دور المخيلة في تقدم العلم
|
| |
مخيِّلةُ الإنسان كانت دائماً مركبَهُ الساحرَ العجيب الذي يذهبُ به إلى أقاصي الكوْن، ثم يقذفُهُ وراء تلك الأقاصي . كان الأمرُ كذلك منذ البداية، منذ فجر الحياة البشرية على الأرض، وسوف يبقى كذلك إلى ما شاء الله .
كان الأمرُ كذلك قبل التقدّم الهائل الذي عرَفَهُ العلمُ عبرَ القرون، والذي شهدَ قفزاتٍ كبيرةً جدّاً في القرْن المنصرم . فهل ستكون لهذا التقدُّم انعكاساتٌ إيجابيةٌ أو انعكاساتٌ سلبيةٌ على مخيّلة الإنسان؟ هل سيجعلها تتمادى في اتساعها، أو سيجعلها تنكمشُ أو تتراخى حيالَ الإنجازات الباهرة التي تحقّقت، خصوصاً في أبحاث الفضاء التي جعلت الكونَ ينجلي عن عوالِمَ شاسعةٍ لم نعرف الكثيرَ عنها في ماضٍ لَمّا يزَلْ قريباً منّا؟ وليس الأمرُ مقتصِراً على أبحاث الفضاء، وإنما يتعدّاهُ إلى مختلف المجالات العلمية .
الشاهدُ الأكبرُ على اتساع المخيّلة الإنسانية وخصوبتها في الماضي السحيق، يتمثّلُ بتلك المأثورات الأدبية، وفي طليعتها الملاحم والأساطير التي انطوتْ على ابتكاراتٍ مُدْهشة، على تصوّراتٍ تستجيبُ لهواجس البشر على أنواعها، هواجسهم حيالَ الحياة والموت والحُبّ والسِّحْر والقوى الخارقة والطبيعة وما وراء الطبيعة . . . إلخ .
“جلجامش”، ملحمة بلاد ما بين النهرين، “الإلياذة” و”الأوديسة” اليونانيتان، “المهابهارتا” الهندية . . . وغيرها وغيرها . من يقرأ في هذه الملاحم يُذْهلُهُ مدى الإحكام في بنائها من جهة، ويُذْهلُهُ من ناحيةٍ ثانية، وعلى نحْوٍ أخَصّ، تلك الطاقة الهائلة على التخيُّل، أو بالأحرى تلك الطاقات . فمن المستبعَد، بل ربّما من المستحيل، أنْ تكونَ وراء الملحمة الواحدة طاقةٌ واحدةٌ على التخيُّل . من المستبعَد ألا تكون وراء الملحمة الواحدة، الزاخرة بالأحداث العجيبة والبطولات والصراعات التي تتدخّلُ فيها الآلهة لكي تشاركَ في صياغة التصوّرات والمصائر، إلى جانب البشر أو معهم أو من فوقهم، من المستبعَد ألا تكون وراء هذا كلِّه مخيِّلاتٌ عديدة، مخيِّلاتٌ شديدةُ الرهافة والنفاذ والخصوبة . وحيالَ كلِّ ملحمةٍ من الملاحم القديمة، قد يقول المرء متسائلاً: أهذا الخيال كلُّهُ هو تعويضٌ عن ضآلة الإمكانات البشرية، تعويضٌ عن بدائية العلْم الذي من شأنه أنْ يساعدَ على الكشْف وعلى فهْم الظواهر؟ هل كانت بدائيةُ الحياة، أو بالأحرى بدائيةُ وسائل العيش، عاملاً أساسياً في تأجيج الدهشة حيالَ كلِّ شيء، وتالياً في إطلاق الخيال الإنساني من كلِّ قيد؟
ماذا حصلَ للمخيِّلة إزاء التقدُّم العلْميّ عبْرَ الزمن؟ ألم يكنْ هذا التقدّم ثمرةً من ثمار تلك المخيِّلة؟ ولكنْ، هل راح التقدّم العلْميّ، من جيلٍ إلى جيل، يُعْفي الإنسان من استخدام جميع طاقاته في التخيّل؟ وذلك لأنه راح يمهِّدُ للبشر، شيئاً فشيئاً، السبيلَ لإخضاع الطبيعة ولفهْم الكثير من ظواهرها وأسرارها، وكذلك للنفاذ من أجواء الطبيعة الأرضية إلى البعيد البعيد .
اليوم، يستطيعُ التلميذُ في سنٍّ مبكّرةٍ أنْ يتلقّى الكثيرَ الكثيرَ من المعلومات المتعلّقة بالأرض والكون والمجرّات والكواكب، إضافة إلى أنواع الكائنات وأنظمة الوجود وأنماط الحياة . . . وما إلى ذلك . بكلمةٍ أخرى، يستطيعُ التلميذُ أنْ يتلقّى حصيلةً علميةً ثمينةً جدّاً، وهو لايزال في المراحل الأولى من تعلّمه، فينشأ وهو يحسب أنّ ما تلقّاه ليس أكثرَ من كونه معلوماتٍ بديهيةً أو بسيطة، فلا يدور في خَلَده أنّ ما يُتاحُ له لم يكنْ مُتاحاً - حتى للعلماء - قبل عقودٍ من الزمن، أي في مراحلَ ليست بعيدةً عنّا، وإنّما هي قريبةٌ جدّاً بالقياس إلى تاريخ الأرض، أو إلى تاريخ الحياة البشرية عليها .
إنه لأمرٌ عظيمٌ أنْ يكونَ في إمكان التلاميذ - بفضْل التقدّم العلمي - أنْ يُكوِّنوا رؤىً واسعةً وشديدةَ التنوّع حيالَ العالم والكون، دون عناء، بل بسهولةٍ متناهية، إذا لم نقُلْ على نحْوٍ تلقائيٍّ شبيهٍ بتلقّيهم الطعامَ والشراب . هل نفترض بسببٍ من ذلك كلِّه أنّ مخيِّلاتهم ليست مدعوّةً إلى أنْ تكونَ نشيطةً، وإنّما هي أميَلُ إلى أنْ تكونَ كسولةً، وأنْ تتعرّضَ لخطر الوقوع في البلادة أو الخمول؟ هل نفترض - خلافاً لِما تقدّم - أنّ مهمّة البشر في التخيُّل تزدادُ صعوبةً وتشويقاً، مع تزايد الاكتشافات العلمية وتوافر المعلومات؟ وهل نقول تالياً إنّ المزيدَ من الإنجازات العلمية يُغْري بالاستمرار في البحث، ويثيرُ المزيدَ من الفضول إزاء المجهول؟ والدهشة، دهشة البشر إزاء الوجود وأسراره، هل تُراها - بعد ما جرى لهم في تاريخهم كلِّه - تميلُ إلى أنْ تذكو، أو إلى أنْ تخبو؟