| |
دأبتُ على التفتيشِ عن برزخِ الظواهرِ الثقافية والمثقفين. وما فكّرتُ بكاتبٍ أصيلٍ إلاّ ووجدتُه يعيشُ في برزخٍ ما وبطريقة ما، أو لعلّه ينتهي إلى برزخٍ ما. قد يبدو بعضُهم يعيشُ في الطرف، الأقصى أو الأدنى لا فرق، لكن تفكيكَ كتابتِه قطعةً قطعةً، وحياتِه لحظةً لحظةً، ومواقفِه موقفاً موقفاً، قمينٌ دائماً، أقول دائماً، بإيجادِ برزخِه. ولذلك لم تعدْ عندي مفارقاتُ الكاتبِ الأصيلِ مفارقاتٍ، فلابدّ من ملاءمتِها بحياته، ولم تعدْ نزواتُه نزواتٍ، فلابدّ من ملاءمتها بكتابته، وبين كتابة الكاتب وحياته جدلٌ لا ينفصم إلاّ تعمّداً وتكلّفاً.بهديٍ من هذه القراءة التي تتوخّى البرزخَ، بحثتُ في زمان عبد الجبار الرفاعي ومكانه، إنه الكاتب والمفكر والمترجم ومؤسس "مركز دراسات بيت الدين"، ومجلة "قضايا إسلامية معاصرة"، وفي البحث عن زمانه ومكانه، لم يعد لديّ من مفارقة أيضاً في القول إن عبد الجبار الرفاعي يجرّبُ السُّكنى بين زمانين، مثلما يجرّب السُّكنى بين مكانين، يتوجّه إلى "برزخ زماني" يقع بين الماضي والحاضر، و"برزخ مكاني" بين العراق وإيران. لم يجعلْه الماضي سلفيّاً متجهّماً، ولم يصيّرْه الحاضرُ علمانياً منفلتاً، ولم يمنحه العراقُ عمامةَ الفقيه ولا إيرانُ جُبّتَه، بل استقرّ فيه من ماضي الدينِ التديّنُ، واكتسبَ من حاضرِ العقلِ ومعارفِهِ الحديثةِ العقلانيةَ، فصار "المتديّن العقلانيّ"، ويا له من برزخٍ مَشوبٍ بالشكّ، شكّ الآخرين، من متديّنين وغير متديّنين، في صلاحيّته؛ لأن "المتديّن العقلاني" يواجهُ هاوية، ويقفُ على حافة سقوط، فلا المتديّنون يكفيهم تديّنه أو يُرضيهم، ولا العقلانيون بمكتفين بعقلانيّته أو راضين عنها. والسبب هو أن في كلا الفريقيْن بعضَ تزمّتٍ، والتديّن العقلاني نفي للتزّمت بعضاً وكلاًّ.
إن المتديّن العقلاني ينفذُ إلى جوهر الدين نازعاً قشورَه اليابسة، وعبد الجبار الرفاعي يعيش، حين ألخّص إحساسي به وبكتابته وترجمته، في حيرة السؤال المشرقة. فهو قطعاً لا يقبل الدينَ بالتصوّر الآخذ بالشيوع في عصرنا الراهن، عصر التطرّف العقائدي والتعصّب الديني، ولا يأخذ بالتصوّر الشائع عن أداء الطقوس شعبوياً، بل بالتصوّر النابت في التجربة الدينية العميقة وطقوسها المقصورة على صفوة المتديّنين العقلانيين. ونموذج هذا التصوّر مندثر تقريباً ومحتاج للشيوع من جديد، وهكذا أهدانا كتابَه "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين". إنه لا يقبل الدين دون التديّن، أي دون أن تكون له ممارستُه الشخصية للدين، أو زاويته الخاصة، بكلا معنييْ الزاوية، التي يتعبّد فيها وينظر من خلالها إلى العالم، وهكذا حرص على أن يبلور ممارستَه الخاصة التي يجدها القارئ مبثوثةً في مقالاته وحواراته وترجماته.
يكنُّ الرفاعي ولاءً لا شكّ فيه للقيم الدينية، ولكن أيّ قيم دينية يواليها؟ إن كتابته توسّع القيم ولا تصبغها بصبغة خاصة، فهي إنسانية، موجودة في الأديان كلّها، لكن منطلقها الإسلام. لقد بلغ الرفاعي البرزخ الهادئ بين تجهّم جهامة السلفيين واستهجانهم لقيم الحداثة وجهل بعض العلمانيين واستهجانهم للقيم الدينية. فليس قدراً مقدوراً أن تكون سلفياً ذا جهامة مروّعة أو علمانياً يأسفُ ليلَ نهارَ لحاجة البشرية إلى الدين. إن الرفاعي يعمل بوفاء لشيئيْن: تجربته وعقله. ومن هذين تنبني المفاهيم، من حيازة تجربة عن العالم ومن التركيب الذي يقدّمه العقل لهذه التجربة، تركيب يحاول المفكّر أن يمنحه صياغة ومحتوى جديديْن. لكن الرفاعي لم ينتقل من الطرفين الأقصييْن إلى البرزخ بركوبة مريحة. فالمسألة لا تتعلّق حسبُ بفعل الانتقال، بل بعملية الانتقال، وشتّان بين معنى الفعل ومعنى العملية، الأول عفويّ وبدهيّ لا يشترط تخطيطاً ولا حساباً، والثانية مدبّرة وذات تخطيط وحساب، إنها تُشبه إجراء عملية في المخ، لا في تلافيفه هذه المرة، بل في آلية عمله واشتغاله، وكيفية تركيب محتوياته من جديد. هكذا أجرى الرفاعي تلك العملية لمخّه حين انتقل من "طرف" العقيدة المتصلّبة، بل الحزبية أيضاً، إلى "طرفٍ" آخرَ تختزلُه سلسلتُه الثقافية "ثقافة التسامح"، ساعياً إلى تجاوز "الإكراه والكراهية" إلى "المحبة والتراحم".
