من هواء بالونٍ من طرف باستور، و كذا من قمم الجبال من طرف كلا العالِمين. كان هناك مسابقة تنافس فيها العالمان سنة 1864 حيث أشرف عليها العالم باستور، و قد فاز فيها العالم نفسُه بعد انسحاب بوشيت من هذه المنافسة زاعمًا انعدام الحياد. لقد استطاع باستور أن يبيّن استحالة حدوث النشوء التلقائيّ، و اعتبر حينها بطلا في المجتمع الفرنسيّ، لكن هل نجح حقّا في إظهار استحالة حدوث النشوء التلقائيّ؟
بكل تأكيد، فقد وضح بوشيت أن ضخات البرسيم سوف تتوالد حتى بالغلي، لأن البرسيم، وكما اتضح بعد مدة، يحتوي على بذور مقاومة للحرارة. لو كان قد بقي في المسابقة لفاز (لكن ليس لأنه كان محقاً بالنسبة للتوالد الذاتي). والأكثر مدعاة للقلق، بالنسبة لنا نحن الحداثيين، أنها ترشح، أن باستور، بما أن دفاتره أصبحت متاحة الآن (لم تتح قبل السبعينيات، مع فهرس نشر فقط في 1985) تجاهل النتائج الإيجابية في التجارب بصورة متكررة، مدعياً أنها كانت بسبب خطأ أكثر منها بسبب التوالد الذاتي، والحقيقة أن 10% فقط من تجاربه أعطته النتيجة المرجوة.
ورغم أن باستور كان محقاً - الحياة الحديثة، متضمنة الفطريات والضخات، لم تنشأ من المادة الغير حية، سواء أكانت عضوية أو عنصرية. فقط المؤرخون هم المهتمون بالجدل حول تقنيات تجاربه، رغم أن كتاب جايسون قد أحدث ضجة هائلة في فرنسا، في حين أن باستور أشبه بالقديس العلماني.
في سنوات متقدمة من حياته، اضطر باستور لتعديل بعض آرائه (ليس حول التوالد الذاتي). كان قد اعتقد أن الكائنات الدقيقة تحتفظ بحدتها (فوعتها) لأجل غير مسمى. لكن في عام 1881 اضطر للاعتراف بأن حدتها قد تقل تلقائياً (وجعل من ذلك أساس لقاحه المضاد لداء الكلب). يقول دوبريه، "والآن، وفي سن الستين، اضطر باستور لمواجهة الحقائق التي لم تتفق مع مفاهيمه. اللقاح الموهن تعارض مع فلسفته البيولوجية. كان عليه أن ينبذ معتقداته ويدخل في النقاش حول تطور الأجناس." كان عليه أن يختار ما بين وجهة نظرة داروين في أن الانتخاب الطبيعي في العملية، أو وجهة نظر لامارك في أن البيئة تؤثر بشكل مباشر على جنس الكائن، واختار لامارك. لكنه قبل بتحول الأجناس، من خلال تصريحاته المذكورة في سيرة ايلير كوناي:
"نرى الفوعة في ضوء جديد لا يمكن أن يثير قلق البشرية، إلا إذا كانت الطبيعة، في تطورها عبر الأجيال (تطور استمر كما نعرف لملايين, لا, بل لمئات الملايين من السنين)، قد استنفذت أخيراً كل احتمالات انتاج فوعات أو أمراض معدية - والذي هو غير مرجح بشدة".
ومع ذلك، فقد أشار بعدها بقليل إلى"ما لا يعد ولا يحصى من الخلق"، واضح أنه تقبل حقيقة التطور. وعلاوة على ذلك، فقد ميز التفاعل بين الميكروب والعائل على أنه "صراع من أجل البقاء" (وهي عبارة وجب التذكير أن صاحبها هو عالم النبات السوسيري ألفونس دي كوندول، وقد استعارها داروين). ومع ذلك فأنا أشك أنه تقبل أن التطور حدث بالانتخاب الطبيعي، بنفس ندرة الفرنسيين حتى عام 1950 وكتابات جاك مونو. لكنه لم يكن خلقياً، على الأقل في هذه المرحلة من حياته.
وعلاوة على ذلك، فالكثير قد قيل عن إيمان باستور. كثير ما يزعم البعض أنه كان كاثوليكياً متديناً، لكن يبدو أنه كان متخاذلاً جداً في تدينه، بقراءته خلال القداسات وهو طالب. وعدم ذهابه بكثره إلى الكنيسة خلال حياته. ووجب القول أنه كان معارضاً لفلسفة موضة المادية المتطرفة في فرنسا، والتي منها نشأ جدل التوالد الذاتي، ولكنه لم يكن مؤمناً مثالياً.
