** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh

موقع للمتابعة الثقافية العامة
 
السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ  الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال :  1 2 3 4 5   بقلم: سامي عبد العال   I_icon_mini_portalالرئيسيةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول



مدونات الصدح ترحب بكم وتتمنى لك جولة ممتازة

وتدعوكم الى دعمها بالتسجيل والمشاركة

عدد زوار مدونات الصدح

إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوع
 

 السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: سامي عبد العال

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
عزيزة
فريق العمـــــل *****
عزيزة


التوقيع : السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ  الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال :  1 2 3 4 5   بقلم: سامي عبد العال   09072006-161548-3

عدد الرسائل : 1394

تاريخ التسجيل : 13/09/2010
وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 4

السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ  الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال :  1 2 3 4 5   بقلم: سامي عبد العال   Empty
14022016
مُساهمةالسَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: سامي عبد العال



السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ  الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال :  1 2 3 4 5   بقلم: سامي عبد العال   Arton14944-619f4

رُبَّ سؤال يزعجُ معرفتنا الغارقة في سُباتِّها حتَّى الإيقاظ. ظهر كانط مثالاً لهذا النَّائم الَّذي أيقظه ديفيد هيوم بأسئلته من رقادٍ عميقٍ. كانت الأسئلةُ وخزات- بأنواعها- في عمق التّعرف على العالمِ والأشياءِ. لقد اعتقد أنّ التَّجربةَ كفيلةٌ بحلّ مسألتين بدا اعتقادُه فيهما خاطئًا. مسألة: النَّقائض، ثمّ مسألة: الأصل في كلّ فكرة كليةٍ وكلّ ضرورة معرفيّةٍ.

 في هذا الشَّأن استيقظ فيلسوف النَّقد - بمطرقة هيوم- مفرّقًا بين مادَّة التَّفكير وصورته؛ أي التَّمييز بين صورة الذّهن verstand وصورة العقل vernunft، الأولى كالمكان والزَّمان بينما الثَّانية مثل العلَّة والجوهر والممكن والضُّروري. لتؤكّد تفرقتُه أنَّ الذّهنَ ملكة لإنتاج تمثُّلات حصولاً على المعرفة، هو ملكة التَّفكير في الموضوع الحسّي بمساعدة مقولات وأحكام. أمَّا العقل فملكة الصُّور اللاَّمشروطة، وغير المقيّدة زمانًا ولا مكانًا. من ثمَّ يتَّجه أولهما إلى الجزئيّ بينما يتَّجه ثانيهما إلى كلِّ التَّجربة وإلى المطلق فيها. وقد أحدثت تلك التَّفرقة تحولاً جذريًّا نحو المرحلة النَّقديَّة في فلسفة كانط بمجمل زخمها. كانت المحصلةُ أسئلةً أكثر جذريَّة: ماذا يمكننا أنْ نعرف؟ ما الواجب علينا فعله؟ وبماذا باستطاعتنا عقلانيًّا أن نتفاءل؟

 بحيث أخفقت كلُّ إجابةٍ لا تواكب القدرةً على تجاوز المواقف الجزئيَّة، وبحيث طافت الأسئلةُ كافَّة مجالات المعرفة. إنَّها كانطيًّا مشروطة بالإطاحة بأي تأسيس لاحق على التَّفكير الاستفهاميّ. فينشأ التَّفكير في نقد منطلقاته، إنْ لم يهدمها مغايرًا الرُّؤية الَّتي يتحدَّد فيها.

