.‘
ملخص
ما برهنه لويس باستور (louis Pasteur) وغيره مِن مَن أنكر النشوء التلقائي هو أن الحياة حالياً بشكلها المعقد لا تنبثق تلقائياً من اللاحياة في الطبيعة. باستور لم يبرهنعلى استحالة نشوء الحياة بشكل بسيط من اللاحياة عن طريق سلسلة طويلة ومؤاتية من الخطوات/الإنتقائات الكيميائية. وبشكل خاص، هم لم يوضحوا أن الحياة لا يمكن أن تنشأ مرة ومن ثم تتطور. لا باستور ولا غيره من الباحثين في هذا المجال خلال مرحلة ما بعد داروين أنكر عمر الأرض أو حقيقة التطور.
مقدمة
الإطار العام الذي تتكرّر فيه الكتابات المضادة للتطور، هو أنه إذا كان العلم لا يستطيع تفسير أصل الحياة فالتطور باطل، كما أن برهان بطلان "النشوء التلقائي" يعني أن التطور باطل. هذا القياس المنطقي يفشل لأن التطور (إنحدار الأنواع من أصل مشترك وتحوّلها) يحدث بصرف النظر عن أصل نشوء الحياة، أكانت بالصدفة أمْ بقانون أمْ بتصميم. ولكن هناك خطأ غادرًا آخر هنا، فالعلم لم يستبعد "النشوء التلقائي" في جميع الحالات وإنما في حالات محددة.
لهذا السبب تمت كتابة هذا المقال. سوف ننظر إلى تاريخ هذه الفكرة، ثم الى الدلائل الداحضة لها، وأخيرا سوف نتناول العلاقة بين أصل الحياة ونظرية التطور بشكل عام. كالمعتاد سنبدأ مع الإغريق. عندما نصل الى باستور، سنأخذ بعين الإعتبار تداعيات هذا الجدال على التطور. بعدها سنلقي نظرة على التطوّرات الحديثة في دراسات أصل الحياة في مرحلة ما بعد داروين وباستور.
وجهات نظر مبكرة حول النشوء التلقائي
المفكر الغربي الأول الذي اقترح أن الحياة نشأت بشكل تلقائي كان على الأرجح أناكسيماندر (Anaximander) الفيلسوف من مدينة ميليتوس (التي تقع اليوم في تركيا)، وقد كتب في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. لقد إعتقد بأن كل شيئ نشأ من الطبيعية العنصرية للكون، والذي سمّاه apeiron وهي كلمة يونانية تعني "لامحدود" أو "لامتناهي". وكجزء من محاولته تفسير الأمور التي كانت تُنسب الى الآلهة كالرعد والسماء والأرض، قدّم البيان التالي عن الحياة.
أعمال أناكسيماندر الأصلية لم تنجُ، ولكن بحسب هيبوليتس (Hippolytus) من القرن الثالث، فإن أناكسيماندر إدّعى أن الكائنات الحية تشكّلت في "الرطوبة" عندما تلقت أشعة الشمس، وأنها كانت مختلفة عما هي اليوم. بشكل خاص، ادّعى أن الإنسان في الأصل كان نوعا من السمك، وهذا على أساس ملاحظة أن الوقت الذي يحتاجه الإنسان لينضج ويستقل طويل، ولا بد أنه كان في السابق يولد ناضجا كالحيوانات وإلا لما كان تمكّن من النجاة. نظريته هذه لم تكن نظرية تطور متكاملة، غير أن هيكل (Haeckel) و أوزبورن (Osborn) إدّعو أنه كان "نبيّاً" لـكانت و لابلاس و لامارك و داروين. أناكسيماندر إدّعى أيضا أن النشوء التلقائي مستمر الى يومنا الحالي في الإنكليس وكائنات بحرية أخرى تنشأ بشكل مباشر من المادة الغير حية. {Lloyd 17-18, Osborn 33-35}
تلميذه أنكسيمانس (Anaximenes588-524 ق.م) إعتقد بأن الهواء كان العنصر الذي أعطى الحياة، الحركة، والفكر، وإفترض أنّه وجدت طينة أرضية بدائية هي مزيج من التراب والماء، وعند تعرضها لحرارة الشمس كوّنت النباتات والحيوانات والبشر بشكل مباشر.
زينوفانيس (Xenophanes 576-480 ق.م) ، أحد مؤسسي المدرسة الإلياتيكية (Eliatic) ، أرجع أصل الإنسان الى الحقبة الإنتقالية بين الحالة السائلة للأرض وتكوّن اليابسة، وهو أيضا أخذ بالرأي القائل بالنشوء التلقائي للنبات والحيوان بتكوينهما الكامل تحت تأثير الشمس. كذلك أيضا كان رأي بارمنيدس (Parmenides 544 ق.م).
إيمبيدوكليس (Empedocles 495-435 ق.م) قبِل مبدأ النشوء التلقائي للحياة، ولكنه قال بأنه كان لا بد من وجود تجارب لتراكيب مختلفة من أعضاء الحيوانات التي نشأت تلقائياً. التراكيب الناجحة كوّنت الأنواع الحية التي نراها اليوم، التراكيب الغير ناجحة فشلت في التكاثر. أوزبورن {37-40} إعتبر هذا نوعاً من الإنتقاء الطبيعي، ولكنّ حقيقة وجود تكوينٍ واحدٍ ناجحٍ لكل سلالة، وعدم تغيّر الأنواع بعد ذلك، يجعل من هذه المقارنة هشّة ضعيفة.
ديموقريطوس (Democritus 450 ق.م) وأناكسوغوراس (Anaxagoras 500-428 ق.م) أيضا تبنّيا التفسير المتعلق بالطينة الأرضية، ولكن أناكسوغوراس إعتقد بأن الجراثيم (البذر) الخاصة بالنباتات ُوجِدَت في الهواء منذ البداية، وتلك الخاصة بالحيوانات ُوجِدَت بالأثير. {أوزبورن 42-43}
أرسطو
كل هذه التصريحات تعتمد على الخواص الكامنة في عناصر الكون. الحياة هي نتيجة النزعات الطبيعية للعالم. عند أرسطو (Aristotle 384-322 ق.م) نجد أكثر وجهات النظر الإغريقية تعقيداً. لقد قال بوجود أربعة عناصر وعنصر خامس أُطلِق عليه لاحقا مسمى "الجوهر" (quintessence) أو "الأثير" (ether) والذي يوجد فقط في السماء وراء القمر. العناصر الأربعة الأرضية هي بالطبع التربة والهواءوالماء والنار، وهي تمثل المبادئ الأساسية من حرٍ وبردٍ وجفافٍ ورطوبة. { للإطلاع على المزيد من المناقشات أنظر Toulmin and Goodfield 1962a and 1962b }
لقد إعتبر أرسطو أن خواص الكائنات الحية كانت بسبب الخليط من هذه العناصر الخاص بكل جزء من الجسد، بالإضافة الى قوةٍ محركةٍ أطلق عليها إسم "pneuma" والتي ترجمة الى "anima" في الاتينية وتعني "روح". في الحقيقية، كان هناك عدد من الأرواح تتعدد من النمو الى الحركة، الإحساس، الشعور، التفكير، وعند البشر العقل.
في كتاب تاريخ الحيوانات يشير أرسطو في أكثر من موضع الى أن أنواع ما من الحيوانات تنبثق بشكل مباشر من العناصر و "الروح" الخاصة بالمواد:
بالنسبة للحيوانات، فإن بعضاً منها تنبثق من والدين من نفس النوع، بينما تنمو أنواع أخرى تلقائياً بدون مساهمة أنسباء. في هذه الحالات من النشوء الطبيعي، تأتي بعض هذه الكائنات من تعفن التربة أو النباتات، كما هي الحال عند عدد من الحشرات، بينما ينشأ آخرون تلقائياً من إفرازات الأعضاء المختلفة داخل أجساد الحيوانات.{539a18-26}
إذن، كقاعدةٍ عامة، كل الصدفيات تنمو عن طريق النشوء التلقائي في الوحل، ويختلفون فيما بينهم بإختلاف المواد؛ المحار ينمو في الطين، الكوكل (cockles) والصدفيات الأخرى المذكورة أعلاه تنمو في القيعان الرملية؛ وفي تجوّفات الصخور نجد المزقييات و البرنقيل والأنواع الشائعة كالبطلينوس و اللُّزَّيق. {547b18-22}
أنواع أخرى من الحشرات لا تنحدر من والدين حيين، ولكن تنشأ تلقائياً: بعضها من الندى المتساقط على أوراق النبات، بشكل إعتياديٍ في أوقات الربيع، كما أنه ليس من النادر نشوؤها في الشتاء عندما تكون هناك فترةٌ مديدةٌ من الطقس المعتدل والرياح الجنوبيّة؛ أنواع أخرى تنمو في الطين المضمحل أو في الروث؛ بعض منها في لحوم الحيوانات والبعض الآخر في فضلاتها أو في الفضلات الفاسدة أو في الفضلات التي لا زالت داخل الحيوانات، كالديدان الطفيليّة والديدان المعويّة. {551a1-10}
أنواع أخرى من الحيوانات الدقيقة كعث الثياب تنشأ، كما سبق وذكرنا، في الصوف أو المواد المصنوعة من الصوف. وهذه الحيوانات الدقيقة تأتي بأعدادٍ أكبر إذا كانت المادة الصوفية مغبّرة؛ وتكون هذه الأعداد كبيرة بشكل خاص إذا وُجد عنكبوت مغلق عليه داخل القماش أو الصوف، إذ أن هذه الكائنات تمتص أي رطوبة قد تكون هناك فتجفف المادة الصوفية. هذه الدويدات توجد أيضا في ملابس الرجال.
