[rtl][size=32]ما هي الأنوار؟[/rtl][/size]
[rtl]م.فوكو[/rtl][rtl]ترجمة وتعليق: حميد طاس[/rtl] [rtl]I -[/rtl]
[rtl]عندما تطرح جريدة ما، في أيامنا هذه، سؤالا على قرائها، فذلك لتطلب وجهة نظرهم في موضوع يكون لكل واحد منهم فيه رأي خاص، فلا تكون هناك إمكانية معرفة شيء جديد. أما في القرن 18م فكان يفضل أن تطرح على العامة مجموعة من القضايا لم يتوصل بعد إلى حلها، ولست أدري إن كانت هذه الطريقة ناجعة بقدر ما كانت مسلية. ودائما وبموجب هذه العادة نشرت دورية ألمانية هي Berlinische Monatschrift (شهرية برلين) في نوفمبر 1784م جوابا على السؤال: ما هي الأنوار؟ Was ist Aufklarung، وكان هذا الجواب لكانط.[/rtl]
[rtl]قد لا يكون نصا مهما، ولكن أظن أن معه قد دخل إلى تاريخ الفكر، وبشكل خفي، سؤال لم تكن الفلسفة الحديثة قادرة على الإجابة عنه، بل لم تستطيع قط التخلص منه، وها هي الآن، ومنذ قرنين من الزمان مازالت تعيده وتكرره بأشكال مختلفة، فمن Hegel إلى Horckheimer أو Habermas مرورا بـ Neitzsche أو Max Weber لا توجد فلسفة إلا وواجهت، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة نفس السؤال: ما هو هذا الحدث الذي يسمونه الأنوار والذي حدد، ولو جزئيا على الأقل، ما نحن عليه، وما نفكر فيه وما نفعله الآن. فإذا تخيلنا أنBerlinische Monatschrift (شهرية برلين) ما زالت موجودة في أيامنا هذه و أخذت تطرح على قرائها السؤال: "ما هي الفلسفة الحديثة؟" ، فربما نستطيع أن نجيب وبكل تلقائية: إن الفلسفة الحديثة هي تلك التي حاولت، وبكل حذر منذ قرنين الجواب على السؤال: ما هي الأنوار؟(1)[/rtl]
[rtl]لنتوقف قليلا عند هذا النص لكانط، فإنه يسترعي الانتباه لأسباب متعددة.[/rtl]
[rtl]1 - ففي نفس الجريدة، ومنذ شهرين من قبل، كان Moses Mendelssohn قد أجاب هو أيضا على نفس السؤال، ولكن كانط لم يكن يعلم بذلك النص حين حرر جوابه.[/rtl]
[rtl]صحيح أن هذه اللحظة لم تكن هي بداية الإلتقاء بين الحركة الفلسفية الألمانية والتطورات الجديدة للثقافة اليهودية، فقد كان Mendelssohn صحبة Lesing حاضرا في هذا التقاطع منذ 30 سنة، ولكن إلى ذلك الحين كان الأمر يتعلق فقط بالمطالبة بحق المواطنة للثقافة اليهودية داخل الفكر الألماني -وهذا ما حاول Lesing أن يفعله في die Juden (اليهود)-، أو بمحاولة إثارة المشاكل المشتركة بين الثقافة اليهودية والفلسفية الألمانية: وهذا ما فعله Mendelssohn في محاورات حول خلود الروح. ولكن بظهور النصين في Berlinische Monatschrift (شهرية برلين) عرفت الأنوار الألمانية والأسكالا Haskala اليهودية أنهما ينتميان إلى نفس التاريخ، فأخذا يبحثان في تحديد العامل المشترك الذي ظهرا على إثره، وربما كانت تلك طريقة للإعلان عن قبول مصير مشترك نعلم جيدا إلى أي كارثة سوف يؤدي إليها.[/rtl]
[rtl]2 - زيادة على ذلك يطرح هذا النص في حد ذاته وداخل التقليد المسيحي مشكلا جديدا. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يحاول الفكر الفلسفي أن يتأمل فيها حاضره الخاص، ولكن يمكن القول، وبطريقة مبسطة، أن هذا التفكير قد أخذ إلى ذلك الحين ثلاثة أشكال رئيسية:[/rtl]
[rtl]- فيمكن أن نتصور الحاضر كإنتماء لعصر من عصور العالم يختلف عن غيره ببعض الخصائص المميزة أو يبتعد عن غيره ببعض الحوادث الخطيرة(2). هكذا مثلا يعلم المحاورون في جمهورية أفلاطون أنهم ينتمون إلى واحدة من تلك الثورات العالمية حيث يرجع العالم متقهقرا إلى الوراء بكل ما يحمله هذا الرجوع من النتائج السلبية.[/rtl]
[rtl]- ويمكن أيضا أن نسائل الحاضر من أجل أن نعثر فيه على علامات تبشر بوقوع حدث في المستقبل، وهنا نكون أمام مبدأ افتراض تأويل تاريخي يمكن لـ Augustin أن يعطينا مثالا على ذلك.[/rtl]
[rtl]- كما يمكن تحليل الحاضر كنقطة تحول نحو فجر عالم جديد، وهذا ما يصفه Vico في آخر فصل من مبادئ فلسفة التاريخ. فما يراه في "الآن" هو "إنتشار أتم الحضارات عند الشعوب التي يخضع أغلبها لملوك كبار"، كما يرى في الآن "أوروبا زاهية لا تقابلها حضارة أخرى تنعم أخيرا بكل أنواع الخيرات التي تخلق سعادة وهناء الحياة البشرية".[/rtl]
[rtl]غير أن الطريقة التي يطرح بها كانط سؤال الأنوار هي مخالفة تماما: فليست هي عصرا للعالم ننتمي إليه، ولا حدثا ندرك علاماته، ولا حتى بداية لإنجاز. فكانط يعرف الأنوار بطريقة تكاد تكون سلبية تماما، يعرفه كـ Ausgang "كخروج"، "كمنفذ". فإذا كان كانط في كتاباته الأخرى حول التاريخ يطرح أسئلة حول الأصل أو يحدد الغاية الداخلية لصيرورة تاريخية ما(3)، فإن السؤال في هذا المقال حول الأنوار يهتم بالوضع الراهن الخالص، أنه لا يسعى إلى فهم الحاضر انطلاقا من كلية ما أو اكتمال مستقبلي، إنه يبحث عن الاختلاف: ما هو الشيء المختلف الذي يضيفه الوضع الراهن بالمقارنة مع ما أتى به الأمس؟(4)[/rtl]
[rtl]3 - لن أدخل في تفاصيل النص الذي يبقى غير واضح رغم اختصاره، وأريد فقط أن أثير الانتباه إلى ثلاث أو أربع نقط تبدو لي مهمة من أجل فهم الكيفية التي عالج بها كانط الحاضر معالجة فلسفية.[/rtl]
[rtl]يسارع كانط بالتصريح بأن هذا "الخروج" الذي يميز الأنوار هو صيرورة تخرجنا من حالة "القصور"، ويعني بالقصور حالة معينة لإرادتنا تسمح لنا بقبول وصاية شخص آخر من أجل توجيهنا في ميادين يكون من الأفضل أن نستعمل فيها العقل، ويعطي كانط ثلاثة أمثلة على ذلك، فنحن نكون في حالة من "القصور" عندما يقوم كتاب ما مقام فهمنا، أو عندما يقوم مرشد ديني مقام ضميرنا، أو عندما يقرر طبيب في مكاننا نظام أكلنا. (يمكن أن نسجل هنا بسهولة أنواع الانتقاد الثلاثة رغم أن النص لا يصرح بها علانية)، وبصفة عامة تتحدد الأنوار بتغير العلاقة الموجودة سلفا بين الإرادة والسلطات واستخدام العقل.[/rtl]
[rtl]وتجدر الإشارة إلى أن هذا "الخروج" قد قدم من طرف كانط بصورة مبهمة فهو يميزه مرة كحدث، كصيرورة سارية الحدوث، كما يقدمه مرة أخرى كمهمة يجب القيام بها وكضرورة، فمنذ الفقرة الأولى يشير كانط إلى أن الإنسان هو نفسه المسؤول عن حالة القصور التي يعيشها، لذا يجب أن نفهم أنه لا يمكن أن يخرج منها إلا بتغيير يحدثه هو بنفسه على نفسه أو بتعبير آخر فإن كانط يقول أن لهذه الأنوار شعارا Wahlspruch يعرف بها: غير أن الشعار هو سمة مميزة نعرف بها، كما أنه تعليمات نعطيها لأنفسها ونقترحها على الآخرين. فما هي هذه التعليمات؟ (إنها تتلخص في العبارة التالية): "فلتكن لديك الشجاعة والجرأة للمعرفة"(5). إذن يجب أن نعتبر الأنوار، في نفس الوقت، كحدث يشترك فيه جميع الأفراد وكفعل شجاع نقوم به بطريقة فردية حيث يكون هؤلاء الأفراد، في نفس الوقت عناصر وعوامل لنفس الحدث. فهم يمكن أن يكونوا الفاعلين فيه في الوقت الذي يكونون عناصر ينتمون إليه، وينتجونه في الوقت الذي يقررون أن يكونوا الفاعلين المتطوعين فيه.[/rtl]
[rtl]إضافة إلى ما سبق هناك أيضا صعوبة ثالثة تظهر في نص كانط والمتعلقة باستعمال كلمة Menschleit (الإنسانية)، ونحن نعلم أهمية هذه الكلمة في التصور الكنطي للتاريخ. فهل يجب الفهم أن مجموع النوع البشري هو المقصود في حدث الأنوار؟ وفي هذه الحالة يجب أن نتخيل أن الأنوار هي تغير تاريخي يمس الوجود السياسي والاجتماعي لجميع البشر على وجه الأرض. أم يجب الفهم أن الأمر يتعلق بتغيير يمس ما يكوّن إنسانية الكائن البشري؟ وبالتالي يطرح السؤال لمعرفة هذا التغيير؟ وهنا أيضا يبدو أن جواب كانط لا يخلو من غموض إذ يبدو، على كل حال، جوابا معقدا رغم ما يبدو عليه من بساطة.[/rtl]
[rtl]وهكذا يحدد كانط شرطين أساسيين لكي يخرج الإنسان من حالة قصوره. وهذه الشروط هي في نفس الوقت شروط روحية ومؤسساتية، أخلاقية وسياسية. وأول هذه الشروط هو أن يفصل جيدا بين ما يرجع إلى الطاعة والخضوع وبين ما يرجع إلى استعمال العقل. وكانط عندما يميز باقتضاب حالة القصور فإنه يذكر العبارة المألوفة: "لا تعملوا الفكر بل أطيعوا" وهذا هو الشكل الذي يمارسه عادة النظام العسكري، السلطة السياسية، والسلطة الدينية فالإنسانية يمكن أن تتقدم ليس لأنها لن تطيع أبدا ولكن عندما نقول لها: "أطيعي، وسوف تستطيعين التفكير كيفما تشائين"، وهنا يجب الإشارة إلى أن الكلمة الألمانية المستعملة هنا هي: "razonieren" (التفكر) هذه الكلمة التي نجدها أيضا في مؤلفات النقد(6) لا ترجع إلى أي استعمال كيفما كان للعقل ولكن إلى استعمال له هدف آخر غير ذاته، فـ"razonieren" هي التفكر من أجل التفكر. وكانط يعطي مجموعة من الأمثلة رغم أنها تبدو ركيكة في ظاهرها: فما يميز حالة التقدم حسب كانط، مثلا هو أن نؤدي الضرائب ولكن أيضا أن نستطيع التفكير كيفما نشاء في قضايا الضرائب أو نحافظ على خدمة الكنسية التي ننتمي إليها وفقا لمبادئها عندما نكون قساوسة ولكن أن نفكر كيفما نشاء في موضوع العقائد الدينية.[/rtl]
[rtl]قد نظن أن لا شيء يختلف عما كنا نسمعه منذ القرن 16م حول حرية الرأي بمعنى أن لدينا الحق في أن نفكر كما نشاء دون أن نطيع كما يجب. غير أن كانط هنا يدخل فرقا آخر بطريقة مفاجئة. يتعلق الأمر بالفرق بين الاستعمال الخاص والاستعمال العمومي للعقل. ويضيف مباشرة بأن العقل يجب أن يكون حرا في استعماله العمومي بينما يجب أن يكون خاضعا في استعماله الخاص، الشيء الذي يخالف حرفيا ما يسمى عادة بحرية الرأي. ولكن يجب أن ندقق بعض الشيء. فما هو هذا الاستعمال الخاص للعقل حسب كانط؟ وما هو المجال الذي يمارس فيه؟ يقول كانط إن الإنسان يستعمل عقله استعمالا خاصا عندما يكون "أداة في جهاز ما" أي عندما يكون له دور يلعبه في المجتمع ووظائف يمارسها: كان يكون جنديا، أو تكون له ضرائب يسددها، أو يكون مسؤولا عن كنيسة، أو يكون موظفا في إحدى الحكومات، كل هذا يجعل من الكائن البشري عضوا معينا داخل المجتمع، إنه يوجد بذلك في وضع محدد يملي عليه تطبيق جملة من القواعد ويسعى لغايات معينة. وكانط لا يطلب القيام بطاعة عمياء دون تفكير، ولكن يطلب استعمالا للعقل يكون متكيفا مع هذه الأوضاع المحددة وفي هذه الحالة نجد أن العقل يكون خاضعا لتلك الغايات المعينة، فلا يكون هناك إذن استعمال حر للعقل. وبخلاف ذلك عندما نفكر فقط من أجل استعمال فكرنا، عندما نفكر ككائنات مفكرة (وليس كأداة في جهاز)، عندما نفكر كجزء ينتمي للإنسانية المفكرة، فإن استعمال العقل يجب أن يكون حرا وعموميا. والأنوار ليست فقط حدثا يضمن من خلاله الأفراد حريتهم الخاصة في التفكير، بل تتحقق الأنوار عندما يكون هناك تطابق للاستعمال الكوني، والحر مع الاستعمال العمومي للعقل(7).[/rtl]
[rtl]وهذا يجرنا إلى سؤال رابع يجب طرحه على نص كانط: إننا نفهم جيدا أن الاستعمال الكوني للعقل (خارج كل غاية معينة) هي مسألة تخص الذات نفسها كفرد، كما نعلم أيضا أن حرية هذا الاستعمال يمكن أن تكون مضمونة بطريقة سلبية تماما نظرا لعدم وجود أية متابعة ضدها، ولكن كيف نضمن الاستعمال العمومي لهذا العقل؟ فكما نرى لا يجب أن نفهم ببساطة أن الأنوار هي حدث عام يمس البشرية جمعاء، أي أن نفهمها فقط كضرورة مفروضة على الأفراد، إنها تظهر الآن كمسألة سياسية(8), وفي كل الحالات سيطرح السؤال حول معرفة كيف يمكن للاستعمال العمومي للعقل أن يأخذ شكلا عموميا خاصا به، كيف يمكن لجرأة المعرفة أن تشتغل في واضحة النهار رغم أن الأفراد يطيعون كما يجب.[/rtl]
[rtl]ولكي يختم كانط ويجيب على هذه التساؤلات يقترح على Frederic II نوعا من التعاقد الغير المصرح به، أو ما يمكن تسميته تعاقد الإستبداد العقلاني مع العقل الحر حيث سيكون الاستعمال العمومي والحر للعقل المستعمل هو أحسن ضمانة للطاعة، بشرط أن يكون المبدأ السياسي الذي سوف يتم الخضوع له مطابقا بالمقابل للعقل الكوني.[/rtl]
[rtl]لنترك الآن هذا النص، فأنا لا أسعى تماما إلى اعتباره يمثل وصفا وافيا للأنوار، وأظن أنه لن يستطيع إشفاء غليل أي رجل تاريخ لتحليل التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي ظهرت في أواخر القرن 18م. ولكن رغم طابعه الظرفي، ودون السعي إلى إعطائه مكانة خاصة في عمل كانط، أظن أنه يجب أن نسجل العلاقة الموجودة بين هذا المقال القصير ومؤلفات النقد الثلاثة فهذا النص يصف الأنوار كلحظة تسعى فيها الإنسانية إلى استعمال فكرها الخاص دون الخضوع لأي سيطرة، وهذه اللحظة بالذات هي التي يكون فيها النقد ضروريا، ذلك أن دور النقد هو أن يحدد الشروط المشروعة لاستعمال العقل لكي يحدد ما يمكن معرفته وما يمكن فعله وما يمكن انتظار وقوعه. وهكذا فالوهم والاستعمال الغير المشروع للعقل هو الذي ولد لنا الدوغمائية والتبعية، وبمقابل ذلك عندما نحدد بشكل واضح الاستعمال المشروع للعقل وفقا لمبادئه فسيكون استقلاله مضمونا. فكأن النقد هو بمثابة مذكرات يومية مكتوبة لعقل اصبح خارج وضعية القصور في عصر الأنوار؛ وعكس ذلك أصبحت الأنوار هي عصر النقد.[/rtl]
[rtl]وأظن أنه يجب أن نسجل أيضا العلاقة بين هذا النص لكانط والنصوص الأخرى المخصصة للتاريخ، فإذا كانت هاته الأخيرة تبحث في أغلبها في تحديد الغاية الداخلية للزمن، والنقطة التي يسعى إليها تاريخ البشرية، فإن تحليل الأنوار واعتبارها مرور الإنسانية إلى حالة من التطور، يضع الآنية في مقابل حركة المجموع هاته واتجاهاتها الأساسية. ولكنها في نفس الوقت توضح في هذا الوضع الراهن كيف أن كل فرد يجد نفسه مسؤولا بطريقة ما عن هذا الحدث الجماعي.[/rtl]
[rtl]والفرضية التي أريد اقتراحها، هي أن هذا النص القصير يوجد بشكل ما في نقطة التقاء التفكير النقدي والتفكير حول التاريخ، هذا الالتقاء الذي ليس إلا تفكير كانط في آنية مشروعة. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يعطي فيها فيلسوف ما أسباب شروعه في عمله في هذه اللحظة أو تلك. ولكن يبدو لي أنها أول مرة يوجد فيلسوف يربط بشكل وثيق وعميق دلالة عمله مع المعرفة من جهة، والتفكير حول التاريخ من جهة ثانية وتحليله الخاص للحظة التي يكتب فيها ولماذا يكتب فيها من جهة ثالثة. يبدو لي أن التفكير في "الآن" كاختلاف داخل التاريخ وكدافع نحو مهمة فلسفية خاصة هو الجديد الذي يحمله هذا النص، كما يبدو لي أن التعامل معه بهذا الشكل يمكن أن نجد فيه نقطة انطلاق أو إرهاصا لما يمكن تسميته بموقف الحداثة(9).[/rtl]
[rtl]II -[/rtl]
[rtl]أعلم أنه يتم الحديث دائما عن الحداثة كحقبة تاريخية أو، في كل الحالات، كمجموعة من المميزات التي تطبع حقبة تاريخية ما، حيث يتم إيجاد مكان لها داخل يومية تتقدمها حقبة "ما قبل الحداثة" التقليدية والقديمة، وتتبعها حقبة "ما بعد الحداثة" الغامضة والمخيفة. ويتم التساؤل بعد ذلك لمعرفة هل الحداثة هي ما يتبع عصر الأنوار وتطوراته أم هي تلك التي تحقق قطيعة أو نزوحا عن المبادئ الأساسية للقرن 18م.[/rtl]
