free men فريق العمـــــل *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 1500
الموقع : center d enfer تاريخ التسجيل : 26/10/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 6
| | عندما يرثي نيتشه نفسه...قلم: هاشم صالح | |
هناك كتاب صغير لنيتشه نادراً أن يذكره أحد، على الرغم من أنه الوحيد الذي يتحدث فيه عن حياته الشخصية. وبالتالي فهو يشبه السيرة الذاتية. إنه كتاب رائع يتخذ العنوان التالي: “هذا هو الإنسان. كيف يمكن أن تصبح من أنت”. في هذا الكتاب ذي الأسلوب الشاعري الذي لا يضاهى، يلقي نيتشه نظرة إلى الوراء، على مساره السابق، لكي يقيّم أعماله ومنجزاته. وقد كتبه قبل أن يصاب بالجنون ببضعة أشهر فقط. ولم ينشر الا بعد موته بثمان سنوات: أي عام 1908.في الواقع إن علائم الجنون تتبدّى على الكتاب بين الحين والآخر، وبخاصة عندما يعظّم نيتشه من نفسه إلى أقصى الحدود، في حين أنه كان ينبغي أن يترك هذه المهمة للآخرين.. فهو يفاجئك بعبارات أو شطحات تدل على جنون العظمة، ما كانت معروفة لديه سابقاً، أو قل ما كانت معروفة بمثل هذا الشكل والحجم. يحصل ذلك كما لو أنه كان قد اقترب من منطقة الخطر الأعظم وأوشك على السقوط في فوهة الهاوية.عندما قرأت هذا الكتاب لأول مرة قبل بضعة سنوات، وكنت مستلقيا على السرير، كدت أقوم وأقعد من شدة الفرح والاستمتاع، أو من شدة الضحك والهيجان، أو من الاثنين معاً.. لقد هزَّني هزاً لأني لم أر في حياتي أسلوباً بمثل هذه الروعة والقوة. لست بحاجة لأن تلجأ إلى المتنبي أو بودلير، أو رامبو، لكي تشبع نفسك بالشُّحن الشعرية إذا كنت متعوداً عليها منذ الصغر..إذا كان يطربك الفن وينقصك سحر البيان أو“لذة النص” كما يقول رولان بارت فإني أنصحك وأنصح نفسي بقراءة كتاب نيتشه هذا. وأنا أضمن لك بأنك لن تكل ولن تمل مهما جالسته وعاشرته، بل وربما طلبت المزيد وأسفت عليه لأنه انتهى. وكل كتاب سوف ينتهي لا محالة بصفحة أخيرة. منذ بضعة أيام شعرت بالحاجة إلى “الإشباع الشعري” فعدت إلى الكتاب من جديد وأطربني كما أطربني منذ عشر سنوات أو يزيد. وقلت بيني وبين نفسي: يحيا الأسلوب! يحيا الفنان! يحيا فريديريك نيتشه! نعم إني أحب الكتَّاب الذين يعرفون كيف يكتبون ويحلّقون في الأعالي. ولكن كم هو عددهم أولئك الذين يرتفعون بك إلى قمة القمم؟ ألا يعد أشباه نيتشه في التاريخ على أصابع اليد الواحدة، أو ربما اليدين؟ هناك دوستيوفسكي بالطبع، وجان جاك روسو، وإن بشكل آخر... وبعض الآخرين.على أي حال إذا ما اقتصرنا على ذكر الفلاسفة، فإني لا أعرف فيلسوفاً واحداً يستطيع أن يضاهي نيتشه من حيث جمال الأسلوب. أقول ذلك وأنا اتحدث عن الترجمة الفرنسية، فما بالك بالنص الألماني ! هناك فلاسفة كبار ومحترمون جدا، ولكن أسلوبهم وعْر وجاف يكاد يقتلك قتلاً. أذكر من بينهم كانط في الماضي أو هابرماس في الحاضر على سبيل المثال لا الحصر.. إن نيتشه هو القطب المضاد لذلك تماماً. هل يمكن القول بأن نيتشه هو شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء؟.. بدون شك. كما قالوا ذلك عن المعري سابقا أو كما وصفوا التوحيدي بأنه أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء؟.