مع ذلك، وعلى الرغم من إدعائات فارلي (Farley) و غايسون (Geison) بأن باستور سمح لفلسفته البديهيّة بتوجيه بحثه، إلا أنه كان محقاً بأن نمو الجراثيم كان بسبب جراثيم موجودة مسبقاً، وبأن التخمير كان بسبب الفطريّات الخميرة.
الخلاصة إلى الآن
إذاً علينا أن نسأل – ماذا برهن باستور؟ هل برهن أن الحياة لا يمكن لها أن تنشأ من المواد الغير حيّة؟ لا لم يفعل، وذلك لأنه من غير الممكن برهنة أمر كهذا بالتجربة، وإنما نظرياَ فقط، وهو لم يكن عنده نظريّة بيولوجيّة جزيئيّة ليبني هذا الإدّعاء عليها. ما أوضحه هو أنه من غير المحتمل الى حد كبير أن الكائنات الحيّة الحديثة إنبثقت من المواد العضوية الغير حيّة. هذا الإدّعاءُ مقيّد أكثر من إدعاء أن الحياة البدائيّة إنبثقت من المواد الغير عضوية الغير حية.
حتى الآن لم نجد أياً من ريدي، سبالانزاني، أو باستور قد دحض نشأة الحياة في كل الحالات، وإنما في حالات محددة فقط. أضف على ذلك، أننا رأينا أن إدّعائات "كل الحياة من البيوض" و "كل الخلايا من الخلايا" و "كل الحياة من الحياة" هي تعميمات غير مدعّمة بالكامل بالأدلة التجريبيّة المتاحة وقتها.
نابغة
رد: النشوء التلقائيّ و أصل الحياة
مُساهمة الثلاثاء مارس 01, 2016 9:58 am من طرف نابغة
تاحة وقتها.
التطور والتولد التلقائي
[ملاحظة: من الآن فصاعداً، لن نورد تواريخ العلماء. التفاصيل المتعلقة بالسِّيَر يمكن العثور عليها في كتاب فارلي، أو في كتب التاريخ ككتاب سنغر.]
ردّة الفعل على باستور كانت، على الأقل في فرنسا، بالإجماع: النشوء التلقائي من المادة العضوية الغير حية قضية ميتة. غير أن ما أوضحه باستور وما أُستُنتج منه كخُلق فلسفي أمران مختلفان تماماً. كانت لدى العلوم الفرنسية، منذ عصر المفكرين التنويريين، نكهة ماديّة قويّة. إعترض كثيرون على هذا، ومورس الضغط على باستور للخدمة دضها. في العام 1873، رأى الأب فالروجر (Valroger) النشوء التلقائي ضرورة إعتقاديّة للإلحاد، وكتب بأن "تصرّف الخالق كان ضرورياً لإنتاج الكائنات الحيّة الأولى"، وعلى الجانب الآخر، كتب فيليكس إزنارد (Felix Isnard) في العام 1879 "على الشخص الخضوع الى البرهان المنطقي الصارم ويقبل فقط ما أثبته العلم كحقيقة"، وأن المنطق أرغمنا على القبول بالنشوء التلقائي من المادة الاعضوية، وبأنه علينا الإعتراف بأن النشوء التلقائي من المادة العضوية الغير حية لا يزال ممكناً.
في ذات السنة التي نُشرت فيها دراسات باستور، نُشر كتاب داروين "أصل الأنواع"، الذي لم يكن له تأثير كبير في فرنسا، ولكن في البلدان التي أثر فيها، كان النشوء التلقائي من المادة الاعضوية لا يزال مبدءاً معتبراً.
على الرغم من أن داروين أضاف في الإصدار الثاني من كتابه عام 1860 في الفقرة الأخيرة عبارة "عن طريق الخالق"، وهكسلي أيضاً أعلن أن الحياة ربما تم خلقها في الأصل، إلا أن هذا لم يُفهم أبداً على أنه جزء من العقليّة التطوريّة، وما لبث أن بدأ الناس يخمنون كيف نشأت الحياة. داروين نفسه بدأ بالتسائل، في رسالة لصديقه عالم النبات جوزيف هوكر سنة 1871، كتب فيها:
'' من الشائع أن يقال بأنّ كلّ الشروط التي أنتجت الحياة البُدائيّة حاضرٌة معنا الآن، و التي كان بإمكانها أن توجد في أيّ وقت في الماضي، غير أنّنا لوْ ( و يا لها من أمنيّة كبيرة ) استطعنا أن نتصوّر بركة صغيرة دافئة تحتوي كلّ الموادّ الأساسيّة للحياة من النُشادُرِ و الأملاح الفوسفوريّة، و الضوء، الحرارة، الكهرباء، و باقي الشروط الأساسيّة للحياة، فإن كانت بركة مثل هذه حاضرة في وقتنا، بحيث تسمح لمركّب من البروتيني [ كذا ] بأن ينشأ و يخضع لتعقيدات أكبر. لو حدث و نشأت مادّة كهذه في وقتنا الحاضر، فإنّها ستتعرّض للامتصاص فورًا، على عكس الفترة التي لم توجد فيها كائنات حيّة في الأرض، بحيث كان بإمكان الحياة أن تنشأ بدون أن تتعرّض للامتصاص. ''
في كتاباتِه، ابتعد ما أمكن عن التكهّن، بحيث يقول '' بأيّة طريقة يمكن للقوى العقليّة أن تكون قد تطوّرت في الكائنات الأدنى؟ إنّه سؤال تتعذّر إجابته مثل السؤال عن الطريقة التي نشأت بها الحياة، هذه الأسئلة متروكة للمستقبل البعيد، إذا أمكنَ حلّها يومًا '' ( أصل الإنسان، الفصل الثاني، 1871).