وهناك كائن آخر يوجد في الشمع القديم المهمل وفي الخشب، وهو الأصغر بين الحيوانات الدقيقة وأبيض اللون، يطلق عليه إسم "العث" أو "القراديات". نعثر في الكتب على أنواع أخرى من الحيوانات الدقيقة، بعضها يشبه الدويدات التي توجد في الملابس، والبعض الآخر يشبه عقارب عديمة الذيل ولكن صغيرة جداً. كقاعدة عامة، يمكننا القول أن هذه الحيوانات الدقيقة يمكن العثور عليها عملياً في كل شيئ، في الأشياء الرطبة التي تجف، أو في الأشياء الجافة التي تترطب، طالما تتوفر فيها شروط الحياة.{557b1-13}
في الحقيقة، بعض الكتّاب يجزمون بأن سمك البوري ينمو تلقائياً. في هذا الإصرار هم مخطئون، إذ إنّنا نعثر على البيض عند الأنثى ، والسائل المنوي عند الذكر. غير أن هناك نوعاً من البوري ينمو تلقائياً من الطين والرمل.
لقد برهنّا من خلال الحقائق التي سردناها فوق، أن أنواعاً معينةً من الأسماك تأتي الى الوجود بشكل تلقائي، من دون أن تكون منحدرة من بيض أو من تلاقح. هذه الأسماك ليست بيوضة ولا ولودة، وإنما تنبثق من أحد مصدرين، من الطين، أو من الرمل، ومن ثَمّ من المواد المضمحلة التي تخرج كزبد؛ على سبيل المثال، ما يطلق عليه زبد الأسماك الصغيرة، يخرج من الرمال. هذه الأسماك الصغيرة غير قادرة على النمو ولا على التكاثر؛ بعد أن تعيش فترة تموت وتحل محلّها كائنات جديدة. إذاً، بإستثناء فترات قصيرة، يمكننا القول إن هذه الكائنات تتواجد على دوام العام. {569a21-569b3}{ مذكور في Lennox 233}
يعطي أرسطو تفسيراً نظريّاً في كتابه "نشأة الحيوانات"، المجلد 3، المحور 11. بعد إعادة إدّعاء أن بعض الحيوانات وليس كلها، ومن أصناف مختلفة، تنشأ تلقائياً من المادة، يفسّر لماذا تفعل ذلك:
كل تلك الكائنات التي لا تولد أو تباض، تنشأ تلقائياً. كل الأشياء التي تتشكل بهذه الطريقة، سواء في الماء أو التربة، ظهورها الى الوجود مرتبط بالتعفّن وخليط من مياه الأمطار. عندما تنفصل العناصر النقية لتدخل في تكوين المادة الحية، بقايا المزيج تأخذ هذا الشكل. لا شيئ يأتي الى الوجود من التعفّن، وإنما عن طريق المزج الخلّاق؛ التعفّن والشيئ المتعفِّن ليسا إلّا بقايا ذلك المتكوَّن من المزج. لا شيئ يأتي الى الوجود من كلية شيئ آخر، كما هو حال المنتجات الفنيّة؛ فلو فَعَلَت لما كان هناك فن، ولكن كما هو الحال، الفن يزيل الأجزاء غير النافعة، والطبيعة تفعل ذلك أيضاً. النباتات والحيوانات تنشأ في التربة والماء، لأنه يوجد ماء في التربة، وهواء في الماء، وفي كل الهواء يوجد حرارة، لذا فكل شيئ مليء بالروح. لذلك تنشأ الكائنات الحية بسرعة أنّما أُغلِقَ على هذا الهواء والحرارة في أي شيء. عندما تكون مغلقة بإحكام، تُسخَّن السوائل المكوِّنة وتنتج منها فقاعات زَبَدِيّة.سواءً كان الشيء الناشئ أكثر شرفاً أو أقل، يعتمد على تبني المبدأ العقلي؛ هذا يعتمد مجددا على الوسط الذي يحدث النشوء فيه والمواد المتضمنة.
باختصار، الأشياء تنشأ من المادة غير الحية، لوجود "حرارة حيوية، نفَس، والذي هو موجود هناك من الأساس، ونسب ذلك والعناصر الأخرى المغلفة بالهيكل المكون يحدد نوع الكائن.
أنكر أرسطو أنه كان للعالم، الكرة الأرضية، بداية، فهذه عملية تحدث طوال الوقت، ليس في البداية فقط، طبقاً للمفكرين الإغريق الأقدم. وبوضع تأثير أرسطو على التفكير لاحقاً في الاعتبار، بالتحديد خلال العصور الوسطى، فإن أفكاره تشكل نوعاً من "الثابت" كخلفية تبناها المفكرون الغربيون إلا اذا كانوا ضده من الأساس في موضوع معين. وعلى سبيل المثال، فقد قال فرانسيس بيكون في روايتهأطلانطس (1614) أنه كان ممكناً لبطله "اليهودي" أن
".. يشرح النيازك ويمثلها -- على أنها ثلوج، برَد, مطر، أمطار صناعية على هيئة أجسام لا ماء، رعد، برق، وأيضاً تولدات من أجسام في الهواء -- كضفادع، ذباب، وأنواع أخرى مختلفة."
باختصار، التولد الذاتي كان ممكناً حتى في الهواء، ولكن في كل تلك الادعاءات التي جاءت ما بعد أرسطو،فقد كانت الأجسام والكائنات البسيطة هي ما يستطيع التولد ذاتياً، وليس البشر بكل تأكيد. مع هذا الاعتقاد، اتفق ثاوفرسطس (370 - 288 ق.م) كما فعل أغلبية الكتاب خلال العصور الوسطى حتى بدايات علم الأحياء الحديث في القرن السابع عشر، بمن فيهم الآباء المسيحيون الأوائل، أوريجانوس وأوغسطينوس.
علم الأحياء الحديثة المبكر وتحديات التولد الذاتي
في عام 1651، نشر ويليام هارفي (1578 - 1657) كتابه (عن الجيل) ، حيث ابتدع التعبير الشائع (كل <حياة> من بيض).
ولكن، ورغم هذا التعبير، فقد سمح باحتمالية وجود حياة متولدة ذاتياً، وعلى هذا، وبعكس ما تقول الأسطورة، لم يكن هارفي أول من عارض التولد الذاتي، رغم أنه قال أن الكثير من حالات التولد الذاتي الواضحة كانت نتيجة لبذور غير مرئية تم نثرها وبعثرتها في الهواء.
تكلم الفيزيائي والخيميائي يان بابتست فان هيلمونت (1579 - 1644) عن التولد الذاتي للفئران. فقد كان يعتقد أن الفئران تنشأ بتحضين قنينة من القمح وخرق قديمة في خزانة مظلمة دافئة.
في عام 1668 شرح فرانسيسكو ريدي (1626 - 1697) أن اليرقات (الديدان) ، وبعكس ما كان يقوله أرسطو, لا تنشأ ذاتياً،ولكن من بويضات يضعها ذباب بالغ. اللحم الذي يغطى حتى لا يصله الذباب يكون خالياً من اليرقات، على عكس اللحم الذي يمكن للذباب الوصول إليه. وبكونه عضو في أكاديمية التجارب في فلورنسا, فقد قام بعمل تجارب في هذا الصدد متتبعاً تطور يرقات الذباب من البيض، على لحوم مختلفة من ضمنها لحم الأسد، الضأن، الأسماك، الثعابين، وقد تم نشر النتائج كـ تجارب على تولد الحشرات، وقد قال، مستخدماً كلمة (ديدان) مشيراً إلى اليرقات:
"بدأت أعتقد أن كل الديدان الموجودة في اللحم ناتجة عن الذباب وليس التعفن، وقد تأكدت بملاحظة ذلك. قبل أن يتدود اللحم،حام حوله ذباب من نفس النوع الذي توالد داخله لاحقاً. الاعتقاد الذي لا يبنى على التجربة هو لا شئ. لذا وضعت ثعبان (ميت)، بعض الأسماك، وشريحة من لحم العجل، في أربع قنينات واسعة الفوهة، والتي أحكمت إغلاقها. ثم ملأت نفس العدد من القنينات وتركتها مفتوحة. تمت رؤية الذباب يدخل ويخرج باستمرار من القنينات المفتوحة. تدود اللحم والسمك فيها. لم يكن هناك دود في القنينات المغلقة، رغم أن المحتويات كانت متعفنة ونتنة. في الخارج، على أغطية القنينات المغلقة، كانت بضع يرقات تبحث بلهفة عن شق للدخول.
