لم يكن سهلاً عليَّ خوض تجربة
الكتابة في مجتمعي؛ وإن بدت هذه الجملة صادمة لادعاءاته بالمساهمة
والمساندة والتشجيع. وكما كان عليّ أن أتجاوز -أنا أولاً- عوائق التربية
والنشأة الأولى في كوني امرأة محاذيرها كثيرة، كان عليّ أيضاً أن أتجاوز
النظرة المحدودة والضيقة والتلصصية جداً في ربط كتاباتي بحياتي الخاصة، دون
أن أجد نفسي أبرر وأشرح وأفسر وأنفي؛ لكن أتجاوز! وهذا جُلُّ ما قدرت عليه
للتعبير عن ممارسة حريتي في حدود سلطتي على ذاتي، ليس إلا!
كتابتي عن المشاعر هي فضح
(«نشر غسيل»، كما قيل لي ذات مرة) وكتابتي عن السياسة خطر، وكتابتي عن
المجتمع تطفُّل، وكتابتي عن الحب عيب ومؤخراً حرام!... عماذا أكتب إذاً،
إذا غضضت الطرف عن كل هذا ومضيت باتجاه أكثر استدارة لاحتواء مفردات حياة
شاملة نعيشها: تعريتها، تفكيكها، تغييرها، تثبيتها؛ لنفهم بها -وربما من
خلالها- ذواتنا، والآخرين من حولنا...؟!
وإذا كانت كتاباتي نضحت للسطح
بعزيمة وإصرار حروفها لتحريضي على الاستمرار، فإنه في كل درج مغلق لكل
أنثى في مجتمعي أوراق حياتها المكتوبة بألمها ومعاناتها، تفوق ما كتبت وما
سأكتب!
(1)
أن تفكر منذ البداية في نشر
ما تكتب بسم مستعار، دون أن تفكر في نعيم رؤية اسمك مذيلاً على ما كتبت،
مثل كبار الكتاب وكما كنت تحلم؛ فهذا يعني أنك تخشى شيئاً! لا يمكن لأحد
تحديده أو معرفته غيره! لذلك عليك أن تسأل نفسك: لماذا...؟
وهذا ما فعلته، ليس بسؤال
واحد فقط! لكن بوابل من الأسئلة التي نهشت عقلي الصغير وأنا لم أتجاوز
الثالثة عشرة بعد! ولما لم أجد إجابات شافية قررت إلغاء الفكرة برمتها،
والاحتفاظ بكل ما أدوّنه في أجندتي التي لن أجد أكثر حميمية من احتواء
صفحاتها لكلماتي المتخبطة في تلك الفترة.
بعد عامين بدا لي أن تلك
الأسئلة قررت أن تهاجمني وبضراوة من ركنها الهادئ، وأن تحاصرني لأجيب عليها
بروية وتأنٍّ تلاشت عندها كل ثقتي بنفسي، كما يقول الآخرون عني. ووجدت أن
هناك إجابة واحدة لا غير لكل تلك الأسئلة تقول إنني أخشى أن يقرأني الجميع،
أنني أخشى (رغم البيئة المتقدمة نوعاً ما التي نشأت فيها) أن يقال إن هذه
هي نادية، وهذه مشاعرها، وهي قد مرت بتجارب كل شخصيات كتاباتها و... و...
إذاً، الاسم المستعار هو
الحل، لأقول ما أريد وأكتب كل ما يخطر على بالي، دون خوف من تلك النظرة
الضيقة التي قد لا تهتم بي ككاتبة وتتجاهل إبداعي وتهتم بتأويل السطور وما
وراء السطور.
ومع أني لم أكتب في السياسة
ولم أنتقد الأوضاع المتردية في البلاد، لم أستخدم كلماتي لوخز شخص لا أتفق
معه، لم ألمح بإشارات دالة عليه، ولم أكن أيضاً جريئة لحد فضح خبايا تلك
الأحاسيس والمشاعر الجديدة، التي أمر بها لأول مرة، مع الآخر على مقاعد
الدراسة وفي الحي وفي الوسط العائلي وأولاً وأخيراً في أحلامي؛ إلا أن محرر
صفحة بريد القراء في تلك الصحيفة رفض نشر خواطري بحجة أنها بسم مستعار.
