حمادي فريق العمـــــل *****
عدد الرسائل : 1631
تاريخ التسجيل : 07/12/2010 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 8
| | المفاهيم الأساسية للبنيوية مبروك بوطقوقة دراسة: د.يوسف حامد جابر | |
المفاهيم الأساسية للبنيوية مبروك بوطقوقةدراسة: د.يوسف حامد جابر
إن أية فعالية معرفية لا بد أن تستند في تشكيلها وتحديد خصائصها والإطار العام لها إلى أسس تعطي هذه الفعالية سماتها العامة، وتعمل على تجذير محتواها وتعميقه، كما تسهم في تنظيم حركتها وعلاقاتها. والبنيوية باعتبارها منهجاً نقدياً شاملاً، أو لنقل طريقة بحث في مكونات الواقع وكشف علائق هذه المكونات وتفاعلاتها، تطمح لكي تسجل إضافة حقيقية في مضمار المعارف الإنسانية، وهي بذلك، تستند إلى مفاهيم أساسية تحدد طبيعتها ومنطلقاتها، وترسم حركتها ومساراتها. ويمكننا أن نجد ثلاثة مفاهيم أساسية، تشكل في علاقاتها وتفاعلاتها الإطار العام للبنيوية، هي: البنية، النظام، الوظيفة. أولاً: البنية: لم تنل أية ظاهرة معرفية من الاهتمام والدراسة قدر ما ناله مفهوم البنية في القرن الحالي، حيث أصبح هذا المفهوم يحتل مكان الصدارة في مختلف الدراسات الإنسانية الحديثة، سواء كانت هذه الدراسات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو لغوية أو رياضية وغيرها. وأصبحنا نجد الباحثين العاملين في إطار هذه المفهومات يتحدثون عن بنية نفسية وأخرى رياضية ومنطقية وثالثة لغوية.. الخ.
مما يشير إلى أن مفهوم البنية لم يعد يقتصر على الدراسات اللغوية وتشعباتها وإنما امتد ليشمل مختلف العلوم الإنسانية دون استثناء. وإن كان هذا المفهوم قد انطلق بالمستوى الذي نراه من خلال البحوث الجادة المكثفة والمعمّقة في علوم اللغة وتفريعاتها، والتي اغتنت بها مؤخراً، الدراسات الأدبية بمختلف فروعها واتجاهاتها. حتى إننا نرى أيضاً علماء اللغة يتحدثون عن بنى صوتية وأخرى تركيبية وثالثة دلالية. ولكل من هذه البنى الكلية بنى أخرى فرعية، منها ما يتعلق ببنية المفردة، ومنها ما يتعلق بالبنية الوظيفية.. الخ. وسنحاول، هنا، عرض مفهوم البنية كما فهمه علماء اللسانيات والبنيويون. يرى عالم النفس السويسري “جان بياجيه” أن البنية (نظام تحويلات له قوانينه من حيث إنه مجموع، وله قوانين تؤمن ضبطه الذاتي”(1). فالبنية هي علاقات العناصر الداخلية في إطارها، ودخولها في نظام هو الذي يحفظ لها استقرارها، ويضمن لها حركتها وتفاعلاتها داخل النظام ذاته، ويتيح لها أن تتوازن وتتعالق مع بنى أخرى تحكمها أنظمة خاصة بها. ويمكننا أن نكتشف طبيعة هذه البنية بنتيجة التحليل الدقيق لموقع العناصر التي تتشكل منها البنية، ولطبيعة العلاقات التي تقيمها حركة هذه العناصر. وبقدر النشاط الفعال الذي تمارسه هذه العناصر بدخولها في علاقات بعضها مع بعض، بقدر ما تمتلئ البنية غنى وحيوية. وهذا ما أشار إليه “بياجيه” عندما قال: “تبدو البنية مجموعة تحويلات، تحتوي على قوانين كمجموعة (تقابل خصائص العناصر) تبقى أو تغتني بلعبة التحويلات نفسها، دون أن تتعدى حدودها أو تستعين بعناصر خارجية”(2). إن العناصر المشكلة للبنية محكومة دائماً بقوانين صارمة ترسخ نظام هذه العناصر، وتضفي على هذا النظام خصائص كلية. والبنية لا يمكن التعرف إليها إلا من خلال العلاقات التي تحكم عناصرها ذاتها، وليس من خلال هذه العناصر منفصلة. وهذا ما يؤكد ضبط البنية استناداً إلى حركتها الذاتية وإلى تحولاتها. فالتحولات لا توجد أبداً إلا عناصر تنتمي للبنية ذاتها، وتخضع لقوانينها وتحافظ عليها، ولا تعود إلى ما هو خارج حدودها. وبهذا المعنى نجد أن البنية تنغلق على ذاتها. وهذا ما دفع “لالاند” لكي يقدم في معجمه تعريفاً للبنية يؤدي إلى الفهم المشار إليه، إذ يقول: “إن البنية هي كل مكون من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه، ولا يمكن أن يكون ما هو إلا بفضل علاقته بما عداه”(3). وهذا التعريف يصح على جميع البنيات مهما كان نوعها. وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات بين البنيويين وعلماء اللسانيات حول تصور البنية ومعرفة نظامها وخصائصها، غير أنهم يتفقون حول الخطوط العامة التي تندرج البنية في إطارها، بمكوناتها وعلاقاتها. حيث نجد عالم اللسانيات “أنطوان مييه” يعرّف الجملة قائلاً: “يمكن تعريف الجملة على أنها مجموعة أصوات تجمع بينها علاقات قواعدية، وهي مكتفية ذاتياً ولا تتعلق بأية مجموعة أخرى قواعدياً”(4) فالجملة، هنا، بنية قادرة بعلاقاتها الذاتية أن تستمر وتتواصل وتتفاعل بطريقة تحفظ لها فعاليتها. وإن كان (مييه) ينبه إلى الشكل المادي للجملة بكونها مجموعة أصوات، والتي تعني في الأصل مجموعة ألفاظ، أو مجموعة حروف، تشكّل الكلمات التي تشكل بنية الجملة ذاتها. وقد تبع، فيما بعد “بلومفيلد” خطأ أستاذه “مييه” وأعطى تعريفاً للجملة يتقاطع مع تعريف هذا الأخير، بالمستوى الذي نسعى لإظهاره. حيث يقول: “إن كل جملة هي تركيب لغوي مستقل لا يحتويه تركيب لغوي أكبر بموجب علاقة قواعدية معنية”(5) فالجملة مكوّن البنية الأساس، واستقلاليتها يؤكد قدرتها على الثبات والتواصل داخل أطرها الخاصة، وداخل قوانينها الخاصة أيضاً. ثم نجد زعيم حلقة كوبنهاجن الألسنية “هييلمسليف” يشير إلى أن “البنية كيان خاص ذات ارتباطات داخلية”(6) وهذا ينفي عنها أيضاً أية علاقة مع عناصر خارجية لا تنتمي إليها. أو لا تنضوي في نظامها. وهذا ما دفع “هييلمسليف” للقول باستقلالية البنية. وهذه الاستقلالية تؤكد على أن عملية تحليلها يجب أن تتم من خلال علاقات عناصرها دون أية اهتمامات خارج هذا الإطار. وهذا ما يدفعنا إلى الحديث عن خصائص البنية التي تسمح لها بالاحتفاظ بقدراتها الذاتية داخل نظامها الداخلي المحكم(7). خصائص البنية: إن البنية تميزها خصائص ثلاث: الكلية، التحولات، الضبط الذاتي (التحكم الذاتي). 1-الكليَّة: وتعني أن البنية تتكون من عناصر داخلية، تقوم بينها علاقات، وتحكمها قوانين تميزها عن غيرها. والعلاقات التي تقوم بين عناصر البنية لترسخ، في النهاية، مفهوم البنية، لا تنتهي عند حد معين، وإنما هي تتواصل بشكل مستمر لتكوين مزيد من البنيات التي لا تنضاف إلى البنية الأساسية بشكل تراكمي، وإنما تتمفصل معها في علاقات تنبثق، في الأصل، من مقدرة البنية الهائلة على التحول إلى بنى أخرى متعلقة معها، وفقاً لقوانينها الذاتية، ودون أن تفقد أياً من خصائصها. مع الإشارة إلى أن البنية تتكامل بحركة عناصرها وتحولاتها، وأن أي قطع لحركة هذه العناصر هو قطع لحركة البنية ذاتها وخلخلة لنظامها. 2-التحولات: وتعني حركة البنية المستمرة، أو حركة عناصرها، ونفي مظاهر السكون عنها، وذلك لكي تلبي الرغبة بما يتفق وإنتاج عدد لا نهائي من البنى (الجمل) انسجاماً مع الحاجات الاتصالية للتعبير. ولو لم تكن البنية قادرة على ذلك، لفقدت اللغة حيويتها وانكفأت على ذاتها ثم تحجرت، دون أن تكون قادرة على التعبير عن أية فعالية إنسانية متنامية. وتعد النظرية التوليدية والتحويلية في علم اللغة، والتي أسس لها “شومسكي” أفضل ما يعبر عن خاصية التحولات. 3-الضبط الذاتي (التحكم الذاتي): تشير هذه الخاصية إلى قدرة البنية على التماسك الداخلي من جهة ثم العمل على ضبط هذا التماسك من جهة ثانية، الأمر الذي يؤدي بالبنية إلى نوع من الانغلاق الذي يُظهر استقلالية هذه البنية، دون أن تعني هذه الاستقلالية تجريد البنية من قدرتها على الدخول في علاقة مع بنية أخرى، ودون أن يكون هناك إلغاء لأي منهما، وإنما يتم هذا الدخول بشكل يضمن لكلتا البنيتين المتعالقتين حضوراً أكبر وثراء أشد، لأن أياً من البنيتين لا تلحق بالأخرى بشكل تراكمي وإنما يتحدان في إطار النظام الجديد الذي يتعالقان من خلاله. إن خواص البنية التي تم ذكرها، هي خواص دائمة ومشتركة لأية بنية من البنى، وتعد بمثابة القانون العام الذي يحكم عمل مختلف البنى مهما كانت طبيعتها. ويمكن أن نشير هنا إلى أن العالم الاجتماعي البنيوي “كلود ليفي ستروس” كان قد رأى أن النماذج المصوغة من العلاقات الاجتماعية والتي تستحق أن يطلق عليها تسمية بنية، يجب أن تلبي حصراً شروطاً محددة، منها: اتصاف البنية بطابع النظام، لكونها تتشكل من عناصر يستتبع تغير أحدها تغير العناصر الأخرى، وأن مجموعة التحولات التي يشكل كل منها نموذجاً معيناً يجب أن تشكل مجموعة من النماذج، مع النظر إلى أن تغيير أي عنصر من عناصر النموذج يجب ألا يمر دون إثارة ردود فعل على هذا التغيير. أما الشرط الأخير فيتعلق ببناء النموذج ذاته، بحيث يتوجب بناؤه بطريقة يتمكن عمله من تسويغ جميع الوقائع الملاحظة(11). وهذا ينسجم مع خواص البنية وطبيعة حركتها وعلاقاتها وقوانينها، من حيث اتصاف البنية بالكلية والتحول والضبط الذاتي. ثانياً: النظام: يأتي هذا المفهوم ملازماً لمفهوم البنية باعتبارها “نظام تحولات” ويكفي أن نتفهم البنية ونعي خصائصها ونكتشف قوانينها، حتى نتفهم النظام ذاته، ونعي حقيقته باعتباره الإطار الذي تنتظم من خلاله علاقات عناصر البنية. فإذا كان للبنية قوانين خاصة تنتظم لديها العناصر الداخلة في تكوينها، وبالتالي، تحافظ البنية من خلالها على ذاتها، فإن هذه الفعالية الذاتية التي تترابط بها عناصر البنية هي النظام ذاته، والذي يقوم بمهمة الحفاظ على تماسك البنية ويؤكد العلاقات والتحولات الداخلة في إطارها. فالنظام، إذن، يتشكل من العلاقات القائمة بين عناصر البنية، دون أن يعني ذلك تغير هذا النظام بتغير العناصر المتعالقة داخله. فالمعروف مثلاً، أنه إذا حدث تغيير ما في أي عنصر من عناصر البنية، فإن مثل هذا التغيير سوف يشمل عناصر البنية كلها (إذا لم تقم البنية بإعادة بناء ذاتها مرة ثانية بشكل صحيح) بسبب أن أياً من هذه العناصر لا يتمثل داخل البنية على هيئة ساكنة، وإنما يمارس فيها فاعلية قوية بالعلاقة التي ينشئها مع غيره من العناصر الأخرى الداخلة معه في تركيب البنية، بما يحافظ على البنية ذاتها، وبما يجعلها تثرى بهذه العلاقات. وحتى في حالة توالد بنيات جديدة من بنية رئيسية، فإن عناصر البنية الجديدة لا تشكل خرقاً لقوانين البنية الأساسية، بقدر ما تشكل إضافات جديدة تنتمي إلى عناصر البنية ذاتها وتدخل في علاقاتها وتخضع لقوانين تشاكل قوانينها. وفي هذا الإطار يشير (سوسير) إلى أن التبدلات التي يمكن أن تطرأ على البنية لا تؤثر على نظامها بل تؤثر على بعض عناصرها التي سرعان ما تندرج في إطار نظامها الخاص(12). وربما مرت فترة التبس فيها مفهوم البنية مع مفهوم النظام. وقد كان “سوسير” أطلق على هذا التنظيم الدقيق الذي يلازم اللغة، اسم “النظام” في الوقت الذي أطلق عليه بعض تلاميذه اسم “البنية” وقد يعود هذا الاختلاف الدقيق في التسمية إلى طريقة البرهان على هذا الطابع اللغوي المنظم، فهم ينطلقون من فكرة أن معرفة العناصر اللغوية المتعالقة ليست شيئاً معطى، أي ليست شيئاً تم استقدامه من خارج البنية. وقد يعود السبب في ذلك، كما يقول (سوسير) إلى أنه في تحديد وحدة ما في إطار بنية ما فإننا نفترض دائماً وجود علاقة بين هذه الوحدة والوحدات الأخرى. إن هذه الوحدة تأخذ مكانها ضمن تنظيم كلي. وهذا هو ما عناه أتباع “سوسير” بالنظام أو البنية باعتبار أن العناصر اللغوية لا قيمة لها ولا واقع لها بشكل مستقل عن علاقاتها بالمجموع فالبنية لا يمكن أن تنفصل عما تبنيه(13). وقد أشار “بياجيه” إلى مثل هذا الفهم، ولفت إلى أن النظام، بحد ذاته، إنما يعني البنية، بخصائصها وعلاقاتها، عندما قال: “فبمقدار ما نتذكر أن البنية هي قبل كل شيء، مجموعة تحويلات، فإننا ننفي، بنفس الوقت، انفصالها عن العمليات الفيزيائية والبيولوجية الموجودة في باطن الموضوع وعن العمليات التي تمارسها الذات والتي لا تمثل منها البنيوية إلا قانوناً للتركيب أو شكلاً للتوازن.. وبالفعل فمن خصائص العمليات أن تتنسق وتتنظم في أنظمة بعكس أية أفعال أخرى: وفي هذه الحال تصبح هذه الأنظمة، بفعل بنائها، بنيات بكل ما للكلمة من معنى وليس كما قيل إن البنيات سابقة الوجود على الأفعال والبناءات التي تحددها مسبقاً”(14). وتصبح قوانين البنية هي ذاتها قوانين النظام/ البنية، النسيج الذي يبني البنية ويشكل بنيتها القواعدية فتحولات البنية مستمرة، وهي تقوم دائماً بتوليد عناصر جديدة تثري البنية، لذلك فهي تحتاج إلى توازن جديد باستمرار. ومن هنا فإن العناصر الجديدة المتولدة عن البنية لا تخرج في علاقاتها عن نظام هذه البنية وإنما تخضع له وتسهم في المحافظة على قوانينه. فإذا كنا نتحدث، الآن، عن البنيوية باعتبارها منهجاً في البحث وطريقة في الكشف عن علاقات النص وقوانينه، والنص الأدبي تحديداً بكونه نظاماً متكاملاً يتشكل من اللغة. والبنيوية تعني “نظام الأنظمة”(15) على حد تعبير “جاكوبسون” فإن ذلك يسمح لنا أن نشير إلى أن البحث عن وجود نظام داخلي يعد من أهم الركائز التي انبنت عليها الدراسات البنيوية المعاصرة. “والنظام في النص لا يكمن في ترتيب عناصره، وإنما يكمن في شبكة من العلاقات تنشأ بين الكلمات، ومتى كانت هذه العلاقات متكاثرة مكثفة كان النص أوغل في الأدبية”(16). وقد أشار