18 نوفمبر 2013 بقلم
إبراهيم غرايبة قسم:
الدين وقضايا المجتمع الراهنة حجم الخط
-18
+ للنشر:عرضت في مقالة سابقة جانبًا من أفكار ومقولات سائدة وراسخة لدى الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي، يعبر عنها كتاب محمد أبو فارس "مفاهيم إسلامية"، وهناك كتب أخرى سأعود إليها لاحقًا، مستمدة من كتاب معالم في الطريق لسيد قطب، وتقوم على مفاهيم التميز والمفاصلة واستعلاء الإيمان وعدم الاعتراف بالقوانين المنظمة للحياة السياسية والعامة، وهي مقولات تثير سؤالين منطقيين، هما: ما مدى صحة هذه الأفكار، وهل هي من الإسلام بالفعل؟ ولماذا يسلك الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية السياسية سلوكًا عمليًا مناقضًا لهذه الأقوال، فيعملون في مؤسسات وجمعيات مرخصة من السلطة وفق قوانين الجمعيات والهيئات الاجتماعية، ويشاركون في الأحزاب السياسية والانتخابات النيابية والنقابية والبلدية؟
سأبدأ في هذا المقال بمناقشة الخطورة العملية لهذا التفكير والأسلوب في العمل السياسي ومدى ما يلحقه من ضرر وخراب بالجماعات الإسلامية والمجتمعات والعمل السياسي والعام، وسأفرد مقالة مستقلة، وربما أكثر، لمحاججة هذه الأفكار والمقولات من وجهة نظر الدين. إن المشاركة السياسية تقوم ببساطة على ولاية الشعب (الأمة) وأنه مصدر السلطة، ولتنظيم هذه الولاية وتنفيذها ينتخب الناس من بينهم ممثلين لهم؛ أي سلطة تشريعية، تنظم الحياة السياسية وإدارة شؤون البلاد بالقوانين والتشريعات، وينبثق عن السلطة التشريعية سلطة تنفيذية تعمل وفق التشريعات التي يصدرها البرلمان، وإن هذه المنظومة في الحكم والتشريع تنشئ عقدًا اجتماعيًا يقوم بداهة على مجموعة من المبادئ والأفكار، يمكن استحضار بعضها في هذا المقام وملاحظة تناقضها مع مقولات المفاصلة والحاكمية.
الأنسنة والعقلانية: فالناس يجتهدون ببساطة من خلال الأفراد والمؤسسات المنتخبة والعامة لاختيار ما يصلح لشأنهم أو ما يعتقدون أنه كذلك، ويلجأون إلى الانتخاب والتصويت لتقدير المسائل والترجيح بينها، وهم في ذلك لا ينظرون إلى القرارات والسياسات والتشريعات باعتبارها أمرًا مقدسًا، ولكنها خيارات يرجح بعضها بعضًا، فيجعلها ذلك عرضة للنقاش والمراجعة والجدل، مما يؤدي إلى تطوير الحياة السياسية والأفكار والنظريات، حتى تقترب مما يصلح للناس. ولكن حين تقدم لهم البرامج والأفكار والمقولات على أنها منزلة من السماء، فإن ذلك يبطل الديمقراطية وسلطة الأمة من أساسها، وليس مفهومًا لماذا اللجوء إلى الانتخاب والاقتراع، طالما أن هناك تعليمات وأوامر للناس نزلت من السماء، ثم إن التقدم بهذا "الأمر السماوي" إلى الناس للتصويت عليه يعني أنه لا خيار للناس في التفكير والمراجعة، أو يعني أن "أمر السماء" عرضة للتصويت والجدل حوله، فماذا يريد أن يقول لنا أصحاب "الحاكمية الإلهية" هل هي شأن قابل للردّ والنقاش؟ فإن كان الأمر كذلك فلا أهمية لكل مقولات الحاكمية والمصدر الوحيد، لأن الأمر يردّ إلى الناس، وهم يقررون بالاقتراع والانتخاب ما يرونه صوابًا وصالحًا لهم، وإن لم يكن كذلك، فإن الديموقراطية والانتخاب عملية غير ضرورية ولا أهمية لها.
لماذا يشارك إسلاميو المفاصلة وحاكمية الله ووحدانية الإسلام مصدرًا للتشريع في الانتخابات النيابية والعامة، وهم لا يؤمنون بها؟ والإجابات كلها خطيرة وتصيب الفكر والحياة العامة والثقة التي تقوم عليها العمليات السياسية والاقتصادية بمقتل وإفساد، فإن كان الأمر "تقية"؛ بمعنى إظهار الإيمان بالمشاركة العامة والقبول بنتائجها مهما كانت مع الاعتقاد برفضها وبطلانها، كيف يمكن إذن الوثوق بهذا الاتجاه وأصحابه؟ وكيف يمكن بناء منظومة ثقة تقوم عليها مصالح الناس؛ فالمجتمعات تنشئ منظومتها الاقتصادية والسياسية على أساس "الثقة" من غير ضمانات مادية لذلك، سوى "القانون" والأعراف والقيم، وهكذا فإنهم يودعون أموالهم في البنوك ويبيعون ويشترون السلع والأدوية والأغذية، ويعملون معًا ويسافرون ويمضون حياتهم، وحين تصبح هذه الثقة مسألة غير راسخة، أو حين يكون الخروج عليها أمرًا متقبلاً وليس مرذولاً، يصبح الكذب ليس حرامًا، وتصبح العقود ليست مصانة، والانتخاب والاقتراع عقد بين الناس، فإننا نفرغ منظومة حياة الناس وشؤونهم من معناها وجدواها، ونجعل الخروج على القانون أمرًا متقبلاً، وفي الحقيقة تصبح قوة السلاح والهيمنة هي الضامنة للسلطة وحياة الناس ومصالحهم، وليست قوة القانون والثقة والقيم، ولا يمكن أن نحلم بتداول سلمي للسلطة، ولا بتطوير للأفكار والبرامج ولا تنافس سلمي بين الناس. وأسوأ من ذلك كله، فإن أنواعًا من السلوك التي أجمعت الأمم على رفضها، مثل الكذب ونكث العقود متقبلة ومسوغة.
إن الجماعات السياسية المتشددة، مثل حزب التحرير وبعض اتجاهات السلفية التي تحرم المشاركة العامة وترفض المشاركة فيها تبدو منسجمة مع نفسها أكثر بكثير من جماعات الإسلام السياسي التي تؤمن بما يؤمن به هؤلاء السلفيون والتحريريون، ولكنها تسلك سلوكًا مخالفًا لاعتقادها وتشارك الناس وتوهمهم بغير ما تؤمن به.
النسبية وعدم اليقين: تقوم الديمقراطية فلسفيًا على النسبية، نسبية الصواب والاختيار، ومظنة أن هناك حتمًا ما هو أكثر صوابًا، أو أن الصواب متعدد وليس صوابًا واحدًا، وهاجس الخطأ واحتمال أن يكون الاختيار خاطئًا، أو أن هناك ما هو أفضل وأكثر صوابًا وملاءمة لمصالح الناس وأعمالهم، هذا هو سر الإبداع والتقدم، والمراجعة الدائمة، والحريات الواسعة في النقد والتحليل، أملاً بآفاق ومجالات أفضل للحياة والأفكار، وهذا ما يجعل كل الأفكار والمقولات خيارًا واردًا للناس، وإن اختاروا غيرها، ويجعل حرية التعبير مقدسة، فلا أحد يجزم بالصواب، ولا أحد يجزم بأن استبعاد فكرة أو خيار يعني تحريمها ومنعها، لأنها ربما تنجح في دورة قادمة من الاقتراع.
إن ما يحمي الحريات والإبداع هو الاعتقاد بالنسبية وعدم اليقين، والعكس بطبيعة الحال يعني أن الأفكار والخيارات الأخرى مرفوضة، والاعتقاد المطلق بصواب فكرة أو خطئها، يعني رفض التعددية. ومن الواضح أن هذه الفلسفة والمبادئ، تتناقض جوهريًا مع مقولات الاعتقاد بالصواب وما يصلح للناس وما لا يصلح، وأنها نزلت من السماء ولا تقبل رفضًا أو حتى اجتهادًا بشأنها، وهكذا فلا يمكن الارتياح والاطمئنان إلى المشاركة العامة لأصحاب هذه الأيديولوجيات، ولا يمكن الركون إليهم كذلك، مما يجعل حياة الناس في خوف وقلق على حرياتهم الشخصية والفردية، وعلى التعبير والجدل وحرية الإيمان أو عدمه وغير ذلك من الحريات والاعتقادات التي لا يمكن إجبار الناس عليها أو منعهم منها، ولكن جرى ويجري إقامة سلطات دينية وأمنية قاسية ومرعبة على ضمائر الناس واختياراتها.
الأدوات والأهداف والمحتوى: لقد أبدعت الأمم الديموقراطية لحماية الحريات والتعددية والإبداع ومواصلة المراجعة والنقد أنماطًا متقدمة وراسخة في أساليب العمل ومؤسساته، ومن ذلك العلاقة بين المجتمع والدولة، والعلاقة بين الدولة والأسواق والاقتصاد، والعلاقة بين المجتمعات والأسواق، كما أنشأت مؤسسات ومنظمات لتنظيم هذه الأعمال والعلاقات، مثل الأحزاب السياسية والجماعات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني...إلخ، وصار للعمل السياسي والوصول إلى السلطة أدواته المحددة والمعروفة، وهي الأحزاب السياسية، وللمجتمعات مؤسساتها، ونشأت لأجل التأثير والمصالح الجماعات والنقابات، ولم يعد متقبلاً أن تشارك جماعات التأثير في العمل السياسي المباشر، ولا أن تتقدم منظمات المجتمع المدني إلى الانتخابات السياسية، لأنها بذلك تخل بالتوازن في التأثير والعلاقة بين الدولة والمجتمع، كما أن لكل نمط من العمل أساليبه وخبراته وتركيبته العضوية والداخلية، ولكن جماعات الإسلام السياسي المشار إليها في هذا المقال، دخلت إلى الحياة السياسية عبر تاريخ من العمل الدعوي والمجتمعي، وبمحتوى متشدد مناقض لجوهر التسامح والتنافس السياسي، وهي بذلك أسهمت في إضعاف المجتمعات وتقوية السلطة عليها، بدلاً من أن تفعل العكس، وأقحمت الخبرات والتجارب المجتمعية والدعوية في مجالات جديدة عليها، وأوصلت الى العمل النيابي والسياسي غير أهله، فأفسدت أيضا السياسة والسلطة، كما أفسدت على الناس دينهم. ويالها من متوالية معقدة تحتاج إلى مزيد من البحث والتأمل!