14 نوفمبر 2013 بقلم
العربي إدناصر قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:إن الحديث عن مأسسة سلطة علمية إلى جانب سلطة سياسية في الفكر العربي، يحيل إلى قضية ذات صورة جدلية، وهي إشكالية المثقف والسلطة.
فمن منطلق كون إنتاج المعرفة لا يكون داخل غرف سوداء محكمة لا تتسرب إليها عوامل طبيعة العمران والاجتماع البشري؛ بقدر ما تنتج داخل أنساق ثقافية سياسية واجتماعية معينة تدخل فيها قاعدة النسبية على أوسع نطاق على مستوى الأفكار والقيم والسلوكات، فإنه يسهل القول بأن المجتمعات ما هي إلا حركية قوى اجتماعية عن طريق تفاعلات وتدافعات قد تأخذ أبعادًا صراعية أو أبعاداً تواصلية تنتهي إلى تشكيل ترسبات فكرية وأخلاقية وسلوكية ذات "ثقل اجتماعي" تحميها وتحرسها سلطة معرفية أو سياسية، أو هما معًا، للحفاظ على "أنموذج نظام" مؤسس على مصالح معينة.
إذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكن أن نؤصل للعلاقة بين رجل العلم ورجل السلطة داخل مجتمع لا يفصل بين الدين والحكم، وهو مجتمع الإسلام؟
ثمة معطيات عديدة يمكن أن تشير إلى نوع العلاقة بين صانع القرار السياسي وبين منظر الفكر والثقافة، وهذه المعطيات تتمظهر في مستويين اثنين: النص والواقع؛ فعلى المستوى الأول نورد جملة من النصوص ذات دلالة معرفية سياسية، من بينها قوله تعالى: "
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم "
[1]، وهي تتحدث عن طاعة أولي الأمر ـ بعد طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم - وهم العلماء من جهة والحكام من جهة أخرى، وهناك نصوص أخرى تنص صراحة على فضل العلماء، من مثل قوله تعالى: "
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"
[2] وقوله تعالى: "
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط"
[3]، وحديث الرسول الكريم الذي نصه: "
العلماء ورثة الأنبياء"
[4]، وفي الاتجاه الآخر نجد نصوصًا تمجد وتُعلي من شأن الحكام كما ورد في الحديث: "
السلطان ظل الله في الأرض"
[5]، والحديث الذي نصه: "
من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ".
[6]والملاحظة التي يمكن تسجيلها إزاء ما سبق، هي أن مركزية النص تعمل على إغراء كل من المثقف والسياسي نحو البحث عن وسائل للتفرد بالسلطة والاستئثار بها قصد خلق "حصانة اجتماعية" توظف عند الحاجة.
أما على المستوى الثاني، فإن تناقض الأهداف والمصالح بين الطرفين يجعل التنافس بينهما يكتسي طابع الاحتواء أو الإلغاء والتدمير خشية زعزعة الشخصية المعنوية لكل منهما. ولهذا لا يجد المثقف حرجًا في التلميح لسموه وشرف وظيفته؛ فمن وجهة نظره ليس هناك "شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك"
[7]، وفوق ذلك، فسلطنته تعلو على سلطنة الحاكم لكونها "من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة".
[8]وأمام هذا الموقف الأناني والمُعانِد من لَدُن رجل العلم، لا يسع رجل السلطة إلا أن يوظف تقنياته الخاصة في تأديبه أو تنحيته عن مزاحمته في تربع الرمزية متمثلة في: "السيف والمال، السيف للتأديب والسَّحق، والمال للفتنة والإغراء"
[9]، وهكذا يحكي لنا التاريخ عن صور بَشِعةٍ من العنف والاضطهاد لحرية الرأي والتعبير في حق جهابذة العلماء، ومن أمثلتها أن يموت أبو حنيفة " في سجنه مقهورًا [لما رفض تولي القضاء] ويجلد مالك حتى تنخلع عظامه. وأما الشافعي، فجيء به مقيداً من مكة إلى بغداد مع بضعة عشر متهمًا آخر، قتلوا كلهم، لأنهم خارجون على الخلافة، فلما قدم الشافعي ليلقى المصير نفسه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته، قال: أين رحمة الله؟ قال: عندك يا أمير المؤمنين، فعفا عنه، ولولا هذا العفو الطارئ لضاع الشافعي وفقهه ومذهبه".
[10]وقد قام أبو العرب التميمي بتدوين وجمع مآسي هؤلاء العلماء مع السلطة في "كتاب المحن"
[11] بشكل علمي يضبط أسانيد المرويات.