في مقالة موجّة إلى أثنيوم سنة 1863، كتب داروين بخصوص النشوء التلقائيّ Heterogeny و هو الاسم المستعمل للمذهب المسمّى قديمًاSpontaneous Generation ،فكتب يقول '' إنّ كتلة من الوحل المتحلّل و الخاضع لعدد من التغيّرات الكيميائيّة المعقدّة [ يقصد التخلّق التلقائيّ Heterogenesis ... المترجم ] لهو مكان جيّد لاختباء الأفكار الغامضة ''.
لقد قال بأنّه '' بينما يعتبر من المؤكّد وجود فترة في تاريخ الأرض لم توجد فيها سوى العناصر اللاعضويّة ، فإنّ جهلنا بأصل الحياة هو نفسه حينما يتعلّق الأمر بأصل المادّة أو الطاقة ''، كما أنّه يرفض الاعتقاد بأنّ نظريّة التطوّر في حاجة إلى ظهور متواصل للحياة. ما يُسمّى بالأشكال البُدائيّة للحياة مثل المُنْخَرِبَاتْForaminifera،لهي متكيّفة بشكل جيّد مع بيئتها،و هي ليست بدليلٍ على نشوء تلقائيّ مستمرّ الحدوث: '' لن يتمّ الاستيلاء على طبيعة الحياة من طرف الفكرة القائلة بأنّ الحياة تنشأ بشكل دوريّ من الوحل أو الطين '' .{Barrett 2:78ff}
على الرغم من أنّ هنري هوكسلي يتّفق مع تشارلز داروين في القول بأنّ النشوء التلقائيّ ليس عمليّة دائمة الحدوث، إلا أنّه قد عبّر عن اعتقاده بأنّ الحياة قد نشأت من سائل يتواجد في الخلايا يسمّى بروتوبلازم، و هو بمثابة القالب الطينيّ للحياة. {Huxley 1868}
اعتقد الكثيرون بأنّ القول بظهور الحياة من موادّ غير عضويّة هو الاتّجاه الرسميّ للتطوّريّين، على الرغم من أنّه قد تمّ إنكار هذا، إلا أن لم يكن للأمر فائدة.في سنة 1870، عاد هوكسلي إلى هذا السؤال و قام بصياغة مصطلحAbiogenesis ،كنقيض لمصطلحBiogenesis ، و هو المذهب القائل بأنّ الحياة لا تنشأ إلّا من حياة سابقة.لقد اتّفق مع باستور حول جميع الأشكال المعروفة من الحياة.
لقد لاحظ هاكسلي بأنّ مصطحي Heterogenesisو Abiogenesis يتمّ استعمالهما بشكل متبادل، لكنّ نفي أحدهما لا يثبت بالضرورة نفي الآخر، على الرغم من أنّه لم يجادل لصالح هذه النقطة.
سنة 1868 قام هيكسلي بإعادة فحص طين محيطي أستخرج سنة 1857 ، مستخدما مجهراً أقوى من ذلك الذي إستخدمه في فحصه الأول، وظن أنه رأى فيها "شكلاً جديدا من الكائنات البسيطة المتحرّكة"، والتي كان إرنست هيكل قد أطلق عليها سابقا مسمى Urschleim الطينة الأصلية)، وسماها هيكسلي Bathybius Haeckelii . أصبح البروتوبلازميّون الآن قادرين على القول بأن القاع المحيطي مغطى بطينة بروتوبلازميّة. على الرغم من ذلك، كل ما قاله هيكسلي سنة 1870 هو أن النشوء التلقائي من المادة اللاعضوية ممكنٌ نظرياً، وأنه "لا يرى سببا للإعتقاد بأن هذا العمل قد تم بعد" {Farley 74f}
بدا أن الداروينيين إصطفو خلف باستور، فيما يتعلق بهذا الأمر وفي مسائل أخرى (هيكسلي كان طبيباً، وقبل بنظرية عدوى الأمراض)
وليام طومسون، الملقب لاحقا بلورد كيلفن، والذي تضمنت إسهاماته الفيزيائية إنكارا لتوفر وقت كافٍ ليسبب الإنتقاء الطبيعي التطور (ظهر لاحقا بطلان هذا الإنكار مع إكتشاف النشاط الإشعاعي)، قال بخطابه الرئاسي للجمعية البريطانية للتقدم العلمي سنة 1871 :
أنا أعترف بأنني متأثرٌ بشكل عميق بالدليل الذي قدمه لنا البروفسور هيكسلي، وأنا مستعد لتبني فكرة أن الحياة تصدر من الحياة، ولا شيئ غير الحياة، كمعتقد علمي قوي، صحيح في كل زمان ومكان.