أعجبني كتاب نيتشه إذن لأن فيه نغمة محبَّبة، نغمة شجية مليئة بالحزن والعظمة أحياناً، ثم بالسخرية والتهكم أحيانا أخرى.فعلى الرغم من انه مفكر تراجيدي إلا انه قادر على السخرية حتى من نفسه ومن البشرية بأسرها.. انه يصعد بك إلى الأعالي ثم يهبط بك فجأة إلى أسفل سافلين ويتلاعب بك كيفما شاء. وشعرت وكأنه يرثي نفسه منذ أول صفحة، شعرت وكأنه يستأذننا بالانصراف ويقول: وداعاً. وداعاً لقد تعبت وأديت مهمتي.. ولكن هل كان يعرف انه سيجن بعد بضعة أشهر أو حتى بضعة أسابيع؟ مهما يكن من أمر فإنه في الوقت ذاته يصبُّ علينا، أو قل على معاصريه، جام غضبه وتوبيخه إن لم يكن نفاد صبره لأنهم لم يعرفوه.فنيتشه لم يشتهر في حياته على عكس ما نظن، ولم يسمع به أحد تقريبا خلافا لدوستيوفسكي، أو لروسو، أو لغوته الخ... نيتشه لم يستمتع بشهرته على الإطلاق ولم ينل أي شعبية في حياته. كتاب الدرجة الثانية أو الثالثة كانوا معروفين ويحظون بالأبهة والعظمة وهو مغمور تماما. وهذا شيء لا يكاد يصدق الآن..أكبر كاتب في اللغة الألمانية عاش ومات دون أن يشعر به أحد تقريبا!هل هذا معقول؟ لنستمع إليه يقول منذ الصفحة الأولى:“بما أني نويت أن أوجه للبشرية خلال فترة قصيرة أكبر تحدٍ شهدته في تاريخها كله، فإنه ينبغي عليَّ أن أقدم نفسي، أن أقول من أنا. من أنا في نهاية المطاف؟ في الواقع إنه كان ينبغي على الناس أو يعرفوا من أنا لأني لست من أولئك الذين عاشوا أو ماتوا دون أن يتركوا شهادة أو أثراً على مرورهم فوق هذه الأرض. ولكن التفاوت الهائل بين عظمة مهمتي وصَغَار معاصريّ تجلى في الحقيقة التالية: وهي أن أحداً لم يسمع بي ولم يرني! أنا أعيش فقط على الرصيد الذي أوليه لنفسي، على إيماني بذاتي. وربما كان وجودي ذاته عبارة عن وهم؟ أنا شخص غير موجود على الإطلاق ! يكفي أن أتحدث مع أي”مثقف“ألماني يجيء إلى سويسرا حيث أقيم لكي أتأكد من أني غير موجود أبداً. لا أحد يسمع بي. لا أحد يعرف من هو فريديريك نيتشه!... ولذلك فإن من واجبي أن أقول لكم محذرا: اسمعوا أيها الناس: فأنا كذا وكذا، ولست كذا وكذا. إياكم ثم إياكم أن تغلطوا فيّ أو تخلطوا بيني وبين أي شخص آخر!”عندما كتب نيتشه هذا الكلام، هل كان يعرف مسبقاً أنهم سيفهمونه خطأ؟ هل كان يعرف أنهم سوف يفسرون كتاباته في اتجاه غير الذي يريد؟ هل تنبأ بالأحداث التالية قبل حصولها؟ في الواقع إن هذا ما حصل لاحقاً مع الحركات النازية والفاشية. ومعروفة قصة هتلر حيث حاول بكل الوسائل السطو على شهرته بعد أن مات. ومعلوم أنه زار بيت الفيلسوف وانحنى أمام صورته أو تمثاله وسلم على أخته اليزابيت التي كانت قد بلغت من العمر عتيا والتي كانت نازية بالفعل. وقد أهدته عصا أخيها التي كان يستخدمها في نزهاته الطويلة في أحضان الطبيعة. ومعروف أنه كان مشاء كبيرا في الوديان والجبال. وكان ذلك أكبر خيانة لهذا المفكر العملاق الذي قد نختلف معه في أشياء كثيرة، ولكن لا يمكن أن نشك لحظة واحدة في حبه للحقيقة. صحيح أن أسلوبه ناري، بركاني، يشبه انفجار المكبوت الصادر من أعماق الذات. وربما كان هتلر في خطاباته النارية يجسد هذا التوتر النيتشوي. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.وصحيح أن ذلك قد أدى إلى سوء تفاهمات عديدة وساعد على فهم فكره في الاتجاه الخطأ. ولكن نيتشه ذهب إلى أساس الأشياء في مساءلة الحقيقة، في الدوران حولها والبحث عنها، وهذا شيء لا نتوقع أن يفهمه شخص كهتلر أو سواه من الهمجيين.. يضاف إلى ذلك أن نيتشه لم يكن عنصريا جرمانيا على الإطلاق. بل طالما هاجم الألمان وندد بهم ودعا إلى التهجين بين الأعراق والشعوب من أجل التوصل إلى عنصر أفضل: إلى السوبرمان. كما وركز على مفهوم إرادة القوة والهيمنة واعتبره محرك التاريخ السياسي للأمم والشعوب بل وحتى للأفراد. هذا في حين أن كارل ماركس قال بان صراع الطبقات هو محرك التاريخ، وفرويد قال بأن الليبيدو أو الغريزة الجنسية هي الدافع الأساسي والمحرك..وربما كان أعمق مفكر شهده تاريخ الفلسفة فيما يخص طرح الأسئلة الكبرى على الوجود البشري ومعنى الحياة والموت والصيرورة والغائية الأخيرة، الخ... ولكن للأسف الشديد فان بعض صياغاته الحامية ضد الضعفاء أو الفقراء أو المرضى أو حتى ضد الديمقراطية وحقوق الإنسان وجوهر الحداثة التنويرية قد ساهمت في تسهيل الاستيلاء على أفكاره من قبل هتلر والنازيين أو موسوليني والفاشيين. وبالتالي فليس هدفي هنا أن أدافع عن نيتشه بأي شكل..إني أعرف أن بعض أفكاره غامضة أو ملتبسة أو حتى مشبوهة وبخاصة عندما يهاجم سقراط أو المسيح ذاته بكل عنف، وكذلك كانط وهيغل وكل التراث العقلاني للفلسفة الأوروبية. ولهذا السبب صنفوه في خانة الفلاسفة اللاعقلانيين بل وأول مفكري فلاسفة ما بعد الحداثة التي أنجبت لا حقا هيدغر وفوكو وديلوز ودريدا وجان فرانسوا ليوتار الخ... وشكل بذلك أول انقلاب على الحداثة الليبرالية الديمقراطية التي طالما تعب جون لوك وكانط وهيغل وعشرات غيرهم في تأسيسها والتي تشكل مفخرة الغرب بالقياس إلى كل الشعوب.وإذا ما أجبرت على الاختيار بينه وبين كانط أو جان جاك روسو فاني سأختار كانط وروسو بدون أدنى تردد. فنيتشه يخيفني بل ويرعبني بتطرفه واحتقاره للشعب أو “للقطيع” وتمجيده للارستقراطية والنزعة النخبوية. ولكني لا أستطيع أن أقاوم جاذبية أسلوبه وتفكيكه لكل الانغلاقات العقائدية. هنا لا يجاريه أحد.. لنستمع إليه عندما يحلِّق عالياً:“من يعرف كيف يتنفس هواء كتاباتي يعرف أنه هواء الأعالي، هواء لاذع يعضّ.. وينبغي على المرء أن يكون مهيأً له، وإلا فإن الخطر عظيم في أن يصاب بالبرد... الصقيع اقترب، والوحدة مرعبة: ولكن كم تبدو الأشياء فيهما رائعة وهي تسبح في بحر من الأنوار!... وكم يستطيع المرء أن يتنفس فيهما بحرية! وكم من الأشياء تشعر وكأنها تحتك!”.ثم يصل إلى الفلسفة وكيف يفهمها ويمارسها ويقول:“الفلسفة كما كنت قد فهمتها دائماً وعشتها تعني أن تعيش في الصقيع فوق القمم... إنها تعني أن تبحث في الوجود عن كل ما يجعلك تغترب عن نفسك وتطرح أسئلة على ذاتك ويقينياتك الحميمة. إنها تعني البحث عن كل ما حُذِف من قبل الأخلاق التقليدية. لقد اكتسبت تجربة طويلة من خلال اقتحامي للمناطق الممنوعة المحرَّمة، من خلال توغُّلي في الأعماق والأقاصي، هناك حيث لا يذهب أحد ولا يغامر مخلوق قط.. وعندئذ اكتشفت الأسباب التي دفعت بالناس، وعلى مدار العصور، إلى تقديس هذا أو ذاك، وإلى رفعه إلى مرتبة المثال الأخلاقي الأعلى. وعندئذ أيضاً تبدت لي الحياة المخبوءة للفلاسفة على حقيقتها، وفهمت نفسياتهم وشخصياتهم. واكتشفت فيما بعد أن المعيار الحقيقي للقيم هو التالي: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي يستطيع فيلسوفٌ ما أن يتحملها، أن يخاطر بها أو من أجلها؟ هذا هو السؤال الأساسي، وكل ما عدا ذلك تفاصيل ثانوية..”.ما الذي يقصده نيتشه بهذا الكلام؟ وكيف يمكن أن نفهم هذا التعريف الغريب والمفاجئ للفلسفة؟في الواقع إن نيتشه سمح لنفسه بأن يشك في كل شيء، وأن يدفع ثمن هذه الشكوك حتى انهار عقله أخيراً وجنّ. فقد شك في جميع العقائد التي توالت على البشرية منذ أقدم العصور وحتى وقته. وكشف عن طابعها النسبي أو التاريخي في حين أنها كانت تقدم نفسها كحقائق مطلقة، مقدسة، متعالية. هذا ما فعله مع الافلاطونية أولا ثم مع المسيحية ثانيا، هذه المسيحية التي تربّى عليها منذ نعومة أظفاره لأن أباه كان كاهناً بروتستانتياً وكذلك جده وربما جد جده. ومعلوم أنه كان يدعوها بأفلاطونية الشعب، أي أفلاطونية سطحية مبتذلة! ومعلوم أيضا أنه أعلن عن موت الإله المسيحي القديم في نص مشهور لا أعرف أجمل منه شكلا ولا مضمونا. انه نص مرعب بالمعنى الحرفي للكلمة ولا أعرف فيما إذا كان قد ترجم إلى العربية. والمقصود بذلك أن التدين المسيحي التقليدي قد انتهى في أوروبا بعد انتصار العلم والصناعة والفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر: أي في عصر نيتشه بالذات.وبالتالي فإن نيتشه انخرط، بكل شجاعة وجرأة، في أكبر مغامرة فكرية: تفكيك الذات أو العقائد الأكثر حميمية وقدسية، أي العقائد التي كانت قد شكّلت الذات وهي لا تزال غضة، طرية، بعمر الورد.. هنا تكمن عظمة نيتشه: فقد خاض معركة الصراحة والحقيقة مع ذاته حتى آخر لحظة، حتى آخر قطرة، حتى آخر نقطة.. وهذا هو معنى كلامه: كم هو مقدار جرعة الحقيقة التي تستطيع أن تتحمّلها، أو تخاطر بنفسك من أجلها؟ لم يتجرأ مفكر آخر على تعرية العقائد السابقة او تفكيكها ونزع هالة القدسية عنها مثلما فعل نيتشه. لقد كان يتفلسف “والمطرقة في يده” كما يقول من أجل تحطيم الأوهام والأصنام المعبودة من قبل البشر أو التي نصبها البشر كأصنام ثم راحوا يعبدونها وكأنها تتعالى عليهم ، كأنها ليست من صنعهم. أنظر بهذا الصدد كتابه: غسق الأصنام أو أفول الأصنام.ربما كان نيتشه أكبر مفكر نقدي أو تفكيكي في تاريخ البشرية. إنه يمارس الفلسفة في أرض محروقة، فلا يبقي ولا يذر، لا أمامه ولا خلفه... إنه أكبر انقلاب في تاريخ الفلسفة، انقلاب يمحو كل ما سبق ويكتسح في طريقه كل شيء. من هنا لاعقلانيته الهائجة أو راديكاليته الخطرة والمدمرة. ولكن من هنا أيضا الطابع التحريري الهائل لفلسفته أو لمنهجيته الجنيالوجية التي تذهب إلى أعماق الأشياء ولا تتوقف في منتصف الطريق كما يفعل بعض المفكرين الجبناء.