[rtl]وبعودتي إلى نص كانط كنت أتساءل، لماذا لا يمكن أن نعتبر الحداثة كموقف عوض اعتبارها حقبة من حقب التاريخ، وأعني بالموقف شكلا من العلاقة مع ما يحدث في الوضع الراهن، واختيارا واعيا يقوم به البعض، وأخيرا نمطا من التفكير والإحساس وطريقة في السلوك والاستجابة التي تدل على انتماء معين وتظهر كمهمة يجب فعلها. أو بعبارة أخرى ما كان الإغريق يطلقون عليه "Ethos" (الطابع). وهكذا عوض أن نعزل حقبة الحداثة عن الحقب التي تسبقها أو تليها، أظن أنه يجدر بنا أن نبحث كيف أن موقف الحداثة، منذ نشأته قد وجد نفسه في مواجهة المواقف "لمضادة للحداثة".[/rtl]
[rtl]ولكي أميز موقف الحداثة هذا باقتضاب سأعطي مثالا أرى أنه ضروري، وهو مثال Baudelaire ذلك لأننا عرفنا لديه أحد التصورات الأكثر صرامة للحداثة في القرن 19م.[/rtl]
[rtl]1 - هناك دائما محاولة للنظر إلى الحداثة كوعي بالحركة المتقطعة للزمن أي كقطيعة مع التقاليد وإحساس بالجدة والنشوة بما يمر الآن، ويبدو أن هذا فعلا هو ما يعنيه بودلير حين يعرف الحداثة بـ"المتنقل أو الهارب أو الطارئ"، ولكن لا يعني هذا بالنسبة له أنه يكفي أن تتعرف على هذه الحركة الدؤوبة وتقبلها لكي تكون إنسان الحداثة، ولكن بالعكس أن تتخذ موقفا منها.[/rtl]
[rtl]وهذا الموقف الإرادي والصعب يتمثل في إحكام القبض على شيء خالد لا يوجد لا خارج اللحظة الحاضرة، ولا وراءها ولكن فيها، فهو الذي يساعد على القبض على ما هو "عظيم" في الزمن الحاضر، لذا فالحداثة ليست هي الموضة التي لا تعمل إلا على تتبع جريان الزمن، إنها ليست مجرد إنفعال أمام حاضر يمضي بل إنها إرادة "تعظيم" الحاضر.[/rtl]
[rtl]وسأكتفي بعرض ما قاله بودلير بخصوص رسم الشخصيات المعاصرة، فهو يهزأ من أولئك الرسامين الذين حين يجدون نوعا من القبح في هندام رجال القرن 19م لا يرسمون إلا أثواب القضاة القديمة. فالحداثة في الرسم لا تمثل، بالنسبة له، في إدخال الألبسة السوداء في اللوحة، ولكن الرسام الحديث سيكون هو ذلك الذي يظهر المعطف الطويل الداكن كلباس أساسي في عصرنا"، إنه ذلك الذي يستطيع أن يرى في موضة اليوم هذه العلاقة الأساسية والدائمة والملازمة التي يربطها عصرنا مع الموت، وبذلك "فإن اللباس الأسود والمعطف الطويل ليس لهما فقط جمالهما الشاعري الذي هو تعبير عن المساواة الكونية، ولكن أيضا لهما شاعريتهما التي هي تعبير عن الروح الشعبية، وتتابع عظيم لمحامل موتى السياسيين والعاشقين والبورجوازيين، فكلنا محتفل ببعض مراسيم الدفن". ولكي يحدد بودلير موقف الحداثة هذا يستعين في بعض الأحيان بلطافة ذات دلالة كبيرة، ذلك أنها تظهر على شكل وصية تقول:"ليس لديكم الحق في احتقار الحاضر".[/rtl]
الأربعاء فبراير 10, 2016 12:32 pm من طرف عزيزة