كيف إذاً، نشأت الحياة على الأرض؟ بتقفي أثر التاريخ الفيزيائي للأرض على مبادئ ديناميكية صارمة، نصل الى كرة أرضية ذائبة لا يمكن للحياة أن توجد عليها. إذاً، عندما أصبحت الأرض مناسبة للحياة لأول مرة، لم يكن عليها أي شيئ حي. (...) عن طريق القانون الأبدي للشرف، العلم مقيد بأن يواجه، بلا خوف، كل مشكلة يمكن أن تعرض عليه بشكل عادل. إذا كان من الممكن العثور
على حلٍ محتملٍ يتناسقُ مع المسار الإعتيادي للطبيعة، علينا أن لا نستدعي عملاً غير طبيعي لقوة
خلّاقة.
إقترح طومسون لاحقا أول فكرة علمية للبانسبيرميا، أو نثر بذور الحياة على الأرض. {Basalla et. al 125-127}
مع ذلك، لم يكن الآخرون بذلك الحذر. هنري شارلتون باستيان (1837-1915)، أحد أصغر الداروينيين، كان مقتنعا بأن الحياة نشأت تلقائياً، ولا تزال تفعل ذلك. أعلن أن الإيمان بالأبيوجينيسيس لا يُلزم الشخص بإنكار نظرية عدوى الأمراض، ولكنه أنكر أن العدوى كانت بسبب
كائنات حية، وإنما بسبب "فتات" عضوي غير حي، تنبثق منه كائنات حية. إعترف باستور بأن هذه الرؤية جائزة، على الرغم من أنه لم يؤمن بها. من بين كل الناس، كان الداروينيان الأقدمان جون تيندال وهيكسلي هما من عارضا باستيان، وهما من أتباع نظرية العدوى عن طريق الكائنات الحية. إتفق تيندال مع ليستر بأن العدوى كانت بسبب الكائنات الحية، وأن هذا له أهمية طبية.
عارض النشوء التلقائي (الأبيوجينيسيس) علماء تطوّريون آخرون كثر، منهم هيربيرت سبينسر و ويليام سيثتيليتون-داير، على أساس أنه حتى أكثر الكائنات والبروتوبلازما بساطة كانت أكثر تعقيدا من أن تنبثق مباشرة من المواد اللاعضوية. أشكال أخرى من المعارضة أتت من الحيويين (أتباع المذهب الحيوي) أمثال ليونيل بيل و ويليام كاربنتر، الذي إنتقده داروين في مقالته عن الهيتروجيني. كقاعدة عامة، الحيويّون عارضو الأبيوجينيسيس ولكن ليس الهيتروجينيسيس. جون تيندال، صديق داروين و هيكسيلي، نشر سلسلة من التجارب عام 1876 إدعى أنها تُظهر أن النتائج الإيجابية كالتي حصل عليها باستيان كانت بسبب أخطاء تجريبية. {Farleychapters 5, 7}
إرنست هيكيل، والذي دمجت فلسفته الأحادية أفكار داروين و غوته، أكد أن النشوء التلقائي عند بداية الحياة هو "مسلمة منطقية للتاريخ الطبيعي العلمي"، وإعتبر الهيتروجينيسيس "ذو أهمية ثانوية في تاريخ التكوّن". كما أشرنا فوق، إعتقد هيكيل بأن البروتوبلازم كان أبسط مادة حية، وأن أكثر الكائنات بساطة ليست أعقد بكثير من أكياس من البروتوبلازم، ولهذا السبب " الهوة العميقة بين المواد العضوية والمواد الغير عضوية التي أُعتقد رسميا و بصورة عامة وجودها قد تم إزالتها بشكل كامل أو شبه كامل، وأصبحت الطريق معبّدة أمام تصور النشوء التلقائي." {Farley 75-77}
آخرون مثل هاينريش برون، رفضو الفكرة الى أن تصبح قابلة للشرح. بشكل عام إنقسم النقاش بين الحيويين، الذين إعتقدو بوجود شيئ مميز يجعل المادة الميتة تحيا، والمادييون، الذين إعتقدو أن الحياة هي مجرد كيمياء بشكل مختلف. ماتت الفكرة والنقاش، إذ لم يكن هناك أي تقدم حقيقي من 1880 الى النصف الثاني من القرن العشرين، مع أن البحث المتعلق بنظرية العدوى، أو ما عُرف لاحقا بنظرية الجراثيم، إستمر على قدم وساق، بالإضافة الى دراسات تاريخية حول نمو الخلية و إنقسامها وتصرفها.