وفي ظل ذلك الوضع الصعب على رجال الفكر نفر بعضهم من المجتمع، وصار يعيش حياة خاصة كالغرباء مع أنهم "وإن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم وجيرانهم، [هم] غرباء في آرائهم، قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخر هي لهم كالأوطان"
[12]. وقد بلغ الإحساس بالغربة والعزلة والنفي من طرف المجتمع والسلطة بأبي حيان التوحيدي إلى أن يبعث برسالة إلى زميله الفيلسوف مِسْكَوَيْه يَسْتَوْضِحَ فيها ويسْتَنْكِر المصير الذي آل إليه حال المثقف قائلاً له: "مسألة هي ملكة المسائل [...]وهي الشجا في الحلق [...] وهي: حرمان الفاضل وإدراك الناقص. ولهذا المعنى خلع ابن الراوندي ربقة الدين، وقال أبو سعيد الحصيري بالشك، وألحد فلان في الإسلام، وارتاب فلان في الدين".
[13]إذا كان وضع المثقف كذلك، فإنه لا يَسْري على جميع المثقفين في علاقتهم مع السلطان؛ فهناك صِنف فضَّل أن يتعاون مع السلطة درءًا لشرورها، في مقابل تمرير مشروعه وتحقيق طموحاته في الإصلاح والتغيير، فحصل نوع من التفاهم بين الاثنين، حيث "وجد الفقه في شوكة السلطان الوسيلة الوحيدة التي تحمي الدين وتمنع ضياع الملة، ووجد السلطان في الفقه الدِّرع المعنوي والديني ضد كل تحولات المجتمع واحتجاج الناس"
[14]، إلا أن ارتماء المثقف في أحضان السلطة أسهم في تشويه فكره وتعكير صفوه، بل انفلتت منه مهمة تأويل النص الديني، وصارت شأنًا من شؤون الدولة، وصار رجُل الدين فقيهًا أم مفسراً أم محدثًا ـ موظفًا في بلاط الدولة والخلافة"[15]، يصدر الفتاوى حين الطلب ويلهب المشاعر عند الشدائد، ويُسدي خدمات جليلة للحاكم باسم الدين وحماية بيضة الإسلام بالطاعة للأمير؛ لأن "أجناده إذا لم يعتقدوا بوجوب طاعته في الدين، كانوا أضَرَّ عليه من كل ضِدٍّ مُباين"
[16]، بل إن بعض المثقفين لم يكتف تجاه السلطة بالخدمة العلمية والترويج الإيديولوجي، حيث وقع أحدهم، وهو في قمة التفلسف في دائرة السُّخرة كالخدم، وهذا أبو بكر ابن زكرياء الرازي يحكي أنه يتصرف مع سلطانه بين أمرين: "أما في وقت مرضه، فعلاجه وإصلاح أمر بدنه، وأما وقت صحة بدنه فإيناسه والمشورة عليه"
[17]، وقد كان الرازي طبيبًا جعل تخصصه قُربة إلى الملِك ووساطة إلى القصر، وذلك للسماح له ببث أفكاره الفلسفية الغريبة في مجتمعه التي لولا الخدمة السلطانية لَمَا استطاع أن يبوح بها في الناس مخافة أن يُرمَى بالإلحاد والزندقة".
[18]تأسيسًا على ما سبق، ولكون المثقف ليس إلا ابن بيئته، فلا يمكن له أن يبقى عنصراً محايدًا في محيطه الذي يَعُجُّ بالمفاهيم والتصورات والقضايا التي تشكل السلطة مفتاحًا من مفاتيحها؛ فهو مطالب باتخاذ موقف معين يكون في أحسن الأحوال "بتحديد ولائه لجهتين مختلفتين ومتناقضتين أحيانًا كثيرة: السياسة الشرعية الخاضعة لجملة مفاهيم من علم الأصول ومقاصد الشريعة، ثم السلطة السياسية الفعلية"
[19]؛ فالولاء للسياسة الأولى ثمنه باهظ قد يصل إلى الاعتقال أو القتل في مقابل حرية الفكر وراحة الضمير. أما الولاء الثاني، فكم تشقى به النفس وتنفر منه السجيَّة لكنه يوفر المال ويجلب الجاه.
تلك هي حصيلة العلم والقلم، فإما توقيع عن رب العالمين أو توقيع عن السلاطين ولا توجد هناك منزلة بين المنزلتين.