قوقعت كل ما كتبته بعد ذلك في
درج مكتبي وتحت مخدتي، وكأن رفض المحرر جاء منقذاً لي من كثرة التفكير في
ضرورة نشر ما أكتبه، ومؤكداً في الوقت نفسه مخاوفي من تذييل اسمي لنصوص قد
تؤثر سلباً على رؤية الآخرين لي، سأبدو من خلالها فتاة «متحررة وجريئة» إن
لم يضيفوا إليها أيضاً و»متمردة» تكتب عن الحب والحياة والأمنيات
المستحيلة...! كنت أفضل فتاة «مثالية ومتفوقة وذكية...».
لم أنشر، لكني لم أتوقف عن
الكتابة، وأصبحت متأكدة ألاَّ عين ثالثة ستقرأ ما أكتبه، لذلك فضفضت
بإخلاص، ودونت -بمحبة- تناقضاتي وتساؤلاتي وأحلامي... وآخر كل مساء أدفن كل
ذلك في درج مكتب موحش ومظلم! ورغم شعوري بقسوة ما أفعله بحروفي، لم أهتم!
كانت كفة فتاة «مثالية ومتفوقة وذكية» هي الرابحة دائماً. حتى وأنا واقعة
في حيرة مجال تخصصي الجامعي حال انتهائي من الثانوية العامة مالت كفة
«مهندسة معمارية» على كفة «صحفية» أو «كاتبة».
ألتهم في الإجازات كماً
هائلاً من الكتب المختلفة، أكتب يومياتي باستمرار ، وأعكف بقية العام على
المواد المقررة. لم يكن التفوق سهلاً، خاصة إذا وجدت لك منافساً قوياً
للوصول إلى المركز الأول من بين أربعين طالباً! كنت أمزح دائماً وأقول: لن
أحصل على الشهادة في الهندسة المعمارية إلاَّ وقد أصبت بانحناء في العمود
الفقري ودوالي في الساقين وضعف في البصر...!
(2)
ماذا بعد؟ لم يكن سهلاً هذا
السؤال وأنا أواجه به نفسي بعد حصولي على الوظيفة التي حلمت بها في الجامعة
كعضو هيئة تدريس، وأيضاً بعد الاستقرار العائلي مع الزوج والأطفال.
ماذا بعد؟ وأنا أسترخي في
اللاشيء، بحجة أنني تعبت كثيراً وسهرت كثيراً وبحاجة ماسة للراحة. ماذا
بعد؟ وأنا أسير في دائرة مغلقة لتفاهات النفاق الاجتماعي السطحية.
ماذا بعد؟ وأنا أرى على شاشة
التلفاز إحدى زميلاتي التي اختارت دراسة الأدب وأصبحت شاعرة مرموقة
تستضيفها شاشات التلفزيون وتتابع أخبارها بشغف! في تلك اللحظة بالذات شيء
ما ومض في أعماقي، كان مبهماً حد الحيرة، مستفزاً لكسلي واسترخائي
اللامبرر، محرضاً لثورة بدت لي مستحيلة وقد فات أوانها!
ولما كان القلم أولى أدوات
تنفيذها، تجاهلته، لم أعد أمسك به. ولما كان الدُّرْج المظلم، بما يحويه،
ثانية أدواتها، أضعت مفتاحه. ولما كانت القراءة ثالثة أدواتها، تكاسلت حتى
عن قراءة عناوين الصحف.
ولما لم أستطع الاستمرار في
كل ذلك، كنت أكتب على جدار جمجمتي نصوصاً حفظتها عن ظهر قلب. وكل ما كنت
أحتاجه هو فقط اقتناص لحظة أحرر فيها كل ذلك المخزون من أسره، وقد كانت
أقرب مما تصورت. وجدتني في لحظة زيارتي لقريتي (كوكبان) أسترجع حادث وفاة
جدي، أستمع -بحزن لا حدود- له لكل ما تداوله المقربون منه عن تلك اللحظات
التي سبقت الرحيل. شعرت لحظتها كم أنا مشتاقة لجدي! وكم أنا بحاجة لتخليد
تلك اللحظة القدرية التي لا مفر منها!
هذه المرة لم يرفض محرر
الصفحة الثقافية نشر قصتي القصيرة حتى لو بسم مستعار؛ لكني لم أفعل، بل
كتبت اسمي كاملاً دون خوف؛ كنت أخشى أن يستمر هاجس الكتابة في ملاحقتي
وقتاً طويلاً دون اصطياد لحظات لن تعود بقوتها وصدقها وصفائها نفسه مرة
أخرى، وتدخلني في دوامة الندم عليها. كانت قصة جدي بداية المشوار.
(3)
«الكوكباني تقود زوجين للطلاق
بسبب إحدى قصصها القصيرة». عنوان صارخ تمركز وسط الصفحة الأخيرة الأكثر
إثارة في أشهر صحيفة ثقافية في اليمن. مشاعر لا أستطيع وصفها حتى اللحظة.
الخبر كان مباغتاً لي حد الدهشة. ما زلت بعيدة عن الوسط الأدبي. ما زلت
هاوية فقط للكتابة، ولم أقرر اتخاذها حرفة. أكتب وأنشر كل ما يحرض فيَّ
ساكناً من حولي ليس إلا... ومع ذلك ينشر خبر كهذا!!! استقبل رئيس التحرير
غضبي وأنا أتساءل عن الغرض من نشر خبر كاذب كهذا دون الرجوع إلى سؤال، بأن
معلومات المحرر صحيحة ويمكنني مقاضاة الصحيفة لو أردت؛ هكذا بمنتهى
الهدوء!!
كان لديَّ خلفية كاملة عن
أسباب نشره؛ أعرف تماماً من الذي تسبب في نشر خبر كهذا بغرض الحصول على
امتيازات لدى رئيس التحرير، الذي يهمه الفرقعة والإثارة في أخبار الأدباء.
تماماً كما أعرف أنني بالفعل كتبت قصتها التي لم تكن أبداً سبب طلاقهما.
وفيما عدا تشابه أسماء القصة وبعض ملامح حياتهما فيها، لم يكن ليعرف أحد
أنهما المقصودان. لكني تعلمت درساً جيداً فيما لو أردت أن تصل بهدفك إلى
غايته في الكتابة عليك أن تبدع في تخييلك الذي قد يتطابق مع واقعك دون أن
يعرف ذلك أحد.
(4)
ساعة صفاء بيني وبيني كانت
كفيلة بالإجابة على كل ما أغلقت عليه في صندوق التساؤلات المؤجلة إلى حين.
كان أكثرها إلحاحاً: إلى متى تؤجلين كتابة الرواية التي تحلمين بها؟ هل أنا
بحاجة إلى أن تنضج تجربتي في القصة، كما أخبرتني صديقتي وهي تسخر من مجرد
مرور فكرة كتابة رواية في أحاديثنا؟ وكيف لي أن أنضج دون أن أجرب وأحاول،
كما قال أديسون، بل وأحاول ثانية إذا ما فشلت...؟!
وبشغف لا حدود له، ومتعة لا
يضاهيها شيء، وإخلاص طوعت لخدمته وقتي وقراءاتي وبحثي، أصبح دوراني في فلك
تلك الرواية يصيبني بدوخة لذيذة تزداد حدتها يوماً بعد يوم، لتصبح لحظات
الكتابة حالة غيبوبة تامة، تعي فيها كل حروفك، تنمق كلماتك، تتابع خلالها
شخصياتك، تتأكد فيها من معلوماتك، تبحث خلالها عن استرسال لا يوقفه شيء
وتفرُّد لا يحده حد.
حالة غيبوبة تخصك وحدك، لا
يعلم مداها غيرك، لذلك لا تقصِّر في واجباتك تجاه عائلتك بحضورك المادي في
ساعات واجباتك المنزلية التي يعمل فيها عقلك بتوازٍ مع جسدك، لكن كلاًّ في
اتجاه... جسدك يزيل أتربة الغبار ويعد أطباقاً شهية للأكل، وعقلك يفكر
ويتابع ويسترجع ما يجب أن تكون عليه شخصية روايتك الرئيسية. عقلك حائر في
كيفية كتابة المسكوت عنه، بطريقة ترضيك وترضي من حولك دون خطأ قد يحسن
اصطياده. عقلك عاجز عن الوصول إلى قرار في هذه النقطة بالذات؟
لم يعد الاسم المستعار هو
الحل كما ظننت منذ فترة. لن أعود للوراء إذاً، حتى لو قالوا: هي هي، حتى لو
أولوا: هي هي؛ حتى دوت في أعماقي صيحة مدوية: لا!! إنها روايتك، حلمك الذي
تريدين تحقيقه، جنينك الذي تتمنين مخاضه دون تشوهات تعوقه مدى الحياة.
