الأنثروبولوجيا وقضايا التنمية
أحمد أوراغي*
لقد نشأت الأنثروبولوجيا استجابة لرغبة الأمم الاستعمارية في معرفة الآخر ” المتخلف” و” البدائي”، وهذا عقب التحول المفاجئ للمجتمع الأوربي نحو “الصناعة”، وقد ارتبط ظهور أنثروبولوجيا التنمية بظهور المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي شكلت انعكاسا للتغيرات البنائية الاجتماعية لدى المجتمعات، لذلك تعد أنثروبولوجيا التنمية بحثا معرفيا في التحولات الاجتماعية والتغيرات الاقتصادية والممارسات السياسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بظروف مجتمعية متغيرة ومتحولة.
وتعد هذه الدراسة محاولة لتسليط الضوء على إسهامات الأنثروبولوجيا بوصفها شكلا من أشكال المعرفة الإنسانية، في قضايا التنمية، سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم اقتصادية، كما تعمل الأنثروبولوجيا على إبراز الجهود المعرفية في مجالات التنمية، إذ لو استثمرت استثمارا سليما لكشفت عمق التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي ترسم الملامح المشكلة للمجتمع، وأطره العامة.
أنثروبولوجيا التنمية وفضاءاتها النظرية والتطبيقية:
الظاهر أن أنثروبولوجيا التنمية يمكن عدّها علما حديث النشأة قياسا إلى فروع أخرى من فروع الأنثروبولوجيا، وهذا على الرغم من أن موضوع التنمية عرف منذ زمن بعيد من تاريخ البشرية، بيد أنه علميا لم تتضح معالمه ولم تتجل حدوده إلا مؤخرا، وقد بدأت قضية “التنمية ” تحتل موقعا معرفيا مهما في الفكر الأنثروبولوجي المعاصر، على اختلاف مشاربه واتجاهاته الأيديولوجية.
ومن الناحية الاصطلاحية تؤكد أنثروبولوجيا التنمية – كما يشير مصطلحها – أهمية التغير الاجتماعي والثقافي، والمشكلات التي تثار ههنا هي كيف يمكن رصد التغير والتنبؤ بنتائجه، ومن تم توجيه مساراته، فهي تنظر إلى التغير على أنه خاصية مميزة لكل الثقافات في تفاعل دينامي مع القومية التي تدعم الاستقرار . وتذهب أنثروبولوجيا التنمية إلى ما هو أبعد من المشكلات النظرية، فهي لا تهتم بعمليات التغير ومصادره فقط، بل تهتم أيضا بالأساليب التي يمكن من خلالها تحريك هذه العمليات والمصادر وتوجيهها والتحكم فيها”(1). وجدير بالذكر أن التطبيقات العلمية والمعرفية للتنمية بدأت تلوح مع بدايات القرن التاسع عشر، وذلك عن طريق ملاحظة ظواهر اجتماعية واقتصادية فاعلة في التغير الاجتماعي الذي صاحب النهضة الصناعية في المجتمعات الأوروبية، كزيادة المردود الإنتاجي الفرد وارتفاع الإنتاج القومي من السلع والخدمات وغيرها، تم عرفت هذه التطبيقات تحولا منهجيا مهما مع نهاية الحرب العالمية الثانية – منتصف القرن الماضي – خصوصا في مجال التفاوت بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ( دول الشمال ودول الجنوب). وقد استقر النظر إلى مشكلات التنمية – بادئ الأمر- على أنها متعلقة بالمشكلات التكنولوجية والاقتصادية البحثة، ثم سرعان ما تغيرت الرؤى لتطال التنمية إلى إشكالات الوسط الاجتماعي والثقافي والتغيرات المتعلقة بهما.