التكوّن الحر للخلايا والهيتروجينيسيس ونظرية العدوى الكيميائية بدت وكأنها إختفت جميعها. المعتقد الوحيد الذي بدا وكأنه لا زال يملك بعض الأهمية هو الأبيوجينيسيس، ولكن أنجز القليل من العمل حوله. ظهر وكأن باستور وفيرشو قد إنتصرو، والداروينييون إتفقو مع الآخرين، مع أن باستيان نشر سلسلة من الكتب بين عامي 1904 و 1911 تعزز أفكاره. مفهوم أن الحياة البسيطة هي بالبساطة التي وصفها هيكيل، تبين أنه لا ينطبق على الكائنات أوحادية الخلية المعاصرة. بالحقيقة، تبيّن أن هذه الخلايا بالغة التعقيد، مما فتح الفجوة من جديد بين الحياة واللاحياة. ثم بعد ذلك، أغلقت مرة أخرى، عندما تطورت الكيمياء البيولوجية، دافعة بِن مور، البروفيسور الأول للكيمياء البيولوجية في جامعة ليفربول ليقدم ملاحظة سنة 1921:
"الإقليم الذي يحدث فيه هذا الإنتاج التلقائي للحياة، لا يقبع في مستوى الباكتيريا، أو الكائنات الدقيقية، بل في مستوى للحياة أعمق من أي شيئ يمكن للمجهر كشفه، ولديه وحدة أصغر من الخلية الحية" - بكلمات أخرى، في مستوى كيميائي وليس كائناتي. {Farley 155}
في سنة 1920، حصلت النظريّة الكيميائيّة للعدوى على دعم قويّ، حينما تمّ الاكتشاف بأنّ الفايروسات غيرُ قابلة للفلترة حتّي عن طريق فلترات خزفيّة. لقد تمّ اكتشاف الفايروسات سنة 1980 عندما كانت تُجرى أبحاث حول أمراض التبرقش في التبغ و الأقدام و مرض الفمِ في الماشيّة.
لقد تمّ إظهار اهتمام متزايد كذلك بكيمياء المادّة الغرويّة ( و هو خليط من الموادّ التي لا تذوب في بعضها البعض ) باعتبار هذه المادّة مصدرًا ممكنًا لنشاط المادّة الخلويّة، أو البروتوبلازم. لقد تمّ الاكتشاف بأنّ البروتينات قامت بتشكيل الغرويّات في الماء، و بأنّها تمتلك كتلةً جزيئيّة أكبر من أيّ شيء تمّ اكتشافه من قبل.
لقد كان من الشائع الاعتقاد بأنّ الفايروسات عبارةٌ عن بروتينات، أو إنزيماتٍ بشكل أكثر تحديدا، و التي تقوم بتحفيزات التفاعل في البروتينات الأخرى. البعضُ مثلَ البيوكيميائيّ من هارفرد ليونارد ترولاند، صوّروا الأشكال الأولى من الحياة باعتبارها أنزيمات ذاتيّة التحفيز، و بعبارات أبسط، بروتين قام بالتسبّب في مجموعة من التفاعلات التي ولدّت نسخًا أكثر من البروتين نفسه{Farley 157-159}.
بدأ فيليكس ديريل سنة 1917 مجموعة من الدراسات حول مرض الزحار، اكتشف فيليك خلال هذه الدراسة فيروس العاثيّة، و هي فايروسات تتعذّى على الخلايا، و التي تحلّل باكتيريا الزحار. لقد أكّد فيليكس على أنّ الفايروسات هي كائنات حيّة، طفيليّات في الباكتيريا، لكنّها ليست خلويّة.لقد اعتقد هو بنفسه، بأنّ الكائن الحيّ الأصليّ هو فايروس، و بأنّ هذا الكائن مكوّن من بروتين كمُذَيلةٍ Micellaأو خيط.لقد اعتقد بأنّ كلّا من النباتات و الحياة الحيوانيّة قد انبثقا بشكل منفصل من هذه المُذَيْلات.Micellae هذه الاعتقاد كان مؤثّرا{Farley 160-162}.
