نبيل فازيو، دولة الفقهاء. بحث في الفكر السياسي الإسلامي، أطروحة مرقونة، دكتوراه في الفلسفة، بإشراف عبد الإله بلقزيز، كلية الآداب الآداب والعلوم الإنسانية الدار البيضاء- بنمسيك، جامعة الحسن الثاني، 2014.
يتناول هذا البحث مسألة رئيسةً في الفكر السياسي الإسلامي؛ تصور خطاب السياسة الشرعية للدولة ولعملية توزيع السلطة على مؤسساتها، بما يقتضيه ذلك من استشكال لكثير من مفاهيم الفكر السياسي الإسلامي وقضاياه الكبرى، ويدافع عن أطروحة بمقتضاها تكون دراسة التراث السياسي الإسلامي غير ذات جدوى إن هي أعرضت عن تصور فقهاء السياسة الشرعية للدولة والمجال السياسي. كثيرةٌ هي الأسباب التي يمكن أن يبرر بها المرء اتخاذه ذلك الخطاب موضوعاً لبحثه؛ مركزيتُه ضمن منظومة الخطابات الناظمة لمجال الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي أولاً؛ قدرتُه على احتكار سؤال المشروعية الدينية والسياسية إنْ هو قورن بغيره من ضروب القول المنافسة له ثانياً؛ والأهم من ذلك كله، تمكن فقهاء الأحكام السلطانية والسياسة الشرعية من بلورة فهمٍ معقولٍ للدولة من حيث هي جهاز من المؤسسات، وكذا لعملية توزيع السلطة داخله انطلاقا من تصورهم لمفهوم المشروعية الدينية الذي أتتْ أحكامهم السلطانية تعبر عنه. يمكن القول، من هذا المنظور، أننا أمام خطاب في السياسية استطاع أن يقيم صلة وصل بين مفهومها المجرد وممارستها من حيث هي فعل قيادة وتدبير وهيمنة؛ إذ لم يكن بمقدور الفقيه أن يتمترس خلف رؤية إطلاقية للسياسة، ولم يقاربها من زاوية العقل والمطلق، فلم ينته إلى الحديث عن مدينة فاضلةٍ من شأنها أن تتعالى على المكان والزمان، رغم تمسكه بنموذجٍ لا يخلو من مثالية. كما أنه لم ينظر إلى السياسية من حيث هي تدبير صرف للرعية، غايته ضمان مُلك الحاكم واستمراريته بغض النظر عن المقتضيات المعيارية الناظمة للاجتماع السياسي الإسلامي، فلم ينته به نظره إلى الدولة، خلافا لصاحب الآداب السلطانية، إلى وضع استراتيجيات عمل لا تراعي تلك المقتضيات التي يحدد الشرع حيزاً كبيراً منها. والفقيه، بموقفه هذا، لم يتبن الرؤية الكلامية إلى المسألة السياسية رغم اتصاله الشديد بها وبمقدماتها النظرية وآلياتها المنطقية، فلم يجعل من خطابه دفاعاً عن العقيدة بالعقل، بل وجدناه ينقل الإشكالية السياسية من مستواها الكلامي (أصول الدين) إلى مستواها التشريعي ذي الصلة بالحياة اليومية للاجتماع السياسي الإسلامي.، وفي ذلك علامة على وعيه بمختلف أبعاد مسألة المشروعية السياسية؛ فهي عنده تتجاوز نطاق الاشتقاق الصوري للأحكام الشرعية لتمتد إلى مستوى الممارسة اليومية للسلطة والنفوذ.
لذلك اقتضى منا فهم تصور الفقه السياسي للسياسة ومجالها التموقعَ في المواقع التي أطل منها الفقيه نفسه عليها؛ موقع الدولة وبنيانها المؤسساتي، بما يستلزمه ذلك من تفكير في التسويغ المعياري للإمامة من حيث هي مركز للمشروعية السياسية والدينية، وفي عملية توزيع السلطة على المؤسسات المتفرعة من الإمامة والسلط المتعلقة بها من جهة، كما من موقع تصور الفقهاء لعملية ممارسة السلطة وتجسيد مفهومها من خلال حديثهم عن السلطة الرقابة والضريبية والقضائية للدولة. يمثل هذان الموقعان طرفي معادلة التصور الفقهي للسياسة ومجالها، لذلك كان من الممكن النفاذ إلى ما يتناسل منه من مفاهيم تمثل محور كل فكر سياسي ممكن؛ من قبيل مفاهيم السلطة والحق والعدالة والعلاقة القلقة بين السياسي والديني في التجربة السياسية الإسلامية.
تضمن البحث فصولاً عشرة توزعتها أقسام ثلاثة. نظرنا في القسم الأول منها في ماهية خطاب السياسة الشرعية وسياقات تشكله، والوظيفة الرئيسية التي اضطلع بها، وقد قسمنا هذا القسم إلى فصلين اثنين، خصصنا الأول منهما لحصر المتون المكونة للخطاب المذكور، في حين انصرفنا في الفصل الثاني إلى عقد مقارنة بين القول الفقهي في السياسة وخطاب مرايا الأمراء. أما القسم الثاني فقد رمى إلى بيان تصور الفقهاء للدولة والمجال السياسي، فوقفنا في الفصل الثالث على الإمامة وعلاقتها بالمجال السياسي الإسلامي، وفي الرابع على آلية الولاية، التي اعتماداً عليها بلور الفقيه تصوره لعملية توزيع السلطة المشروعة على مختلف مؤسسات الدولة، في حين أفردنا الفصل الخامس للنظر في أبرز أجهزة الدولة التي أسهب الفقهاء في ذكر أحكامها الشرعية، من قبيل الوزارة والقضاء والمظالم، والفصل السادسلتحليل عملية ممارسة السلطة والنفوذ كما تجسدها الأحكام السلطانية المتعلقة بالسلطة الرقابية والضريبية والعقابية للدولة. هذا في حين خصصنا القسم الثالث من البحث للنظر في بعض مدارات فقه الدولة، وقد كان جوازنا إلى ذلك تحليل بعض المفاهيم الرئيسية التي لا يمكن لأي فكر سياسي أن يذهل عن التفكير فيها، كما هو الشأن بالنسبة إلى العلاقة المتوترة بين الديني والسياسي التي أفردنا لها الفصل السابع، ومفهوم الإصلاح الذي تناولناه في الفصل الثامن، ومفهوم العدل الذي خصصنا له الفصل التاسع، هذا في حين انصرفنا في الفصل العاشر والأخير إلى تقديم تقييم عام لتراث فقه السياسة الشرعية، كانت الغاية منه إظهار قيمته ومحدوديته النظرية والتاريخية.
يمثل خطاب السياسة الشرعية مجالاً خصباً للتفكير في أبرز الأسئلة التي ما انفك الباحثون يطرحونها على الفكر/العقل السياسي الإسلامي، من قبيل تصوره لمفاهيم الحق والعدالة والحرية والدولة، وموقفه من جدلية الديني والسياسي، وتصوره لطبيعة السلطة السياسية ولعلاقتها بالتطور التاريخي للمجتمع؛ وموقفه من الإصلاح السياسي…الخ. وليس هذا البحث إلا محاولة، تضاف إلى أخرى سابقة، للإسهام في فهم تمثل الوعي السياسي الإسلامي الكلاسيكي لتلك القضايا، انطلاقاً من تحليل تصور الفقهاء للسياسة والدولة، انطلاقا من اقتناعنا بأن خطاب السياسة الشرعية ما يزال بحاجة إلى كثير من الدراسة، نظرا لما يتضمنه من مفاتيح لفهم تراثنا السياسي، وامتداداته على مستوى التصورات والمفاهيم في فكرنا المعاصر.
غير أن قيمة هذا التراث الفقهي لا يجب أن تحجب عنا محدوديته النظرية والتاريخية؛ فهو خطابٌ مشروطُ بسياقه التاريخي المتعلق أساساً بأزمة المشروعية؛ وهو من هذه الجهة خطاب أزمةٍ أكثر مما هو قول في التأسيس لنظرية الدولة. كما أن الفقهاء لم يستطيعوا الفصل بين الشرعية والمشروعية، أي بين مطابقة القيمة للقانون ومطابقتها للحق، فكانت النتيجة أن ارتفع الشرع إلى مستوى القيمة التي حددت مفهومي الحق والعدالة معاً، وهو ما أغلق الباب أمام تأسيس المجال السياسي على فكرة الحق، وجعله مجالا مفتوحا على التدافع السياسي على السلطة. صحيحٌ أن الفقهاء ما فتئوا يشددون على ضرورة مراعاة حقوق الرعية في إمضاء أمور السياسة، وصحيحٌ أن الماوردي، خاصةً، انفتح على جانب آخر من أزمة المشروعية غير ذلك الذي جسده البناء الشرعي للدولة، بأن طفق يفكر، في ما ألفه من كتب النصيحة، في إمكانية بناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم على مقتضى العدل والحق والواجب، بيد أن ذلك لم يكن كافياً للانفصال عن المشروعية الدينية وإبدالها بمشروعية سياسية خالصة. فالفقهاء لم وجهوا الحق صوب الرعية نفسها، وجعلِها مصدره الرئيس، لأن ذلك كان في جملة اللامفكر فيه بالنسبة إليهم. لا غرابة، والحال هاته، أن يختزلوا العدالة في بعدها الأخلاقي؛ وقد أتت عبارة أهل العدل، التي جعلوها مقابلا لأهل البغي، تعبر عن هذا الفهم الأخلاقي للعدالة. لا يعني هذا أن مفهوم العدل لم يلعب أي دور في خلخلة التصور المطلق للحكم، وقد حاولتُ من جهتي أن أبين مفعوله هذا من خلال عقد مقارنة بين سياقات تشكل فكرة العدل في المتون الفقهية السياسية، غير أن ذلك لا يجب أن يحجب عنا ما كان للتصور الأخلاقي للعدالة من أثر سلبي في تمثل الوعي الفقهي للسياسة ومجالها؛ فمجرد معارضة السلطة القائمة كان كافيا للزج بالمعارض في خانة أهل البغي وإسقاط صفة العدالة عنه، كما أن العدالة اختزلت في تنزيل مقولات الشرع على الوجود السياسي، فهي فعل يقوم به الحاكم بأن يراعي الشرع في تدبير مصالح الرعية، أما حقوقهم النابعة من وجودهم السياسي فتكاد أن تكون غائبة عن التصور الفقهي للعدالة. لقد أدرك الفقهاء أن أزمة المشروعية التي تصدوا لها لم تكن وليدة اللحظة التي عاينوها، بل هي سليلة التكوين التاريخي للمجال السياسي الإسلامي، مجال العصبوية والقبائلية واقتصاد العطاء والريع، لم يكن بمقدورهم أن يبلوروا فهما للدولة يذهب بتراتبية مؤسساتها إلى حدود العقلنة المجردة، بل أدركوا أن الممكن المتاح أمامهم هو صياغة تصور للدولة يتكيف مع مقتضيات ذلك الواقع ويحول دون العودة إلى مشهد الفتنة.