إن هوية الرفاعي غير معزولة أو منطوية على ذاتها، إنها انبساطية، أو غاية في الانفتاح على الآخر إلى الحدّ الذي يتيهُ في رحابتها معيار الصلة والوصل. لم يبدُ عليه أن لديه مشكلة مع الأفراد الذين مارسوا أو ما زالوا يمارسون الخطأ والخطيئة، بل مع الخطأ والخطيئة نفسيْهما، ولذلك دخل حُجرتَه خطّاؤون.
ولم يبدُ عليه أن لديه مشكلة مع اختلاف اتجاهات التيّارات، فقد آمن بأن للتيارات اتجاهاتٍ مختلفةً، ولذلك انطوت حُجرته على الاختلاف. وآمن بأن لا شيء، على وجهِ البسيطة، أقوى من الدين، به ترتبط أجمل الإنجازات في تاريخ البشرية، وبه ترتبط أيضاً أفظعها عملاً، ولذلك اعتكف في حُجرته محاولاً "إنقاذ النزعة الإنسانية" فيه. إن هذه الممارسة هي أيضاً نفي للتزمّت، ولعلّ مردَّ نفي التزمّت هذا عائد في حالة الرفاعي إلى هُيامه بالتصوّف والمتصوّفة، أو لعله التزم بأقطاب التصوّف كابن عربيّ وجلال الدين الرومي فرأى معهما العقائد كلّها عقيدة واحدة.
يمثّل عبد الجبار الرفاعي الخروجَ العسير، لكن الأمثلَ، لأيّ مفكّر من نزعة التقديس والدخول إلى نزع القداسة. غير أن نزع القداسة لم تُلقِ به في مهاوي العماء الذي يزرح تحته علمانيون "نصف" مثقفين، لا يحسنون سوى التشنيع على الدين والمثقّف الديني. فالرفاعي لم يقع في مشكلة "النصف"، بل في برزخ العالمين، عالم الروحانيات وعالم العقلانيات، وجاءهما معاً بعُدّة المستشرف الذي يسعى إلى ملامسة البواطن واستبطان الملموسات، أرسل شعاع عينيه إلى الروح وحدّق بمجهر العقل إلى المادة. ولكن، هل عبد الجبار الرفاعي مفكّر دينيّ؟ وأيّ نوع من التديّن يحمله معه كتابةً وسلوكاً؟ ربما يمكن اختزال الإجابة إيجازاً بوضع مغزى ترجمته وحيدر نجف كتاب مصطفى ملكيان "التديّن العقلاني" (مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2012) نُصب عينيْ القارئ، فالمترجم غير بريء ممّا يترجم، و"الترجمة تأويل" كما يعلّمنا غادامير، وحصّة المترجم ممّا ينقلُه هو الاصطباغ بالفكر الذي يترجمه، وحمله معه علامة على بطانة تفكيره. وكتاب "التديّن العقلاني" يعبّر بتمامه عن حالة فكر الرفاعيّ.
لابدّ من القول إن رسمَ صورةٍ لمفكّر كبير مثل عبد الجبار الرفاعي في عُجالة مثل هذه قد تُلحق النقصَ في لوحته المستحقّة، فمن خلال ما تمكّنتُ من قراءته من كتبه ومقالاته وحواراته وترجماته، وهي قراءة جزئية لنتاجه الغزير جداً، بدت لي لوحةٌ يقف في صدارتها رجلٌ مشروعه من السّعَةِ والتنوّع بحيث لا يتّسع لمقالة هدفُها الإكبار والتنبيه على مشروعه الخطير، أقول الخطير لدواعي تكريسه أنشطته لربط الثقافة العربية بأكثر الوجوه إشراقاً للفكر الإيراني الحديث.
وهو أمر غير مألوف البتّة في الثقافة العربية التي لابدّ من الاعتراف بحسّاسيتها من التثاقف مع الفكر الإيراني بالرغم من محاولات غير كافية في توسيع أفق ترجمة هذا الفكر وإحضاره في لغتنا العربية، ومن هنا كنتُ وما زلتُ حريصاً على استضافة بصائره عن الفكر الإيراني في "مجلة الكوفة" الأكاديمية، في كلّ عددٍ من أعدادها. إن الرفاعي صلةُ وصلٍ بالوجه المشرق للثقافة الإيرانية الحديثة. وما أحوجنا إلى نظير الرفاعي ليكون صلة وصل لنا مع الفكر التركي الحديث والمفكرين الأتراك المحدثين ومع مشهد الثقافة التركية عموماً.
إن نمطَ تفكير عبد الجبار الرفاعي اليوم حاجة مُلحّة للأوضاع العربية الغاطسة في الحروب الأهلية والطائفية والآخذة بانحدار إلى أكثر العصور ظلاماً وتخلّفاً. إنه نوع من الترياق الذي يجدر أن يتجرّعَه كلُّ مَنْ جرّب العيشَ في الطرف الأقصى أو الأدنى، لا فرق