بعض الدارسين إلى وجود أكثر من نظام لهذه اللغة دون أن يعني ذلك خروج أي من هذه الأنظمة على القوانين العامة التي تحكم هذه الأنظمة المتكاملة جميعها. وكما تدخل البنية في علاقة مع بنية أخرى فتغتني كلتا البنيتين بمثل هذه العلاقة، كذلك فإن نظاماً ما قد يصير أحياناً جزءاً من نظام آخر أوسع منه، دون أن يُلغى أيضاً أي من النظامين، وإنما يصبح النظام الثاني امتداداً للأول وتوسعاً له. وهكذا نجد أمامنا نظامين يتداخل الواحد منهما بالآخر ويتشابك، غير أنهما في الأصل منفصلان بعضهما عن بعض، ويمكن تمييز كل واحد منهما عن الآخر(17). وكان “شومسكي” قد حدد طبيعة التحليل اللغوي بأن “ميّز بين نظامين من القواعد في نحو أية لغة كانت: فمن جهة هناك نظام الأساس الذي يولد التراكيب العميقة، ومن جهة أخرى، النظام التحويلي الذي يجعلها تتحول إلى تراكيب سطحية”(18). وقد أشار (شومسكي) إلى أن قواعد التركيب هي قواعد اللغة ذاتها التي تشتمل على إمكانية صياغة جمل لا حصر لها. إن الكلام عن النظام هنا، يدفعنا إلى ضرورة معرفة طبيعته، هل هو نظام تزامني أو أنه نظام تزمني بمعنى آخر، هل ننظر إلى اللغة باعتبارها نظاماً متزامناً، ينبغي أن يتم من خلاله دراسة عناصرها في فترة زمنية محددة؟ وكما كان قد أشار “سوسير”، عندما رأى أن اللغة نظام يجب أن تعرّف كل أجزائه حسب حقيقتها التزامنية، دون النظر إلى تطور اللغة أو إلى التبدلات التي تطرأ عليها عبر مسيرتها التاريخية(18). مما لا شك فيه أن علاقات البنية التي كنا قد أشرنا إليها، تشكل نظاماً متزامناً، غير أن هذا النظام ليس ثابتاً بالمفهوم الجوهري، وإنما هو مهيأ لابتكار بنى جديدة يتسع لها هذا النظام، فيصبح، أمامنا، في هذه الحال، مجموعة أنظمة: نظام أساسي يتخذ شكلاً ثابتاً تتوازن فيه عناصر البنية التي تحكمها علاقة تزامن، وأنظمة أخرى تتفرع عن النظام الأول، لتقوم بتكوين بنية أو بنى جديدة تغني البنية الأساسية الأولى. وهذه هي تحولات النظام التي هي تحولات للبنية. لأن اللغة، بحد ذاتها، غير ثابتة، وإنما هي خاضعة دوماً للتطور وفقاً لمتطلبات التواصل. وما النظام التزامني الذي نشير إليه، إلا عملية قطع لتطور اللغة يتم استحداثه من أجل ضبط عملية وصف اللغة وآلية عملها وفهمها، ضمن مرحلة معينة، وداخل علاقات محددة وإطار محدد. وفي هذه الحال، يمكن القول، إنه لا توجد تزامنية دون تزمنية، طالما أنه لا يوجد سكون أو ركود في اللغة. فالتزمنية هي عملية تتابع للتزامنية، والتزامنية هي نقطة وقوف على مسار التزمنية. وما التحول إلا حالة تزمنية من بنية تزامنية إلى بنية تزامنية أخرى. تتم وفقاً لقواعد وقوانين محددة. ولعل (سوسير) كان أول القائلين بضرورة التأكيد على طبيعة النظام اللغوي، محاولاً وصفه والكشف عن مكوناته بالاعتماد على مفاهيم هذا النظام، ولا سيما مفهوم “العلامة” التي تشكل العنصر الرئيسي في البنية اللغوية. والعلامة “لا تربط شيئاً باسم بل تصوراً بصورة سمعية، وهذه الأخيرة ليست الصوت المادي، الذي هو شيء فيزيائي صرف، بل هي الدفع النفسي لهذا الصوت، أو التمثيل الذي تهبنا إياه شهادة حواسنا”(19). وقد دعا (سوسير) هذين المظهرين (الدال) والمدلول ولا وجود لأحدهما دون الآخر. ويشكلان الركيزة الأساسية في