وكان ما أردت. لم أفكر -وأنا
أكتبها- في شيء عائق لكل ما تتطلبه من صدق. لم يكن في أعماقي غير سلطة النص
واحتياجاته والإخلاص له بكل محبة ووفاء. أوصدت -بقناعة تامة- كل المقولات
والاتهامات والتحولات التي قد تواجه فهم النص، التي قد تتداخل فيها «نادية»
الكاتبة مع «فرح» البطلة. لم أكن غير وسيلة تستجر كتابة أحداث سنوات عديدة
من المعاناة والألم والقبح، لتطبب جرحاً نازفاً لم يندمل خلالهما بكل
الحب.
(5)
ما يفاجئك عند انتهائك من عمل
تحبه حد العشق، أخلصت له وتفانيت، قضيت في إنجازه شهوراً وربما أعواماً...
هو تفاعل المحيطين بك في تلقيهم لهذا العمل. كان أستاذي في الجامعة حال
رؤيته لتصاميمي المعمارية ناجزة أمامه وأقرب لاكتمالها -كما يقول- يسألني:
«مين اللي اشتغل لك؟!». أعلم جيداً أنه يقولها من باب المديح؛ لأن الفكرة
تطورت ونمت على يديه خطوة خطوة... لكن شبه اكتمال الفكرة مخرجة وملونة
وجاهزة للتنافس، أوصلته حد الشك في قدراتي... لكن ما لا يعلمه هو أنها جملة
كانت -رغم إيجابيتها، كما يقول- ذات تأثير سلبي للغاية على نفسيتي، وفي
انتقاص مجهودي وسهري وتعبي ومعاناتي التي قصدت بها الوصول إلى مرحلة شبه
كاملة.
لذلك يدهشك ألاَّ يستقبل
بحفاوة صديق لك إبداعك الذي يعرف أكثر من غيره تعبك ومعاناتك فيه...
وبالقدر نفسه من الدهشة، تستقبل ما يرد إليك من حفاوة واستقبال لنصك ممن لا
تعرفهم، قراء، على اختلافهم، لا يربطك بهم أكثر من نص عملت أكثر من
استطاعتك ليكون لهم خالصاً تاماً كما أردت، محرضاً ومؤثراً لتغيير ولو
بسيط، إرضاء لغرورك وإخلاصك لهدف تنشده من كتاباتك، تجد صدقهم في الإطراء،
تفاعلهم، تأثرهم، حبهم لعملك، وامتنانهم لساعات من متعة الذكريات التي
تأججت نار لذتها في أعماقهم وهي تتوازى وربما تتقاطع مع كل ما مروا به.
(6)
بالتأكيد لم أنْجُ من القراءة
التلصصية، ولم أنْجُ من أسئلة كثيرة إن أجبتَ عليها قد تقع فريسة صدقك،
وإن لم تجب فأنت فريسة شك الآخرين بك؛ لذلك يلزمك أن تراوغ، أن تجيب بنوع
من الذكاء، أن تتعلم كيف تجعل السؤال يتحول إلى إجابة وأنت تستنطق الذي
أمامك ليقول هو، ويجيب هو على ما سألك عنه؛ هل «نادية» هي «فرح»؟ هل هذه
سيرة ذاتية لتشابه أحداث البطلة مع «نادية»؟ من هي «سلى»؟ وهل «هشام»
هو...؟ وهل...؟ وهل...؟
(7)
ماذا بعد؟ لم يكن كل شيء
سهلاً بالنسبة لي. لم تكن الكتابة طريقاً مفروشاً بالزهور، أو حتى معبداً
وصالحاً للسير فيه منذ البداية... حتى لو بدا لكثيرين كذلك، فقد لسع ذلك
الطريق باطن قدمي وآدت شرارته كامل جسدي؛ لذلك أجاهد لئلا تصل حلكة سواده
إلى عقلي حتى لا يدمر جمال عالمي.
كل هذا الحصار لن يثنيني عن
الكتابة، لأنني -باختصار- أتنفسها، أعلم أنها جملة تقليدية؛ لكني
-وباختصار أيضاً- أتنفس الكتابة وبدونها أموت!
السبت يوليو 24, 2010 10:56 am من طرف نابغة