وهكذا، فإن لحم الحيوانات الميتة لا يمكن أن يولد ديداناً إلا إذا أودع بيض الحي فيه"
أكمل تجاربه مستخدماً الشاش، بنفس النتائج.
لم يدحض ريدي التولد الذاتي كما لاحظ ماجنر،لكن تجاربه قلصت الصراع بالفعل من تولد الكائنات العيانية (المرئية) إلى عالم النقاعيات والحييوينات الصغير الجديد الذي اكتشفه أنطوني فان ليفينهوك. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل يعتقد أن (العفصة) تتولد ذاتياً. في أعمال لاحقة، كـ أنتونيو فالسينيري (1661 - 1730) مثلاً، الذي وضح عام 1700 (دبابير العفصة) تضع بيضها في النبات قبل أن تتكون (العفصة) حول اليرقة, كما فعل مارتشيلو ملبيجي (1628 - 1694) ويان زفامردام (1637 - 1680) في عام 1669، في حين وضح رينيه أنطوان فيرشو دي ريومور (1683 - 1757) في كتابه مساهمات في تاريخ الحشرات (1737 - 1748) أن الحشرات التي كان يُعتقد أنها تتولد ذاتياً، تنشأ في الواقع من البيض.
أنصار التولد الذاتي اللاحقين كانوا عادة من دعاة الوراثة اللاجينية في جدالات التولد، والمعارضين كانوا من دعاة التكوين المسبق. هاتان كانتا وجهتي النظر النظريتين حول طبيعة تولد كائنات جديد: دعاة التكوين المسبق اعتقدوا أن نمط التولد متضمن في البذور، كل جنين مغلف في جنينه الوالد، رجوعاً إلى الخلق، في حين اعتقد دعاة الوراثة اللاجينية، كما اعتقد أرسطو أن كل جنين يتكون من مادة غير متمايزة بشكل منظِم. وهكذا اضطر دعاة التكوين المسبق إلى رفض التولد الذاتي، طبقاً للفرض المطروح.
أكد العالم والرياضي والفيلسوف الشهير جوتفريد لايبنتس (1646 - 1716) وجود "جزيئات حية" والتي سماها <موناد> (كائنات دقيقة أحادية الخلية), والتي منها نبعت كل الأشياء. ورغم أنه تبنى رؤية ثابتة للطبيعة، فقد اعتقد بوجود مقياس للتعقيد وأن الكائنات البسيطة جداً تألفت مباشرة من كائنات دقيقة أحادية الخلية (موناد). وقد أثرت رؤيته على عدد كبير من علماء الأحياء من بعده.
نيدهام وسبالانساني
قابل عالم الطبيعة العظيم جورج دي بوفون (1707 - 1788 والمعروف بـ بوفون حتى بين الفرنسيين) قساً كاثوليكياً انجليزياً،القس جون نيدهام (1713- 1781) ، اختصاصي مجاهر ماهر بارع قابله بوفون في رحلة إلى انجلترا، قرر قرابة عام 1738 محاولة دحض أعمال لوي جوبلو (1645 - 1723). كان لوي قد حاول إظهار أن النقاعيات (كائنات بسيطة موجودة في الضخ إلى المادة العضوية, مهدبات غالباً) لم تتوالد ذاتياً بغلي وسط, ووضع جزء في إناء محكم الغلق وجزء في آخر مفتوح. المحكم لم يتم ضخه بهذه الكائنات. ولكي يثبت أن الوسط ما زال مناسباً للحياة، عرض المادة المغلقة للهواء وسرعان ما انضمت هي الأخرى.
عندما كرر نيدهام التجارب بحثٍ من بوفون, وجد أنه, بالغليان أو بدونه, بإحكام الغلق أو بدونه، فإن الحياة تنشأ في أوعية المرق. استنتج أن هناك قوة سالبة في كل جزء من المادة، تماماً كنظرية بوفون في وجود "قالب داخلي" لتوالد الكائنات الأكبر. وقد تم نشر النتائج عام 1748 في المعاملات الفلسفية للجمعية الملكية.
اعترض الأب لادزارو سبالانساني (1729 - 1799) وقرر دحض نتائج نيدهام وبوفون. كان كذلك أستاذاً في جامعات ريدجو،مودينا، وبافيا، كما كان عمله المعملي عالي المستوى. قال أن الكائنات الدقيقة يجب أن يكون لها مرحلة أكثر دقة من النمو،وعلى هذا قرر أن المشكلة لا يمكن حلها باستخدام مجهر. وفي عام 1767 قام بنشر بيانه مناقضاً بوفون ونيدهام، قائلاً:
"سعيت لاكتشاف ما اذا كان الغليان سيضعف أو يمنع إنتاج الحيويينات في الضخ، قمت بإعداد أحد عشر نوعاً مختلفاً من البذور، غليتها لمدة نصف ساعة. الأوعية كانت مغلقة نوعاً بقطع من الفلين. وبعد ثمانية أيام، فحصتها مجهرياً لأجد الحيويينات فيها كلها، ولكن بأنواع مختلفة، إذن، فالغليان في حد ذاته لا يمنع إنتاجها."
إذن فهو قد حاول استبعاد الهواء، واضعاً ضحات في سلسلة من خمس قوارير. واحدة منها تُركت مفتوحة، والأربع الآخرين أُحكم غلقها وغُليت، كل سلسلة لمدة تزيد بـ 30 ثانية عن الأولى. بعد يومين، كانت السلسة المفتوحة مكتظة، وسلسة الـ 30 ثانية احتوت على كائنات أصغر، في حين لم يكن في الباقية شئ تقريباً. وقد أظهر أن مدة الغليان عليها عامل، حيث أن بعض الكائنات كانت أكثر مقاومة للحرارة من غيرها. وبغلي الأوعية محكمة الغلق لمدة تتراوح ما بين 30 - 45 دقيقة, أظهر سبالانساني أنه لا حياة سوف تنشأ طالما أن الوعاء محكم الغلق.
حين اعترض نيدهام قائلاً أن الحرارة سوف تجعل الضخ نفسه عقيماً - غير مناسب لنشأة حياة - كسر سبالانساني أعناق الأوعية، وسرعان ما ظهرت الحياة المعتادة.
هذا لم يوقف الجدال - آخرين كرروا التجارب بنسب نجاح وفشل متفاوتة. ثيودور شفان (1810 - 1882)، والذي كان واحداً من مؤسسي (نظرية الخلية), أظهر أن الهواء الذي تم تسخينه لن يسبب التعفن في مرق معقم ما بين عامي 1836 و 1837, لكن السبب كان غامضاً، ربما لأن الهواء الذي تم تسخينه (تكليسه) لا يسمح بالتنفس. أظهر الكيميائي الفرنسي لوي جوزيف جي ـ لوساك (1778 - 1850) أن تجارب سبالانساني احتوت على الأكسجين، الذي كان ضرورياً للتخمر والتعفن، باثبات أن ضفدعاً تمكن من العيش فيه. آخرين كـ فرانز شولتز (1815 - 1873), هينريش شرودر (1810 - 1885) ، و تيودور فون دوش (1824 - 1890) ، حاولوا جميعاً حسم الأمر بلا جدوى.
واستمرت الجدالات.
ورغم الجدالات النظرية، قام طاه فرنسي هو نيكولاس أبيرت (1750 - 1841) بتطبيق نتائج سبالانساني على الطعام تجارياً،بوضعه في زجاجات نظيفة مغلقة بغير إحكام بقطع من الفلين وغليه. وقد تم نشر هذه التقنيات عام 1810, وكانت المؤسس لصناعة التعليب. شأن صناعي آخر ظهر في الصدارة في ذلك الوقت - التخمير. وكان الرجل الذي قام بحل هذه المسألة هو لويس باستير.
الثلاثاء مارس 01, 2016 9:58 am من طرف نابغة