إذا كان الطاهر وطار قد تفاعل في روايته السابقة1 مع الوضع الجزائري، فإنه
في هذه الرواية ينفتح علي الوضع العربي بتحولاته المتسارعة، وأنتج رواية
تشتغل علي الحدث، وعلي التداخل الزمني، وتُروي بأسلوب سردي تلفزيوني.
1 ـ الحدث
تقوم رواية الحدث علي نسج أحداث غير متوقعة مثيرة ومحيّرة عبر
المصادفة، يستحوذ علي اهتمام الشخصيات، نظراً لتعـقـُّدِه الذي يتطلب حلاّ،
مما يُـمتّع القارئ ويدفعه إلي متابعة القراءة. كَمَا لاَ يتم فيه تصوير
الشخصيات بدقة ويكون فيه الحدث هو العنصر الرئيسي. وتكون طبيعة الشخصيات
وقدراتها بالمقدار الذي يتطلبه الحدث، وفي النهاية تـتمكن من حله، وتعود
إلي حياتها العادية دون أن يخلف هذا الحدث أي آثار سلبـية أو مخاطر عليها.2
عند دخولنا إلي عوالم رواية الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء 3، يتبـين لنا
بجلاء أن الحدث هو العنصر البارز والمهيمن، بل لا تستقيم قراءتها دون
التوقف عنده بتأن وتؤدة.
وفي هذه الرواية يمكن أن نـتوقف عند حدثين:
ـ موجة الظلام والسواد التي غطت المنطقة العربـية.
ـ عودة النور إلي المنطقة العربية وما صاحبها من تحولات؛ أهمها نهاية
البترول من المنطقة العربـية.
يثيرنا هذان الحدثان لعدة أسباب:
أ ـ هما بمثابة ذريعة، كانت وراء كل شيء، هما النقطة التي أفاضت الكأس، وقد
لا نبالغ إذا قلنا هما اللذان كانا وراء الرواية. هما الفكرة المحورية أو
اللبنة الأولي في إنتاجها، أي نقطة بداية النص كتابة، وذلك في إطار تفاعل
الكاتب مع الأحداث المتسارعة التي يشهدها عالمنا العربي. يقول الطاهر وطار
في تقديمه للرواية: ضغط الظروف العلمية، والوضعية في العراق والعالم العربي
والإسلامي، فرض علي رواية . (ص 10).
ب ـ أثرا علي طريقة السرد، وجعلاها تـتراوح بين استرجاعات شذرية وحوار
إعلامي عبر مراسلين من كل أنحاء العالم لفهم الحدثين ومجرياتهما.
ج ـ الحدثان هما العنصران المنظمان والبانيان للعناصر الروائية الأخري،
لأنهما يُنـتجان كل شيء، ظهور الشخصيات، البنية السردية، التأطير الزمني،
والرؤيا الباعثة علي الكتابة والتي تـتمثل في تشخيص الراهن العربي في قالب
ساخر يلتقط المفارقات التي يتخبط فيها الواقع العربي.
1 ـ 1 ـالحدث الأول: حالة السواد
يتعلق الأمر بحالة الظلام التي اجتاحت المنطقة العربية، بعد الوباء أو
اللعنة التي أصابت المنطقة العربية يقول: أقول لكم من تحت السواد الدامس،
إننا نغرق إننا نغرق . (ص 69). يحاول الولي الطاهر الهروب إلي الفيف إلي
مقامه الزكي من ذلك الوباء. يقول: ها هنا. في زمن الوباء الذي عم ليس فقط
العالم العربي، إنما كل العالم الإسلامي. زمن صار فيه العرب والمسلمون
جنداً للمسيحيين، يحملون أسلحتهم، ويلبسون ألبستهم، ويروجون لعقائدهم. زمن
صار فيه الهروب إلي الفيافي، والبدء من البداية واجباً . (ص 25). لكن وباء
آخر سيقـتحم عليه خلوته ومقامه وهو موجة الظلام، عبر شاشة عملاقة تـنقل كل
ما يجري عبر مراسلين من كل أنحاء العالم يحاولون توضيح ما يجري، يقول: أحس
الولي الطاهر بـيدين لطـيفـتين، تحملانه، وتجلسانه علي عرشه في مقامه
الزكي، فـينـفـتح تلفاز شاشـته . (ص 25).
