" كل هذه
البروق خلفي وأنا أعبر ممنطقا بالشمس والمطر"
*
* * * * *
- هل هذا
الذي يقضقض الأخشاب في الخارج مطر.
- بالتأكيد.
- إذا سأضعك
في وداعة الله .. أنا كائن تخلق من شآبيب السحب. أحب أن أرى جسدي المنمش
بالقروح يتشرب الألق اللامع لوقع القطرات .. اصطدامها في بؤبؤاي. أود أن
استقبله طازجا ..حاراً،- باردا،- لذيذا،- مالحاً،- قال الذي يكز
على أسنانه :
" هل تجز بياض
الضوء.
وتندفع مهشما
في هذا الحبر السماوي الأخضر.
متعبة أقمار
خرائبك،
عارية شاحنات
أوجاعك،
مثخنة كأس
خمرك.
ها أنت تستل
موسيقى خسارتك
وتمضي في أردية
الماء "
بدى غلاف
الشارع كابيا تماما، أفواه كثيرة انفتحت في الأرض والجدران والتجاويف
الداخلية للنوافذ والشرفات والأبواب، رجال كثيرون كانوا يحتمون من الداخل
بالمطر..نساء وأطفال وشيوخ جميعهم يفتحون جروحهم الآن، لهذا الانثيال
العذب، ثمة أوار غادر يجرجرني إلى حرائق كثيرة، لظى يتفتت في المناطق
الهرمة لكهولة شبابي، لفيح مكفهر يتقد الآن في قدمي.
" هاتان
القدمان، غالبا تغرقان في ساعورة شديدة،
وأنا مجس هائل
لقدوم المطر،
أتنبأ به قبل
يوم "
أقول أحيانا :
إن الموت يغزو
أطرافي ".
الطرقات تحتد
وجسدي يصرخ جائعا لهذه المياه المجنحة، تعرف عيوني وجه القمر الغائب ? كما
تعرف غابات الجمر والرماد، إنها ترى الآن ملايين العصافير الحزينة في وهاد
العمر، وعبثاً أحاول استحضار وجه فرحي اللائب في خيوط عنكبوتية سوداء.
إن في هذا
الجنون الحريري المتشابك تكمن فواجع الذكرى، ذكرى يرتكبها الانسان وأرى
هذا المطر يغسلها .
لذا سأهتف في
مسامع السحب :
" إن وجبة
واحدة من المطر الشهي لا تكفي
وجبة واحدة من
الغرق هي أيضا بهجة غير قابلة للارتواء "
هاأني أعبر
ولاشيء يسمط قلبي سوى ذكرى ذهابي إلى جلسة عائلية معها، كنا على وشك
الالتحام المقدس، مازلت أتذكر قفقفة البرد وهو ينخر انزلاقات مفاصل
والديها المتآلبين داخل بطانيات وردية . قال أحدهم وقد خبأ مخالبه :
- هل هو سيل
العرم وأردف الآخر .
- لقد بدأ
يخف .
خرجت يومها على
وقع كلمة" يخف"، ودعت انكسارات غاضبة من مرارة سيل العرم في عينيها،
كنت أجزئ نفسي بين أن أبقى أو أذهب، شاهدت جنتي مأرب وهما تهويان في جريان
تاريخي فضيع.. ثم رأيتهما تتفتتان في اصطدامات صخرية، ثم تضيعان في رمال
الربع الخالي، متحدتان ومدينة "ارم" الضائعة في احتدام الصحراء الممتدة.
وصفت والديها "
بالنذلين" فعلى الرغم من اشتياقي للخروج إلا أن همسا مرتفعا تردد كالأنين
البكر في انبلاجات رغائبي ? قلت لخطيبتي وخصلات المطر تنطرح فوق منكبي :
- هل أذهب ?
.
أطبقت بأجفانها
على الوديان،تلك المزمجرة بسيل العرم تكشفت المدينة الغافية في كبد
الصحراء، لم استيقظ من اطباق جفنيها إلا على تصاعد عصوات المطر وهي تتدافع
كانعطافات الأفاعي في انسيا بات "تعز".
كانت الحزم
اللينة للزئير المتفجر تتدافع من جميع الاتجاهات المثلمة، فإذا اقتربت من
نقاط التقاطع، شدت التموجات على أظراسها حتى لكأنها تريد الايقاع بي .
انتحيت جانبا
مستملحا ألم الغصات المكعبة، لائما خجلي :
" ماذا لو
قفزت أناملي إلى البنفسج
ماذا لو فتحت
الشبابيك لأشجار الكافور الواقفة من عذوبة الموت
ماذا لو تركت
طواحين حنين تغني
ماذا لو دخلت
على مدينة الماء النائم في الأسرة "
نظرت عاليا،
وشراهة الأقاصي تمتزج بلحم القطرات، فلاتبين الانفجارات الدموية للرؤس
العارية . تلك الساقطة من" صبر" بدت شلالات الركض، وكأن بحرا هائلا تشظى في
رأس الجبل، فيما بدت" قلعة القاهرة" التي تتوسط المدينة وكأنها بحيرة تلدق
ماءها على هامة الأشهاد.
كنت أرقب
المياه المغشي عليها، تمر محملة بأعضاء آدميين، تسكعت أرواحهم في طرقات
الله، ما أسرع الموت الأعمى هذا اليوم، ما أقهره وهو يتسع في الجماجم
المثقوبة ..يتلوى حاملا أنات البيوت وأحلام الأشجار، وأزهار الفوانيس
المشتعلة، ما أخبثه وهو يكيل الحملان المتشبثة بالحقول الراقدة، يسحق
الطيور الغافية ويختلط بالدماء المتجلطة دون شفقة.
تراجعت نطحات
السيل المكره قليلا فتناقل دمي مؤونة الصمت المتلامس بالعذابات :
اتضحت بعض
المعالم، في زاوية جانبية، خلع فآر حذاءه الكبير ونام . تاركا الفصول
والطعام، نام بعينين مكحلتين، مفتوحتين وفي فمه ترتكز شعرات شوكية مستقيمة
بينما عينييه الحمروان تسترقان السمع لآلاف السنوات.
* * *
" نحن
اليمانين لم تعد تشغلنا رحى السيول المعلطة منذ الأفواج البعيدة لفجر
التاريخ"
هكذا قال أحدهم
وهو يفتح باب متجره، استبقيت لعابا مبللا بالمطر في فمي، ولم أبصق إلا على
مسافة بعيدة من المتجر.
كدت أتقيأ وأنا
أسمعه، لأني تذكرت أفكاري المخنة في الظل، تلك التي لملمتها ذات يوم هروبا
من المطر ? ولم أعد لنشرها في الشمس .
* * * *
لا يمكنني أن
أنسى خروجي بمعية، شقيقتي في القرية إلى النبع، كنا صبيين نسير معاً تحت
سماء آب المترعة بالسكون الأبدي اقترب النبع وتباعدت بيتنا كثيراً ليس من
عادة آب أن يأتي مصحوبا ًبالأعاصير لكنه فعلها ، فتح أصابع شدقيه ولم
يحبسها ، انتبهنا لتكشيرات الغدر ؟ عدنا سرياً ، لم يهملنا الأكفهرار ..
تدلينا أنا وشيقتي في المشكات كلها كنا متماسكين نقارع الرفسات المتهافته
للشبق البليل سقط جدار ، متوحشاً قربنا ، تخشخشت أقدامنا ، كنا سنموت لولا
قفزات أمي من المرتفعات ، وإصرارها على المناداة خلفنا بجنون فاق تشنجات
الريح ، يومها احتضنتنا ، وقفنا ثلاثتنا كتماثيل سبئية نميمة تتناغم تحت
أهر راق البرق .
عندما وصلنا
المنزل كنا شياة مخذولة عيوننا تشبه الساعات الحائطية الفاغرة وجهها
للهواء ، أسمالنا تنسحب مبتعدة من وسائد العظام اليبيسة دخلت علينا واحدة
من عجائز الجيران بملامح جسدها الدقيق كأنها منحوتة من صلصال "لحج" قالت
أمي :
-هذه المرأة
تقترب من الموت ،_ إن طافت الغيوم في الفضاء ،- أما إذا
اقترب أزيز المطر ؟ فإنها تصاب باحتباس فجائي يجعلها تفقد السيطرة على
وعيها ،- فتذهب في غرف المنزل مغمضة العينين مشربة بالألم ،- تحوم ملتوية
من الرعب .
ربما إلى هنا
واستيقظ تماماً من استحماماتي المعطرة بتوابل النكهة لأن سياط المطر بلغت
هتافها المنفلت فوق رأسي ، خلا الشارع إلا من قدمين مجهدتين بالسقام وكتفين
يشتعلان كلما أشتد الأنهمار .
زاد اعتلاء وقع
المشاة الهارب من نفسه . ارتفع السعير في مواقد الجذع والأطراف .
كنت أمشي
والخيوط المنتحرة فوق جلدي تتحول إلى بخار ثم لا تلبث حتى تصبح حريقا جراء
اصطكاكها بأثوابي .
الآن فقط صرت
قطعة حديدية صفراء خلفتها النار ، عُريت تماماً .. صرت شكلاً من الأوجاع
الآدمية المتنقلة في شوارع طويلة كقالب خرج للتو من كير حداد ، وتتساقط منه
دموع حارة حمراء طوال أيام ماطرة .
وقفت جوار مسجد
تكتنفه غمغمات متوهجة وتخرج من نوافذ أدعية طرية ، كانت آلية شفتي تردد
بعدها "اللهم استجيب" .
أطل رأسي
محدثاً تكثيفاً حرارياً في المكان .
عيون المهللين
تغيم ثم تلمع كأقمار افتقدها طفل حالم شردته أياد أثيمة في أزقة ما .
كنت كلما
توقفت تركت أشكالاً هندسية لأنصهاري .
المطر الذي بقى
في الفراغات يؤكد بلفتات قاتلة أن سيسيطني حتى النهاية ، ووجهي الذي يتابع
غرابته المنشقة عن الناس ، والسقوف والجدران المتوالية والدفئات
الكهربائية ، جسدي هذا يتوق إلى ذعر آخر غير الضفاف المليئة بمرارة الأصوات
والنبؤات الهاجعة في :
" زعيق خطيبتي
السبئية الصامتة
عيون والديها
الشبيهتين بحدوات البغال ،
أختفاء "أرم"
الأبدي في الصحراء .
ترجيعات أمي
وهي تئن من ذهباتي الطويلة في الأمطار الداخلة إلى بلادنا
لون جسدي وهو
يتماثل للسير في شكل يشبه انكفاء الذهب والمشاعر والألم العميق
رغاءات رؤسائي
المرتجفين في صقيع المكاتب كل صبح
أحلامي
المتناثرة كالبحار والجزر والتراب ؟
وأشجاني
وأشعاري وأمطاري التي لا تنتهي "
الأربعاء يوليو 14, 2010 1:03 pm من طرف روزا