نابغة فريق العمـــــل *****
التوقيع :
عدد الرسائل : 1497
الموقع : المنسق و رئيس قسم الفكر والفلسفة تعاليق : نبئتَ زرعة َ ، والسفاهة ُ كاسمها = ، يُهْدي إليّ غَرائِبَ الأشْعارِ
فحلفتُ ، يا زرعَ بن عمروٍ ، أنني = مِمَا يَشُقّ، على العدوّ، ضِرارِي
تاريخ التسجيل : 05/11/2009 وســــــــــام النشــــــــــــــاط : 2
| | عصام بوشربة الحوار المتمدن-العدد: 5067 - 2016 / 2 / 6 - 08:25 المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع | |
تقديم:يقف الجابري في بحثه لقضية التراث عند مشكلة "العقل" داخل الثقافة العربية، محمّلا هذا العقل عبء التخلف والركود الذي تعانيه الأمة العربية والإسلامية، فالمشكلة هي مشكلة عقل، والأزمة هي أزمة عقل بالدرجة الأولى قبل أن تكون شيئا آخر، هذا العقل الذي بقي صامتا أمام قضاياه التي الأحرى أن يقول كلمته فيها، وأبى الاشتغال والنظر مكتفيا باسترجاع واستحضار ما ارتسم على صفحته مما سبق، وما حفرته الأزمنة الماضية .هذا العقل في نظر الجابري يحتاج لإعادة نظر وفحص من جديد، من حيث تركيبه وبنيته المعرفية، وآليات عمله في التلقي والإنتاج المعرفي، هذا النوع من البحث جعل الجابري يضع أمامنا جملة من المعطيات والأوصاف حاول إضفاءها على هذا العقل: فهو عقل وليس فكر، عربي ليس إسلامي أو كوني، يستمد هويته من التراث وفي نفس الوقت غير مندمج أو ذائب فيه، يقف على أرضية حداثية وفي نفس الوقت محافظ على خصوصيته ..هذه المعاني وغيرها هو ما جاءت هذه الورقة لتكشف عنه بنوع من الاختصار موجه بسؤال : ما مفهوم العقل عند الجابري؟ ثم محاولة مناقشة هذه النقطة عن طريق ربط رؤية الجابري برؤى أخرى تتعلق بما أثاره غيره من المفكرين الذين تناولوا قضية العقل في الفكر العربي المعاصر. أولا: مفهوم العقل عند الجابري يشير الجابري في بحثه عن معنى العقل في التراث العربي الإسلامي إلى أن مادة (ع.ق.ل)في القاموس العربي يرتبط معناها بالسلوك والأخلاق، فهو من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه، والعقل ما يمنع صاحبه من التورط في المهالك أي يحبسه، وهكذا ...أما في القرآن الكريم فيأخذ كذلك هذا المعنى القيمي إذ يأتي معنى العقل ليفيد التمييز بين الخير والشر، وبين الهداية والضلال، فلفظ (العقل) لم يرد البتة في صيغة الاسم، ---;---و إنما وردت في صيغة الفعل ( )، مثل قوله تعالى: (-;---;-----;--- وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ -;---;-----;---) ( )، فلفظة قلب وردت هنا بمعنى العقل .كذلك يمكن أن نلمس من خلال الدلالات المختلفة لكلمة(عقل)، والكلمات الأخرى التي في معناها ما يمكن ربطه بالنظام والتنظيم ، وهو معنى يتجه دوما إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها ( ).ويربط الجابري بين تحديد العقل في التراث العربي ونظيره اليوناني، معتبرا أن أساس العقل اليوناني هو معرفي ثم امتد إلى الأخلاق، عكس الفكر العربي الذي ركز مفهوم العقل على قاعدة السلوك ( )، فالفكر اليوناني أسّس الأخلاق على المعرفة، أما الفكر العربي فقد سلك الطريق المعكوسة، أي أنّه أسّس المعرفة على الأخلاق، لذلك انحصرت مهمة العقل في التمييز ضمن موضوعات المعرفة، أما عند اليونان تمثلت مهمة العقل في عملية اكتشاف العلاقات التي تربط بين ظواهر الطبيعة، كما إنها لم تعد تهتم بفسح المجال أمام العقل لكي يكتشف نفسه من خلال الطبيعة، بينما في الفكر العربي تحددت مهمة العقل بحمل صاحبه على القيام بما هو حسن، وتجنب ما هو قبيح على صعيد السلوك، ومن خلال ذلك يمكن الاستدلال على وجود عقل لديه ( ) .إن تأسيس العقل على الأخلاق يجعله محكوما بنظرة معيارية إلى الأشياء، فيهتم بالبحث عن مكان هذه الأشياء داخل منظومة القيم المعتمدة كمرجع للتفكير، والنظرية المعيارية تقابلها في مجال الفكر النظرة الموضوعية التي تبحث عن مكونات الأشياء، وتكشف عن الجواهر الكامنة فيها، فهي تركز عملها على الشيء ذاته، أي على الموضوع .من هنا كانت النظرة المعيارية نظرة اختزالية، تختصر الشيء في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص والمجتمع والثقافة، أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية تركيبية: تحلل الشيء إلى عناصره الأساسية، لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهري فيه ( ) .من خلال هذا الحفر المعرفي عن مفهوم العقل داخل الثقافة العربية، نجد أن الجابري يتبنى مفهوم معين للعقل مضيفا إليه صفة أخرى هي "العروبة"، وجعل هذا عنوانا لمشروعه النقدي عبر سلسلة(نقد العقل العربي)، وهي: "تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"، "العقل السياسي العربي"، وأخيراً "العقل الأخلاقي العربي" .وهنا نلاحظ أن الجابري يقدم مفهوما للعقل العربي بأنه:" ليس شيئاً آخر غير هذا الفكر الذي نتحدث عنه: الفكر بوصفه أداة للإنتاج النظري صنعتها ثقافة معينة لها خصوصيتها، هي الثقافة العربية بالذات" ( ) .غير أن ما يمكن ملاحظته على هذا التعريف، هو تعبير الجابري عن العقل بالفكر بدل العقل، فلماذا يطابق الجابري بين (عقل) و(فكر)، ثم كون هذا العقل من جهة أخرى يأخذ صفة تركيبية تشكلت داخل الثقافة التي ينتمي إليها . ومن زاوية أخرى نرى أن الجابري يميز بين العقل والفكر، في حين أنه لا يعطينا فرقا واضحا يمكننا من تتبع أفكاره وفق هذا الفرق الذي حدده، وهذا المنحى نجده يتكرر مع الجابري بخصوص (الفكر/ الواقع)، (المنهج/الرؤية)،(العقل المكَوَّن /العقل المكَوِّن) وهكذا.. وفي شأن عروبة هذا العقل(عقل عربي) يقول الجابري أنه:" ليس مقولة فارغة، ولا مفهوماً ميتافيزيقيا، ولا شعاراً إيديولوجيا للمدح أو الذم، [وإنما هو] جملة المفاهيم و الفعاليات الذهنية التي تحكم بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصراحة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء، وطريقة تعامله في مجال اكتساب المعرفة" ( ) .في هذه النقطة نلاحظ أن الجابري يضفي طابع الخصوصية على هذا العقل، فهو عقل عربي وليس كوني، ثم هذا العقل هو جملة من المفاهيم و الفاعليات الذهنية المحدِّدة لرؤية الإنسان العربي؛ وهو المعنى الثاني للعقل عنده . والسر في وصف العقل بالعربي، وليس الإسلامي، إذ في اعتقاده أن تسمية العقل الإسلامي تنطوي على دلالة لاهوتية، في حين أنه اختار النقد الايبستيمولوجي؛ الذي يتناول أدوات المعرفة وآلياتها لا منتجات هذه الأدوات، أما النقد العقدي فلم يدخل ضمن اهتماماته، كما أنه يذكّي الصراعات الطائفية الكلامية السابقة ( ) .فعملية النقد تقتضي إخضاع هذا العقل الذي صنعته الثقافة العربية لامتحان يحدد دلالته النظرية و المفهومية والتطبيقية تحديدا عقلانيا، ولهذا قدم الجابري تصورا لمشروع فكري حضاري بهدف تحديث العقل و تكوينه نظريا في: اللغة والكلام والفقه والعقيدة والفلسفة وتطبيقيا: في العملية السياسية ( ) .