 هكذا فالأسئلةُ تمارين على السَّهر الكانطيّ داخل فضاءٍ يتَّسع كلَّما اقتربنا منه. إنَّها تعلّمنا فنًّا للسّهاد باصطياد التَّمرُّد عبر أركانه النَّائية نأي المجهول. وبالإمكان لو أثرنا أسئلةً دون قيودٍ إزاء الواقع المعيش، لكان التَّفكيرُ أكثر عُمقًا. فالسُّؤال ينبع من حريَّة أصيلةٍ للعقل خارج القوالب الجاهزةِ، ناهيك عن إحساسه بالمشكلات بصورة مبتكرةٍ. وليس ذلك إلاَّ ليكمل “أرقًا فلسفيًّا” يتداعى حتَّى يشمل كيان الإنسان. ما من فلسفة جدّ مثيرة إلاَّ وتتوافر على مخزونٍ خصيبٍ من الأرق الفكريّ الَّذي لم ولن يُحسم.

 هذا يعني بحثًا في القيدِ الفكريّ ذاته قبل تحطيمه. كيف يتعلَّق القيدُّ بنا نحن البشر؟ لماذا يشعر الإنسانُ بقيوده بخلاف الكائنات الأخرى؟ وما هي أبعادها؟ سيعنى أيضًا وجودَ القيد بالنّسبة للأسئلة بما هي طرح إشكالي. فلا استفهام بدون طرحٍ لمحدّدات الفكر تحت نشاطه المتجاوز. وبخاصة أنَّ أسئلةَ التَّفلسفِ أكثر جذريةً من غيرها، بل لها طابع كليٌّ وتُرْهص بتكوين أفق عامٍ لمجالاتٍ عديدة. فالعلم لا يسائل القواعد الَّتي ينبني عليها. كلُّ علم هو طريق لطرح مشكلة جزئيّة والاستجابة لها بمزيدٍ من الأسئلةِ.

 أمّا الفلسفةُ فتعمد إلى النَّبش الجذريّ في الأسس، تأسيس الأسس ذاتها. هي إشكاليَّة المشكلات لا إيجاد حلول لها. لهذا هي تحتاج دومًا إلى الحريَّة في طرح استفهام يوازي عمق التَّأسيس ومساحته. كما أنَّ أصالةَ السُّؤال أكثر أهميَّة من الإجابة، لأنَّه يستطيع تغيير نمط التَّفكير. لن يكون السُّؤال ترفًا لكنَّه ذروة الكدِّ العقلي، هذه الجدّية المفرطة الَّتي تذهب إلى أفقٍ غير مطروقٍ.

 عندئذ قد نكفّ عن النَّظر إلى الأشياء بمجرَّد الأداءِ المعرفيّ الجزئيّ. لأنَّه أداءٌ لا يُعلن جديدًا إلاَّ تعلُقًا بقديمٍ مَّا. وهو بذاته تمثيل لمنظومة مستعارةٍ تستهلك فاعليتها(وفاعليتنا بالمثل) حين تُطرّح. فبالإمكان ارتداء باروكة من الشَّعْر دون إنهاء حقيقيٍ لحالة الصَّلع. ونحن في حياتنا الفكريَّة العربيَّة نَقلّةٌ أُمناء لمضامين فكريَّة ليست لنا. حتَّى ولو كان أسلافُنا التراثيون هم صانعيها، فما بالنا بنفس النقلِ الفلسفيّ من المختلف ثقافةً وفكرًا. فالحرف المُقلَّد واحد، سواء أكتبه قدماءٌ هم جسدنا التراثيّ أم معاصرون أمامنا على ضفاف غربيّةٍ!!

 هل سنظلُّ نطابق بُعدًا معرفيًّا لحياتنا مع حيوات الآخرين؟ حياة ليست لنا وفوق ذلك نتقمصها كما لو كانت نحن. أين أسئلتنا المعبّرةِ عن أعماقنا وموقفنا تجاه قضايا الحياة والإنسان والتَّاريخ والكون؟ كيف نكَّون سؤالاً راهنًا في حياتنا الفكريَّة؟ وماذا يعني كونَّه إشكاليًّا لماهية أيّ تفكير من هذا الصّنف؟

 تكوين التَّساؤل الكليّ فلسفيًّا لا يأتي جُزافًا. فتشكيله يجيء كمعطى وجودي أصيلٍ للعصر. ويُفترض تَميّزه رغم ارتباطنا كونيًّا فيه كبشرٍ مع آخرين. قد نسمّيه الحضارة الإنسانيَّة إجمالاً بقدر ما نسهم لا بقدر ما نستقبل سلبيًّا. وفي غير سياقٍ نطلق عليه ظواهر عالميَّة خارجَ أفقنا الإقليميّ. التَّكوين معناه كيف نؤكّد هذا التَّميُز في رؤيتنا وكيف يتخلَّق باعتباره أفقًا جديدًا لنا؟ حيث سنكتشف عمقنا الفكريّ العربيّ الموازي لوجودنا مع الآخر تحت سقف إنسانيّ كونيّ، وإلى أيّ أساس نستند؟ وكيف نُعبّر عنه؟

 كان الغربُ يرى الفعل الفلسفيّ اليونانيّ جذرًا لأصوله الثَّقافيَّة، واتَّصلت أسئلة فكره النَّوعيّ بالعروق القديمة للمجتمع الأوروبيّ. بل لم يأتِ فيلسوفٌ راهن دون أنْ يشتبك اشتباكًا خصبًا مع تلك الجذور وصياغة تحولها المستقبلي. هناك أسئلة كانت تطرح باستمرار على أفلاطون وأرسطو، وهما الفيلسوفان اليونانيان، لدرجة أنَّنا لا نستطيع إحصاء كم عدد أفلاطون وكم عدد أرسطو قد واصلوا حياتّهم الأوروبيَّة إلى الآن. أزعم- سلبًا وإيجابًا وقلبًا وتأويلاً ونقضًا- هناك عدد من أفلاطون الألماني لدى هيجل وشوبنهور وهيدجر وجادمر وكارل بوبر. هناك كم آخر من أفلاطون الفرنسي عند سارتر وجاك دريدا وميشل فوكو وجيل دولوز وبول ريكور وجان فرانسو ليوتار. والأمر الجاري بصدد أفلاطون ينطبق على أرسطو في أيّ أفق فلسفيّ أوروبيّ.

 إذن الفلسفة ليست باحة نسقيَّةً لمقابر الفلاسفة. ولا هي بأضرحة يتبادلون زيارتها رجاء قيامة منتظرة. لكنَّها فنُّ صناعة الآلهة الفكريَّة وتذويبها بآليات الأسئلة الكبرى. كان نيتشه فيلسوفًا هاويًا إزاء تلك المهمَّة السريَّة، صاغ من فلسفته فنًّا لتحطيم الأصنام، فقد عرف جيّدًا ماذا تصنع الفلسفة بأدمغة النَّاس تحليقًا نحو المطلق. فأراد تعليمهم ماذا تعني أنْ تكون أقدام الأصنام من صلصالٍ. ولهذا وضعَ نصوصًا ثوريَّة بلهجة معاصرة. أقصد تحرير طاقات الأسئلة لا إنهاء وظيفتها. لم يعطّل نيتشه السُّؤال عن أداء واجبه المقدَّس لكنَّه أعتبره ضدَّ القداسة. وهناك فرق شاسع بين الواجب بذلاً ودأبًا بروح كانط وبين وقوعه في شرك القداسة اللاَّهوتيَّة باسم الفكر.

 التَّأسيسُ الفلسفيّ يعلِّن فرادةَ الماهية لا نسخًا بين فكرٍة وأخرى، كما فعل الأسلاف بين فلاسفة اليونان معارفنا التراثيَّة. وليس محاكاة بأسوب الصُّورة والأصل مثلما نتعامل الآن مع الفكر المعاصر، لكن بكون “ماهيته”- بين قوسين- لا تخلو من بَذْرٍ خالقٍ. هكذا يُوجد غموضٌ تصنيفيّ حتَّى فيما يُنسب إلينا فلسفيًّا كعربٍ ولا يتجانس مع أفقنا الرُّوحيّ والثَّقافيّ. لقد أطلقنا على أفلاطون وأرسطو حكيمين كما يعلن أحد كتب الفارابي “الجمع بين رأي الحكيمين”.

 لكنَّهما كانا حكيمين بنبرة دينيّةٍ لدى مؤرخي الحكمة والملل والنّحل كابن النَّديم والشّهرستاني وابن أبي اصيبعة. فما سكت عنه الفارابي أنطقته الثَّقافة السَّائدة ومبررات الاعتقاد على ألسُن أخرى. لا أبالغ حينما أقول “تمَّ صناعة النُّبوة في شخصيتي الفيلسوفين”. أُعيد إنتاجها في أفكار أفلاطون وأرسطو الإسلاميين. حيث نُقلّت حرفيًّا وجرى استعمالها بمنأى عن النَّقد وظلَّ تأثيرها ساريًّا في الفلسفة بقدر تأثيرها أدبًا وتاريخًا وحكمةً. قالب النّبوة أقرب القوالب للذّهن العربيّ نظرًا لحماسته وإيمانه بالخارق الغيبيّ.

 وكما كانت النّبوة سقفًا لا يعلوه سقف ولا ينبغي، فهي من تلك النَّاحية لا تُتجاوَز معرفيًّا إنَّما تُدَّعى فقط كحال مدَّعي النّبوة: مسيلمة الكذَّاب وسُجاح. والنّبوة بالنّسبة إلى الإنسان العربيّ سلطة وضع الحقيقة معلقةً ميتافيزيقيًّا. وهي هبوط مقدَّس للوحي من مصدرٍ لا قبل له به، من سلطة إلهيَّة تختار من تشاء وتقرر ما تشاء وتصرّف الحياة كيفما تشاء. فتصبح كافيةً لإخضاعه وقادرةً على إلهاب عواطفه وتحريكه في ميدان الصّراع والمنافحة عن تراثه وأصوله المحفوظة. لعلَّ كانط أصاب حين اعتبر الإسلام دينًا شجاعًا إزاء الأغيار. فإنْ كان هناك ما يميّزه، فيتميّز بشجاعةٍ ليست تقنية صراعيَّة لكنَّها عمل كونيٌّ جعله دينًا عالميًّا.

 المفارقةُ تبرز هنا كما اشرت إلى وجود أكثر من أفلاطون وأرسطو في الفلسفة الغربية بينما في الفكر الإسلامي ظل الشخصان كما هما، لم يتغيرا بل أُضيفت إليهما مساحيق النبوة وطبقة دلالية سميكة من النبوءات الأخلاقية. هذا هو الفارق بين الذهنيتين. بل بإمكاننا العثور عندنا على الفيلسوفين محنطين كمومياء ثقافية. فلم نبتكر أسئلة جديدة جدة وجودنا. لأننا لم تتجاوز مواقفنا بدورها إلاَّ نقلاً أو حفظاً. وهذا لا يعنى عدم اسهامنا في مسيرة الفكر الفلسفي. فالإسهام واضح ببصمات فارابية ورشدية (الفارابي وابن رشد) على التراث اليوناني أثناء عبوره إلى الغرب. لكني اتحدث عن طريقة ولادة الأسئلة في الذهنية العربية. كانت ولادة داخل البيئة بآلياتها وقابليتها للتفكير واجهاضه كذلك. ولادة قيصرية من حيث أنها تتجزأ وتنهضم خلال البنية العامة، تلك التي تتميز بالنزعة التجزيئية كما تقول نازك الملائكة.

 ويبدو أنَّنا لكي نُطلق عنانًا لأسئلة حقيقيةٍ لابد من تجاوز هذا الهضم الثَّقافيّ. فكلُّ إسهام من ذلك القبيل لا يحاول تجاوزًا يظلّ تجزيئيًّا، ولا يفعل أكثر من تمتين البنيّة المهيمنة. إنَّه الصُّورة المتنكرة في عباءة براقةٍ غير أنَّها مرقعة بنفس الجوهر. لكن التَّفلْسف بكونه أسئلةً ماهويّةً، يفترض انتهاك فكريًّا لهذا الوضع.

 السُّؤالُ الفلسفيُّ عبارة عن تحرير العقل من سلطة العقل. لكونَّه سؤالاً (فيه وله) قبل أنْ يتجاوزه إلى غيره. هو شرط للطَّرح(أي اشتراط) بدون شرطٍ، لأنَّه استشكال لوجوده، ومساءلة بقاياه الَّتي مازالت ساريةً بواسطة مبادئ ومفاهيم نمطيَّة. من حينه لن يهادن الاستفهامُ موضوعه، ولا يكتفي بهذا، لكنَّه لا يدع أساسًا دون نسفه من الدَّاخل. لأنَّه ينخرط عاملاً في دلالة الكلِّ، وهو بهذا يعلن عن قلقه بالمثل. فنبرته الميتافيزيقية لن تكون بدون أضرار كما يتوقَّع كانط.

 فالعقل الخالص قد يهدم مبادئه بنفسه إذا طرح السُّؤال الَّذي يعجز عن الإجابة عليه. بل تصوّر الفيلسوف الألمانيّ أنَّه قد يكون سؤالاً واحدًا (من بين مجموعة الأسئلة) هو الكفيل بإتمام ذلك. فلو ثبت أنَّ مبدأ العقل الخالص لا يقدر على الإجابة عنه فعلاً، فلا مناص من رفض المبدأ ذاته لكونه سيفشل كما يعتقد في إجابات أخرى حيال بقيَّة الأسئلة بصورة وافية ومتَّسقه مع الكلِّ.

 لم ينس كانط تذكيرنا أنَّه مهما بلغت مبادئ النَّسق العقليّ من الكمال، يظلُّ شمول هذا النَّسق نفسه عرضة لخطر التَّآكل الاستفهاميّ. أي يجب ألاَّ تغيب عنه مبادئ مشتقَّة نتيجة أسئلة مطروحة بعد تبلور الأفكار. فحيث لا يمكن تقديم المبادئ المشتقَّةَ بصورة قبليةٍ بل تكتشف بالتَّدرج، ينفتح النَّسق على أفاقٍ أخرى. هو لا ينفتح قسرًا إنَّما من طبيعة ذاته لأنَّه منطوٍ على إمكانيات نقائضه. 

 التَّغاضي عن تلك النُّقطة يؤدي إلى الهلاك الفلسفيّ، حالة من الدُّوار- بحجم الحياة- تؤرجح وجودنا الجذريَّ: هذا الإرباك العربيُّ الَّذي نشاهده في الوضع الاجتماعيّ والتَّنظيم السّياسي والمجال الأخلاقي وضياع بوصلة القيم المميّزة. لأنَّ الفلسفة سؤالٌ لشيء أعمق من كلِّ الأشياء. شيء لم يعد قادرًا على احتواءنا، ومع هذا ينتج كلَّ طاقته لتمرّد الوعي، ويفتحُ إهماله ثقبًا فيه بحجم ثقب الأوزون الَّذي يمتصُّ كافَّة طاقاتنا. هذا هو الإنسان حين يخرج عن الكهانة، عن الآلهة، وعن “قواقع الأنظمة” إجتماعيًّا وسياسيًّا. حيث يعلن عصيانا جذريًّا للفكر.

 إذا أردنا توضيحاً للموضوع تبعاً للذائقة العربية، فالسؤال استشكال خلْقِي بلغة الله لا بكيانه. لأنَّه كسؤال بحدِّ ذاته لا يضع هناك مرجعية لاهوتية لما يطرح. فلم يكن الله حين عرض قضية أدم على الملائكة طارحاً للكلام بصيغة آمرةٍ وهو القادر عليه. لقد طرحه بمضمون الاستفهام. كان مضموناً استشرافياً باعثاً على التوجس والخيفة والترقب. كل سؤال به هذا الارهاص الكوني، هذا البعد المستقبلي؛ أي الارهاص البدئي بالأشياء الخطرة.