النظام. ومن هنا اعتبرت اللغة بأنها: “نظام من العلاقات التي تعبر عن أفكار معينة”. على حد تعبير (سوسير) نفسه، نظام علامات مترابط ومنضبط، تعرف فيه العلامة باختلافها وتعارضها مع غيرها من العلامات داخل النظام اللغوي. بقي علينا أن نؤكد، أن النظام لا يفرض على اللغة من الخارج. فالنظام ليس رداءً نلبسه هذه الفعالية أو تلك، وقت نشاء، ومن ثم نقول: هذا هو نظامها، لأن النظام يبنى مع الفعالية التي يتم البحث في مكوناتها. ونحن عندما نقوم بإعادة صياغة هذه الفعالية وفقاً لأسس الدراسة، نكون قد قمنا، في الوقت ذاته، ببناء نظامها وإنتاجه بما يتفق والأسس ذاتها. ثالثاً: الوظيفة: البنية، كما أشرنا، نظام تحولات، والتحولات علاقات لعناصر البنية، أي دخول عنصر في البنية مع عنصر آخر في علاقة متبادلة، أو دخول جملة مع جملة، أو نص مع نص. هذه العلاقة هي ما يمكن أن نطلق عليه تسمية “الوظيفة”. فالوظيفة، إذن، هي التي تحدد، ليس طبيعة العلاقة بين مكونات البنية فحسب، وإنما فاعلية هذه المكونات بالنظر إلى نشاطها الذي يمارسه كل عنصر منها داخل المجموعة التي ينتمي إليها. وليس هناك أية قيمة يمكن لأي عنصر أن يمتلكها بشكل منعزل، وإنما يكتسب مثل هذه القيمة بالعلاقة التي يشكلها مع عنصر آخر، أو مع عناصر أخرى. فيكون الكشف عن هذه العلاقات التي تتواصل من خلالها عناصر البنية هو كشف عن وظائف البنية ذاتها. إذن، فالتحليل الوظيفي يعمل على ربط النظام اللغوي بالوظائف التي يمكن لهذا النظام أن يؤديها من خلال التراكيب المختلفة التي تشكل بنية هذا النظام وأساسه. مع النظر إلى أن كل تركيب أو بناء لغوي يمكن أن يؤدي وظيفة مختلفة(20). ومن هنا، لا يمكننا بأية حال من الأحوال أن ننظر إلى الوظيفة بمعزل عن النظام الذي تندرج في علاقاته. فالنظام هو تنظيم لعلاقات البنية وضبطها، وليس هذا التنظيم سوى علاقات قواعدية محكمة للعناصر المتشكلة والمتفاعلة فيه، والتي هي وظائف ذاتها، نتمكن بالكشف عنها من معرفة طرق الاستخدام اللغوي وغاياته. وقد اهتم البنيويون وعلماء اللسانيات بمفهوم “الوظيفة” لا بل نال هذا المفهوم اهتماماً أكثر من غيره، نظراً لأهميته، من كونه يعنى بالقيمة الاتصالية للغة، وما يمكن أن تشتمل عليه من مستويات نتعرف من خلالها، على مختلف الوظائف التي تضطلع بها علاقات هذه اللغة داخل أنظمتها المختلفة. وقد نرى عالم اللسانيات الفرنسي “أندريه مارتينيه” يؤكد على علم اللغة الوظيفي، بقوله عن هذا العلم، إنه “ليس فصلاً من علم اللغة، بل هو علم اللغة كله… وأن وظيفة وحدة أو بنية هي التي تسمح بالوصول إلى التفسير الكامل للواقعة اللغوية”(21). وهذا يشير إلى أهمية الجانب الوظيفي في تحليل اللغة وفهمها، وتفسير الوقائع المرتبطة بها، لأن مثل هذا الجانب يمتلك القدرة على كشف المعاني التي يهدف النظام اللغوي إلى توصيلها، الأمر الذي يؤكد ارتباط الوظيفة بالمعنى، وأن كل وظيفة محددة مهما كان نوعها تؤدي معنى محدداً في سلسلة الوظائف أو المعاني التي ترتبط بالبنية اللغوية. وقد وعى عالم اللسانيات الأمريكي “إدوارد سابير” مسألة التفاعل بين مفهومين أساسيين من مفاهيم اللغة، هما مفهوم الشكل ومفهوم الوظيفة، وتنبه إلى استحالة قيام علاقة وحيدة الاتجاه بين الوظيفة والشكل “إن نظام “الأشكال” شيء، واستعمال هذا النظام (لتحديد الوظائف) شيء آخر… إن الوظيفة (أن يكون لدينا شيء نقوله) تسبق الشكل (قول هذا الشيء بطريقة ما)”(22). وهنا ربط “سابير” القول بالمقصدية التي تعمل على تشكيل العملية اللغوية بما ينسجم مع هذه المقصدية وأهدافها الإبلاغية، وبما يسمح للمرسل بتوصيل ما يرغب فيه للآخر. وعلى الرغم من أن “سابير” كان قد رأى أنه من الممكن دراسة الشكل اللغوي باعتباره نظاماً تركيبياً من أنظمة اللغة، دون أن يعني ذلك دراسة الوظائف المتصلة به، فإن مفهوم (الوظيفة) ظل حاضراً لديه، يفرض عليه مرتكزاته بشدة عند كل دراسة له للأشكال اللغوية واستخداماتها المختلفة. مع العلم أن أي شكل لغوي سيؤدي وظيفة مغايرة للوظيفة التي يمكن أن يؤديها شكل لغوي آخر. كما يمكن للشكل نفسه أن يحتوي مجموعة وظائف تكشف عنها عناصر هذا الشكل وعلاقاته بالاستناد إلى البنية القواعدية لهذا الشكل. وقد يعود بعض هذه الوظائف إلى وظيفة مركزية يكون منوطاً بها هدف مركزي، يتولى الإفصاح عن هذه الوظيفة. إذ نرى/ مثلاً، داخل شكل لغوي معين: وظيفة للصوت يكشف عنها علم الأصوات، ووظيفة للحرف أو للمقطع يكشف عنها علم التشكيل الصوتي، ووظيفة للصيغة واشتقاقاتها وتصريفها يكشف عنها الصرف(23)… وهكذا. وهناك من يقول بوظيفتين للصوت: واحدة تسهم في تحديد الدلالة، والثانية تأتي من وجوده داخل إيقاع معين. وفي الحقيقة، فإن كلاً من الوظيفتين تؤكد الوظيفة الدلالية للصوت. وربما لا تقتصر هذه الوظيفة على اتصالها بالأصوات بشكل مباشر، بقدر اتصالها بالطريقة التي تتداخل بها هذه الأصوات. ويبقى المعنى هو المرتكز الذي تسعى إليه مختلف الوظائف التي يتم الكشف عنها في هذا الإطار. وقد اهتم “هييلمسليف L. Hjelmsleve” بتحليل المعنى، وذلك بالكشف عن الوظائف التي تحدده، مشيراً إلى أن دخول الشكل اللغوي في إطار علاقات بنية معينة هو الذي يحدد وظيفته ويعطيه معناه(24). ولعل “جاكوبسون R. Jakobson” كان من أبرز علماء اللسانيات الذين لفتوا الانتباه إلى وظائف اللغة، وأن مفهوم اللغة يجب أن يُدرس بوصفه نظاماً وظيفياً، وأن الكشف عن هذا النظام إنما يتم من خلال وظيفة العناصر الداخلة فيه. وقد رأى أن هناك ست وظائف للاتصال كان قد صنَّفها على الشكل التالي: 1-الوظيفة التعبيرية (La fonction expressive). 2-الوظيفة النزوعية (La fonction conative) أو (الأمرية). 3-الوظيفة الإدراكية (La fonction cognitive) أو الإرجاعية المركزة على السياق. 4-الوظيفة التوكيدية (La fonction phatique). 5-الوظيفة ما بعد اللغوية (metalinguistique). 6-الوظيفة الشعرية (Fonction poetique) المركزة على الرسالة بالذات(25). وعلى الرغم من اعتراض بعضهم على هذا التقسيم، من أنه تقسيم غير كاف، وأن (جاكوبسون) لم يستوف وظائف اتصالات اللغة كلها، إضافة إلى بعض اللبس الكامن في نظريته، ولا سيما في تمييز وظيفة عن أخرى، وفي عدم انطلاقها من معايير لغوية حقيقية، بالإضافة إلى عدم قدرة هذه الوظائف على تفسير عمل اللغة وتطورها من وجهة نظر لغوية.(26) أقول، على الرغم من ذلك كله، فإن هذه النظرية تعتبر من حيث شموليتها، من أبرز النظريات التي تعالج وظائف اللغة من خلال وصف استعمالاتها وشرحها. | |
|