مقدّمــــة:
يعتبر فولتير من فلاسفة الأنوار الأكثر دفاعا عن مبدإ التّسامح، كتب العديد من الأعمال الدراميّة التي تناولت مواضيع الإنسان في صميم طبيعته، دافع عن قضايا الإنسان، فتكلّم عن الظّلم، وعن الاستبداد، والتعصّب الدّيني، وطالب بالحريّة، ودعا إلى التّسامح.
فولتير مبحث في حدّ ذاته، هو مؤرّخ وفيلسوف وشاهد على عصره، تأثّر بالنّظام القائم في إنجلترا فكانت وجهته، حيث انبهر بما وصلت إليه من تقدّم في مجال حقوق الإنسان، فدعا إلى العمل على خطاها، وقد كتب فولتير العديد من “الأقاصيص” والمسرحيات، والقصائد المهمّة، منها مكروميجا، رسالة في التسامح، دراسة في الأخلاق وهي بحث مطوّل تناول فيها بالدّرس تاريخ أوروبا وفرنسا تحديدا من حقبة ما قبل شارلمان إلى أوائل حقبة لويس الرّابع عشر، وكنديد دون أن ننسى أوديب، ومحمّد، وقصيدة في مأساة لشبونة وغيرها.
[b][b]تأثّر فولتير بإنجلترا.[/b][/b]
يبدو تأثير إنجلترا في فكر فولتير واضحا، فقد أبدى إعجابه بما وصلت إليه إنجلترا من تقدّم، خاصّة في مجال حقوق الإنسان، وقد أعجب فولتير بما تتمتّع به الكنيسة البروتستانيّة الإنجليزية من استقلالية، ممّا يجعلها متحرّرة عن وصاية الكنيسة “الرّومانية” نسبة إلى روما، هذا الاستقلال أصبغ عليها صفة الكنيسة القوميّة، وبذلك كانت الكنيسة ترعى حقوق مواطنيها، ويرى فولتير أنّ هذا الاستقلال قد أتاح الفرصة لتعدّد الشّيع والطوائف الدّينيّة المنضوية تحت رقابتها للتّعايش فيما بينها دون الدّخول في صراعات أهليّة، إذ الاختلافات الدينيّة، تقود لا محالة إن لم يحسن التّعامل معها إلى حروب أهليّة كتلك التي تقع في فرنسا، بهذه الطّريقة الحكيمة في التّعامل مع المسألة الدينيّة، أمكن لإنجلترا أن تخمد لهيب المشاعر الدينيّة وهو ما كان يحلم بتحقيقه فولتير في بلده، لكنّه مؤمن بأنّ تحقيقه في ذلك الوقت غير ممكن، وذلك لشدّة التعصّب الدّيني، والتّطاحن الطّائفي الشّديد الدّائر رحاه في ربوع بلاده، حتّى في فترة ربيع الأنوار فإنّ هذه الطّوائف الدينيّة لم تنفكّ عن الاقتتال. *
دعوة فولتير إلى التّسامح.
لم يخف فولتير إعجابه بما وصلت إليه إنجلترا من تقدّم خاصّة على صعيد مبادئ حقوق الإنسان، وذلك من خلال نشر مبدأ التّسامح بين النّاس، الذي مكّن هذه الطوائف الدينيّة من التّعايش بينها، في كنف احترام حقوق الجماعات والأفراد في ممارسة معتقداتها دون تدخّل الأطراف الأخرى في ذلك، اعتمادا على مبدإ حريّة الفرد الإنجليزي في طريقة عيشه، حرّ في معتقداته، يمارسها دون المساس بمعتقدات الآخرين، فالإنجليزي متسامح مع الإنجليزي، يمارس طقوسه الدينيّة في كنيسته، ولا يحارب معتقد الإنجليزي الآخر الذي يمارس طقوسه الدينيّة في كنيسة مختلفة عن كنيسته في طريقة تطبيق شعائرها الدينيّة، ومبدأ التّسامح هذا أهّل المواطن الإنجليزي إلى التّعايش السّلمي مع أخيه الإنجليزي، ومن أكبر ثمار مبدإ التّسامح، تجنّب الصّراعات الدمويّة، خاصّة التي تقوم على أساس دينيّ، إذ تعمل كلّ طائفة دينيّة على التعصّب لمبادئها، وإرادة تزّعم البلاد على المنهاج الذي تراه صالحا لها، فتتصادم فيما بينها وتنشب الحروب ويعمّ القتل البلاد، وهو ما جعل فولتير يدعو إلى التّسامح، ويشيد بعمل إنجلترا بهذا المبدإ. “إنّها بلد التّسامح، وهو ما ترجم عن تعدّد الطوائف والشّيع، وهو أيضا ما خفّف من الخلافات الدينيّة: فالإنجليزي رجل حرّ يصعد إلى السّماء من أي طريق شاء. تعدّد الكنائس يجنّب من الدّخول في صراعات دمويّة، تنتج عندما تتقابل ديانتان لتتزعّم قيادة البلاد، التّسامح إذن يجلب السّلم وخاصّة يرقّق من الهوس الدّيني”.*
دعوة فولتير إلى نبذ فعل الشرّ والتزامه بالواقعيّة.
دعا فولتير في مؤلفه كانديد إلى نبذ الشرّ من خلال تصويره لمشاهد القتل المقرفة خاصة في الفصل الثامن عندما تحدّثت بطلة كانديد عن أحداث القتل المروّعة لأهلها من طرف البلغار الذين تفنّنوا في قتل الأب والابن وتقطيع الأمّ إلى أجزاء صغيرة، والوحشيّة التي عاملوا بها البنت، من اغتصاب وإذلال، هذا الكمّ الهائل من صور الشرّ، يقابله فولتير برغبة البطلة في محاربته، والدّفاع عن نفسها، وإرادة إقتلاع عيني البلغاري من مكانهما، هذه المقابلة بين فعل الشرّ من ناحية والإرادة القويّة في دفعه من ناحية أخرى، تعكس دعوة فولتير إلى التصدّي لفعل الشرّ وعدم الاستسلام له، ومقاومته بكلّ قوّة…
وقد أورد فولتير في كتاب كانديد حكمة واقعيّة معبّرة بعمق عن فلسفته في الحياة، إذ يرى أنّ على الإنسان أن يلتزم بالواقعيّة في حياته، ولا يبحث في الأشياء الغيبيّة التي لا تفضي إلا إلى مفارقة صميم الواقع، ولا تساهم في حلّ مشاكل الإنسان، بل تكرّس التّفكير الغيبي البعيد عن مشاغل الفرد في تعامله مع محيطه الاجتماعي، فالواقعيّة عند فولتير هي الالتزام بقضايا الواقع المادّي، حتّى وإن بدت ساذجة، سذاجة بداية أفعال كنديد، التي ستنتهي إلى فعل فلسفي عميق، وهو ما أكّده في نهاية الكتاب بقول كنديد: “يجب أن نهتم بحديقتنا”، وهذه المقولة هي محور الكتاب كلّه، الحثّ على الارتباط بالواقع حتّى في أصغر صوره. *
أولويّة الفعل الإنساني.
ولعلّ هذه الأولويّة نلتمسها خاصّة في حسّ فولتير الانساني المرهف، من خلال تعاطفه مع الانسان بصفة عامّة، دون التقيّد بالجغرافية الضيّقة، فقد أبدى فولتير تعاطفا كبيرا مع الشّعب البرتغالي عندما أصابت مدينة لشبونة كارثة الزلزال، في غرة نوفمبر من سنة 1755، إذ قال فيها شعرا رثائيّا رقيقا، مذكّرا بحجم النّكبة، مبينا شدّة ألم الضّحايا، معدّدا صور الأطفال والأمّهات ترزح تحت وطأة الأنقاض، في مشاهد شعريّة عميقة، تعكس تدفق نبل مشاعر فولتير، وأولويّة الفعل الانساني عنده… *
لقد نهل فولتير من مدرسة عريقة في الحثّ على أولويّة الفعل الانساني، وقد تأكّد لديه أنّ إنجلترا هي بلد حقوق الإنسان، فإرادة الإنسان في هذا البلد محترمة، وحقوقه محفوظة، وقيمة الإنسان تكمن في قدرته على الفعل، الفعل الذي يجلب المصلحة للإنجليزي عامّة، فدينه الحقيقي هو الصالح العام دون التفرقة بين الأديان مهما كانت متباينة، وذلك من خلال خلق النشاطات المتعدّدة، التي تراعى فيها الشّروط الإنسانيّة، التي يجتمع فيها كلّ النّاس، دون تمييز بين مختلف شرائح المجتمع الإنجليزي، وهذا “المعبد” العام الجامع لكل أطياف المجتمع الإنجليزي، هو “بورصة لندن”، بما في ذلك من رمزيّة للتّعايش السّلمي بين الجميع قصد ازدهار البلاد، فالبورصة رمز الثّروة، التي ستعمّ كلّ البلاد، إن تظافرت جهود الجميع في العمل البنّاء، وقد اقتنع فولتير بأنّ هذه الاختلافات في العقائد الدينيّة تنتفي لدى الإنجليزي عندما يدخل البورصة، الكلّ يتكلّم لغة واحدة هي لغة مصلحة البلاد، دون التأثّر بالاختلافات الدينيّة، فالمسلم واليهودي والمسيحي يتعاملون بكل تسامح لأجل ازدهار البلاد، تاركين جانبا مشاعرهم الدينيّة الضيّقة، التي لا تساهم في تقدّمهم، كان فولتير معجبا بهذا المبدإ الانساني الجليل في التعايش السلمي القائم أساسا على حب الفعل الانساني الإيجابي الذي يراعي مصلحة الإنجليزي، والمقياس الوحيد المعتمد لتقييم الأعمال هو مدى التفاني في الفعل الانساني، والإخلال به هو معيار الفساد الانساني. “إعطاء الفعل الإنساني قيمته، والمتمثّل في إثراء الشروط الإنسانية، بتطوير النشاطات المهمّة، والمعبد الأساسي في إنجلترا هي بورصة لندن. هنا كل الناس مهما كانت انتماءاتهم المذهبيّة، يتعاونون لأجل الازدهار العام، تاركين إلى جانب أفكارهم حول النجاة، هنا، اليهودي والمسلم والمسيحي يتعاملون فيما بينهم وكأنهم من دين واحد، ولا ينعتون بعضهم بقلة الإخلاص إلا للذين يعملون على الإفلاس”.*
انبهار فولتير بالنّظام السّياسي للإنجليز وإعجابه بثورتهم الفلسفيّة.
انبهر فولتير بالنّظام السّياسي الإنجليزي، لأنّه يحمي للمواطن الإنجليزي حرّيته، ويضمن له صورته المدنيّة، البعيدة عن التسلّط الدّيني المتعصّب. ويعتبر فولتير أنّ النّظام السّياسي الإنجليزي أحسن النّظم القائمة، فهو نظام يكفل حريّات الإنسان، إذ المواطن الإنجليزي يحميه النّظام السّياسي من الجور والظلم، فالسّلطة السّياسيّة مقنّنة بقوانين تجري على الجميع، والجميع يخضعون لها على قدم المساواة، وعلى قدر ميل فولتير إلى النّظام السّياسي الإنجليزي وإعجابه به، من خلال أعمال الفلاسفة خاصة منهم جون لوك الذي جاء في كتابه “رسالة في التّسامح” فهو يقول لا بد أن:
” ينزع عن الحاكم صفة الآمر المطلق، ويحصر سلطاته ويقيدها حيث يري أنّه لا ينبغي أن يتدخل إلا في ما يضمن السّلام المدني وعليه أن يمنح النّاس حريّة الاعتقاد فالحاكم ليس له حقّ التدخل في هذا المجال، فالدين أمر يخص الفرد وحده، وهو علاقة شخصية بينه وبين الله إذ ” أن حقوق وسلطة السلطة المدنية تنحصر في المحافظة على الخيرات وتنميتها خصوصا دون غيرها، ولا ينبغي أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى نجاة النفوس ” *
على قدر اقتناعه بعدم إمكان نقل هذا النموذج السياسي كما هو إلى بلاده فرنسا، وذلك لعدم توفّر أسباب وجوده بها، إذ المسألة الدّينيّة بفرنسا لا يمكن التّعامل معها بنفس الحكمة الإنجليزية، لذلك كان شرط التّسامح مفقودا بها، وهو ما سيجعل العيش جماعيّا متعذّرا، إذ كلّ أسباب التّفرقة متوفّرة ببلده، التعصّب الدّيني، الطائفيّة، وهذه الأسباب كفيلة بنشوب الصّراعات، وعدم الاستقرار السّياسي، والاضطرابات الاجتماعيّة. غير أنّ الشيء الوحيد الذي يعتبره من المكاسب بالنّسبة إلى الملكيّة الفرسيّة، أنّها استطاعت أن تحمي الفنون، وهو مكسب يحسب للملكيّة.
ومن ناحية أخرى كان فولتير من المعجبين بالثّورة الفلسفيّة الإنجليزية، التي اعتمدت على العلوم التّجريبية، ويرجع فولتير هذه الثّورة الفلسفيّة إلى أعمال جون لوك ونيوتن، بفضلهم تخطت إنجلترا مرحلة الديكارتيّة، بالرّغم أن ديكارت كان له سبق استعمال مصطلح التنوير بمعناه الحديث، بما هو استعمال للعقل، والتميّز به على الموجودات الأخرى التي سلبت هذه الملكة، فملكة العقل هي خاصّية وجود الانسان في حدّ ذاته، ذلك أن شرط وجود الانسان هو قدرته على التفكير، يقول: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وهذا ما نجده في قول أحمد الخيال: “ويحفظ لنا التاريخ أنّ (ديكارت René Descartes ) ذلك الفيلسوف الفرنسي الأشهر الذي عاش ما بين عامي (1596و1650) هو أوّل من استخدم مصطلح التنوير بمفهومه الحديث وذلك في معرض حديثه عن ( النور الطبيعي ) من حيث كونه في جوهره هو تجسيد للحقائق التي يمكن للإنسان أن يقتنصها بواسطة إعمال عقله. إلا أنّ مفهوم التّنوير الديكارتي لم يستطع التخلص من الأصداء الميتافيزيقية التي يحملها بطبيعة الحال”… *
على أنّ فضل ديكارت على فولتير في فتحه باب العلوم الحديثة.
[b]“إنجلترا بالنّسبة إليه هي مكان الثورة الفلسفيّة بفضل لوك ونيوتن. أدركت إنجلترا أن العلوم الحقيقية هي العلوم التجريبية، وبذلك استطاعت أن تتجاوز ديكارت نفسه، الذي كان فضله في فتح آفاق للعلوم الحديثة”.*[/b]
ملامح فكر فولتير الفلسفي.
يمكننا تلمس ملامح فكر فولتير الفلسفي من خلال نقده لأفكار باسكال في آخر رسالة فلسفية له،
إذ جاء في معرض حديثه عن حيرة الإنسان وقلقه، أنها سمة إيجابية في الإنسان، وليست سلبية، ذلك أن قلق الإنسان بمثابة الوازع الذي يدفعه إلى البحث عن أسباب الرّاحة، فلو لا القلق، لما بحث الإنسان عن الراحة ولمّا بذل جهدا في ذلك، الشيء الذي سيجعله خاملا لا يستمتع بالحياة، فبذل الجهد من أسباب الحياة، وهي سمة بشرية كبيرة، تجعله فيما بعد يصل إلى مراتب جديرة بالحياة البشريّة تليق بمقامه كإنسان فاعل ومؤثر فيها، لا متقبلا سلبيا، بل عليه أن يدفعه حب العيش إلى طلب الحياة التي تتوفّر فيها مستلزمات الاستمتاع، وأسباب الرّاحة. بل عليه ألّا ينظر إلى اضطرابه على أنّه عقاب، وأنّ اللعنة قد حلت عليه، فيصيبه البؤس، ويعمه التشاؤم، وإنما يجب أن ينظر إليها من زاوية امتلاكه لقدرة غريزية أودعها الله فينا، قادرة على دفعه إلى البحث على مستقبل أفضل، وعدم الاستكانة إلى حالة التشاؤم السلبي الذي سيخلف فيه الاضطراب، والخمول، وعدم امتلاك الإرادة، هذه الإرادة التي يجب أن تكون قوية، حتى يبدل حالة اضطرابه إلى حالة استقرار، عن طريق البحث المتجدد عن أسباب الراحة. وهو ما تنبه له فيليب راينو في قوله:
“في آخر رسالة فلسفية، يقوم فولتير بنقد أفكار بسكال، من خلاله يمكننا قراءة فكره الفلسفي: قلق الإنسان هو الذي يدفعه إلى طلب الاستمتاع، والاضطراب الدائم ليس علامة بؤس الإنسان، بل على العكس من ذلك يجب أن نشكر الله الذي أودع فينا غريزة تنقلنا إلى البحث عن المستقبل. هذه الفكرة المفصلية التي تمكننا من تبين فكر فولتير”.
فولتير أمير الأنوار.
البعض يعتبر فولتير من فلاسفة الأنوار، والبعض الآخر يخلع عنه هذه الصفة، ومردّ ذلك إلى أنّ فولتير لم ينف عن نفسه صفة الإيمان بالله، ولم يعلن إلحاده على خلاف بقية فلاسفة الأنوار، بل حاول أن يراوح بين مبدإ الإيمان بالله من ناحية، وبين محاربة الأديان التي تؤمن بمسائل غيبيّة بعيدة عن الفهم الإنساني والحكمة البشريّة، لذلك كان من وجهة نظر الفلسفة الأصوليّة التي تنفتح على الإلحاد كليّا، وتؤمن بالأشياء الماديّة المحسوسة، التي تطالها التّجربة الإنسانيّة، بعيدا عن معنى الأنوار، ولكنه كان يدافع عن القضايا العقلية، والمبادئ الإنسانيّة الطبيعيّة.
إنّ مردّ هذا اللّبس في الحكم على فولتير، هو العامل الدّيني، إذ أن فولتير لا يستطيع أن يشكك في فلسفته التنويرية أحد، لكن إيمانه العميق بالله، هذا الإله السّاعة، الذي تحدّدت به الموجودات، وانتظم الكون عليه بدقّة، تقابله ديانة مسيحية هي سبب كل التعصّب، الذي سيؤدي إلى الصراعات، وفي هذا الإطار يصعب تحديد الرؤية الفلسفية لفولتير، فهو يدعو من ناحية إلى التّسامح، ومن ناحية أخرى يجادل ضدّ الدّيانة المسيحيّة، الشّيء الذي قد يؤدّي إلى مزالق كبرى، وإلى عدم وضوح الرّؤية الفلسفيّة له. وهو ما يؤكّده فيليب راينو:
“لم يكن فولتير ملحدا، بل مؤمنا، ولم يتوقّف عن اعتبار وجود الاله “السّاعة” في دقتها، هو مصدر هذا النظام الكوني. وهو أيضا شرط من شروط الاخلاق والنظام الاجتماعي. وهذا ما قد يبعده عن معنى الأنوار الأصولية المنفتحة كليا على الإلحاد والمادية، ولكن هذا الإيمان موجه ضد الغيبيات التقليدية، فالغيبيون يتقوقعون في مسائل مستعصية على الحكمة البشرية، فهم يدافعون على قضايا غير مفهومة، مثل “أحسن العوالم” لـ”ليبنتز”. يجب أن ندافع ضدهم عن القضايا العقلية، التي تستجيب إلى الحاجات الطبيعية للإنسان. ومنافسهم الحقيقي ليس فلسفي بل ديني. وكلمة فولتير في هذا “اسحقوا التعصب”، وكل شيء بالنّسبة إليه يبيّن أنّ مصدر هذا التعصّب هي المسيحيّة، إذ يدّعي أنّه اكتشف في الأرتدوكسية شرطا للنّجاة، من هنا يصعب التّمييز في فلسفة فولتير بين النّضال من أجل التّسامح والجدل ضدّ المسيحيّة، وهو ما يقوده إلى مزالق خطرة”.
نظرة فولتير إلى الدّين:
نظرته إلى الدّيانة المسيحيّة:
الدّين عند فولتير هو منبع الفتن وسبب الحروب، لذلك كرهه وعمل بكل ما أوتي من علم على ضرب الدّين، لعلّ ذلك يبعد خطر الحروب التي تتهدد المجتمعات التي تكثر فيها الديانات، من هنا كان هدفه ضرب الديانة المسيحية، وبيان عدم تماسكها، وأن آيات الكتاب الديني غير منسجمة، فهي لا تعبر على فكر ديني قوي، وعلى هذا الأساس فإنّ الذي سيتمسك بهذه الدّيانة هو دون شك إنسان لا يتصف بحكمة العقل، بل يعتبر من المتخلفين، وهذا التخلف سيولد العنف في التعامل مع الآخر.
نظرة فولتير إلى الدّين الاسلامي:
كانت نظرة فولتير إلى الدّين الاسلامي نظرة سلبيّة بادئ الأمر، وقد ترجم هذا في مسرحيّته “التعصّب” وقد تناول فيها بالنّقد اللّاذع لشخص الرّسول محمّد وهو ما أثار عليه الرّأي العام ثمّ الكنيسة.
يعتبر د. خالد بن عبد الرحمن الشايع أنّ: “فولتير له مسرحية تدعى “التعصب” عام 1742 كتب فيها تهجمات على الإسلام وأن النساء يجبرن فيه على الإيمان، ويشكك فيها عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، وضمنها وصفاً معتدياً بذيئاً نحو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم”.
لكن فولتير سرعان ما أبدل رأيه، فأبرز خصائص الدّين الاسلامي، وبين أن الاسلام أكثر انسجاما من المسيحية نفسها، فالإسلام دين واضح، يعبر عن أخلاق واضحة، ويدعو إلى عبادة الله الواحد، دون الدخول في مسائل غيبية مستعصية على أفهام الناس، يقول د. خالد بن عبد الرحمن الشايع:
“لكن فولتير عاد لينقض تلك الافتراءات ضد الإسلام، عندما عرف حقيقة الإسلام وما فيه من التوجيهات والمبادئ السامية، حيث تأثر بكتاب «سيرة حياة محمد» لمؤلفه هنري دي بولونفيرس الذي نُشر في لندن عام 1720، وفيه دفاعٌ عن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وردٌّ على المطاعن والانتقاصات التي افتُريت عليه، وأوضح أنَّ محمداً عليه الصلاة والسلام مبدعٌ دينيٌّ عقليٌّ يستحق التقدير حتى في الغرب. وحينها ألَّف فولتير كتابه «بحثٌ في العادات» عام 1765 ومدح فيه الإسلام وأشاد بمحمد وبالقرآن، وقال: «إنَّ محمداً مع كونفوشيوس وزرادشت أعظم مشرعي العالم» على حد تعبيره”.
لذلك لم يشهد العالم الاسلامي الحروب التي نشبت في البلدان التي دانت بالمسيحية، وبذلك أمكن للساسة في البلاد الاسلامية فيما بعد من نشر مبادئ التسامح، على خلاف البلدان الأخرى التي يصعب فيها نشر هذا المبدإ. وعلى هذا يقول فيليب راينو:
“بالمقابل، فإن الناظر على غير تأن إلى مسرحيته التعصب او محمد الرسول سيحكم على غير هدى بالإسلاموفوبيا عليه، في حين أن فولتير يرى أن الإسلام دين أكثر حكمة وأكثر طبيعية من المسيحية، فالإسلام يدافع عن اخلاق واضحة، ويؤكد على وحدانية الله. دون الولوج في الاسرار المستعصية عن الحلّ، ولهذا كان لم يشهد العالم الاسلامي إلا الحروب الدينية القاسية، وان القوى السياسية يمكنها ان تظهر إلى جانب التسامح أكثر من البلدان المسيحيّة”.
برنامج فولتير الاصلاحي.
يهدف فولتير في الأخير إلى رسم ملامح برنامج، سيقضي من خلاله على التّعصب الدّيني، وذلك بتقوية الدولة على حساب الكنيسة، إذ تمثل الدولة الجانب القانوني المدني المرن، في حين تمثل الكنيسة الجانب الديني المتشدد، على أن يقع الخلط بين الجانبين فيتهم الفرد في إيمانه بالله، كما يؤمن فولتير بالسياسة الملكية في بلاده وبقدرتها على تخطي هذه العقبة للفصل بين الديني والمدني، وذلك من خلال تحويل القوانين الجزائية أكثر انسجاما مع الانسان، تستجيب إلى طبيعته الانسانية، وعلى نشر مبادئ حقوق الانسان، وحماية الأفراد، وضمان حقوقهم، وإبطال أنواع التعذيب، والانتهاء عن القوانين التقليدية التي لا تراعي حقوق الانسان. يقول فيليب راينو:
“بهذا البرنامج الإصلاحي الديني، الذي يهدف إلى تفوق الدولة على الكنيسة، دون اتهامه في الإيمان بالله، المنتقم والمجزي، إضافة إلى برنامج سياسي موجه نحو الحقوق، وفولتير له الثقة في الملكية الفرنسية في هذا الشأن، على شرط أن تنير الفلسفة سبيلها. يجب أولا العمل على جعل القوانين أكثر انسانية، وذلك بإبطال التعذيب القضائي، وبحماية المواطنين من الجور، مثلما يفعل الإنجليز، والقطع مع التقاليد الجزائية غير الواضحة، وغير المعقولة”.
موقف فولتير من الملك.
حسب فولتير للتخلص من حكم الكنيسة وجور البرلمان والنبلاء الذين لا يرون إلا مصالحهم، كان لا بد من الوقوف إلى جانب الملك، لإنارته حتى يعمل على إصلاح البلاد، وقد أبرز هذه الرؤية خاصة في كتابه “رسالة في الأخلاق”التي تعتبر فلسفة تاريخية كونية، لما جاء فيها من بيان للصّراعات الدّائرة بين ما ينسب للعادات وما ينسب للطبيعة، وقد كان لويس الرابع عشر رمز الملك الكبير الذي اتسمت سياسته بالحكمة على بعض هفواته، فقد استطاع أن يصل بفرنسا إلى مراتب محترمة بين الأمم، حتى صار لفرنسا مكانة عالية، وذلك بالإصلاح الزراعي، والصناعي، وخاصة بالتشجيع على الآداب والفنون، فأصبحت فرنسا متألقة بآدابها عالميا، وأصبحت تضاهي أعمالها أعمال بريكليس ومدسيس، وليس هذا هو مطمح فولتير بل كان يصبو إلى تطور كل مجتمعات أروبا، وإنجلترا أنموذجا إلى ذلك. يقول فيليب راينو:
“لهذا يجب الوقوف إلى جانب الملك ضد البرلمان والنبلاء، هذه الاهتمامات السياسية موجودة في أعماله الكبيرة التاريخية: “محاولة في الأخلاق” تعطي فلسفة تاريخية كونية وليس فقط أوروبية، مبنية على الصراع الدائم بين العادات والطبيعة، يضبط عصر لويس الرابع عشر صورة “الملك الكبير” بتمجيد أمير جريء وحكيم على الرغم من بعض الهفوات، فإنه عرف كيف يعمل من أجل قوة ومجد فرنسا. بخلق دولة محترمة، والإحاطة بالزراعة والصناعة، وخاصة بإعطاء الآداب والفنون إشراقة التي تجعل العصر الكبير في نفس مستوى بريكليس أو مدسيس. لكن الذي يدافع عنه فولتير ليس مجد فرنسا فحسب، بل إن الملكية المستنيرة يمكنها أن تطور مجتمعات أروبا باعتبار إنجلترا أنموذجا لذلك”.