وعلى هذا الأساس فإن الجابري يدعو إلى تكوين عقل عربي معاصر قادر على تأسيس عقلانية تاريخية أصيلة غير مزروعة من الخارج، وقد بين ذلك في كتابه:"نحن و التراث" لما بشّر بعقلانية معاصرة محاصرة بعقلانية كلاسيكية، و هي عقلانية تستعيد الرشدية و الخلدونية كي تبني عليها إضافات جديدة مطابقة لمتطلبات العصر والتاريخ، وهذا يعني أن الجابري يرفض القول بكونية العقل من موقع احترام خصوصيات الثقافات، والاختلاف في فهم و قراءة التراث العقلي لكل حضارة ( ) .وعليه يرى الجابري أن الفكر العربي مطالب اليوم بنقد المجتمع ونقد الاقتصاد ونقد العقل المجرد والعقل السياسي، و لكن بروح علمية معاصرة - و في هذا الرأي نلاحظ أن الجابري يحاكي النموذج الكانطي في منحاه النقدي- على اعتبار أن بدون هذا النقد سيبقى كل حديث عن النهضة والتقدم والوحدة في الوطن العربي حديث أماني وأحلام ( ) .وإذا حاولنا تلخيص نظرة الجابري بتحديد دقيق لمفهوم العقل عنده، نجد أنه يتجاذبه طرفان مفهوم للعقل باعتباره أداة من أدوات المعرفة، و هو العقل القياسي الأرسطي، ثم البرهاني الرشدي، وللعقل بهذا المعنى دور أساسي في التصورات والتصديقات، وبواسطته يتم تكليف الإنسان ويخرج من القوة إلى الفعل في حركة تدريجية استكمالية، فيميز أولا الحق من الباطل، والصواب من الخطأ والخير من الشر، ثم يسير على جادة التكامل بأفعاله الاختيارية ( ) .ومن جهة أخرى نجد أنه يأخذ بمفهوم العقل عند لالاند(Lalande)، الذي يشمل العقل المؤِّلف و العقل المؤَّلف(Raison constituante et raison constituée)( ) .ثانيا : نقد مفهوم العقل عند الجابري :بناء على ما سبق ذكره حول مفهوم العقل عند الجابري، نبادر إلى مناقشة هذه النقطة انطلاقا من الآراء التي أثيرت حولها ، محاولين صياغة ذلك وفق خطة تعتمد على مقابلة ما انطلق منه الجابري وحاول تحقيقه وما انتهى إليه من نتائج، وتشتمل هذه الخطة على العناصر التالية : أولا:مثالية مؤدية إلى إيديولوجيةثانيا:علمية مؤدية إلى لا تاريخيةثالثا: عقل عربي مؤدي إلى عقلانيةأولا :مثالية مؤدية إلى إيديولوجية :تحت هذا العنوان يمكن إدراج ما تناوله هشام غصيب في نقده لمفهوم العقل عند الجابري في كتابه "هل هناك عقل عربي:قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري" الذي وصف فيه الجابري بأنّه وقع في مثالية صارخة، وهذا إثر فصله بين (الفكر) و (العقل) من خلال استعمال مفاهيم مثالية تقليدية متمثلة في استعمال لفظ (عقل) بدل (فكر)، بحيث أن همه ليس الفكر، وإنما الأداة المنتجة لهذا الفكر، و ليس دراسة مضمون هذا الفكر أي الإيديولوجيا العربية، و إنما دراسة الأداة المنتجة لهذا الفكر، وهي نظرة تشيئية لإنتاج الفكر، وتمييز مصطنع حاول إخفاءه بأنه منهجي، وما هي هذه الأداة غير الفكر بوصفه أداة ، مقابل الفكر بوصفه أيديولوجية .ثم ينتقل إلى الفصل بين (الفكر) و(الواقع)؛ فالنظر إلى الفكر كونه عربيا يتجاوز اعتباره تصورات أو آراء أو نظريات تعكس الواقع العربي أو تعبر عنه، هو أسلوب تجريدي مثالي في معالجة الفكر، وعزله عن أساسه المادي والاجتماعي، بل هذا الفكر هو أيضا نتيجة طريقة أو أسلوب في التفكير ساهمت في تشكيلها جملة معطيات منها الواقع العربي نفسه، وما يحمله من مظاهر الخصوصية .ثم يذهب الجابري إلى أبعد من هذا إذ يستقدم خصوصية لهذا الفكر من خارجه، فعوض أن يكون نتاج عقول يحتل أصحابها مواقع معينة في المجتمع، يرجعه إلى احتكاك الفكر مع محيطه الاجتماعي و الثقافي، وكأن هذا الفكر ينتج أولا بمعزل عن هذا المحيط ثم يدخل في احتكاك معه، فهناك فصل ميكانيكي واضح بين الفكر و محيطه ( ) . وبعدها حاول الجابري إيجاد مخرج لموقفه اتجاه العقل من خلال أطروحة لالاند (Laland) الذي يقترح وجود عقلين، وهو الآخر مبني على فصل ميكانيكي تعسفي أولا: بين الفاعلية والبنية، وثانيا: بين البيولوجي والتاريخي، وثالثا: بين العالم الإنساني والخاص القومي، وفي اعتباره أن العقل الفعال هو النشاط الذهني وفق قواعد العقل السائد ومبادئه، والمنطلق منها والعامل على إنتاجها وإعادة إنتاجها---;--- وهو ما يقلل من صحة افتراض هذا التمايز والانشطار في العقل ( ) .وفي إدعاء الجابري أن لكل عقل قومي أو ثقافي هيكلا ثابتا، لا يتغير مع تطور الحياة و المعرفة، هو تصور ميتافيزيقي يتعارض مع بنية الخبرة والتجربة، ومع مضمون العلم ومنهجيته، ذلك أن بنية الخبرة التي يكتسبها الإنسان، وبنية تطور العلم تنفيان إمكانية وجود شيء معزول عن باقي الموجودات من جهة، ومن جهة أخرى أن كل موجود يتفاعل مع غيره يتغير بالضرورة بفعل هذا التفاعل، و مع ذلك نجد أن الجابري يصر على وجود هيكل جوهري ثابت يغير و لا يتغير، و يتخطى كل تفاعل بما في ذلك خصوصية التركيبة الاجتماعية السائدة، و جميع المؤثرات المادية الأخرى ( ) .كما أن عملية النقد التي يعتقد الجابري أنها يجب أن تمارس داخل العقل العربي، ثم في الوقت نفسه لابد من إغناء هذا العقل بمفاهيم واستشرافات، تستقى من جانب أو آخر من جوانب الفكر الإنساني، دون وضع أي اعتبار لمدى التماسك والترابط المنطقي والمعرفي، يدل على أن تسخير الأفكار والروابط من قبل الجابري كان الهدف منه تحقيق غرض أيديولوجي وليس معرفي ( ) .ثانيا :علمية مؤدية إلى لا تاريخية :يصف الجابري العقل العربي كأنه هيكل ثابت مقارنة مع نظيره اليوناني- الأوروبي؛ حيث يرى أن الفرق الجوهري بين العقلانية اليونانية - الأوروبية وبين العقلانية العربية، يكمن في أن الأولى عقلانية موضوعية معرفية والثانية وجدانية معيارية أخلاقية، في حين أن هذه النزعة المعيارية الأخلاقية لم تكن مقتصرة على الثقافة العربية الإسلامية فحسب، وإنما تغلغلت أيضا في الفكر الإغريقي ما بعد السقراطي، وفي الفكرين الفارسي و الهلنستي، و في الفكر الأوروبي القروسطي، و ظلت هذه النزعة مهيمنة حتى انطلاق الرأسمالية في أوروبا الغربية، لكن الجابري يهمل ذلك كله، و يعزل الثقافة العربية الإسلامية عن سياقها التاريخي و العالمي، وهو بهذا المنحى يؤكد ذلك الخطاب الإستشراقي التقليدي " أن الغرب عقلاني موضوعي، وأن الشرق روحاني أخلاقي" الذي يعتبر من إنتاج العرقية الغربية ( ) .ومن جهة أخرى يرى طه عبد الرحمن أن ما أسماه الجابري بــ" التصور العلمي في أرقى صوره" لا يمكن التسليم به؛ فالمصادر الفرنسية التي اعتمدها في بناء منظوره العلمي من العقل، والتي ذكر بعضها تنتمي إلى النصف الأول من هذا القرن، أو لفترة قبلها، في حين نجد هناك تطورا في النظرة العلمية للعقل والعقلانية بعد هذه الفترة لا يمكن الباحث أن يستغني عنها، أو لا يلتفت إليها ( ) .ونظرة طه عبد الرحمن فيها إشارة إلى إهمال الجابري لموجة الانتقادات التي وجهها الفكر الغربي للعقل الأرسطي في العصر الحديث من طرف كيركيفورد (Kierkegard)، و فيشلر ( Schieler)، و فجسبرز ( Jaspers)، و شستوف ( Chestov)، و هيدغر ( Heidegger)، و غيرهم، و شمل هذا الهجوم ميدان الأخلاق، و ميدان المنطق، و ميدان الأدب، و غيرها من الميادين الأخرى ( ) .و قد حاول هؤلاء اكتشاف طريق سليم يؤدي إلى معرفة الحقيقة، فألقى هيدغر بنظرة هادئة إلى حالة الإنسان، و رأى أن هذه الحياة حقيرة، و أن الواقع الحقيقي هو الاهتمام، و هذا الاهتمام بالنسبة للإنسان المتشبث بالعالم و ملاهيه: هو خوف سريع قصير الأمد، ولكن هذا الخوف إذا استمر واشتدت وطأته حتى بلغت درجة يشعر فيها بالخوف، فإنه يصير قلقا، و في هذا يجد الوجود نفسه . أما فيجسبرز فإنه يئس من كل وجود، و أدرك أن نهاية الفكر هي الخيبة، و أن العدم هو الحقيقة الوحيدة التي لها قيمة، وأن اليأس هو الموقف الذي يجب اتخاذه، لذا حاول العثور على حبل النجاة الذي يقود إلى الأسرار الإلهية .وهكذا استمرت محاولات الفكر الغربي في تقديم الكائن الإنساني ككائن وجداني وعاطفي مع روسو (Rousseoau)، و كذات لا يمكن إرجاعها إلى أي شكل من أشكال العقلنة مع كيفارد، و من ناحية أخرى البحث في الكون عن أشياء أخرى غير القوانيين الميكانيكية مع شبنهاور( (Schopenhauer، ثم نيتشه (Nietzsche)، و فتحت الرومانسية باب البحث فيما قبل العقل، وفيما بعده ( ) . كما نجد كذلك نقدا جديدا داخليا ينطلق من قلب العقلنة ذاتها، يدين العقل لا فقط من حيث كونه مفرطا في العقلانية، بل يدينه كذلك على أنه غير معقول، ونقصد بهذا (مدرسة فرانكفورت)؛ حيث انبثق استنكار العقل الأداتي، الذي أصبح سيد الموقف مع ماركوز (Marcuse)، و فرض تصوره ذا البعد الواحد، وذلك هو اكتشاف أن هذا التبرير العقلاني قد أصبح دكتاتوريا واستبداديا، إذ أصبح العقل يتصرف إزاء الأشياء، كما يتصرف الديكتاتور إزاء الناس، فهو يعرفهم في حدود أنه يستخدمهم ( ) .عقل عربي مؤدي إلى عقلانية :يتشكل العقل العربي بحسب الجابري من (معقول عربي ومعقول يوناني ولامعقول قديم غير عربي)، بالتالي ينتج عن هذا أن اللامعقول هو عنصر دخيل على الثقافة العربية، وهو موقف رأى فيه علي حرب أنه إقصاء صادر عن نزعة اصطفائية (نزعة عربية مركزية) ، حيث تنسب اللامعقول من خرافة وسحر و..إلى العالم الشرقي( )، وأن عقلانية الجابري هذه جعلته يغفل اللامعقول النابع من الثقافة العربية أصالة ، وأول ما يمكن أن يشار إليه هنا هو الوحي من حيث اشتماله على جانب غيبي أو لاهوتي( ) .خاتمة :ما أردت قوله في ختام هذه الورقة؛ أنه إذا سلمنا حقيقة مع الجابري بأن عائق نهضتنا وأزمة حداثتنا هي أزمة عقل بالدرجة الأولى، من ثم كان من الضروري إعادة التفكير والنظر في مفهوم العقل، وإعادة الصياغة المنهجية والمعرفية له في الفكر العربي والإسلامي، أما فيما يخص طريقة معالجته لمفهوم العقل وتحديده بهذه الصيغة التي اقترحها، فأرى أن هناك مجال أو فرصة لإعادة النظر في هذا المنحى التشطيري، والأسيجة التي ظل الجابري يقيمها بين فكرة وأخرى بما يوحي بنوع من التضاد والتناقض كتصويره الإيبستيمولوجي ضد الإيديولوجي، والعقلاني ضد المثالي والروحاني، والعلمي ضد الديني..، مما يفتح لنا بابا آخر هو محاولة الجمع وإعادة تركيب ما أحدثته آلة النقد الحادة عند الجابري من تقطيع بشأن العقل ومفهومه، لأن النظر بهذه الصيغة التركيبية لها انعكاس على تركيب آخر هو الإنسان؛ الذي يعتبر العقل أحد مكوناته فهو جزء منه وليس كل ، وبهذا يتجلى لنا دور المعنى القيمي للعقل الذي عابه الجابري على العقل العربي في بداية تحليله وانتهينا هنا لتأكيد ضرورته . | |
|