لكي أوضح كلامه بشكل أفضل فسوف أقول ما يلي: يسهل عليك أن تنتقد العقائد الدينية للآخرين، بل وتستهزئ بها لأنك لم تتربّ عليها منذ الصغر، لأنك لم تتشرّبها مع حليب الطفولة، لأنها ليست عقيدة آبائك وأجدادك.. ولكن حاول أن تسمع شخصاً آخر ينتقد عقيدتك الخاصة التي تربيت عليها، أو أن يكشف عن جذورها التاريخية فينزلها من سماء التعالي والقداسة إلى أرضية الواقع المعاش، وعندئذ سوف تعرف معنى الثمن المدفوع من أجل الحقيقة! عندئذ سوف تصطدم بمقاومة نفسية داخلية عنيفة وخطرة، مقاومة صادرة من أعماقك الدفينة. عندئذ سوف تواجه عرقلة داخلية تمنعك من التوصل إلى الحقيقة أو قبول الحقيقة فيما يخص دينك أو عقيدتك. عندئذ سوف تصطدم بالحقيقة المرة: وهي أن قبول الحقيقة أصعب أحيانا من تجرع السم الزعاف ! فكل ما كنا نتوهم أنه مثالي علوي في عقيدتنا اكتشفنا انه أرضي، تاريخي أو بشري عادي. من هنا عنوان كتاب نيتشه المعروف: بشري، بشري أكثر من اللزوم، بل وعادي مبتذل، وليس فيه أي شيء سماوي. بالطبع فان هذا الكلام يصعقنا في الصميم ، يصدمنا، يرعبنا. ولهذا السبب يقول نيتشه بأن البحث عن الحقيقة هو مسألة جرأة أو عدم جرأة بقدر ما هو مسألة معرفة أو ربما أكثر. انه مسألة جرأة اقتحامية: بمعنى أن المفكرين الكبار هم وحدهم أولئك الذين يتجرأون على الاقتحام في اللحظة المناسبة ويكتشفون الحقيقة الصعبة في حين ينكص الآخرون على أعقابهم صاغرين.. ولهذا السبب كان فرويد يقول بما معناه: أنا لست عالما ولا مثقفا ولا مفكرا، أنا فاتح!.. ولذلك فإن الحقائق الضخمة لا تعطي نفسها إلا للمفكرين الكبار من أمثال: ديكارت، سبينوزا، روسو، كانط، هيغل، أو نيتشه نفسه، الخ... ولذلك يقولون لك: ينبغي ألا تعطي الحقيقة للعامة (أو الشعب) إلا على جرعات متتالية لكي تستطيع تحملها، تماما كالدواء الذي إذا أعطيته دفعة واحدة قد يقتل المريض بدلا من أن يشفيه.فالحقيقة قد تزلزل العامة أو تخلخل عقولها فتقوم برد فعل عنيف عليك وتقتلك. نضرب على ذلك مثلا الكشف عن تاريخية العقائد الدينية أو النصوص الأكثر قداسة سواء في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام. وقد سالت الدماء في أوروبا أنهارا بسبب ذلك في القرون الماضية واضطر الكثير من المفكرين إلى الهرب أو الاختفاء أو نشر كتبهم بدون توقيع لان الحقائق التي اكتشفوها كانت مرعبة أو مضادة لكل ما هو سائد..ومنهم من قتل كجيوردانو برينو الذي أنكر عذرية مريم من جملة أشياء أخرى.. ونضرب على ذلك مثلاً أيضا الأطروحة التي تقول بان الأرض هي مركز الكون وأنها ثابتة لا تتحرك و أن الشمس هي التي تدور حولها وليس العكس. فقد كانت تشكل حقيقة مطلقة لا يرقى اليها الشك. وقد عاشت عليها البشرية طيلة ألفي سنة (أي حتى مجيء كوبرنيكوس وغاليليو). فنحن الذين نعيش على الأرض نشعر فعلا بأنها ثابتة لا تتحرك ونرى فعلا أن الشمس هي التي تدور حولها. ولكننا لا نعرف بأن الحواس تخدعنا وأن المظاهر تخدعنا وأن أول شيء يفعله العلم الفيزيائي هو تحييد الحواس من أجل اكتشاف الحقيقة الحقيقية.وكانت هذه المقولة، أي مقولة مركزية الأرض، مدعومة من قبل هيبة أرسطو وبطليموس والعقيدة اللاهوتية المسيحية في آن معا. وبالتالي كانت تمثل حقيقة مقدسة بالمعنى الحرفي للكلمة. ومن يشك فيها كان يعتبر مجنوناً أو كافراً تنبغي معاقبته أشد العقاب. ثم أدى تقدم العلم إلى الإطاحة بهذه “الحقيقة” الكبرى بل والمقدسة بالنسبة لملايين البشر في عهد غاليليو وحتى ما بعده بزمن طويل. وانكشفت عن كذبة كبرى. ولزم على الناس أن يتقبلوا الحقيقة الجديدة على جرعات متتالية طيلة مائتي سنة حتى أصبحت حقيقة راسخة وحلت محل “الحقيقة” القديمة التي هي خاطئة في الواقع ولكنها فرضت نفسها كحقيقة مطلقة طيلة قرون وقرون.نضرب على ذلك مثالاً آخر: اكتشاف بشرية يسوع أي طابعه الأرضي المحض من قبل النقد التاريخي الحديث ثم التفريق بين يسوع الأسطوري ويسوع التاريخي، أو اكتشاف أن التوراة لم تكتب في عهد موسى وإنما بعده بزمن طويل. ثم هناك اكتشافات أخرى لا تقل أهمية كعلاقة طوفان نوح أو نومة أهل الكهف بأسطورة غلغامش أو عموما تأثر الأديان السماوية بالأديان الأرضية وعقائد الشرق الأوسط القديمة الخ.. فهذه الاكتشافات أنزلت الأديان السماوية من عليائها إلى أرضية التاريخ البشري وزلزلت الوعي المسيحي واليهودي عندما حصلت في القرن التاسع عشر.ولذلك صرخ نيتشه قائلاً عبارته الهائلة التي لا أجد أقوى منها في تاريخ الفكر: آه أيتها الحقيقة يا أكبر كذبة في التاريخ!! أقول ذلك وأنا أعتذر للمؤمنين المسيحيين الذين أحترم عقيدتهم وإيمانهم كل الاحترام وأعتبر أن المسيح هو من العظمة إلى درجة أن الألوهية لو أعطيت لبشر لكانت له كما قال جان جاك روسو في نص رائع خالد. كما وأعتذر لبقية المتدينين لأنه لا يوجد دين واحد إلا ويحتوي على بعض العقائد التي تخرج عن سيطرة العقل تماما وتفرض نفسها عن طريق التلقين والتسليم الإيماني الكامل. أقول ذلك وأنا أفكر بمقولة القرآن غير المخلوق والتي فرضت نفسها كحقيقة مطلقة في الإسلام بعد هزيمة المعتزلة قبل ألف سنة وسحقهم سحقا من قبل الحنابلة. كما وأفكر بتلك القصة الرائعة، قصة الإسراء والمعراج، التي سحرتنا ونحن أطفال عندما كان قلبنا يدق بقوة ونحن نرى النبي وهو يصعد درجة، درجة، حتى وصل إلى السماء السابعة ودخل على الحضرة الإلهية لأول مرة ورأى الله بأم عينيه، الله على العرش استوى..لنضرب على ذلك مثلاً آخر من حياتنا الراهنة. صحيح انه أقل قيمة وخطورة مما سبق ولكن يمكن ذكره. ألم تعش أجيال عديدة من البشر على أساس أن الشيوعية هي حقيقة مطلقة؟ ألم يكن المتحزبون العرب وغير العرب يعتقدون بأنها سوف تعم الأرض بعد إسقاط الليبرالية أو الرأسمالية؟ ألم يقولوا لنا بأن الماركسية-اللينينية هي عقيدة علمية أو ترتكز على قوانين موضوعية لا تقل حتمية عن قوانين الفيزياء والكيمياء والرياضيات؟ ألم يكسروا رؤوسنا بالمادية الجدلية والمادية التاريخية؟ ثم ماذا حصل بعد ذلك؟ ماذا حصل لعلم جدانوف وأساطير ليسنكو عن علم الوراثة؟ لقد انهارت هذه “الحقيقة” الشيوعية أمام أعيننا كقصر من كرتون. وماذا حصل للناس المؤمنين بها أو الذين عاشوا عليها طيلة عمرهم؟ منهم من جُن، ومنهم من انتحر، ومنهم من استطاع أن يتأقلم ويستمر ولكن بعد بذل جهود مضنية.. ذلك أنه ليس من السهل أن تنهار حقيقتك: أقصد الحقيقة التي آمنت بها وأعطيتها زهرة شبابك ونضالك طيلة ثلاثين أو أربعين سنة... ولذا يمكن القول بأن فائدة نيتشه وغيره من كبار المفكرين النقديين تكمن فيما يلي: إيقاظنا من سباتنا الدوغمائي العميق، تحذيرنا من تبنّي الأفكار أو العقائد بدون تفحص مسبق، أو بدون وضعها على محك التساؤل والشك، إفهامنا بأن ما هو حقيقة الآن قد ينكشف خطأ غداً...ولذلك يفرق علماء الإبستمولوجيا حاليا بين “الحقيقة” السوسيولوجية أو العددية، أي التي يؤمن بها اكبر عدد ممكن من البشر في لحظة ما من لحظات التاريخ، وبين الحقيقة الحقيقية أي العلمية المبرهن عليها من قبل التجربة العملية. والأولى موجودة في كل المجتمعات البشرية ولها وظيفتها وأكاد أقول فائدتها لان البشر لا يعيشون فقط على الحقيقة وإنما أيضا على الأوهام والخيالات والأساطير. وليس بالعقل وحده يحيا الإنسان أيها السادة!..هذا هو المعنى العميق لكلمة نيتشه.وبالتالي، لا توجد حقيقة مطلقة في مجال العلوم الإنسانية وإنما حقائق قابلة للتصحيح والتعديل والتدقيق. بل ووصل الأمر بغاستون باشلار، أحد كبار علما الإبستولوجيا المعاصرين، إلى حد القول: بان الحقيقة هي خطأ مصحح باستمرار!.. ولكن ماذا نفعل إذا كان الإنسان ميالاً إلى اليقين المطلق ولا يشبعه إلا اليقين؟ ألم يتحدث الغزالي في عبارة جميلة جدا عن “برد اليقين”: أي عن الحلاوة أو الطمأنينة التي يحدثها اليقين في الروح أو في القلب؟ في الواقع إن الإنسان شخص ضعيف لا يستطيع أن يعيش في مناخ الشك والارتياب أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة. انه عندئذ يجن!...الإنسان حيوان يقيني، الإنسان مسكين في هذا العالم. انه وحيد وبحاجة إلى اعتقاد معين أو إيمان يستمسك به ويعصمه من الضياع والتيه والرعب أمام الموت والفناء الأبدي..وبالتالي فينبغي أن نفهم حاجته إلى الاطمئنان والثقة والاعتقاد الراسخ بشرط ألا يتحول ذلك إلى نوع من الدوغمائية المتحجرة أو التعصب المنغلق والأعمى. ولكن للأسف الشديد هذا ما يحصل غالبا. والإرهاب “المقدس” ينتج عن ذلك بالضبط.. أنظر حالة الأصوليين من كل الأنواع والأصناف وفي كل الأديان. ولهذا السبب قال نيتشه عبارة أخرى بليغة ورائعة: ليس الشك، وإنما اليقين، هو الذي يقتل. ..فالشكاك أو الإنسان المرن عقليا لا يقتلك إذا اختلفت معه لسبب بسيط هو انه قد يعتقد انك على حق أيضا أو معك بعض الحق. أما صاحب اليقين المطلق فيقتلك بكل بساطة إذا لم تعتنق دينه أو يقينه لأنك نجس، أو كافر، أو مجرم بالنسبة له. فمن ينكر الحق إذا ما استبان له؟ ويحه، ألا يراه؟ ولماذا لا يعتنق الدين الحق فورا؟ أنظر حوار الطرشان الدائر بين الأصوليين اليهود والمسيحيين والمسلمين. فكل واحد يعتقد أن دينه هو الحق المطلق وان الدينين الآخرين على خطأ. وبالتالي فعن أي شيء يتحاورون؟ بل أنظر الصراع الدائر داخل الدين الواحد بين السنة والشيعة مثلا أو الكاثوليك والبروتستانت فكل واحد يزعم بأن مذهبه هو الإسلام الصحيح أو المسيحية الصحيحة وأن الآخر هرطيق زنديق... نحن وحدنا في الجنة وهم كلهم في النار... نحن الفرقة الناجية المرضية وحدها عند الله تعالى..كل هذه العقائد يفككها نيتشة بمنهجيته الجنيالوجية الفلولوجية التاريخية التي تذهب إلى أعماق الأشياء وجذورها. من هنا راديكاليته التي لا تضاهى. من هنا مساءلته لمفهوم الحقيقة وضعه على محك النقد الفلسفي الصارم الذي لا يرحم. ولم يكتف بتفكيك العقائد الدينية من خلال هجومه العنيف على المسيحية وإنما فكك أيضا العقائد الفلسفية المتوارثة منذ سقراط وتلميذه أفلاطون وحتى يومنا هذا أو قل حتى وقته هو. ألم يقل عبارته الشهيرة: ها قد مر ألفان من السنوات دون إن يظهر إله واحد جديد! بل ولم يكتف بتفكيك الفلسفات القديمة وإنما فكك أيضا فلسفة الحداثة التنويرية ذاتها بعد أن آمن بها لفترة حيث أهدى أحد كتبه لفولتير.. فهل كان يعتبر نفسه بداية مطلقة في تاريخ الفلسفة؟ هل كان يعتبر نفسه ظهورا جديدا بالقياس إلى سقراط والمسيح وكانط وهيغل..؟ بدون شك. ولكنه كان يرفض أن يصبح دينا جديدا أو أن يتحول إلى صنم معبود ينضاف إلى كل الأصنام السابقة. بل وكان يحذر تلامذته من إتباعه بشكل أعمى أو تقديسه. وعندئذ يرتكبون نفس الخطأ الذي ارتكبته الأجيال السابقة. وهذا ما كان يخشاه أشد الخشية.لنستمع إذن إلى نيتشه شاعراً ومفكراً. لنستمع إليه عندما ينسى كل شيء ويحلق عاليا:“ثمار التين تتساقط من الأشجار. إنها طيبة ولذيذة. ولكن بسقوطها تتمزق بشرتها الناعمة. بالنسبة لثمار التين الناضجة، أنا ريح الشمال...وهكذا، كثمار التين، تتساقط هذه الدروس على أقدامكم يا أصدقائي... لكم أن تتمتعوا بمذاقها أو طعمها الشهي! وأما كل ما حولنا فليس إلا الخريف، السماء الصاحية، ما بعد الظهيرة. السكينة..وحيداً سوف أذهب يا أتباعي! أنتم أيضاً اذهبوا وحيدين! أريد ذلك. ابتعدوا عني واحذروا من زرادشت! فربما كان قد خدعكم...ذلك أن المثقف الحقيقي لا يكتفي فقط بمحبة أعدائه، وإنما ينبغي أيضاً أن يعرف كيف يكره أصدقاءه.إنك لا تكافئ أستاذك إذا بقيت حياتك كلها تلميذاً. ولماذا لا ترغبون بنزع التاج عن رأسي؟ حطموني، حطموني..أنتم تبجّلونني: ولكن ماذا سيحصل إذا ما مال تبجيلكم نحو شخص آخر، أو إذا ما انهار؟ انتبهوا جيداً! يمكن لتمثال ما أن يسقط عليكم!أنتم تقولون بأنكم تؤمنون بزرادشت؟ ولكن ما معنى زرادشت؟ وتقولون بأنكم أتباعي، ولكن ما معنى كل الأتباع والأنصار؟!أنتم لم تبحثوا عن أنفسكم بعد: ولهذا السبب وجدتموني. وهذا ما يفعله كل الأتباع. ولهذا السبب فإن التبعية في الفكر لا قيمة لها.والآن آمركم بأن تضيّعوني وأن تجدوا أنفسكم. ولن أعود إليكم إلا بعد أن تكونوا جميعاً قد أنكرتموني...”.هل يمكن أن نجد دعوة إلى التفكير الحر والنقدي أكثر صراحة من هذه الدعوة؟ إنها تقدم لنا درساً بليغاً في عدم الاستسلام للتقليد والسهولة، أو للدوغمائية العقائدية، أو للتتلمذ الأعمى على الشيوخ والأساتذة الكبار. فالفكر مفتوح على آفاق جديدة باستمرار. الفكر لا يتوقف. وكلما اكتشفت منه منطقة جديدة استبانت لنا مناطق أخرى لا تخطر على البال. ولا يوجد مفكر واحد قادر، مهما علا شأنه، على اختصار الفكر أو استنفاده أو إعطاء الحقيقة النهائية والأخيرة. ولو وجد لكان أرسطو وحده قد كفانا، أو ديكارت، أو كانط، أو هيغل، أو حتى نيتشه. ولكن نيتشه نفسه ينصحنا بأن نتجاوزه وألا نسقط في تبجيله وتحويله إلى صنم معبود!...فهو قد أمضى حياته في تحطيم الأصنام: قديمها والحديث | |
|