مظاهر التأويـل عند العرب
عرفت البيئة العربية تأويلات عدّة، فقد لازم التأويل مختلف الديانات السماوية واستخدمه العرب تبعا لأبعاد تصوراتهم، فواكبت ظاهرة التأويل الدين الإسلامي بعد نزول القرآن، وعرفت تيارات عديدة تعرضت لإشكالية الظاهر والباطن، من خلال الخوض في جدل الثنائيات كثنائية المحكم والمتشابه أو التشبيه والتنزيه وغيرها ممّا عرفته البيئة الثقافية العربية.
احتوى النص القرآني نصوصا لا تحتاج إلى تأويل، وهي المحكم من النصوص التي يفهم معناها حتى عامة الناس، ونصوصا تحتاج إلى تأويل، وهي الباطن المتشابه الذي يعسر فهمه إلا لخاصة العلماء لقوله تعالى:
﴿هو الّذي أنْزل عليْك الكتاب منْه آيات محْكمات هنّ أمُّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهمْ زيْغ فيتّبعون ما تشابه منْه ابْتغاء الفتْنة وابْتغاء تأْويله وما يعْلم تأْويله إلاّ الله والراسخون في العلْم يقولون آمنّا به كلّ مّنْ عند ربّنا وما يذَّكّر إلاّ أوْلواْ الألْباب﴾ [آل عمران: 07].
ومع بداية القرن الثاني الهجري بدأت التيارات الفكرية والدينية، فاتسعت معها دائرة التأويل حسب اختلاف الأفهام، "والواقع أنّ المحاولات الأولى التي اتجهت بوعي إلى وضع قوانين تفسير الخطاب البياني المتمثل في القرآن أساسا إنّما بدأت مع عصر التدوين"[1]، إذ بدأت تبحث في تعدد الدلالات المتشابهة والتجاوزات الدلاية في النص القرآني، كون القرآن الكريم خطابا موجّها إلى كل الفئات، "فكان تفاوت الناس في فهم القرآن هو اختلاف في تفسيره في أذهانهم يلائم نظرة كل فكر إلى النص وما تمليه عليه ثقافته ومستواه العقلي واستيعابه"[2]. وتبقى عملية الفهم نسبية يحكمها الاختلاف البشري.
وإثر ذاك ظهرت مشكلة تفسير النص بين النقل والعقل، من خلال خضوع التأويل للعقل مصدرا للإدراك والفهم، لأن "التأويل جهد ذاتي يخضع فيه النص الديني لتصورات المتلقي ومفاهيمه وأفكاره"[3]، فكان التأويل ضرورة العقل إلى ما يقتضيه النص في الغالب، فظهرت الفرق كالمعتزلة، والمتصوفة، والقدرية والشيعية وغيرها؛ وتشعبت طرقها في تفسير النص القرآني وأحكامه، الشيء الذي دفع بالتأويلات الذاتية منطلقا لفهم القرآن الكريم، "وجعلت المتلقي بؤرة لتبرير منطلقاته، وأفكاره ورؤاه التي مصدرها ذاتيته الخاصة على أساس أنّ التأويل يعبّر عن "حركة ذهنية لإدراك الظواهر"[4].
والتأويل في الأصل هو الرجوع والمصير، وهو مرادف لمعنى التفسير الذي هو الكشف والبيان، واستخدم التأويل بمعنى التفسير عند ابن تيمية، أمّا من جاء بعده ففرقوا بين المصطلحين، إذ جعلوا من الأول لمعاني الألفاظ (مضمون القرآن) والثاني أطلق على الشرح اللغوي الظاهر [5].
ولّدت الخلافات السياسية والإيديولوجية والعقائدية تأويلات مختلفة في هويتها تبعا لها، فغدا الانتصار للذات مسألة فتحت حرية التأويل، مستعينة بغيرها من العلوم للتقرب إلى المعنى المراد من النص القرآني، ما دام قائما على البنية المجازية التي هي من سمة اللغة البلاغية، أي أنّ اللفظ يراد منه غير ما وضع له في الأصل، "من هنا كان احتياج النص القرآني إلى التأويل الذي هو تجاوز الظاهر إلى الباطن والخروج من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية أو الأصح القول الإرتداد من المجاز إلى الحقيقة ما دامت الحقيقة هي الأصل والمجاز هو العرض الإستتنائي"[6].
نظر ابن رشد إلى التأويل على أنّه "إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخلّ ذلك بعادة العرب من التجوّز من تسمية الشيء بشبهه أوبسببه أو لاحقه، أو غير ذلك من الأشياء التي عدّت في تعريف أصناف الكلام المجازي"[7]، فلسان العرب هو المترجم لمقاصدهم.
وأقرّ ابن رشد أهمية العقل باعتباره الموصل إلى البرهان في تأويل النص القرآني، إذ تعددت الطرق للإحاطة بالمعنى حيث استند التأويل على مستويات يتم من خلالها تأويل النص القرآني؛ فاعتمد على الآثار التي وصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، وسمي ذلك بالتأويل بالمأثور.
واستند ابن رشد كذلك على جانب اللغة واختلاف أساليبها المجازية والإستعارية وسمي بالتأويل اللغوي، ذلك أنّ اللغة "هي التي تحدد ما ورد من الآيات محكمة فهي تستنبط المعنى واضحا ظاهرا كونه جاء ليعبر عن حالات ثابثة في المجتمع والنفس"[8]، ثمّ استند إلى العقل وبراهينه وسمي التأويل العقلي أو الكلامي، واقتضت الحاجة الوقوف على واحدة منها أو جميعها تبعا لاحتياج النص لها.
وسرى التأويل دون حدود تضبطه، فراح العلماء يجتهدون لوضع قوانين ضابطة له، كون التيارات التي انغمست في فرض أحكام مسبقة وخارجية لم تراع احتكامها للنص، وهكذا وجدنا أنّ لكل تيار منطلقه الخاص به، "فكان أصحاب التشريع يعوّلون عليه في تناولهم للنص واستنباط الحكم، والمتكلمون يستخدمون محاوراتهم الجدلية، والفلاسفة يعتمدون عليه في صرف ظاهر الشرعيات إلى ما يوافق العقل، إذا تعارضت معه، وذلك في مجال التوفيق بين الفلسفة والدين"[9]، وقاد ذلك إلى الحاجة لوضع قانون ضابط يحكم التأويل ولامحدوديته، وظهر من يتمسك بحرفية النص من السنة، ومن يفتح بابا لا يسد مصراعيه على لامحدودية التأويل.