في الوقت نفسه، كان علم الجينات قد قطع أشواطً بعيدة، كما أنّ عالم الجينات الأمريكيّ هيرمان جوزيف مولر صرّح سنة 1921 بأنّ الجينات و الفايروسات هما في واقع الأمر الشيء نفسُه، الفرق الوحيد هو أنّ الفايروس أصغر قليلا من الجين. في سنة 1935، أظهر واندل ستانلي بأنّ الفايروسات، و في حالتنا هذه نتحدّث عن الفايروسات نفسها التي تمّت دراستها سنةَ 1980 في مرض التبغ المبرقش، عبارةٌ عن بروتين ذاتيّ التحفيز و الذي قام بصناعتنامن آلية خلويّة وظيفتُها هي إعادة الإنتاج.في دراسات لاحقة، تبيّن بأنّها ليست بروتينا خالصا، و إنّما خليط من البروتينات و الأحماض النوويّة، من أجل هذه الأبحاث، فاز ستانلي واندل بجائزة نوبل للكيمياء لسنة 1946، مبيّنا بأنّ عنصرًا كيميئيّا خالصًا يستطيع أن يتصّرف كما لو كان كائنا حيّا{Magner 318f}.
في الوقت نفسه، ألقى عالم بيوكيمياء روسيّ شابّ اسمه ألكسندر أوبارين محاضرة حول أصل الحياة سنة 1922، تمّ نشر هذه المحاضرة ككتيِّبٍ عام 1924، و الذي كانت لديه تأثيرات كبيرة على أبحاث و أفكار لاحقة، و سوف ننتقل الآن لعرض أفكار هذا العالم.
نابغة
رد: النشوء التلقائيّ و أصل الحياة
مُساهمة الثلاثاء مارس 01, 2016 9:58 am من طرف نابغة
العالم.
الأصول الحديثة للبحوث حول الحياة:
لم ينشر كتاب أوبراين '' أصل الحياة '' و الذي عرض فيه نظريّته حول الأصل الكيميائيّ للحياة إلا في سنة 1936، و قبل هذا، لم يكن هذا الكتاب ذا تأثيرا كبير نسبيّا إذا استثنينا بلده الأصل الاتّحادَ السوفياتيَّ، و قم تمّ انتخابه باكرا منطرفأكاديميّة العلوم.
للأسف، لقد كان أوبارين جزءًا من فضيحة العالِم تروفيم ليسينكو، و أعلن بصراحة أنّ آراءه العلميّة متوافقة مع المادّيّة الجدليّة لللمذب اللينينيّ السوفياتيّ. و على كلّ حال، بداء أنّ التأثير الأكبر كان بسبب كيمياء المادّة الغروانيّة{Farley 162-165}.
تنصّ فرضيّة أوبارين على التالي: انبثقت الموادّ الهلاميّة من محاليل غروانيّة و التي تفاعلت مع بعضها البعض لتكوّن لنا مزيدا من الموادّ الهلاميّة مِنْ نفس التركيبة السابقة. تضاءلت المادّة المتواجدة في الوسط المائيّ، كلّما كان الصراع من أجل التواجد أشدّ و أقوى، لهذا، فالموادّ الهلاميّة إمّا أن تصبحَ غيرّة التعذيّة Cannibalistic أو ذاتيّة التغذيّة Autotroph ( و هي الكائنات التي تقتات على موادّ غير حيّة مثل الطحالب).
لقد علّل هذه الفرضيّة بقوله: لو أنّ المُناخ البُدائيّ للأرض لم يحتوِ على الأكسجين، و الذي هو نتاج لتنفّس النباتات، فإنّ مركّباتٍ عضويّةً بسيطةً ناتجةً عن النشاط البركانيّ أو الصواعق، محتويّة على العناصر الكيميائيّة للحياة مثل الكاربون و الهايدروجين و الأكسجين و كذا النيتروجين، لم تكنْ لتُدَمَّرَ، و لكنْ كانت لتتجمّعَ و تكوّن حساءًا من الجسيمات العضويّة{Schopf121}.
قبل أن يشتهر عملُ أوبارين '' أصل الحياة ''، كاتب عالمُ البيوكيمياء الأنجليزيّ، جي. بي . إس هالداينJ. B. S. Haldane، و الذي كان يعمل على دراسة الأنزيمات منذ سنة 1923، كتب يقول في مجلّة The Rationalist Annual حول أصل الحياة سنة 1929''منذ وفاة باستور، ضاقت الفجوة القائمة بين المادّة و الحياة بشكل كبير ''. متأثّرا بديريل، اعتقد هالداين بأنّ الجراثيم العاثيّة هي مرحلةٌ لاحقة على الأنزيمات في الطريق نحو الحياة '' و قد يكون الأمر مبالغة منه لنعتبرها كائنا حيّا كاملا.أسلاف الحياة كانت شبيهة بالفايروسات، بسبب التخمّر اللاهوائيّ الذي استمرّ لملايين السنين {Farley 163-164}.
على الرغم من كثير من الحجج، الكثير منها حججٌ نظريّة و البعضُ منها تجريبيّ، ظلّ النشوء التلقائيّSpontaneous Generation فرضيّة ممكنة للحياة غير أنّها كانت ميدانا للتشويش الكثير، إلّا أنّ نشر كريك و واتسون لأطروحتهما بخصوص تركيبة الحمض النوويّ في 23 نيسان سنة 1953 قد أزال شيئا من هذا التشويش و أضفى بعض التركيز على هذا الميدان من المعرفة. بعد ثلاثة أسابيع من نشر هذه الورقة في 15 من أيّار، قام طالب متخرّج من جامعة شيكاغو اسمُه ستانلي ميلرStanley Miller بنشر ورقة في مجلّة Science تحت عنوان '' إنتاج الأحماض الأمينيّة تحت الظروف البُدائيّة للأرض’’ أوْ''"A production of amino acids under possible primitive earth conditions" .
كان ميلر الطامحُ لتحصيل شهادة الدكتوراة طالبًا عند العالم الحاصل على جائزة نوبل هارولد سي يوري، و هو كيميائيّ اكتشف الديوتيريوم أو الهيدروجين الثقيل، و بعدما استمع إلى محاضرة ألقاها يوري و التي دوّنها ميلر بلا كللٍ و التي كانت تتحدث عن أنّ جوّ الأرض الغنيّ بالهيدروجين (والذيهوفى حالة تقلص) كان منذ القدم جوًّا ملائما لتكوين جزيئات طبيعيّة بسيطة.
و قد قرّر ميلر بعد إذن أستاذه يوري أن يختبر هذا بافتراض وجود جوّ من جزئيات الهديروجين و الميثان و النشادر و بخار الماء كاختبار، و لم يكن لا يوري و لا ميلر يعلمان أنّ هذا الذي هم بصدد فعله كان على نفس خُطى فرضيّة أوبارين، وكمنهجية للتحضير من أجل التجربة، قام ميلر بقراءة أعمال أوبارين جيّدا و استوعبها بالتزامن مع فرضيّة يوري التي كانت تتعلّق بتكوين النظام الشمسي.
قام ميلر بتمرير هذا الجوّ من الجزيئات خلال مقطرة زجاجية معوجّة و قام بتدويرها باستمرار لأيام عديدةوعرّضها للحرارة في الوقت نفسه، و إلى جانب تسليط الصعقات الكهربائية، و كذا التبريد.
و بعد يومين تحوّل هذا المحيط (و الذي هو قارورةٌ من المياه حيث تمرّ الغازات باستمرار) إلى حساءٍ ذي لونٍ أصفرَ شاحب. و بعدما تمّ إجراء الفحوص و التحاليل اللازمة لهذا الحساء الشاحب، تبيّن أنّه يحتوي على الغلايسين Glycyne، و هو أبسط أنواع الأحماض الأمينيّة.
استمرّ يوري و ميلر في تكرار التجربة لمدّة أسبوع، و بعد تحوّل المحلول في الأخير إلى اللون الأصفر المائل للبنّي، وجد ميلر داخل هذا المحلول سبعة أنواعٍ من الأحماض الأمينيّة، ثلاثة منها أساسيّة في تكونين الحياة و هي: الجليسرين، الأنين، وحمض الاسباراتيك. و فى غضون شهرٍ و نصف قام ميلر بتأكيد فرضيّة يوري و أوبارين و التي تتعلّق بتكوين أوائل الجزيئات في الحياة..
لم يدّعِ أحدٌ بأنّه قد نجح في صناعة الحياة، كلّ ما قاله العلماء هو أنّ الجزيئات اللازمة للحياة من الممكن أن تتكوّن بشكل عفويّ منذ تصنيع ووهلر لليوريا عام 1828. الوصول إلى هذا الاستنتاج كان أمرًا حتميّا، و بدأت هذه الفكرة تصبح مقبولة على نطاق أوسع شيئا فشيئا، و بالتالي لم تعد هناك حاجة لاعتقاد بأنّ الحياة لا بدّ أن تنشأ من حياة سابقة.
و في تجارب لاحقة، تمّ استخدام مناخاتٍ أكثر واقعيّة، بحيث اُستُبدلَ الميثان بأحادي أو ثنائي أكسيد الكاربون، أو استبدال النشادر بالنيتروجين الجزيئيّ، و كلّها أتت بالنتائج نفسِها.
تمّ طرح بديل لنموذج أوبارين ـ ميلر من طرف جانتر واتشتيرشاوزر، و الذي اقترح أنّ أكاسيد الكربون التي تنتجها فتحاتٌ و ثقوبٌ موجودةٌ في قيعانِ البحارِ العميقة يمكن لها أن توازن سلفات الحديد، و من ثم تفاعُلها مع الهيدروجين الجزيئيّ لتكوين المونيمر الطبيعيّ ( المونيمر هو جزيء يمكن ربطه بجزيئات مشابهة لتكوين البوليمر، و هو وحدة جزيئيّة بسيطة ... المترجم)، و من هذا المونيمير الطبيعيّ يمكن للحياة أن تتكون.
و قام آخرون بإدخال دور ركائز الطين في التجربة كقوالب تحفّز الجزيئات لتتشكّل قبل أن توجد هناك أيّة جينات، بينما افترض آخرون تكوّن الجزيئات الطبيعيّة في الفضاء والتي كانت بمثابة البذرة الأولى لتكوين كوكب الارض وقتها، وأشخاص أمثال مانفريد فون إييجن وضعوا فرضياتهم أيضا و التي تتحدث عن كيف أنّ التفاعلات الكيميائيّة يمكن لها أن تنتج نسخًا من نفسها فيما يُسمّى بالدورة الحيويّة النشطة..
على صعيد آخر، قام سيدني فوكس بتصنيع مزيج من الموادّ الغرويّة مثل الليبيد فى الخلايا الحديثة و التي تقوم بتشكيل طبقة تقوم بتطويق الجزيئات و في الوقت نفسه تسمح للمونومرات بالمرور عبرها، والتي سوف تقوم بالانشطار أثناء نموّها لتكوّن خلايا جديدة.
الخلاصة:
- I في الفترة الأولى من تاريخ علم الأحياء، كان من المفترض وقتها أنّ الحياة عبارة عنجوهر من نوع خاصّ، بحيث يمكن لها أن تنتج كائنات حية بشكل مباشر، و نتيجةً للبحث في دورات الحياة الخاصّة بالحيوانات و النباتات و حتّى الأمراض، بات واضحا أنّ الحياة الحديثة لا تنشأ إلّا من حياة سابقة، و أنّ لا تأتي إلّا من خلايا حيّة متواجدة مسبقًا.
- IIفي الوقت نفسه، بات من الواضح جدّا أنّ الفجوة القائمة بين الكائنات الحيّة و الكائنات غير الحيّة على المستوى الكيميائيّ لهي في تقلّص مستمرّ، و بحلول منتصف القرن العشرين، بات من المؤكّد أنّ جميع العمليّات التي تقوم بها الكائنات الحيّة إنّما هي كيميائيّة محضة، و أنّه لم يكن يعد هناك وجود لجوهر مميّز للحياة.
.
- IIIالاعتراض على الآبيوجينيسيس كان دائما بسبب مواقف فلسفيّة أو دينيّة، و كذلك بسبب درجة تقدّم العلم في كلّ فترة. غير أنّه لم يعد من المعقول أنْ يعارض أحدٌ نظريّة الآبيوجينيسيسفي وقتنا هذا ، خصوصا بعد تعميق معرفتنا بكيمياء الحياة البُدائيّة.
IV لم ينجح أحدٌ من الذين أجروا تجارب حاسمة على الآبيوجينيسيس في إثبات استحالة نشوء الحياة من موادّ غير حيّة. و في أفضل محاولاتهم، استطاعوا فقط أن يثبتوا بأنّ الكائنات الحيّة الحديثة ( مثل الفئران و الديدان و كذا الجراثيم ) لمْ تنشأ من موادّ غير حيّة. أغلب التجارب التي وضعت ضدًّا على نشأة الحياة التلقائيّة Spontaneous Generation كانت نقيضًا للنشوء التلقائيّ بمفهومه القديم Heterogenesisو الذي يقترح إمكانيّة ظهور كائنات حيّة من موادّ متحلّلة لحياة سابقة، و لم تكن نقيضًا للنشوء التلقائيّ بمفهومه العلميّ الحديث Abiogenesis.
-Vباستور لم يعارض فكرة نشأة الحياة بشكل طبيعيّ، و قولة '' كلّ الخلايا من الخلايا '' التي وقفنا عندها سابقا لا تشمل الفترة الأوّليّة من تاريخ الحياة على الأرض. داروين لم يعرض نظريّة لنشوء الحياة في البداية.
VI -نظريّة التطوّر لم تأتِ للبحث في أصل نشأة الحياة، إنّما فقط تبحث في عمليّة التغيّر التي تحدث في الموجودة مسبقا. و على أيّة حال، يعتقد الكثيرون بأنّ نظريّة التطوّر تستلزم نظريّة حول أصل الحياة بشكل منطقيّ، و هذا أمر صحيح. الكثير من العلماء طرحوا نماذج لنشأة الحياة بشكل طبيعيّ، بعض هذه النماذج يصمد أمام التجارب في حين لا يصمد البعض الآخر، و هكذا كلّما تقدّمت الأبحاث و الدراسات.
 

النشوء التلقائيّ و أصل الحياة

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: دراسات و ابحاث-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: