أكبر دليل على أننا مهمون هو أننا أصبحنا مركز اهتمام العالم حتى ولو بشكل سلبي أحيانا. فلا أحد يهتم بالأمم الثانوية أو الهامشية مهما فعلت أو لم تفعل. لا أحد يشعر بوجودها. أما نحن، كعرب وكمسلمين، فإنه لا تكاد تخلو مجلة أو ندوة أو كتاب من التحدث عنا ومحاولة فهم وجودنا وتراثنا. كل النظريات الحديثة لفلسفة التاريخ دارت حولنا من صدام الحضارات، إلى حوار الحضارات، إلى الاستثناء الإسلامي على الديمقراطية، أو الاستعصاء العربي، الخ.. كل المناقشات الكبرى في عصر العولمة تدور حول الإسلام بشكل كلي أو جزئي وليس حول البوذية أو الهندوسية أو الصينية الكونفشيوسية على الرغم من أنها أديان تعتنقها مئات الملايين من البشر. سوف أورد كمثال على ذلك تلك المناظرة الفكرية التي جرت على أعلى مستوى بين لوك فيري من جهة، وريمي براغ من جهة أخرى. وهما من كبار مثقفي فرنسا حاليا. الأول فيلسوف تباع كتبه بمئات الألوف وتترجم إلى كافة لغات العالم. يضاف إلى ذلك أنه كان وزيرا للتربية والتعليم في عهد شيراك. وأما الثاني فهو أستاذ الفلسفة العربية واليهودية في كل من جامعتي السوربون وميونيخ.
كيف ابتدأت المناظرة القاسية إن لم نقل المعركة؟ من الذي فتح النار على الثاني أولا؟ في الواقع أن الأمور جرت على النحو التالي:
في البداية أجرى أحد الصحافيين مقابلة مع الوزير لوك فيري حول الرأي الشائع في الغرب بأن المسيحية متوافقة مع العقل والفلسفة على عكس الإسلام المضاد لهما كما يزعمون. وعلى عكس ما كنت أظن وهذا ما أثلج صدري في الواقع فقد رد بالنفي تماما. قال الفيلسوف الشهير في جوابه: هذا الكلام خاطئ من أساسه لأن فيلسوف العرب ابن رشد في كتابه «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» يشيد بالفلسفة. وهو لم يكن فيلسوفا فقط وإنما قاضي القضاة في قرطبة، أي رجل دين كبير. فعندما سأله أحدهم: إلى أي مدى يمكن للمؤمن، أي للمسلم هنا، أن يستخدم العقل والفلسفة أجاب: هناك ثلاثة احتمالات؛ الأول هو أن الفلسفة ممنوعة، والثاني هو أن الفلسفة مسموح بها، والثالث هو أن الفلسفة واجبة على المسلم. وأنا، يضيف ابن رشد قائلا، أتبنى الجواب الثالث. لماذا؟ لأنه لا يوجد تناقض بين حقائق الدين وحقائق العقل والفلسفة. ويرى لوك فيري أن هذا الجواب الرائع لابن رشد يدحض كليا مزعم أولئك الذين يقولون بأن الإسلام معاد في جوهره للعقل والتطور. ثم يضيف بأن القديس توما الاكويني زعيم الفكر المسيحي الأوروبي تبنى نفس موقف ابن رشد وتأثر به. والواقع أنه كان تلميذا لابن رشد وأرسطو في آن معا. وبالتالي هناك حقائق الإيمان وهناك حقائق العقل ولا تعارض بينهما إذا ما فهمنا الدين بشكل صحيح على طريقة ابن رشد لا بشكل خاطئ على طريقة المتطرفين الحاليين. وهذه الرسالة الجوهرية أتتنا من مسلم أندلسي، مسلم مغربي. لقد أتتنا من جهة التراث العربي الرائع. وهذا يعني أن التنوير وجد عند العرب المسلمين قبل أن يظهر في أوروبا بعدة قرون.
هذا هو جواب لوك فيري، فماذا كان رد ريمي براغ عليه. أولا لتوضيح الإشكالية ينبغي العلم بأن لوك فيري علماني تماما في حين أن ريمي براغ ذو نزعة مسيحية واضحة وأعماقه لاهوتية كاثوليكية. وهذا أمر قد يبدو مستغربا من قبل أستاذ أكاديمي يدرس في كبريات الجامعات الأوروبية. يقول ريمي براغ بنوع من العنجهية: إن السيد فيري ارتكب خطأين في كلامه؛ الأول هو أنه اعتمد على نص واحد لابن رشد. وهو لا يشكل أكثر من اثنين في المائة مما كتبه. ثانيا أن السيد فيري لم يفهم جيدا نص ابن رشد. فالفيلسوف العربي قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: الإنسان العادي أو ابن الشارع إذا جاز التعبير وهو يقع في أسفل القائمة. ثانيا المتكلمون وهم في الوسط. ثالثا: الفلاسفة وهم في أعلى القائمة بطبيعة الحال. وبالتالي فالفلسفة واجبة على الفلاسفة فقط وممنوعة على الاثنين الآخرين. وهذا ما نسي لوك فيري توضيحه. يضاف إلى ذلك أن السيد فيري اعتبر توما الأكويني تلميذا لابن رشد. وهذا خطأ فادح في رأي ريمي براغ. لماذا؟ لأن ابن رشد استدعى الفلسفة أمام محكمة الشريعة الإسلامية، في حين أن توما الأكويني فعل العكس. فقد استدعى اللاهوت المسيحي أمام محكمة العقل والفلسفة.
ثم ما هذا الكلام الفارغ؟ السيد فيري يريد إقناعنا بأن تقدير العقل جاءنا من جهة ابن رشد والعرب وأنه لولاهم لما أصبحنا عقلانيين ولما حققنا نهضتنا الكبرى. وهذا غير صحيح. فالقديس أنسيليم السابق على ابن رشد زمنيا بلورها قبله. ثم يصرخ ريمي براغ محتدا: يا أخي هناك بعض المثقفين في الساحة الفرنسية ممن يريدون عزو كل فضل إلى العرب خوفا من أن ينعتوا بالعنصرية الثقافية! إنهم يريدون أن ينفضوا عن كاهلهم شبح الاستعمار ومسؤولية الاستعمار بأي شكل فيحابون العرب على حساب الحقيقة. في السابق كانوا يقولون لنا بأن العرب لم يخترعوا شيئا وهذا غير صحيح. والآن يريدون إقناعنا بالعكس: أي إن العرب اخترعوا كل شيء! وهذا غير صحيح أيضا. لقد انتقلنا من النقيض إلى النقيض أو من تطرف إلى تطرف. وأخيرا ينبغي العلم بأن ابن رشد ينهي كتابه بدعوة الخليفة إلى وضع الفلاسفة في قمة السلطة واستبعاد الباقين من رجال الدين، وهذا تعصب فلسفي ضد رجال الدين!
قد تقولون: وما علاقة كل ذلك بما يحصل الآن؟ وأجيب بسرعة: لولا هزيمة ابن رشد في أرضه الخاصة بالذات وانتصاره على الضفة الأخرى من المتوسط لما كانت نهضتهم وانحطاطنا. من المعلوم أن النهضة الأوروبية ظلت صاعدة بشكل صاروخي منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. أما في عالمنا العربي والإسلامي فقد حصل العكس تماما: رحنا نغوص رويدا رويدا في مستنقع الجمود والتكرار والاجترار وتكفير الفلسفة والفلاسفة. وما اكتساح حركات الإسلام السياسي القروسطية للساحة العربية والإيرانية بل وحتى التركية إلا نتيجة مباشرة لهزيمة ابن رشد وابن سينا والفارابي والمعري قبل أكثر من 800 سنة. والمأساة التي تدور رحاها في مصر الآن لا يمكن فهمها جيدا إلا إذا موضعناها داخل هذه الشريحة الزمنية الطويلة جدا. نحن نحارب ألف سنة من الانحطاط والعطالة الذاتية لا عشرين ولا خمسين ولا مائة سنة. من هنا صعوبة المواجهة وتعقيدها وهولها في مصر وغير مصر. ولكن متى يفهم قادة الإسلام السياسي الحقيقة البسيطة التالية: وهي أنه لا يمكن في عصر العولمة الكونية أن يحكموا بلدا حضاريا كمصر بعقلية القرون الوسطى وقيودها المرهقة التي عفّى عليها الزمن. لو أنهم فتحوا كتابا واحدا في الفلسفة أو الفكر الحديث هل كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟ أقول ذلك وأنا أتفجع حقيقة على الضحايا الذين سقطوا. بل وبكيت عندما رأيت صور بعض الصبايا الجميلات اللواتي ذهبن في عمر الزهور. ولكن الاستلاب الفكري الذي يتحكم بعقلية «الإخوان» يمنعهم من رؤية الأمور على حقيقتها فيعرضون أنفسهم والبلاد كلها للخطر الشديد. إنها عقلية الانتحار الجماعي: أي عليّ وعلى أعدائي يا رب! والواقع أنه من شدة انغماسهم في غياهب الماضي فإنهم يناطحون العصر كدون كيشوت متوهمين بإمكانية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء!