لقد رأينا في الآونة الأخيرة الكثير من العقوبات التي ترتكب باسم الدّين، شاهدنا الذبح والحرق والرجم ..إلخ . وبغض النّظر عن مدى شرعيّة من يقوم بتلك العقوبات ، فإننا نلاحظ استناد هؤلاء الإرهابيين على نصوص فقهيّة تراثيّة. ولذا، سنحاول في هذه المقالة التطرق لموضوع قانونيّ و فلسفيّ بحت، لكنه لا يبتعد عن الدّين الإسلامي الذي يعتبر الكثيرون أن قواعده صالحة لكل زمان و مكان، و أن القرآن ليس كتاب عبرة و حكمة و تعبد فحسب، وإنّما كتاب تشريع وقانون .
موضوعنا سيكون عن فلسفتي الجريمة والعقوبة في إطار القانون الجنائي والتّشريع الإسلاميّ. ولهذا، سنتناول موضوع تطور القانون الجنائي والتّأصيل الفلسفيّ والقانونيّ للجريمة، ثم سنعرج على موضوع فلسفة العقاب، و أخيراً، سننتهي بمقارنة العقوبات الجنائيّة بين القانون الجنائي الوضعي والتّشريع الإسلامي .
فما هي مراحل تطور القانون الجنائي؟ وما هو التّأصيل الفلسفي للجريمة وللعقوبة؟ وما أنواع العقوبات في التّشريع الإسلامي وفي القانون الجنائي؟
1 ـ تطور القانون الجنائي
لقد مـر القانون الجنائيّ في تطوره بمراحل عديدة، فلم يظهر في أوله كمجمـوعة من القواعـد القانونيّة التي تحدد الأفعال المجرمة والجزاءات المقررة لها ، و ذلك إمّا على شكل عقوبات أو تدابير وقائيّة، وإنّما تمثل شكله الأول في اتباع بعض الجماعات البشريّة لقواعد عقابيّة تسير عليها من أجل ردع المخالفين والمجرمين . ويجمع الباحثون على أن سلطة التّجريم والعقاب والنظم الجنائيّة عامّـة والعقابيّة بصفة خاصة بدأت على شكل عدالة فرديّة وانتهت بتمركز سلطة التّجريم والعقـاب في يد الدّولة.
ويمكن القول إن المرحلة الدّينيّة هي من بين المراحل الأولى التي نظمت النظام الجزائي في المجتمعات الإنسانيّة. وفي هذه المرحلة كانت حياة الإنسان مؤسسة على المقدّسات، ولهذا فقد كان سلوك الأفراد سلوكاً دينياً، وأي ضرر يتسببون به كان يعتبر خطيئة دينيّة تستوجب العقاب حتّى لا تغضب الآلهة. وقد امتازت المرحلة الدّينيّة بانتقال فكرة العقاب من معنى اتخاذ العقوبة هدفاً في حد ذاته، إلى مرحلة أصبحت العقوبة فيها تُتخذ لإرضاء الآلهة التي يغضبها ارتكاب الجرائم، أي أنّ هدف العقوبة أصبح هو التّكفير عن الجريمة ، وهذا الهدف يشكل نقلة مهمة في فلسفة العقاب، و إن كان قد صاحبته قسوة في العقوبة تصل لحد التّعذيب الفظيع والتمثيل بالجثث بشكل مبالغ فيه، وذلك فقط من أجل إرضاء الآلهة .
وبعد المرحلة الدّينّية جاءت المرحلة السياسيّة، وتميزت هذه المرحلة باستئثار الدّولة بحقّ العقاب، وهكذا ظهرت بعض المدونات الجنائيّة الأولى، إلا أن العقوبات في هذه المرحلة ظلت قاسية ووحشيّة، وذلك بسبب ترسخ فكرة أن العقاب الشديد من شأنه أن يخيف النّاس ويمنعهم بالتّالي من ارتكاب الجرائم .
2ـ التّأصيل الفلسفي للجريمة
مع بزوغ عصر التّنوير الذي توجه إلى حماية الحقوق الفرديّة والحريات، تأسست مرحلة جديدة وهي مرحلة الدّراسات الفلسفيّة. وفي هذه المرحلة تمت مناقشة موضوعي الجريمة والعقوبة فلسفياً وفكرياً. فظهرت مدارس مختلفة ساهمت في تأسيس العلم الجنائي الحديث. ويُعد بيكاريا وبنتام وفويرباخ من أهم رواد هذه المرحلة. وقد انتقد هؤلاء المنظرون الأوائل للفكر الجنائي النظم الجنائيّة القائمة على استبداد الحكام والقضاة من جهة، ومن جهة أخرى، على وحشيّة العقاب الذي كان يتنافى مع الكرامة الإنسانيّة. لهذا نجد أن بيكاريا نادى في كتابه الشهير “في الجرائم و العقوبات” إلى إقرار مبدأ الشرعيّة الجنائيّة، كما نادى بالتناسب بين العقوبة والجريمة. وأمّا بنتام وفويرباخ فكانا من أنصار مذهب العقوبة الرادعة. وبعد هؤلاء المنظرين الأوائل، جاء مجموعة من المنظرين الجدد الذين ناقشوا موضوع الجريمة بوصفها واقعة قانونيّة مجردة، وقالوا بأن العقوبة يجب أن تكون “لا أكثر مما هو عادل ولا أكثر مما هو مفيد”. واستمر الفكر الجنائيّ يتطور إلى أن وصل لمرحلته الراهنة. فأصبحت الجريمة مجرد خطأ وليس خطيئة، وهي بمعناها الواسع تلك الأفعال التي تحددها الدّولة بمقتضى قانون وضعي والتي من شأنها أن تحدث اضطراباً في المجتمع نتيجة الأضرار التي تلحقها أو تهدد بها مصالح المجتمع والأفراد.
وقد وضع فقهاء القانون أركاناً للجريمة، فلا نكون أمام جريمة بمعناها القانوني إلا حين تتوفر أركانها. وهذه الأركان هي: ركن قانوني، ركن مادي، ركن معنوي. فأمّا الركن القانوني فيتمثل فيه المبدأ الجنائي الشهير “لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص”. وأما الركن المادي فهو النشاط المادي للجريمة، ويتكون من سلوك إجرامي، فالقانون لا يعاقب على النوايا والرغبات الباطنة المجردة من مظهرها المادي الخارجي، فبدون ماديات ملموسة لا ينال المجتمع اضطرابا ولا يصيب الحقوق الجديرة بالحماية الجنائية عدوانا. وكذلك فمن عناصر الركن المادي توفر النتيجة الإجراميّة، و أخيراً وجود علاقة سببية بين السلوك الإجرامي والنتيجة الإجرامية. و أخيراً، فإن الركن الثالث من أركان الجريمة هو الركن المعنوي، و يقصد به أن يكون الشخص قد أقدم على الواقعة غير المشروعة مادياً عن إرادة آثمة وجرميّة .
إننا حين نتأمّل كتب الفقه الإسلاميّ يظهر لنا جلياً أنّها لا تأخذ بأركان الجريمة كما سطرها فقهاء القانون الجنائي المعاصر. و سأضرب مثلاً لحكم الزنديق كما جاء في بعض كتب الفقه. لقد قال المالكيّة والحنابلة أنه يجب قتل الزنديق بعد الاطلاع عليه بلا طلب توبة، والزنديق هو الذي يسر الكفر، ويظهر الإسلام ، ولا بد من قتله وإن تاب. ويضيف الفقهاء: وإن تاب قتل حداً لا كفراً، فيحكم له بالإسلام ويغسل، ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. إننا لو افترضنا جدلاً أننا أمام جريمة يعاقب عليها القانون، فإننا نكون أمام جريمة بلا أركان، أي أنّها عدم، حسب الفكر القانوني المعاصر. فلا يوجد، أولاً، ركن قانوني، لأننا لا نتوفر على نص تشريعي واضح يجرم فعل الزندقة ويوجب قتل الزنديق، فالفقهاء ليسوا كلهم على مذهب المالكيّة والحنابلة، فنجد أن الحنفيّة والشافعيّة قالوا إن الزنديق إذا تاب، وأظهر الإسلام تقبل توبته و لا يقتل. وثانياً، فإن القانون المعاصر لا يعاقب على النوايا والرغبات الباطنة التي لم تتحول إلى فعل مادي، أي إلى سلوك إجرامي. فكيف نعاقب من هو زنديق؟ هل شققنا على قلبه حتى نعرف ذلك؟
هكذا نجد أنفسنا أمام أحكام لا يمكن أن تكون إلا أحكاماً تراثية لا تتضمن أسس الفكر الجنائي الحديث كما صاغه المنظرون الأوائل للقانون الجنائي. وهنا لا يفوتنا أن نذكر بأن الجريمة والعقاب مرتبطان بالظروف المادية للحياة الاجتماعية في المجتمع وما ينتج عن هذه الظروف من علاقات اجتماعية و ثقافيّة وغيرها. مما يجعلنا نتفهم ما جاء في كتب الفقه من تجريم وفرض عقوبات على جرائم معينة، غير أننا نعي أيضاً أن الفقه الإسلامي أو الشريعة تجمدت طيلة قرون، و ذلك منذ اغلاق باب الاجتهاد، مروراً بالقرون الوسطى، فالعصور الحديثة .
قلنا إن الجريمة مع المنظرين الأوائل للقانون الجنائيّ أصبحت خطأ وليس خطيئة كما نظرت إليها المرحلة الدّينيّة. ولهذا نجد هيجل يعتبر الجريمة خطأ وصل لذروته. ففي الجريمة، حسب هيجل، لا يكون ثمة احترام لا لمبدأ الحقّ ولا لما يبدو حقّاً. إن المجرم يلغي قانون الحقّ. لهذا كانت الجريمة سلب للحق بما هو كذلك عن طريق فاعل عاقل، وهي بهذا الشكل لون خاص من ألوان التناقض. إنّها واقعة موجودة ولكنها مع ذلك عدم. ومعنى هذا أن الجريمة غير حقيقية رغم أنّها موجودة ، فهي تهدم نفسها بنفسها. إن الجريمة، وفقاً لهيجل، فعل من أفعال الإرادة ، ولأنها كذلك، تحتاج في نفيها إلى شيء أكثر من إقناع المرء بالحجة لكي يسلّم بخطئه النّظري ، أي إنها تحتاج لنفيها إلى العقاب .
3 ـ فلسفة العقاب
وإذن، فإن أهم أثر يترتب عن ارتكاب الجريمة هو العقوبة. إن هذه الأخيرة تعبر عن مدى الارتباط بين الجريمة والجزاء الجنائي. وللعقوبة قوّة رمزيّة، إذ أنّها تُهمنا بأن الجريمة لم تكن، وأن مواجهة التّصرفات السلبيّة بتصرفات مماثلة تمكن من محو آثار الجريمة وإنكار وجودها، فهكذا كانت عقوبة الزنديق حسب المالكية والحنابلة هي القتل ولو استتاب، ولو أننا لم نطلع على نواياه، إنها عقوبة تحاول أن تمحو الجريمة التي من طبيعتها أنّها تحدث اضطراباً اجتماعياً . بمعنى أن للعقوبة مقاصد .
بيد أن مقاصد العقوبة لم يتم الّتفكير فيها إلا خلال القرن 18، أما قبل ذلك، فلم يكن الحديث عن مقاصد العقوبة وارداً، لأن تطبيق العقوبة على المجرم كان أمراً بدهياً يستوجبه العدل والحقّ. لقد كانت العقوبة جواباً حتمياً و مباشراً على الجريمة. غير أن هذه المواقف تعرضت لمطرقة النّقد العقلانيّ الذي ظهر نتيجة لتطور الفكر الإنسانيّ في عصر الأنوار، فتم طرح سؤال عن الغاية التي نبتغيها من العقاب. فالعقوبة غير قادرة على إعادتنا إلى الوضع السابق لارتكاب الجريمة، ثم إن الإنسانيّة، بحكم سنة التّطور، وصلت إلى مستوى لا يمكنها معه أن تقبل بالعقوبة كثمن للجريمة فقط ، لأن هذا يؤدي إلى إرادة الشرّ فقط لأن هناك شرّ سابق.
غير أن هيجل يؤكد على ضرورة العقوبة، فيرى أن المجرم وهو يقاسي من العقاب إنّما يشرب من نفس الكأس. ففعل الجريمة ذاته إنّما هو تأكيد لقانون تريدُ الجريمة أن يكون كلياً، ولهذا فالعنف لا بدّ أن يعاقب بالعنف، بل إن المجرم بفعله يشرع قانون العنف، ولذلك فإننا حين نعاقب المجرم فإنّما نعاقبه بقانونه نفسه، فضلاً عن كوننا بمعاقبته نكرمه، ونردّ إليه اعتباره بوصفه موجوداً عاقلاً.
4 ـ مقارنة العقوبات بين القانون الجنائي الوضعي والتشريع الإسلامي
دعونا الآن نلاحظ العقوبات الجنائية في القانون الجنائي المغربي، على سبيل المثال، ونقارنها بالعقوبات الجنائية في كتب الفقه :
نجد أن القانون الجنائي قسّم العقوبات إلى قسمين، عقوبات أصلية هي: الإعدام، السجن المؤبد، السجن من خمس سنوات إلى ثلاثين سنة، الإقامة الإجبارية، التجريد من الحقوق الوطنية، الحبس، الغرامة، الاعتقال لمدة تقل عن شهر. و عقوبات إضافية هي: الحجر القانوني، التجريد من الحقوق الوطنية، الحرمان المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية..إلخ .
وأمّا في التّشريع الإسلامي فالعقوبات إما مقدرة أو مفوضة، فالعقوبات المقدرة هي الحدود الخمسة: حد الزنى إما الجلد أو الرجم، و حد القذف ثمانون جلدة، وحد السرقة قطع اليد من الرسغ، وحد الحرابة يتخير فيه الإمام بين القتل أو التصليب و قطع اليد و الرجل من خلاف والنفي، وحد شرب الخمر ثمانون جلدة. وإضافة إلى الحدود الخمسة هناك عقوبة القِصاص (بكسر القاف ). ويعرف القصاص بأنه: معاقبة الجاني على جريمة القتل والقطع والجرح عمداً بمثلها . بمعنّى أنها شريعة العين بالعين والسن بالسن . وأمّا العقوبات المفوضة فهي العقوبات التي لم يحدد التشريع الإسلامي في شيء منها نوعاً ولا مقداراً معيناً، وإنّما فوضها لولاة الأمور، وهذه العقوبات تسمى أيضاً تعزيراً .
و يمكن أن نسجل من خلال هذه المقارنة الملاحظتين التّاليتين:
إن القانون الجنائي المغربي يعتبر قانوناً وضعياً. بمعنّى أنه قانون من وضع البشر، وهو يعبر عن تطور الفكر البشري وانتقاله إلى مرحلة الشرعيّة الجنائيّة. أي إلى مبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”. هذه المرحلة التي تأسست مع الثورة الفرنسيّة سنة 1789 حين تم الاعلان عن ميثاق حقوق الإنسان والمواطن الذي جاء فيه: “لا يجوز عقاب أي شخص إلا بمقتضى قانون يصدر سابقاً على ارتكاب الجريمة”. ثم صدر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948، وأصبح مبدأ دستورياً تنص عليه أغلب الدّساتير الديمقراطيّة.
إن مبدأ الشرعية الجنائيّة ينتفي في الفقه، لأنّه ليس هناك مجموعة من القواعد القانونيّة التي تحدد المسؤوليّة الجنائيّة والعقاب للتصرف الإنساني الخطر. كلّ ما هنالك هو مجموعة من الآراء الفقهيّة العديدة التي دونتها كتب الفقه. وقد نستثني من هذا الرأي الحدود التي تضمنتها النّصوص المقدّسة. ولكننا رغم ذلك، نجد اختلافاً بين الفقهاء في طرق تنفيذ العقوبة.
ثم إننا نلاحظ حين نقارن العقوبات الجنائيّة في القانون الوضعي بالحدود الشرعيّة ذلك الفرق الكبير في طريقة الجزاء. فتبدو، ولا مجال للشك، أن عقوبات القانون الجنائي أخف بكثير من عقوبات الشريعة الإسلاميّة، وذلك لأن الحدود تندرج ضمن المرحلة الدينيّة و السياسية التي نظمت الجزاء الجنائي في المجتمع الإسلاميّ، وهذه المرحلة، كما ذكرنا، اتسمت بالقسوة في تقرير العقاب لارتباط الجريمة بالخطيئة وليس بالخطأ الجنائي.
ختاماً، لقد حاولنا في هذا الموضوع أن نتطرق إلى تطور الفكر الجنائي، وإلى التّأصيل الفلسفي للجريمة والعقوبة، ثم انتهينا إلى وضع مقارنة بين العقوبات المقررة في القانون الوضعي وفي التّشريع الإسلامي، وبقي أن نقول إن مقاصد العقوبة لازالت غامضة، وأننا إلى اليوم لا نعلم ما نفعله عندما نعاقب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التشريع الإسلامي ظل قروناً في حالة سبات و جمود، ساد فيه الفكر التّقليدي المغلق، وفي هذه الفترة تطور الفكر القانوني الوضعي في الغرب، فظهرت المدارس التي ذكرناها. و في القرن العشرين ظهرت أصوات فقهية مميزة كالطاهر بن عاشور وعلال الفاسي، وهي أصوات نادت بضرورة تأمل مقاصد الشريعة الإسلاميّة، ومقاصدها، بكل تأكيد، هي في اتباع العقل والعدل، فابن القيم يذكر أنه “إذا ظهرت إمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله و دينه”. ومن هنا، كان لزاماً على الفقهاء أن يبحثوا عن مقاصد الشريعة في الجرائم والعقوبات بما يوافق تطور الفكر الإنساني، حتى لا تظهر جماعات تحرق النّاس وترجمهم وتقطع أيديهم وأرجلهم مستندةً على كتب الفقه التقليدية التي تنتمي فكراً وتاريخاً للمرحلة الدينية وللمرحلة السياسية في تقرير العقوبة، حيث كان ينظر للجريمة، كما بينا، على أنّها خطيئة وليس خطأ، وكان يعتقد أن قسوة العقوبة تمنع النّاس من ارتكاب الجريمة.