ذلك الحدث الفانطاستيكي المثـير الذي حيَّر العالم ككل، وشغل الناس قاطبة،
وتعددت تأويلاتهم وكثرت أقاويلهم حوله، والتي تقـمـصت قالب الإشاعات، التي
تـتلاءم مع هذا العالم بأحداثه الغريـبة المتسارعة، التي تـُغـيِّب اليقين
وتكسر المنطق السليم، فيغدو الواقع احتمالياً ويصبح كل شيء قابلاً للتصديق
داخله. كل ذلك يُفسِّر انفتاح الطاهر وطار علي الواقع بشكل كبير، بتحويل
التصورات السائدة والشائعة إلي تخيـيل.
من التفاسير التي قدمت للحدث:
ـ الحكومات العربية: رأت أن سبب الحدث هو الظاهرة الإرهابية، يقول: تـتفق
جميع الحكومات العربية باستثناء الجماهيرية العربية الليـبـية
الاشتراكية[...] علي أن الظاهرة إرهابـية تقف وراءها جماعة القاعدة، ومن
والاها من الأصوليـين المستعملين للدين الإسلامي الحنيف الذي هو براء منهم .
(ص 46). وهو شبيه بتلك العبارات التي ترددها كل يوم القنوات الفضائية
العربية.
ـ الفاتيكان الذي فسر الظاهرة بقيام الساعة، يقول: لقد انساق الفاتيكان،
وراء الرأي القائل بأن قيام الساعة قد حل . (ص 53).
ـ إسرائيل التي رأت أن وراء الأمر إيران وبوجنبورة: ومع ذلك، فلا تعدم
أصابع سيست الظاهرة، متجهة نحو إيران وبوجنبورة . (ص 37).
ـ الدكتور حنزليقة المتخصص في الشؤون الإسرائيلية أرجع الأمر إلي مؤامرة
أمريكية إسرائيلية للتخلص من العرب.
ـ سبب الحدث هو الحرب الدائرة في العراق.
ـ هناك من أرجع الأمر إلي غاز أطلقـته أمريكا.
يعكس هذا الحدث وما صاحبه اللايقين واللامعني التي أصبح يعيشها عالمنا
العربي من جراء أحداثه المتسارعة وخيـباته المتوالية، ويعكس كذلك حالة
النوم الفعلية التي يعيشها عالمنا العربي واكـتفاؤه بالانفعال مع الأحداث
عوض صُنعها.
علي الرغم من كثرة التأويلات والتفسيرات لكنها لا تقنع، مما يعني غياب
اليقين، لأنه عندما تكون هناك كارثة أو حدث تكثر الأقاويل والأحاديث، التي
تكون كلها قابلة للتصديق، فتعرض الآراء دون وثوقية ويغدو كل شيء نسبياً.
ولا مصدر لليقـيـن.
إنها نظرة ساخرة لما يجري في عالمنا العربي من انكسارات وهزائم وويلات.
1 ـ 2 ـ الحدث الثاني: عودة النور
بدون مقدمات يقع تحول مفاجئ بزوال الظلام (الحدث الأول) وعودة النور، تلك
العودة التي صاحبتها مجموعة من التحولات التي ستصيب المنطقة العربية مما
يفسر أن كل حدث يفضي إلي حدث أسوأ منه. إنها حالة المنطقة العربية التي
تعيش علي استهلاك كل شيء بما في ذلك الأحداث:
ـ عودة الخلافة بمصر، يقول: تم إعلان الشيخ بلادن علي رأس الدولة المصرية
خليفة للمسلمين . (ص 37).
ـ الجزائر، حدوث محاولة انقلاب فاشلة، يقول: لقد جرت محاولة انقلاب من طرف
منظمة العمي، لكن تمت السيطرة عليها في الوقت المناسب، وتم إيقاف جميع
عناصرها، بما فيهم المشبوه في أمرهم. وهم كلهم عمي . (ص 78).
ـ الجزيرة العربية نهاية البترول عدة برقيات، أكدها عبد الرحيم فقراء من
واشنطن، تقول الأولي إن الشرق الأوسط لم يعد يتوفر علي النفط، وقد فقد
بالتالي كل قيمة استراتيجية له . (ص 101).
ـ بأوروبا تم قطع العلاقات مع أمريكا والتعامل بالأورو . (ص 120).
ـ اليمن جفاف عشبة القات، يقول: ها هي اليمن
كلها، عن بكرة أبيها، تخرج لتعلن حزنها لهذا المصاب الجلل المتمثل في جفاف
كل أوراق القات، فما أن عاد النور، واستبشر الخلق الذين هرعوا إلي الحقول،
وكأنها أسراب نحل، مبكرة، حتي ارتفع التهليل والتكبير، ثم النواح والبكاء .
(ص 99).
ـ تفكيك إسرائيل وتحقق المستحيل فقد عم بسرعة البرق خبر حل الدولة العبرية،
ورحيل جميع اليهود الوافدين، وإعطاء الخيار لليهود من أصل فلسطيني في
البقاء أو الرحيل . (ص 110).
وغيرها من الأحداث كاستقلال فلسطين وقرار أمريكا بسحب قواتها من المنطقة
العربية.
يقدّم لنا الطاهر وطار صورة عن العالم العربي بعد نهاية البترول. وكيف
سيتفاعل العرب مع هذا الوضع الجديد، كاشفاً ومزيلاً الأقنعة عن تلك الحضارة
البترولية المبنية علي الوهم، بمجرد نهاية البترول تظهر علي حقيقـتها،
بنبرة لا تخلو من سخرية مرة للوضع العربي.
كان الحدثان الناظمان للرواية فرصة لإثارة بعض القضايا الراهنة، سواء داخل
العالم العربي أو خارجه؛ كالإرهاب، والحركات الأمازيغية وحقوق الإنسان. كما
صاحب ذلك نبرة نقدية ساخرة لكل المفارقات التي يحفل بها الوطن العربي،
وتَمَثَّل ذلك في نقد الذات والآخر، وتعدَّي ذلك إلي نقد مفهوم الوحدة
العربية ودعاتها، ونقد بعض القيم والأمراض الثقافية، إذ يطال النقد كل
العرب شعوبا وقادة، هذا من جهة. ومن جهة أخري السخرية من الذات العربية
وتشخيص عيوبها.
2
ـ تداخل الأزمنة
تأثر الزمن بالحدث، الذي يتطلب فهماً وتفسيراً، وجَعَله عبارة عن تداخلات
بين الحاضر والماضي العربي. فيبدو لنا الزمن في هذه الرواية ثابتاً وواحداً
وكأنه يعيد نفسه، يقول السارد: ذاكرة الولي الطاهر تستعيد صوراً وأخيلة،
عن وقائع جرت، لكن لا يميز، أو حتي يتصور زمن وقوعها، الأمس واليوم والسنة
الماضية، والقرن الماضي، كلها، آن، قد يصغر وقد يكبر، قد يطول وقد يقصر، قد
لا يكون سوي ومضة، من ومضات حلم، أو كابوس . (ص 17). لتـتداخل لديه أزمنة
الحاضر بالماضي، وتصير أحداث التاريخ واحدة فلا فرق بين ما جري وما يجري
وما سيجري. وهذه السمة لمسناها في رواية الولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي
.4
هناك ذهاب ومجيء للرواية في التاريخ العربي الإسلامي، من بداية الدعوة
الإسلامية إلي الزمن العربي الحالي والمتمثل في سقوط العراق يقول: شبه
دوران للمكان داخل الزمان، وللزمان داخل المكان، في دوامة عرضها من
السينيغال إلي دكة، وطولها من معركة بدر إلي مثول صدام حسين أمام المحكمة .
(ص17).
بُغية تشخيص الراهن العربي بنبرة ساخرة، وفهم حال العرب يقول: لم يبق سوي
الاستيعاب. استيعاب ما حدث طوال خمسة عشر قرناً، واستيعاب حال العرب، وحال
المسلمين عموماً .
ص 25)، مما يجعله يخلص إلي تأكيد حالة الجمود والتكرار التي يتخبط فيها
العالم العربي، ويتجلي ذلك في أن العرب يكررون أنفسهم ولا جديد: يقول إمام
جامع الدار البيضاء المنكب بجلاله، يلعق مياه بحر الظلمات، في خطبة يعيدها
كل جمعة، من ميزات المسلم، طاعة الله والرسول وأولي الأمر، فيرن صداه في
جامع الزيتونة والأزهر وبـيت المقدس والأمويـين ومكة والمدينة، ويأتي الرجع
اللهم احفظ أمير المؤمنين . (ص 21)، فيصور وضع العرب الجامد كالثعبان
العاجز عن تغيير جلده، يقول: ثعبان يتلوي ويتلوي، يعاني عسر تغيير جلده،
كلما سلخ شبراً، عاد الجلد إلي الوراء، وكلما تلوي غلبه النعاس. ربما لأن
أسنانه منزوعة، وربما لأن أسنانه منزوعة، ولربما لأنهم ما يفتأون يستلون
سمه . (ص 23). إن الانقطاعات والتوترات التي يعرفها الراهن العربي، فرضت
علي الطاهر وطار أن يكتب هذه الرواية بطريقة تقوم أساسا علي تداخلات زمنية،
تلك التداخلات التي يعيشها الإنسان العربي في فكره، فالتداخل بين الحاضر
والماضي هو تجربة نفسية يعيشها الإنسان العربي، الذي لا يستطيع التخلص من
ماضيه الكامن فيه الذي يؤثر في حاضره، ويغدو مرآة لقراءة الحاضر.
تـتداخل الأفكار كما تتداخل الأزمنة والأحداث في ذهن العربي، كل ذلك يفسر
عبثية الأحداث وتواليها وتعقدها في عالمنا العربي. من هنا تكمن قدرة الطاهر
وطار علي نقل وتحويل التجربة النفسية والذهنية التي يعيشها الإنسان العربي
في عالم اليوم إلي لغة وسرد.3
ـ السرد
أثَّـر الحدث في رواية الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء علي السرد
وجعله يتراوح بين تقنـيـتين:
ـ تأرجح الذاكرة بـيـن الماضي والحاضر: تقدم هذه التقـنية شذرات سردية من
التاريخ العربي حول بعض الأحداث التاريخية المحيرة والتي تركت مجموعة من
علامات الاستفهام. يهدف من ورائها السارد، ومعه الطاهر وطار، فهم ما جري
ويجري من تحولات تمشّياً مع الأحداث المـتسارعة التي يعيشها العالم العربي
من اضطرابات وأزمات وهزائم وتنازلات، يقول مثلاً: مالك بن نويرة... يا
كبدي...خُدعت يا أيها الشاعر المتمتع بالجمال . (ص 13).
ـ السرد التلفزيوني: فرض تسارع الحدث، بل أحداث الرواية المتسارعة التي
يكتفي الإنسان العربي بالتفرج عليها مذهولاً كما فعل الولي الطاهر، نظراً
لعجزه وثباته ولأنه يعيشها كل يوم، علي الرواية سرداً إخبارياً يتمثل في
السرد التلفزيوني الذي يميز عصرنا نظراً للتطور الذي عرفته وسائل الاتصال،
والشاشة هي القادرة علي مسايرة ذلك التسارع، عبر صوت سردي مركزي ينظم السرد
بواسطة مراسلين ينقلون أصداء الحدثين المثيرين في كل أنحاء العالم. إن
السبب الذي دفع الطاهر وطار إلي اتخاذ هذا الأسلوب يمكن أن نرده، إلي أنه
أراد أن يكتب رواية عن الواقع العربي الراهن، بصورته، وبقنواته الفضائية
الحالية، فكتبها بأسلوب سردي مستوحي من هذا الواقع بأحداثه المتسارعة.
إنها صورة موازية لرواية حقيقية يعيشها عالمنا العربي كل يوم ونلتقطها عبر
القنوات الفضائية، عبر أحداث متلاحقة صادمة نكتفي بالانفعال معها دون أن
تكون لنا القدرة علي مجابهتها، لأن الرواية تسعي دائماً إلي تقديم صورة
كاملة تقريباً عن الحقيقة البشرية 5. وفي ذلك تعبـير عن رؤيا تقدم صورة
قاتمة عن الراهن العربي، تنم عن تشاؤم من المستقبل الذي بدأ يدب في أوصال
المثقفين العرب. وبذلك استطاع الطاهر وطار أن يصوغ الوضع العربي في قالب
روائي ساخر.الإحالات
1 ـ الطاهر وطار الولي الطاهر يعود إلي مقامه الزكي ، سلسلة روايات الزمن،
منشورات الزمن، الرباط، 2000.
2 ـ إدوين موير، بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، المؤسسة المصرية
العامة للتأليف والأنباء والنشر، 1965، ص. 15 ـ 17.
3 ـ الطاهر وطار، الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء، سلسلة روايات الزمن،
منشورات الزمن، الرباط، 2005.
4 ـ بوشعيب الساوري، حينما يتحول الواقع إلي أسطورة، قراءة في رواية الولي
الطاهر يعود إلي مقامه الزكي ، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، 5
يناير2001، ص. 2.
5 ـ مشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، منشورات
عويدات بيروت، ط.1971 ص.40.
الأربعاء يوليو 14, 2010 12:58 pm من طرف روزا