ما أقسى ما يعانيه صاحب
الموقف، والرأي، و«الرسالة» عموما؟
ـ
الرد على مواقفه وآرائه ؟
*
لا
ـ
التضييق في العيش ؟
*
لا
ـ
الملاحقة والمنع من التنقل والسفر ؟
*
لا
ـ
الاضطهاد بالسجن أو النفي أو التعذيب ؟
*
لا
ـ
تشويه السمعة والسخرية من المواقف والآراء ومجافاة الناس المقربين له ؟
*
لا
رغم
أن كل ما ذكر يفعل فعله فيه ويسبب له الألم..
لكن
الأمر الأقسى والأمرَّ بالنسبة له هو: اللامبالاة.. خصوصا من الناس الذين
يستهدفهم برسالته، ويفترض أنهم معنيون بها.
اللامبالاة
هي ما يعذبه العذاب الأشد، حينما يجد أنه «صوتٌ صارخٌ في البرية» كما قيل
قديما عن يوحنا (يحيى).
*
* *
واللامبالاة
حالة ذهنية, شعورية, سلوكية، تتلبَّسُ الأفراد أو الجماعات أو الأممـ
لفترة محدودة عابرة, أو لحقبة طويلةـ فتتحول إلى بلادة. وبخاصة عندما تمرُّ
الأممُ بأحوال وأوضاع تستوجب، ليس فقط «الانتباه» و«اليقظة»، بل التعبير
بالقول والفعل عن مواقفها وإراداتها. وهو ما يسميه المؤرخ آرنولد توينبي بـ
«التحدي والاستجابة». حيث يرى أن الجماعات والأمم التي تفشل في تقديم
الاستجابة الصحيحة للتحديات التي تواجهها تحكم على نفسها قبل أن يحكم عليها
غيرها بالتردي وربما الأفول.
ونحن
نعرف اليوم من مطالعاتنا التاريخية، ومن متابعاتنا لأحوال الأمم المعاصرة،
أن اللامبالاة المُستحكمة كانت في حالات محددة السبب في هزيمة أو تخلف أمم
قبل أن يدهمها عصف الغزاة.
*
* *
ليست
اللامبالاة نتاجا لإستكانة الجماعات والأمم بمزاجها ورغبتها فقط، بل هي
أيضا وفي الدرجة الأولى: نتاج لنظام شامل: سياسي، اقتصادي، ثقافي، معرفي،
اجتماعي.. وآليات عمل هذا النظام المتعددة تحصر «الاهتمام» بالشؤون العامة
بأقلية حاكمة مهيمنة، فيما تدفع الأغلبية وتقصيها نحو اللامبالاة، بحيث لا
تعود معنيَّة بما يدور حولها وعليها. ومع الوقت تعتاد على هذا الوضع كأمر
طبيعي وتنهمكُ في شؤونها الصغيرة والخاصة إلى درجة الإغراق.
وهو
وضعٌ مثاليٌّ مرغوبٌ فيه بقوة من قبل الأقليات الحاكمة والمهيمنة، سواء
على المستوى الوطني الخاص بكل دولة، أو على المستوى الكوني الشامل للعالم.
وهو ما تسهل ملاحظته في بلادنا العربية، التي تَعمُّ شعوبَها لامبالاة
مذهلة إزاء أوضاعها ومصائرها.
لامبالاة،
لا يفسرها فقط قمع الأنظمة ونُظمها: التعليمية والإعلامية والتثقيفية،
والحرمان من الحرية، والبؤس الاقتصادي ـعلى أهميتهاـ، بل يمكنُ العثور أيضا
على أسباب لها في منظومة الاعتقادات والقيم والدوافع الراسبة في عقل
ووجدان أغلبية الأمة، والتي تعطي إهتماما ضئيلا للشؤون العامة وللشعور
بالمسؤولية تجاهها، فيما تُعلي من شأن قيم الفرد والعائلة، وأحيانا الجماعة
الخاصة (العشيرة، أو العرق، أو المنطقة، أو الطائفة) بشكل مفرط.
إن
«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» بما تعنيه من دعوة للجميع لتحمُّل
المسؤولية تجاه الجميع، تبدو غائبة عن واقعنا المعاش المُزري، الذي يملأ
بالغيظ قلب كل صاحب وصاحبة رأي أبيّ أنِف وإرادة حرة.
غيظ
أطلق صيحة المتنبي المريرة الحانقة:
أفاضلُ
الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ
يخلو
من الهَمِّ أخلاهُم من الفِطَنِ.
حولي
بكلِّ مكان منهمو نَفَرٌ
تُخطي
إذا جِئتَ في إستفهامها: بِمَنِ.
ويذكِّر
بصرخاتِ المفكر والعالم الروسي تشيرنيشفسكي في القرن التاسع عشر، الذي
إستفزته «بلادة» أغلبية الروس الخانعين الراضين بحياة الأقنان، فنقدهم نقدا
لاذعا في نصوص معروفة.
*
* *
أما
«الديمقراطية»، التي تعني حكم الشعب لنفسه بنفسه، فتبدو مع هيمنة الدول
الكبرى، وخصوصا الولايات المتحدة، على مفاتيح القوة والثروة والإعلام
والتقنية في العالم، وتحكِّمُها في حياته ومصائره، تبدو كاريكاتيرا أو
رموزا مجردة من المضامين الفعلية.
فالشعوب
المستضعفة وغير المُدافعةِ عن استقلالها –والقارات أيضاـ تحكم نفسها ـلا
بنفسهاـ بل حسبما تريد أميركا وحلفاؤها المقربون الذين لا يرضون بأقل من أن
تضبط البشرية خطاها على إيقاعات مصالحهم الخاصة.
إنها
ديمقراطية: قُل ما تريد وافعل ما نريد !
*
* *
عكس
اللامبالاة، أي: الاهتمام، هو الأساس الذي ينهض عليه بناء المشاركة
والتغيير والحضور الحي والفاعل في عالم مفترس لا مكان فيه للغافلين. وهو –
أي الاهتمامـ العتبة، بل البوابة، التي يُدخل منها البشر إلى مجال وفضاء
الحياة العامة.
*
* *
*
تَقولُ: الاهتمام؟
ـ
نعم.. فلنبدأ به ومنه.
السبت يوليو 17, 2010 10:05 am من طرف سميح القاسم