 ليست خطورتها جزئيةً لكنها خُطورة كلية من نقطة بعيدةٍ تكاد تلامس مكانةَ الإله وقدراته في الأفق العام. فلم تكن امكانيةُ الخلق وضعاً معرفياً. لأنَّ الله قال لملائكته: “إني أعلم ما لا تعلمون”؛ أي رفع عنهم عبء المعرفة المنجزة بمنطق المستقبل. وجعلهم في حلٍّ من نتائج سقوط توقعاتهم. إذن ليس السؤالُ موقفاً معرفياً فقط. ولهذا هم ردوا بصيغةٍ استفهاميةٍ تصديقاً لكلية السؤال. قالوا “أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك”. لقد فهموا الموقف كطرح لمسألةٍ تحتاج إلى بدء حياة مغايرة لمعرفتهم لا مجرد اثبات فكرة مسبقة.

 الاستفهام الإشكالي به هذا الطابع الخائض في المستقبل، به ذلك الحدس المتجاوز للظرفي. ولغة الله هي طاقة الخلق ليس غير، مثلها مثل فكرة الألوهية في تاريخ الثقافة الإنسانية إذ تعبر أحياناً عن قدرتها على الحياة. أي طاقة المعنى عند إنسانٍ قادر على الشعور به في تجارب مختلفة، إنَّها لغة القيمة الإجمالية لتنوع الأفعال. وأيا كان تعيُنها خلال أشكال أو غيرها فستظل على وعدها الذي تحمله، كوعد تكويني بالأساس وفوق ذلك يذهب خارجاً نحو التحقق. سيكون السؤال علي أثرها عملاً مهموماً بإعادة تأسيس نفسه وتدعيم طاقته بذات المعنى. ليس الله هو الشكل ولن يكون اتجاهاً. ولهذا نفته الأديان في جوهرها، فكان بدلالة العرفان هو اللا حدود.

 ولو دققنا لوجدنا في حركة السؤال معنى متفجراً، قدرةً على التأويل المبتكر والفهم المفتوح. إنه يؤكد حالة الحيرة التي تكتنف فكرة الله. وبدلاً من التّعيُّن في نقطة ما ينطلق بالرغبة الكاشفة. السؤال يتخطى إمكانية طرحة، مهارته الذاتية أبعد من مجرد الصياغة والتفكير في حدوده، وقد يتعاونان على خلق طريقة في التفلسف.

 إنَّ أصالةَ الأسئلة ليست عتاداً في مواجهة التراث وصورته المكتملة ماضياً. هي تحمل بكارة الفكرة، وطرح الجنون - لو اتيح - وسط استحكام العقل. فليس هنالك أكثر من جنون الحياة المتغيرة. إن حيواناً كلياً في تهوره هو الحياة إذ نحن مغمورون فيها، أحداثها دوماً واعدة بالجديد، وأفعالها غير متوقعه، مخلوقاتها مستحيلة تظهر أحياناً وأخرى تختفي. إنَّها استحالة التصور لما يُطْرح من أساسه. كما كان رد الملائكة على الله هاجساً حياتياً عاماً، ردٌّ كَشفَ خطورة الحياة في المخلوق(آدم)الآتي من القادم.

 السؤالُ هو أنْ تعيش الحياة بشكلٍ أكثر أصالة، بشكل أكثر جذرية كما هي، لا كما يُراد لها بالإنابة. وتاريخنا العربي تقريباً جرى “بالإنابة عن لا بالأصالة في”. إذا كانت الفرق الإسلامية(كالمعتزلة والأشاعرة) قد طرحوا مشكلة حرية الإرادة، فالتراث العربي، بخاصة السياسي والاجتماعي، أثبت العكس. أثبت عملياً قيام الإنسان بدور المُكْرّه لا الفاعل. كان إثباتاً لخطأ الطرح وإن جاء توظيفاً سياسياً وثقافياً للإرادة، فحياة الناس سارت بأدوار وظيفية تحركها السياسة والتقاليد لا بدوافع ناشطة ذاتياً.

 إنها آليات تفريغ آدم الكوني من خطورته، تلويثه سياسياً بالعبودية والخنوع والتدجين. حياة المجتمعات العربية إفشال صريح لمشروع آدم، وتصفية لقضية الجعل الإلهي للإنسان جعلاً خالقاً. وعندما يوصف المشروع بالخطير تأتي خطورته من خطورة ماهيته الإنسانية. فهو كائن بصلاحية الإله(خليفة بلفظة القرآن) لكن بقدرات بشريةٍ جاء العربُ ليتنازلوا عنه للسلاطين والملوك والقوى الاجتماعية والتقاليد. أي تنازلوا عن الله فيهم لصالح عبوديتهم لغيره. وليس يُستثنى من ذلك جماعة أو طائفة. حتى هؤلاء الدعاة الذين يتكلمون باسم الله، فقد وقعوا ضحية لاهوت السلطة وعلاقات الراعي والرعية وهيكل الكهانة ولوثة الوسيط العنيف وانحرافه.

 حدودُ الوعي بالسؤال ليس تلقيناً لمواقف مستهلكة ولا تلقيماً لأفكار بائدة. إنَّه انفتاح بشفرات الماهية المتجددة، التي ليست نحن حصراً بقدر ما نستعيد غيرنا ابداعياً. فالإنسان من حيث هو كذلك يستعيد وجودّه من الضياع حين ينطلق مع التفكير الحر. قد يخشى العواقب لكن من العواصف تُخلق الأجواء المطيرة ومن الأنواء تعبر السماء عن تشكيل العالم. المعنى الدال في هذا أنَّ كلمة السماء في العربية لا تدل على التعالي المناوئ لأي سقف. لكنها تُستعمل فعلاً بمعنى السطح القريب. بلاغة الأسطح الدنيا هي سماء العقل العربي. فكل ما يعلو الرأس يسمى في العربية سماءً. وهذا مصدر القيود واستعصاء اختراقها. لهذا لا يستطيع المفكرُ العربي تجاوزها، بل يضعها لنفسه ويسلسل بها أرجله ويعلن زيفاً أنّه طليق حر!!

 باصطلاح هيدجر تعدُّ ماهيَّة الأساس لدينا تسطيحًا للمبادئ إلى درجة التَّعميم الانفعاليّ. إنَّه سقف الفكرة المعلَّقة في مناخ قريب من الحسّ اليوميّ، حسّ هو العصبيّة والتَّوحُّش بمعنى خلدوني لم ينقطع تاريخيًّا عن الأحداث والتَّحوُّلات العربيَّة إلى يومنا هذا.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: سامي عبد العال :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

السَّهر الكانطيّ: الأسئلةُ كطرحٍ حيويٍّ وكونيٍّ الجمعة 12 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: سامي عبد العال

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» لماذا انتصر جورج طرابيشي لابن خلدون؟ (1من2) الجمعة 19 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: حسن أوزين
» المْسِيدْ * الجمعة 13 شباط (فبراير) 2015 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: عثمان الدردابي
» المجدُ للأرانبِ إشاراتُ الإغراء بين الثَّقافة العربيَّة والإرهاب السبت 30 كانون الثاني (يناير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: سامي عبد العال
» كما لو شبّه لي ذلك (3) الأربعاء 10 شباط (فبراير) 2016 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: حسن أوزين
» خ. ع. س الجمعة 28 شباط (فبراير) 2014 تقييم المقال : 1 2 3 4 5 بقلم: هدى جعفر

صلاحيات هذا المنتدى:تستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
** متابعات ثقافية متميزة ** Blogs al ssadh :: اخبار ادب وثقافة-
إرسال موضوع جديد   إرسال مساهمة في موضوعانتقل الى: