يكشف التأمل الدقيق في نظامنا الثقافي عن ارتباط يكاد يكون مصيريا بين الكاتب والسلطان. ذلك أن “التوسل بالكتابة للدخول في دائرة الدولة كان غاية تستقطب المطامح”. وننطلق في هذا المقال من فرض منهجي أساس مؤداه أن السلطة السياسية كانت تنجح دائما في تعبئة المثقفين وتسخيرهم من أجل خدمة مصالحها والترويج لمخططاتها. وقد رأينا أن نختبر هذا الفرض من خلال العمل على تتبع واستقصاء موقف كاتبين مرموقين من السلطة القائمة هما الجاحظ المعتزلي وابن قتيبة السني.
الجاحظ: الكتابة في خدمة السلطان
يبدو أن شهرة الجاحظ، “خطيب المعتزلة”، قد بدأت عند أصحاب السلطان بكتاباته التي تناولت قضية سياسية على جانب كبير من الأهمية. يتعلق الأمر بـ “الإمامة” أو شرعية نظام الحكم بتعبير معاصر. وقد كان الجاحظ يبعث بهذه الكتابات التي يصوغها وفق المذهب الرسمي للدولة إلى “أولي الأمر” باعترافه. يقول: “قرأ المأمون كتبي في الإمامة فوجدها على ما أمر به. وصرت إليه، وقد كان أمر اليزيدي بالنظر فيها ليخبره عنها، قال لي: كان بعض من نرتضي عقله ونصدق خبره خبرنا عن هذه الكتب بإحكام الصنعة وكثرة الفائدة فقلت: قد تربي الصفة على العيان، فلما رأيتها رأيت العيان أربى على الصفة، فلما فليتها أربى الفلي على العيان كما أربى العيان على الصفة، وهذا كتاب لا يحتاج إلى حضور صاحبه ولا يفتقر إلى المحتجين عنه”. وقد كانت ثمرة هذه الخدمة التي أسداها الجاحظ للسلطة أن قدمه أحد المعتزلة، الذين كان لهم نفوذ في بلاط المأمون، هو ثمامة بن أشرس إلى الخليفة الذي ولاه منصب الكتابة، لكن الجاحظ لم يكن له صبر على أعباء الوظيفة فطلب إعفاءه منها بعد ثلاثة أيام.
نستخلص من ذلك أن الجاحظ، وإن لم يكن من الكتاب الرسميين، فقد أسهم في دعم السلطة والتمكين لدولتها. إذ كانت السلطة تؤمن بسحر الكتابة وتعرف قوتها في تحقيق الإقناع وتعديل الآراء، ولذلك عملت على تعبئة الكتاب والمفكرين لإنتاج بلاغة رسمية تلتزم الإطار الإيديولوجي للدولة. وهو ما جعل فن الكتابة يتحول إلى أداة في يد السلطة تتوسل بها من أجل فرض رؤيتها الفكرية والسياسية، فقد“سخرت الدولة العباسية في العصر الأول من عصورها كثيرا من رجال المعتزلة أو المحسوبين عليهم والمنسوبين إليهم وضربت بهم معارضيها من”أهل السنة والجماعة“من رجال الحديث وأشياعهم. ثم قلب المتوكل ظهر المجن”لمثقفي الدولة“من المعتزلة طلبا لود”زعماء العامة“من أهل السنة والجماعة”. من ذلك تعبئة الفتح بن خاقان لكبار الكتاب حتى ينتظموا في الحملة الدينية التي قادها المتوكل على الله ضد معارضيه، الذين كانوا متشبعين بالفلسفة اليونانية وعلوم الأوائل مثل الجاحظ الذي دعاه الفتح بن خاقان إلى تحبير رسالة في جدال النصارى الذين ناصبهم المتوكل العداء. ويبدو أن ارتباط الجاحظ بالسلطة كان مصيريا، إذ كثيرا ما نجده يتحدث عنها بصيغة الانتساب مثل:
- “مازال خلفاؤنا وملوكنا...”.
- “ولم يكن أحد من أصحابنا من خلفائنا وأئمتنا أخطأ في الشعر من الرشيد...”.
- “وقد يجب أن نذكر بعض ما انتهى إلينا من كلام خلفائنا من ولد بني العباس...”.
وبموجب هذا الارتباط “وبفضل ما تملكه من مواهب بلاغية وقدرات معرفية ظهر بوصفه كاتبا شبه رسمي، واجبه إذاعة ونشر وتفسير الأوامر الحكومية أو الأفكار الدينية، التي مالت إليها السلطة، ثم الدفاع عن العباسيين وتبرير وجودهم في السلطة”. فقد بذل الجاحظ في رسالته عن “مناقب الترك” جهدا فكريا كبيرا من أجل إقناع مخاطبيه بعدم وجاهة الخروج على السلطان. ويمكن اعتبار احتجاجاته ومرافعاته عن هذه الفكرة أهم خدمة قدمها للسلطة القائمة. إذ توخى من هذه الرسالة تشييد نسق منطقي واستدلالي يفضي إلى تقرير نتيجة مؤداها أن الخروج على السلطان أمر غير ممكن نظريا وعمليا؛ لأن مآله الإخفاق لا محالة، لينتهي من مرافعته إلى ضرورة التسليم بالسلطان القائم فعلا: “فإن السلطان لا يخلو من متول ناقم، ومن محكوم عليه ساخط، ومن معدول عن الحكم زار، ومن متعطل متصفح، ومن معجب برأيه ذي خطل في بيانه [...] ومن محروم قد أضغنه الحرمان، ومن لئيم قد أفسده الإحسان، ومن مستبطئ [...] ومن متزيد [...] ومن صاحب فتنة خامل في الجماعة، رئيس في الفرقة”.
لقد استقصى الجاحظ، في هذا الشاهد، أشكال المعارضة التي يمكن أن تجابه السلطان فحصرها في أحوال عشرة وصمها جميعا بنعوت توحي بالسلبية وعدم المشروعية، مما يفيد أنه لا يؤيد الحركات المناهضة للسلطان كيفما كانت ويدعو إلى التسليم للخليفة القائم، لأنه لا جدوى من معارضته أو الخروج عليه مادام الله قد اختاره وارتضاه خليفة للمسلمين. وقد سوغ هذا التبرير للجاحظ الاحتجاج لمشروعية ملك بني العباس والذب عن سلطانهم.
إذا كان الجاحظ المفكر المعتزلي المرموق قد سخر الكتابة من أجل خدمة أغراض السلطة القائمة، فإن ابن قتيبة الفقيه السني المحافظ لم يتورع هو الآخر عن تسخير مواهبه في مجال الكتابة لمساندة السلطة وتدعيمها.
ابن قتيبة: الكتابة ومساندة السلطة
لقد ارتبط مشروع ابن قتيبة الفكري والثقافي بالدولة التي أنشأها المتوكل بعد انقلابه على الفكر المعتزلي الذي شكل مذهبا رسميا للدولة العباسية قبله. وقد كان بدهيا أن يوجه المؤلف قدراته البلاغية لخدمة أهداف هذه الدولة التي دعمها مثلما تدعم بها، حيث نعثر في الجزء الثاني من “عيون الأخبار” على كتاب شكر كان ابن قتيبة قد وجهه إلى الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر جاء فيه: “أما شكري للأمير على سالف معروفه فقد غار وأنجد، وأما ابتهالي إلى الله في جزائه عني بالحسنى، فإخلاص النية عند مظان القبول، وأما أملي فأحياه على بعد العهد بلاؤه عندي، إذ كان ما تقدم منه شافعا في المزيد، وفسحة وعده إياي، عند مفارقتي له، إذ كان مؤذنا بالإنجاز. وأما زللي في التأخر عما أوجب الله علي له فمقرون بالعقوبة فيما حرمته من عز رياسته، ونباهة صحبته، وعلو الدرجة به، وإن كنت سائر أيام انقطاعي عنه متعلقا بسبب لا خيار معه...”.
يظهر من هذا الكتاب أنه لم يكن يرى بأسا في الاتصال بكبار رجال الدولة، وإن كنا لا نستطيع الجزم أنه أفاد من هذا الاتصال فوائد مادية باستثناء توليه قضاء الدينور فيما يذكر ابن السيد البطليوسي. ومهما يكن من أمر فإننا نستطيع الجزم بأن ابن قتيبة سخر مواهبه في مجال الكتابة لخدمة أغراض السلطة عندما خصص بعض كتبه لمناهضة المشاريع الفكرية المناوئة للدولة السنية التي أنشأها المتوكل حتى عرف بـ“خطيب أهل السنة”. فقد ذكر محمد عبد الجليل، استنادا إلى جيرار لوكومت، أن تأليف ابن قتيبة لكتاب “تأويل مختلف الحديث” كان استجابة لطلب السلطة ممثلة في الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل من أجل مناهضة فكر الاعتزال من جهة، وتقوية أطروحات أهل السنة من جهة أخرى. ويبدو أن هذه الرغبة التي عبرت عنها السلطة قد وافقت هوى في نفس ابن قتيبة فتوافقت الرغبتان على النيل من الاعتزال والتشهير بأعلامه.
نستخلص من ذلك أن ابن قتيبة لم يكن يتحرج من التعاون مع السلطة ومساندتها مادامت تخدم مصالح التيار المذهبي الذي ينتمي إليه. يرجح ذلك أننا لا نجد له اتصالا يذكر بالخلفاء الذين عرف عنهم الانتصار لفكر الاعتزال مثل المعتصم والواثق وغيرهما، وإنما اقتصر في اتصاله بالخلفاء، على من شايع السنة وأعلى من قدرها مثل المتوكل الذي شهد عهده أفول الاعتزال وصعود الفكر السني. وقد تهيأ لابن قتيبة في هذا العصر مناخ مناسب لتقويض الأسس الفكرية للمشاريع المذهبية المخالفة لعقيدته السنية التي أصبحت مذهبا رسميا للدولة في عهد المتوكل. فقد أفرد مقدمة كتابه “أدب الكاتب” لمجادلة أهل المنطق والرد على المتحمسين له ردا عنيفا. ولعله من اللافت في هذا السياق أن ابن قتيبة أهدى هذا الكتاب إلى واحد من رجال السلطة هو “أبو الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان”، وزير المتوكل. وقد خلع الإهداء، الذي تضمنته ديباجة الكتاب، هالة دينية كبيرة على شخصية الوزير: “الحمد لله الذي أعاذ الوزير أبا الحسن ـ أيده الله ـ من هذه الرذيلة [المناظرة على طريقة المناطقة] وحباه بخيم السلف الصالح، ورداه رداء الإيمان، وغشاه بنوره، وجعله هدى من الضلالات ومصباحا في الظلمات، وعرفه ما اختلف فيه المختلفون على سنن الكتاب والسنة. فقلوب الخيار له معتلقة، ونفوسهم إليه مائلة، وأيديهم إلى الله في مظان القبول ممتدة، وألسنتهم بالدعاء له شافعة؛ يهجع ويستيقظون، ويغفل ولا يغفلون، وحق لمن قام لله مقامه، وصبر على الجهاد صبره، ونوى فيه نيته أن يلبسه الله لباس الضمير، ويرديه رداء العمل الصالح، ويصور إليه مختلفات القلوب، ويسعده بلسان الصدق في الآخرين”.
تظهر هذه الديباجة مدى انجذاب ابن قتيبة للتوجهات الدينية والسياسية، التي تبناها المتوكل وتولى نشرها رجال دولته متوسلين في ذلك بصفوة من كبار الكتاب والأدباء. وقد كان ابن قتيبة على رأس هؤلاء الصفوة من الكتاب الذين ساندوا السلطة الجديدة بكتابات كان غرضها التمكين لأولي الأمر خاصة بعد انقلاب المتوكل على عقيدة الاعتزال، فقد أظهر ابن قتيبة ميلا إلى التقية ومسالمة السلطان عندما تجاهل محنة ابن حنبل، وأحجم عن الإشارة إليها ضمن الحوادث التي رصدها في كتابه “المعارف” رغم تفاني هذا الأخير وجهاده المشهود في فترة المحنة لنشر تعاليم أصحاب الحديث والإعلاء من شأنهم، في الوقت الذي يذكر فيه ابن قتيبة محنة ابن نصر المروزي أيام حكم الواثق، مع أنها لم تثر من الجدل ما أثارته محنة ابن حنبل. والحقيقة المؤكدة أن ابن قتيبة كان على وفاق تام مع أحمد بن حنبل في موقفه من قضية “خلق القرآن”، لكن طريقته في التعامل مع هذه المسألة التي ثارت في عهد المأمون وعرفت في التاريخ الإسلامي بـ“المحنة”، يظهر توجهه إلى مسالمة السلطان. لقد آثر ابن قتيبة فيما يبدو عدم المشاركة في هذه المحنة. ولذلك لم يرد له ذكر فيمن امتحنوا في هذه المسألة، في الوقت الذي ذكر فيه أشخاص أقل منه شهرة مثل بشر بن الوليد الكندي والزيادي. وإذا كنا نستطيع أن نلتمس له العذر لعدم مشاركته في هذه المحنة أيام المأمون والمعتصم لحداثة سنه، فإنه كان في عهد الواثق فتى يافعا يستطيع الخوض في مثل هذه المسائل الفكرية والعقدية لكنه آثر السلامة فيما يظهر.
لعل أهم ما قدمه ابن قتيبة فكريا للسلطة تقريره في معرض معالجته لمسألة الإمامة أن الخروج على الإمام ـ بر وفاجر لا يجوز شرعا : “وأما قوله [الرسول(ص] صلوا خلف كل بر وفاجر، ولابد من إمام بر أو فاجر، فإنه يريد: السلطان الذي يجمع الناس ويؤمهم في الجمع والأعياد. يريد: لا تخرجوا عليه ولا تشقوا العصا، ولا تفارقوا جماعة المسلمين وإن كان سلطانكم فاجرا فإنه لابد من إمام بر أو فاجر، ولا يصلح الناس إلا على ذلك”.
خلاصة:
لعله قد تيسر لنا الكشف، من خلال هذا التحليل، أن الجاحظ وابن قتيبة سخرا بلاغة الكتابة، كما سخرها غيرهم من الكتاب الذين كانوا في موقع خدمة السلطة، من أجل تحقيق “وظائف إيديولوجية تتصل برؤيا عالم ثابت لا سبيل إلى تغييره، عالم تعمل هذه البلاغة على الإبقاء على أوضاعه، بما تحدثه من مطابقة بين الكلام ومقتضى العالم، فهي بلاغة [...] تكتب وتصاغ أو ترتجل بالقياس إلى إطار مرجعي هو سلطة المؤسسة التي تتحرك منها وبها هذه البلاغة”. واللافت في هذين الأنموذجين الفكريين توافقهما، رغم تعارضهما، في الموقف من السلطة؛ كلاهما عارض الدولة فترة عندما خالفت تصوراته المذهبية، وكلاهما ارتمى في أحضانها عندما وافقت أهواءه، فساندها ولاذ بأجهزتها لنصرة معتقده وقمع أعدائه. يقول الشهرستاني: “ولكل فرقة مقالة على حيالها، وكتب صنفوها، ودولة عاونتهم، وصولة طاوعتهم”. وفي الحالين كانت بلاغة الكتابة أداة طيعة في يد الفريقين؛ تحشد الأنصار وتحث على مطاردة الخصوم وتهميش فكرهم وتصوراتهم.