وفي ضوء كل هذه العوامل اهتمت الأنثروبولوجيا بمسائل التنمية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المجتمعات، مركزة على التحولات البنائية التي عرفتها هذه المجتمعات، وهو ما يقصد به “مجموع التحولات والتغيرات التي تصيب المجتمع خلال تحوله من حالة الركود والتأخر إلى حالة من النشاط والحركة في كل الأنساق والأبنية السوسيو ثقافية والاقتصادية وحتى الدينية، والتي تهدف إلى طي مرحلة ما، والتوجه بنشاط وعزم للولوج إلى حياة أحسن وأفضل في مختلف المجالات، أو هو ما يتطلب من الباحثين التوجه الجاد نحو دراسة النظم والبنايات الاجتماعية للمجتمعات المحلية في المجتمعات المستقلة حديثا وخاصة منها تلك الأقاليم الريفية، لأن هذه المجتمعات تعاني أكثر من غيرها، فهي تتميز بارتفاع النسب العالية جدا من الأمية بين السكان، بالمعنى السوسيولوجي للأمية، وهو ما زاد من تأخرها ووسع من انتشار الفقر والبؤس والمرض بين سكانها”(2). إن مواضيع التنمية والتخلف تعد “من أهم المواضيع التي شجعت الباحثين الاجتماعيين على القيام بدراسات اجتماعية، كما عملت على تطوير التخصصات في العلوم الاجتماعية، وهذا بهدف محاولة دراسة أهم العراقيل التي تقف عائقا أمام تنمية وتطور هذه المجتمعات. فالأنثروبولوجيا، بوصفها إحدى التخصصات الاجتماعية، عرفت اهتماما كبيرا من الباحثين الاجتماعيين ما دام أن هناك اتفاقا مبدئيا على أن التخلف قد يرجع إلى أسباب إنسانية وثقافية، ولهذا ذهب بعض الباحثين في هذا الميدان إلى القيام بدراسات وبحوث أنثروبولوجية محاولين فهم وإعطاء تفسير لواقعهم الاجتماعي والثقافي”(3). وانبرى بعض الأنثروبولوجيين إلى أن الاقتصاد هو العامل الوحيد لتفسير الحياة الاجتماعية، ومن أنصار هذا الاتجاه “سان سيمون”(Saint Siman) الذي عاش في القرن الثامن عشر، حيث عاصر الثورة الصناعية الكبرى، وكان أول مفكر تنبأ بتأثير التنمية الاقتصادية و التكنولوجية في التنظيم الاجتماعي(4). فالانثروبولوجيا التنمية تحاول الإجابة عن بعض الأسئلة التي يبحث الإنسان في معرفتها، والتي ظهرت أهميتها جلية للدرس الأنثروبولوجي، ووضعت إشكاليتها في صورة سؤال معرفي بسيط مفاده: لماذا هناك شعوب غنية وأخرى فقيرة؟ وما هي الأليات التي تمكن الثانية من اللحاق بركب الأولى؟ وهذا في عرض بعيد عن التنظير الجاف، مبدأه الأساس هو دراسة البني الاجتماعية للشعب، ومساءلة مكوناته التي تمكنه أو تؤهله لركوب مسارات التنمية بمختلف أنماطها.كما تناقش أنثروبولوجيا التنمية موضوع ثورة الشعوب سواء الثورات المعنوية أو المادية (الثقافات الشعبية، التراث الشعبي/الفلكلور والمؤهلات السياحية وكذا الحرف والفنون التقليدية والنشاطات الاقتصادية، التي تشكل موارد تنموية هامة.