ويبقى السؤال الأهم بالنسبة إلى الباحث اليوم؛ هل يمكن لتراث فقه السياسة الشرعية أن يفيدنا في بلورة رؤية نظريةٍ إلى الدولة والاجتماع السياسي العربي الإسلامي الراهن، ولرهانات الخروج من الاستبداد والتسلطية، ومن أزمة الشرعية التي ما تزال تلم بالدولة العربية؟
لا شك في أن فهم هذا التراث من شأنه أن يوضح كثيراً من مظاهر الخلط الذي ما انفك الوعي السياسي العربي يقيمه بين مفاهيمه الفقهية السياسية ومفاهيم المنظومة السياسية الحديثة. كما أن الانبعاث القوي لهذا القاموس، بعد تصاعد الإسلام السياسي وتموقعه في مساحات الخريطة السياسية في العالم العربي، يعيد إلى الذهن مشاهد سوء الفهم والخلط بين مفاهيم التراث السياسي الفقهي ومفاهيم المنظومة السياسية الحديثة. لذلك يبدو أن فائدة العناية بفقه السياسة الشرعية، اليوم، تتحصل من وجهين اثنين؛ أولهما أنه ينبهنا إلى أن مفاهيم الفكر السياسي الحديث لا تكفي وحدها لفهم ظواهر الاجتماع السياسي في العالم العربي الإسلامي، وأننا ما نزال بحاجة إلى مفاهيم التراث السياسي الفقهي لفهم تلك الظواهر، وما على الذين يزعمون غير ذلك إلا أن يفسروا، بمفاهيم الحداثة السياسية وحدها، تصاعد العصبوية والقبائلية والعقائدية، وصيرورتها عوامل محددة لسياسة في الوطن العربي. تبرز على مشهد الحياة السياسية مفاهيم الشرعية، والمشروعية، والملك، والحق، والعدل، والحكم…الخ، يستهلكها الليبرالي كما الإسلامي وغيرهما، من دون الانتباه، في معظم الأحيان، إلى الشحنات الشرعية التي ما تزال تلك المفاهيم تختزنها في أعماقها. ما الذي يفهمه الوعي السياسي الإسلامي اليوم من تلك المفاهيم؟ هل يدركها خارج أفقها التأويلي الشرعي كما يدرك مفاهيم “علمية” “موضوعية” يعي حداثتها والقطيعة التي أنجزتها، تاريخياً، مع التراث السياسي التقليدي عموماً؟ يصعب علينا الجواب بالإيجاب؛ إذ ما يزال مفهوم الملك يشير إلى امتلاك الحكم والسلطة، وما يستلزمه ذلك من شخصنة السلطة وانغلاق المجال السياسي؛ وما تزال المشروعية تحدد بالعصبوية والقبائلية، وما تزال العقيدة تمثل أساساً صلباً، من الناحية الثقافية والاجتماعية، لشرعية الدولة، وتنافسُ المواطنة قدرتها على صوغ مصادر المشروعية…الخ.
أما الوجه الثاني الذي تبدو فيه فائدة الاهتمام بتراث السياسية الشرعية، فيكمن في أن هذا التراث ينبهنا إلى الجهد النظري الذي ما يزال على الفكر السياسي الإسلامي القيام به في مواجهته لتراثه السياسي. ما يزال التراث الفقهي السياسي يلقي بظلاله على تمثلنا لمفاهيم الحداثة السياسية، وعبثاً يحاول شُراح تلك الحداثة أن يقدموا درسها للوعي الإسلامي العربي اليوم بمعزلٍ عن التفكير في الدور الذي يلعبه التراث في التشويش على تلقي مفاهيم الحداثة السياسية وصناعة أفقها التأويلي، بل وفي جرها، قسراً، إلى حاضرته التراثية في كثيرٍ من الأحيان. لا يملك الباحث إلا أن يعترف بحاجتنا إلى القطع مع هذا التراث والخروج من انغلاقه الدوغمائي، لكن ما العمل إذا كان تاريخنا نفسه لم يقطع معه بعد؟ ماذا تعني القطيعة في هذه الحالة؟ هل مجرد التنكر لحضور منظومة تراثية في الحياة السياسية المعاصرة، والتغاضي عن اشتغالها الخفي في ثناياه، يقود إلى تحقيق القطيعة الذهنية معه؟ لا يهمنا، كثيراً، الجواب عن هذا السؤال، بل الذي يعنينا هو مآل فهمنا لمعضلات مجالنا السياسي في ظل تجاهل حضور مفاعيل التراث السياسي في أمشاج ذلك المجال.
يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أن القطيعة نتيجة عملٍ فكريٍ يقوم على نقد التراث وتفكيك بنيانه، أكثر مما هي مجرد مسلمةٍ (أو عقيدة) نصدر عنها في تعاملنا مع هذا التراث؛ فهي، إذن، غاية نرنو إليها، لكنها ما تزال على رأس جدول أعمالنا الفكري