في نظر رورتي من العبث البحث عن الذَّات البشريَّة فهي ليست إلاَّ عرضًا بلا جوهر تشكّل عبر التَّنشئة الاجتماعيَّة، كما إنَّه من غير المجدي الاستغراق في التَّنظير بقصد الخروج بأجوبة على أسئلة حول نقطة البدء العابرة للتَّاريخ، أو حول تعريف الظُّلم، أو حول تحديد السّياق الَّذي يجب فيه تفضيل المرء للكائنات البشريَّة الأخرى على عائلته وذويه الأقربين.
هذه أسئلة تضيع الوقت وإنّ توهّم وجود أجوبة لها سيكون على حساب الوقت والجهد الواجب إنفاقهما من أجل اجتراح طرق ناجعة لتحسين المؤسّسات اللّيبراليَّة.
ويشتقّ من هذا التَّصوّر الرورتي أنَّ الأنفع هو البحث عن التَّضامن بدلاً من البحث عن الانسجام الكونيّ الَّذي يفترض إمكان وجود قانون أخلاقيّ ترانسندنتالي، بينما يمكن بسهولة العثور على التَّضامن بين الأقران في المجتمع في ثنايا قصائد الشُّعراء وفي كتابات الصّحفيين.
هذا التَّضامن الَّذي يمثّل جوهر إنسانيَّة رورتي يحيل ما اتّهم به من مركزيَّة عرقيَّة إلى اتّهام مجحف؛ لأنَّ مركزيَّته العرقيَّة الَّتي خيّل للبعض أنَّها تحمل المدلول السَّلبي الشَّائع -لما انطوت عليه من توق لبناء مجد أمريكي على أساس أنَّ الأمَّة لا يمكن أن تصلح نفسها ما لم تمتلك هويَّة تعتزّ بها وتحيا لأجلها- يفنّدها مفهومه للتَّضامن الَّذي هو اتّفاق تذاوتيّ يبدأ محليًّا ثمّ يشرع في التَّمدُّد تدريجيًّا حتَّى يتحوَّل إلى قناعة لدى كلّ شخص في المجتمعات الدّيمقراطيَّة بأنَّه الأنفع للجميع.
أمَّا ما اتّهم به من نسبويَّة عدميَّة بسبب رفضه الاحتكام إلى أسس عقلانيَّة نهائيَّة لتبرير اعتقادات البشر وأفعالهم وحيواتهم فهو ما يدفعه رورتي بدعوته الفلاسفة إلى التَّخلي عن انتهاج الطَّريق النَّازل إلى العمق داخل الكائنات البشريَّة بحثًا عن جوهر غير موجود في نظره يبرّر اعتقادات البشر وأفعالهم، وإلى التَّخلي عن الثُّنائيات الأفلاطونيَّة والكانتيّة من قبيل جوهر-مظهر، عقل-مادَّة، مجرَّد-محسوس، والسَّعي بدلاً من ذلك إلى نقاشات حول الآمال الاجتماعيَّة، حول ما ينفع النَّاس في حياتهم اليوميَّة. وهو ما يضطلع به اللّيبراليّ السّاخري وهو الوصف الَّذي أطلق على اللّيبرالي الرورتي والَّذي لا يعني المتهكّم وإنَّما يقصد به اللّيبرالي الأمسّ رحمًا بالواقع، والدَّائب البحث عن بدائل عمليَّة بدل الاحتكام إلى كلمات نهائيَّة.
عداء رورتي لأفلاطون جعلته يقلب الهيكليَّة الأفلاطونيَّة للمجتمع والَّتي كان الفلاسفة يتربَّعون فيها على قمَّة الهرم الاجتماعيّ، وينصّب الشُّعراء بدلاً عنهم؛ لأنَّهم يوظّفون كتاباتهم لصالح الحريَّة الإنسانيَّة، هذه الحريَّة الَّتي يتمرَّدون فيها هم ومن يسير على خطاهم على القيود اللاَّإنسانيَّة من قبيل الله أو الطبيعة ويكتبون قصائدهم الخاصَّة لكي يتفلّتوا من أسر ما نشّؤوا عليه، فهم ليسوا سوى كائنات منسوجة من شبكة اعتقادات ورغبات وعواطف حاك خيوطها المجتمع، ولا شيء كامنٍ خلف هذه الشَّبكة، ولهذا فإنَّ إعادة خلقهم لأنفسهم إنَّما يقتصر على إعادة نسج هذه الشَّبكة بدون اللُّجوء إلى محاولات فلسفيَّة أو دينيَّة يوجهها قانون من الله أو من العقل.
وقد وصفت ليبراليَّة رورتي باللّيبراليَّة البراغماتيَّة؛ لأنَّ أحد أهمّ مرجعياته هو جون ديوي الَّذي فكّك الجوهر الفلسفيّ وحطّم فكرة الطَّبيعة المشتركة، وحثّنا على التَّفكير بما يجب عمله دون أن نصدّع رؤوسنا بالأسئلة الفلسفيَّة العقيمة حول الأسس النّهائيَّة للحياة وللوجود، وإنَّما بالبحث عن بدائل حقيقيَّة عمليَّة وبرامج كفيلة بجعلنا ننعم بعيش حيواتنا الأخلاقيَّة الخاصَّة بدون أن تكدّر عيشنا الشُّكوك الَّتي توقظها المحاولات الفلسفيَّة.
إنَّ اللّيبراليّ البراغماتيّ يقوم بمحاولات ديوية-نسبة لديوي- لاجتراح معالجات لمشاكل يوميَّة ولتصميم هندسة اجتماعيَّة ولا يعنيه السَّعي لتقديم معرفة كونيَّة، إنَّه شاعر حالم وليس فيلسوفًا.
ومن المنظّرين اللّيبراليين الَّذين تأثَّر رورتي بهم مايكل والترز الَّذي دعا إلى اطراح التَّفكير بمؤسَّسات المجتمع وعاداته وأعرافه كأعراض لجوهر، أو كتراكمات عرضيَّة تدور حول نواة صلبة عقلانيَّة، أو قانون أخلاقيّ متعال، فالأنفع من البحث عن نظريَّة ليبراليَّة معقَّدة هو البحث عن السُّبل الكفيلة بتحسين أداء وبنى المؤسَّسات اللّيبراليَّة، وهو ما يمكن العثور عليه في الرّوايات والصُّحف وليس في آثار الأكاديميين الفلسفيَّة.
كلّ ما سبق يؤكّد أنَّ السّياسة لدى رورتي يجب أن تكون سابقة على الفلسفة وهو ما يجعله يناصب ساندل العداء، فهذا الأخير عدّ السّياسات اللّيبراليَّة ناقصة ما لم تستند إلى نظريَّة فلسفيَّة عن الذَّات البشريَّة وهو ما يخالفه فيه رورتي الَّذي يقول إنَّ الذَّات البشريَّة ليست سوى احتمال تاريخيّ عديم المركز، وإنَّه يجب وضع السّياسات اللّيبراليَّة ومن ثمّ تفصيل فلسفة على مقاسها، ولهذا السَّبب يثني رورتي على راولز الَّذي لم يقدّم فلسفة شموليَّة وإنَّما تاريخانيَّة ولم يقترح تفسيرًا فلسفيًّا للذَّات البشريَّة.
ورغم أنَّ رفض رورتي للأسس الفلسفيَّة أمر لا يمكن موافقته عليه لأنَّه هو نفسه عندما أعجب بتشريع الرَّفاه الاجتماعيّ للنيو ديل غفل عن أنَّ هذا التَّشريع انبثق عن اتّفاق بين برامج متنافسة مستندة إلى تحليلات نظريَّة، ولهذا فإنَّ المطالبة بالتَّخلي عن أيّ تنظير لا يمكن أن تقوم لها قائمة، وهي كفيلة بتحويل عمليات إصلاح المؤسّسات إلى خطوات تكتيكيَّة لا أرضيَّة صلبة لها.
ولكن ما يمكن أن يصوغ مطالبته تلك صياغة أكثر حصافة هو جعلها مطالبة بضرورة اعتماد الاستدلال الحواريّ واطّراح الاستدلال البرهانيّ، بمعنى اعتماد الحوار بين أفراد للوصول إلى ما ينفعهم وذلك بالانطلاق إبتداء من مقدّمات يتَّفقون عليها بغضّ النَّظر عن كونها يقينيَّة أو ظنيَّة في ذاتها من منظور مجرَّد، وإنَّما من منطلق مدى نفعها، وهو ما يضفي على الأشياء المتَّفق عليها قيمة صادرة عن وجدانات الذَّوات المستعملة لها وليس عن عقولهم الماديَّة، أيّ أنَّها قيم لا تقوم بالأشياء كخصائصها وإنَّما تضفى عليها من الذَّوات المستعملة لها كما تلزمهم بالعمل بها لما يجدون فيها من نفع لمعاشهم وازدهار مجتمعاتهم.
كما إنَّ رفضه للشُّموليَّة الَّتي تدّعيها فلسفات معيَّنة يمكن أن يستثمر في الدّفاع ضدّ استعلاء ثقافات على أخرى لأنَّ كلّ ثقافة مشروطة بسياقها وشرطها التَّاريخيّ، وكلّ فلسفة بالتَّالي موسومة بسمات الأمَّة الَّتي أبدعتها ولذلك لا يحقُّ لها ادعاء الكونيَّة وما تستلزمه هذه الكونيَّة من هيمنة على غيرها.
لطالما شغلتنا تبعيتنا لجدالات ميتافيزيقيَّة في فلسفات أخرى عن الاهتمام بما ينفعنا وعن تصميم فلسفة عمليَّة على مقاس احتياجاتنا وشرطنا التَّاريخيّ، وربَّما كان هذا الانشغال هو ما ينبهنا رورتي إلى ضرورة العزوف عنه، وهذه الفلسفة هي ما يحثّنا على ضرورة الشُّروع فيه عاجلاً غير آجل.