وفي هذا الصدد يشير أحد الدارسين إلى أهمية دراسة الواقع الاجتماعي، مع وجوب الاستعانة بالمؤشرات الكمية والكيفية في الدراسات الاجتماعية للتنمية، على أن يتم ربطها بالسياق التاريخي والبنائي، مع ضرورة الإفادة القصوى من البيانات الإحصائية التي قد تدعمها مؤشرات مثل متوسط الدخل الفردي، وعدد العاملين في الأنشطة المختلفة، ونصيب الفرد من الخدمات المختلفة، وخصائص السكان الديموغرافية، وغيرها من البيانات(5). وقد بحث في موضوع ثروة الشعوب كثير من الدارسين بغية الوقوف على الآليات التي تمكن المجتمعات من تحقيق الثروة اللازمة لعملية التنمية، وهو “بحث يطمح أن يصل أصحابه إلى جواب شاف عن سؤال معقد مفاده : لماذا بعض الشعوب غنية وبعضها فقير؟ أو ما هي الأسباب التي تجعل من بلد أو شعب في حالة رفاهية وحرمان آخر من ذلك؟ وهل الموضوع خاص بطبيعة محددة لهذه الشعوب أو بمستوى تعليمها أو البيئة التي تعيش فيها؟ والفقر والغنى المطروحان ههنا ليس على سبيل المؤقت بل الدائم؟ أو على الأقل شبه الدائم، الذي يعطي الشعب اطمئنانا لفترة طويلة من الزمن على مستقبله”(6). وبحث كثير من الأنثروبولوجيين هذا الموضوع ( ثروة الشعوب )، وقدموا نظريات كثيرة للتنمية، وحاولوا تقديم أفكار جديدة في كيفية تحقيق الثروة للشعوب، إلا أن ثروة الـشعوب أو نظرية التنمية لا زالت قيد البحث، وتتغير مفاهيمها وطرقها بتغير وتقدم وسائل الإنتاج والعمل، من الزراعة إلى الصناعة البدائية إلى الصناعة المعقدة”(7). وربطت بعض النظريات الأنثروبولوجية قضية التنمية بطبيعة الأجناس البشرية، وفسرت التنمية في ضوء ارتباطاتها بالشخصية القومية.
وإذا نظرنا إلى التنمية كإجراء للتشكيل العرقي، فإنه من الأهمية بمكان وضع هذا الأمر مع الأبعاد الأخرى للفروق الاجتماعية مثل الجنس والعمر والطبقة، ذلك أن تلك الظواهر والتباينات الاجتماعية مرتبطة ببعضها ارتباطا داخليا، ويمكن أن نرى ذلك من تلك الممارسات اليومية، فالعرق والعمر والطبقة ليست متميزة عن بعضها الآخر، كما أنهاليست موجودة باعتبارها وحدة مستقلة عن الأخرى، ولكن بوصفها وحدات مركبة، تظهر الفروق فيما بينها بشكل تكاملي، فلا يمكن عزل صفة من صفات أي ظاهرة منها عن بقية الصفات المكونة لها، كما أنه لا يمكننا التكلم عن أي خاصية تميز ظاهرة من تلك الظواهر دون التطرق إلى بقية خواص الظواهر كلها، حتى أن الفروق في كل ظاهرة هي متكاملة مع الفروق الأخرى. وزيادة على ذلك، فإن المنطق من وراء النظر إلى التنمية كسلسلة مصنوعة من المشاريع العرقية، يوضح الحاجة إلى اتجاه أكثر شمولية للتعرف على التباينات الاجتماعية، ذلك أنها ترى الهوية العرقية ليست فقط ظاهرة خارجية موجودة مسبقا في الفئات الاجتماعية التي تهتم بها التنمية، بل إنها موجودة وبحيوية في مشاريع التنمية وتداخلاتها، وموجودة أيضا من خلالها وبسببها(8). والثابت أن هذه النظريات أكدت خطأها، إذ “مما يضحد هذا الاتجاه أنه بينما تعاني بعض المجتمعات التي يندرج سكانها في الجنس الأبيض من التخلف مثل دول حوض البحر الأبيض المتوسط وبعض دول أمريكا اللاتينية، فإن كثيرا من المجتمعات ذات الأجناس الملونة سطرت حضارات ومدينات عرقية في الماضي مثل الصين و الهند على سبيل المثال واليابان في الحاضر، والتي استطاعت أن تحقق معجزة في التنمية بكل المقاييس، وبوجه عام، فإن العلم الحديث أنكر صحة هذه النظرية حين فشل في تقديم دليل واحد يثبت ارتباط الجنس بالتخلف أو التنمية”(9) . وهكذا تضاربت الأطروحات الأنثروبولوجية لقضايا التنمية لدى المجتمعات و الشعوب، واختلفت الرؤى حول قضية الفقر والغنى، وظهرت بعض التصورات والأبعاد للوصول إلى تحقيق ثورة الشعوب، وما يهمنا في هذا المقام هو الإجابة عن سؤال جوهري يظل يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن للأنثروبولوجيا –كمعطى معرفي- أن تساهم في عملية التنمية للمجتمعات؟
دور الأنثروبولوجيا في عملية التنمية:
من الثابت أنه لا يمكن الإدعاء أن الأنثروبولوجيا – بوصفها حقلا علميا ومعرفيا – قد لعبت دورا حساسا في برامج التنمية، خصوصا لدى الدول التي لازالت لا تولي العلوم الاجتماعية والإنسانية قدرا كافيا من الاهتمام ومحاولة استثمارها استثمارا جديا في برامجها التنموية والاقتصادية و الاجتماعية والثقافية، كما أن الأنثروبولوجيين لم يقدموا في كثير من الأحيان حلولا للمشاكل الاقتصادية و الاجتماعية التي ظلت تتخبط فيها الشعوب،
فالأنثروبولوجيون لم يخططوا أو يوجهوا إلا مشروعات محلية فقط، نحو مشروع فيكوس، وهي مشروعات تتطلب –بطبيعة الحال- تعاون المختصين في العلوم الأخرى، وفي حالات قليلة نجد علماء الأنثروبولوجيا يقومون بدور قيادي في تلك الجوانب من برامج التنمية التي تتناول الجماعات العرقية المحلية أو القروية، وأكثر الأمثلة وضوحا على ذلك هو المعهد الهندي القومي بالمكسيك، ففيه لعب علماء الأنثروبولوجيا دورا قياديا سواء في رسم البرامج أو تنفيذها، ومع ذلك فإن الشائع هو أن دور عالم الأنثروبولوجيا في برامج التنمية يكاد يقتصر على مشاركته في مواجهة مشكلات متعددة الجوانب(10). بيد أن هذا لا يعني غياب النظريات الأنثروبولوجية عن التطبيقات التنموية تماما، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن كثيرا ما روعيت الأنساق الاجتماعية والثقافية كأنماط كلية في عملية التنمية، فقد ” أسهم الأنثروبولوجيون إسهاما كبيرافي فهم مشكلات تقبل أو رفض التغير، كما أسهموا –إلى حد ما- في عمليات التخطيط والتنفيذ والتقويم ولقد تمكن الأنثروبولوجيون التطبيقيون من الإسهام في كثير من المشروعات، وذلك من خلال تحديدهم وتطورهم للقيادات المحلية، وإتاحة فرص التكيف داخل النظم الاجتماعية، وتحديد نقاط مقاومة التغير”(11). ولا يمكن إنكار ما قدمته الأنثروبولوجيا من دراسات كشفت الكثير عن المجتمعات المحلية وتغيراتها الثقافية، وكذا مشكلات التنمية بها، والعوائق التي قد تشكل حجر عثرة في طريق البرامج التنموية في هذه المجتمعات، كما أن دور الأنثروبولوجيا ظل دوما يتمثل في تقديم ما يساعد على تنفيذ البرامج التنموية أو بحث أسباب إخفاقها، وأحيانا التنبيه إلى معوقاتها مسبقا.
وبذلك يمكن أن تكون الأنثروبولوجيا بمثابة دراسات استراتيجية تتوخى تقديم واسستشراف مخططات حقيقية لتنمية المجتمعات المحلية منها والريفية.ويمكن الوقوف على الإسهامات التي تقدمها الأنثروبولوجيا -كعلم /اجتماعي/إنساني- لمخططات التنمية من خلال استثمار الفحوصات الكشفية للأنثروبولوجيا الاقتصادية في البرامج التنموية، فمن الناحية الاقتصادية فإن الدراسة الأنثروبولوجية التطبيقية تفيد من ناحية تطور تكنولوجيا وسائل الإنتاج، وطريقة الاستغلال في حدود النماذج والأنماط الثقافية المألوفة، على نحو يسمح برفع المستوى المادي والاقتصادي لهذا المشروع، وإنما يعتمد أساسا على العامل البشري – أي على الأفراد الذين يعملون في هذا المشروع، وبهذا تبدو أهمية الأنثروبولوجيا التطبيقية في أنها تسهل على الرجال وأصحاب رؤوس الأموال المستثمرة الحصول على أصلح العمال ملاءمة للنواحي الإنتاجية بأقل تكلفة وبأدنى أجر، بالإضافة إلى أن هذه الدراسة تفيد في مجالات التسويق للسلع المصنعة”(12). كما تتمثل بؤرة اهتمام الأنثروبولوجيا الاقتصادية في الدراسة المقارنة للأنساق الاقتصادية، والتي تتدرج عن تلك المجتمعات المحلية المنعزلة والبدائية تكنولوجيا إلى تلك المجتمعات القروية المتأثرة بالتصنيع، ويغطي هذا المجال مفهوم الندرة والمرونة ودراسة امتلاك الأراضي وأسلوب تنظيم الإنتاج، وتقسيم العمل، والحراك المهني، ودراسة المشروعات التجارية، ومجال دورة التبادل، ونظم السوق، وأشكال النقود، والعرض والطلب، والرصيد، ومستويات الاستهلاك، ومستويات المعيشة وتوزيع الثروة، وعلاقتها بالمكانة الاجتماعية في المجتمعات البدائية والريفية(13). وقد اهتمت كثير من الباحثين بالاسهامات البريطانية في الأنثروبولوجيا الاقتصادية باقتصاديات الزراعة وتأثير استصلاح الأرص ونمو المزارع، وتزايد الاهتمام بالمحاصيل النقدية وهجرة العمال، والعلاقة بين تلك الأرض ومختلف مظاهر البناء الاجتماعي، كما أجريت دراسات على أنماط الإنتاج في مجتمعات الصيد والرعي والجمع(14). كما يعد المدخل الاقتصادي مسلكا ممتازا لدراسة البناء الانقسامي لنسق البينات، وذلك لأن العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الوحدات القريبة والاقليمية تلعب دورا هاما في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك هذه الوحدات الاجتماعية، وحيث تقوم علاقات التعاون المباشر في أماكن النشاط اليومية للإنتاج وبخاصة الوحدات الإنتاجية للنواة، والتي تتمثل بصفة خاصة بين الأقارب الذين يقيمون في وحدة سكنية واحدة، فإن هؤلاء باعتبارهم يكوّنون وحدة قرابة متميزة تتحكم في معاملاتهم إلى حد كبير المصالح الشخصية القريبة والمباشرة، ويتوقف على مدى إشباع حاجاتهم الاقتصادية وتحديدهم لمدى انسجامهم وعمق تعاونهم مع الوحدات الأخرى المماثلة(15). وقد أكدت بعض الدراسات المهتمة بقضايا التنمية والتخلف في الدول المتقدمة والنامية أن “واقع التخلف لأي بلد نام ما هو إلاّ انعكاس وتجل لخصائصه وأبنيته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحضارية”(16)، ويربط أندري جندر فرانك (André gunder frank ) بين النظم الاجتماعية والسياسية وبين عملية التنمية في المجتمعات المحلية والريفية، فيقول : ” ما نراه من نظم اجتماعية وسياسية وثقافية في هذه المجتمعات، بدءا من أصغر وحداتها الاجتماعية في الريف وحتى أعقد هذه الوحدات في المدن المتروبولية، ما هي إلاّ نتاج للتطور التاريخي للنظام الرأسمالي”(17). وكذلك قام الاقتصادي الألماني “بويك” (boeke ) بدارسة الازدواجية الاجتماعية انطلاقا من تفسيراته وتجاربه في أندونيسيا والتي قدمها تحت عنوان ” نظرية من المجتمعات الشرقية”، نشرت هذه الدراسة سنة 1953 بعنوان الاقتصاد والسياسة الاقتصادية في المجتمعات الثنائية (( Economics and economic policy of Dual societies ويمثل هذا الكتاب دراسة التجربة الهولندية والتغلغل الرأسمالي الهولندي في جزيرة جاوة ( Jawa) بأندونيسيا، وترى هذه الدراسة أن الأراضي الزراعية المملوكة للأوربيين في جاوة كانت تسيّر بطريقة رأسمالية عقلانية وذات كفاءة عالية، في حين تواجد هذا الاقتصاد بجانب اقتصاد زراعي بيد السكان المحليين، حيث لوحظ أن الفلاحين لا يحاولون بذل أي مجهود لتقليد النموذج الأوروبي. فقد كان عبارة عن اقتصاد مزدوج متكون من قطاع متقدم وآخر متخلف، وبقي هذان القطاعان مختلفين ومتمايزين ولا يتقطاطعان(18). وباستقراء بسيط لنظرية بويك وملاحظاته الميدانية يتضح أن مجرد العثرة في طريق التنمية المحلية الريفية بإقليمجاوة الأندونيسي هو عدم امتثال القرويين للنموذج الأوروبي وبقائهم تحت سيطرة النموذج الأهلي الذي مثل الثقافة الفلاحية للأهالي، وأن تنمية هذا القطاع لابد وأن تكون مبنية على برنامج تنموي يراعي محاولة تأصيل النموذج الاقطاعي الأوربي في الثقافة الزراعية.وهذا قليل من كثير في تقديم نماذج لدراسات ونظريات أنثروبولوجية توخت تقديم نماذج ومخططات للتنمية في المجتمعات الريفية ومحاولة كشف العوائق التي تقف في وجه تنفيذ وتطبيق البرامج التنموية في المجتمعات المحلية والريفية.
بيد أنه لا تزال هناك بحوث هامة يتعين على علماء الأنثروبولوجيا القيام بها قبل أن يستطيعوا تقديم مبادئ عامة أكثر ثباتا وقدرة على التطبيق الواسع النطاق واتخاذ مكانة أكبر في عملية التنمية، ولنا أن نتساءل : هل التنمية تتمثل – ببساطة – في إتاحة الفرصة لاستغلال أفضل للموارد حتى يمكن مواجهة احتياجات مزيد من السكان؟ كيف يحدد الناس ما يعنونه بنوعية الحياة؟ إن عمليات التنمية تتطلب مزيدا من الاستغلال الواسع والمركز للموارد الطبيعية، كيف يمكن إحداث هذا التدمير (أو التغير ) للطبيعة؟ وكيف يمكن التسامح بصدده أيضا؟(19). ويوضح الدارسون المهتمون بمجالات التنمية في الدراسات الأنثروبولوجية أنه على الأنثروبولوجيا بوصفها حقلا مهتما بالقيم الثقافية للشعوب، أن تنحو منحى المرشد للوصول إلى استصدار قرارات رشيدة ذات أهداف تنموية، خصوصا وأن الدراسات الأنثروبولوجية الكشفية لعمق الوجود الإنساني قد بينت أن ثقافات الشعوب التي عرفت استقرارا حضاريا كانت غالبا ما تحقق توازنا نسبيا بين حجم السكان (النمو الديمغرافي) والتكنولوجيا (المعارف المتاحة) والموارد (الطبيعية)، كما بينت هذه الدراسات كيف أن الإنسان يتحمل المسؤولية الأكبر في التغيير البيئي (الإيكولوجي) وما يمثله ذلك من عوائق في طريق التنمية كانقراض كثير من الثدييات وتحويل الغابات إلى مراعي وتوسيع نطاق الصحاري في إفريقيا والشرق الأدنى عن طريق تكثيف الرعي، وتحويل مناطق شاسعة من أراضي الطمي في شمال الصين إلى أراضي ضعيفة فقيرة التربة… وهي كلها عوامل بيئية خطيرة يتحمل الإنسان مسؤوليتها، ومعلوم ما للعوامل البيئية من تأثيرات، إما ايجابا وإما سلبا في عملية التنمية. وكما هو معلوم أيضا فإن “هناك ثلاثة مجالات هامة مرتبطة بأنثروبولوجيا التنمية يتعين على علماء الأنثروبولوجيا أن يقدموا فيها إسهاما كبيرا هي : التحكم في زيادة السكان وصياغة الأهداف والحد من الاختلال الإيكولوجي”(20). وعلى العموم فإن للأنثروبولوجيا – كوسط معرفي – دورا هاما في مجال التنمية بفعل ما تقدمه من اكتشافات معرفية تستطيع التوغل في ثقافات الشعوب وقيمها ونظمها الاقتصادية والاجتماعية، إذ لا يمكن بحال من الأحوال التغاضي عن هذه القيم والأنماط أثناء دراسة ووضع المخططات التنموية، أو الاكتفاء بدراسة المعايير الاقتصادية الواجب وضعها كدرجات تصاعدية لعملية تنمية المجتمعات، والتي قد تكون فاشلة بسبب جهل هذه الأنماط الاجتماعية والثقافية الكلية أو بسبب عدم استجابة الأهالي المحليين لتلك المخططات.
كما أن التغير التكنولوجي وحده غير كاف لتحقيق تنمية شاملة، ذلك أن ” التغير التكنولوجي لا يكون فعالا إلا في إطار الثقافة الكلية ومنظوماتها الاجتماعية، ولقد صاغ علماء الأنثروبولوجيا بعض نماذج التنمية كتلك التي صاغها ليدز وأدامز، ومع ذلك فإن الإسهام الأساسي… في مواقف واقعية استطاعوا فيها المشاركة في تخطيط أو تنفيذ مشروعات معظمها على مستوى محلي”(21). ومن هنا يمكن القول إن علماء الأنثروبولوجيا قاموا في حالات عديدة بتخطيط وتوجيه برامج التنمية للمجتمعات المحلية، كما قدمت هذه الدراسات بيانات مهمة يمكن التعويل عليها أثناء دراسة المشاريع التنموية الخاصة بالمجتمعات المحلية والريفية/القروية، ويمكن التدليل على ذلك بما قدمه الأنثروبولوجيون من إسهامات معرفية مهمة في كثير من جوانب التنمية المحلية، خاصة ما تعلق منها بمجالات السياسات التعليمية والزراعية والصحية.
وبناء على ما تقدم فإن للأنثروبولوجيا أدوارا معرفية نظرية و تطبيقية هامة في السياسات التنموية، وإذا كانت المعرفة الأنثروبولوجية قد قدمت ما عليها من أطر نظرية، فإن الشق المتبقي هو من اختصاصات مخططي البرامج التنموية الذين عليهم الالتفاتة إلى الاكتشافات المعرفية للأنثروبولوجيا والإفادة منها.
والظاهر مما سبق سبق أن الأنثروبولوجيا ليست تنظيرا في فراغ لا يراعى منه إلا دراست الظواهر أو تقديم الأوصاف للأنماط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات والشعوب، بل إنها تحمل ضمنيا كثيرا من الملاحظات التي يمكن الاعتماد عليها خلال إجراء مخططات حكومية تهدف إلى وضع برامج تنموية خاصة بالمجتمعات المحلية، وعلى الدراسات الأنثروبولوجية أن تكون أكثر اهتماما بالمشكلات المرتبطة بالتنمية، وألا تظل حبيسة البحث النظري في نظم الشعوب، وذلك على اعتبار أن العلوم الاجتماعية والإنسانية – والأنثروبولوجيا واحدة منها- إنما الهدف والغاية منها إيجاد الحلول الممكنة لأزمات الإنسان وإشكالاته الوجودية عامة.
كما يتعين على واضعي مخططات التنمية المحلية أن يلتفتوا نحو الدراسات الكشفية الأنثروبولوجية، وذلك لأن هذه الدراسات غالبا ما تقدم صورة أوضح عن المجتمعات المحلية، وبالتالي تكون عمليات توجيه التنمية نافذة وفعالة.