29 أغسطس 2013 بقلم
المنجي براهمي قسم:
الدراسات الدينية حجم الخط
-18
+ للنشر:مقدمة:
تشترك الأديان الكتابية في فكرة التّوحيد القائمة على الاعتقاد بالآلهة، لأنّ الإنسان أدرك أنّه ليس خالقاً لذاته؛ فسعى إلى الاقتباس من نورها وحكمتها من خلال السّلوك التّعبّدي القائم على الطّاعة، في إطار سعيه للتّحرر من الضّعف والنّقص، بترجمة ما يختلج في وجدانه في مقولة التوحيد، في إطار تفاعل عواطفه الدّينيّة مع الإرادة الإلهيّة، فأدرك أنّ فكرة التوحيد حقيقة لاهوتيّة؛ فالإله يوجّه المؤمن به عن طريق الوحي فيسمو بسلوكه الأخلاقي، ويوفّر له الطمأنينة النّفسية أثناء مسيرته الاستخلافيّة على الأرض؛ فالدّين بمنزلة معاهدة سلم يخضع بموجبها العبد لمجموعة من النّواميس الأخلاقية التي تحدّد واجباته داخل إطار الشريعة الإلهيّة، وهي الوظيفة الأصل التي يضطلع بها التوحيد في كلّ الأديان والعقائد.
(1). شموليّة التوحيد في الظّاهرة الدّينيّة:
تحتوي الدّيانات غير الكتابيّة على منظومة طقوس وعقائد تنظّم الحريّة الدّينيّة بين الفرد ومعبوده، وهذه العلاقة الدّينيّة قائمة، في أصلها، على التوحيد مع حضور مكثّف للأسطورة، باعتبارها حدث له حضور دائم، فهي تسهم في إعادة تجديد الكون واستمرار الحياة من خلال فعل الخلق الذي حفلت به الميثيولوجيا النّشكونيّة. وهذا الاعتقاد لدى أتباع هذه الأديان يقوم على الإيمان بالآلهة العظيمة (الأصليّة) مع الاعتراف بآلهة أخرى محليّة تؤدّي بعض الوظائف المحدودة؛ ففي "الدّيانة الهندوسية" مثلاً، يُعتبر براهما الإله الأصل خالق العالم، وإلى جانبه يؤمن الهندوس بآلهة أخرى كالإله الفيل ابن سيفا. وفي "الديانة المصريّة" القديمة يرفع المؤمن صلاته لمجموعة من الآلهة كقوله: "إنّني أعبد مين وأعظّم حورس (...) ابن أوزيريس المولود من إيزيس سيّد التّبجيل ذو الكون الجليل عاهل الآلهة جميعا"[1]، وفي "الدّيانة الزّراديشتيّة" يُعتبر آهورامازدا رمز الرّب الحكيم والرّوح الخيّرة ومنه انبثق أهريمان إله الشّر، إضافة إلى وجود كائنات إلهيّة أخرى في دائرة الرّب الحكيم كدهيوما الإله حامي البلدان ونمانيا الإله الذّي يحمي المواقد المنزليّة.
ففي الأديان الوضعيّة "أثبت الخيال الشعبي ألوف الآلهة (...) فغدت قوى الطبيعة والحيوانات النّافعة والضّارة وأشباح الموتى ومياه الأنهار والرّياح والضّياء آلهة للشعب"[2] ففكرة التّوحيد في هذه الدّيانات لم تبلغ صفاءها الكّلي، لأنّ الآلهة المحيطة بالآلهة الأصليّة ما هيّ إلاّ أرباب تقوم بدور الوساطة بين العبد وإلهه، فتوحيد الألوهيّة في ذلك الفضاء لا يمكن أن يتمّ دون توحيد الرّبوبيّة. و"إذا كان مفهوم الله الخالق وحيد الشكل ولم ينله تطوّر كبير، فإنّ طبيعة الآلهة الثانويين أكثر من ذلك تعقيداً بما لا يُقاس، وهذه الكائنات الإلهيّة يمكن أن ترتدي لدى الشّعوب مظاهر مختلفة"[3]
على الرّغم من اتّساع الهوّة الحضاريّة بين هذه الأديان، إلاّ أنها تشترك في توحيد آلهة السّماء ذات الطبيعة النّورانيّة، وصورة الأرباب لا تغيّر شيئاً من فاعليّة التّوحيد الّذي يبدو في ظاهره شرك، إلاّ أنّه في جوهره توحيد، وقد بلغ ذروته في اللاّهوت الفرعوني مع أخناتون؛ فالفكر الديني موصول بالفطرة الإنسانيّة التي ألهمت الوجدان الجمعي أن ينحت آلهته ويؤمن بها كواسطة تقربّه من عالم السّماء، لأنّه أدرك أنّ "العقل الكوني موجود في كل شيء سواء أكان هذا الشيء حياً أو غير حيّ، إنّه ماهية تخترق الكون كلّه وتلد كل شيء في هذا العالم وتوجّهه"[4]، مثل الإيمان بالآلهة في الأديان غير الكتابيّة حقيقة أنطولوجيّة عند الفرد الذي يبقى مشدوداً إلى العالم العلوي؛ فاعترافه بالآلهة خاضع لمشاعره الإيمانيّة، وهي السّمة الأكثر أصالة، فهي حاضرة بقوّة في الأديان السّماويّة.
(2). طبيعة التوحيد في الكتاب المقدّس والقرآن:
أ. يهوه من القوميّة إلى الكونيّة
ترتسم تجربة التّوحيد في العهد القديم من الكتاب المقدّس عند "بني إسرائيل" في علاقتهم بأنبيائهم، باعتبارهم وسطاء بين الله والشّعب لهداية البشر، وإخراجهم من الشّرك إلى التوحيد الصّحيح من خلال المعجزات التّي كانوا يجترحونها لإقناع النّاس بأنّهم صدّيقين، وكانت البيئة عاملاً مؤثّراً في علاقة يهوه بشعبه، فهي علاقة متذبذبة غير قائمة على التّوحيد المستقيم والمطلق من خلال اتّخاذهم لبعض الأصنام، كالأفعى والعجل، المسبوكة من الذّهب كآلهة لاعتقادهم بأنّها تقرّبهم من الله، وتكذيبهم وقتلهم للأنبياء، يضاف إلى ذلك أنّهم كانوا يُسمّون إلههم بعدّة أسماء ككمّوش وإيل من خلال احتكاكهم بالثقافات الوثنيّة المجاورة "فإيلوهيم مثلاً يعني الآلهة بصيغة الجمع، ولا يُستبعد أن يكون إطلاق هذا الاسم عاكساً لتصوّر يعتبر التوحيد انصهاراً للآلهة في إله واحد، في حين أنّ أدوناي هوّ اللّقب الّذي كان يُطلقه الكنعانيون على الإله تمّوز نفسه. أما يهوه، فهو اسم أحد الآلهة العبرانيين القبليّة في الأصل" هو إله تغلب عليه صفتا القسوة والبطش"[5]، فإله بني إسرائيل تُكتشف ألوهيّته في نعمه وعطائه وخلاصه للشعب، وليس عن طريق الشريعة المؤيّدة بنبيّ يعض النّاس ويدعوهم إلى التّوحيد، كما اكتسب هذا الإله صفة أخرى، فهو إله يتجسّد مثل البشر ويتنقّل معهم في البريّة، و"هذا التّصوّر له بعد مشخّص راسخ يتجّلى من خلال خصائص عديدة، أبرزها أنّ الله ذات متكلّمة تُخاطب خطاباً مباشراً"[6] كحديثه مع نوح عندما أمره بأن يخرج من الفلك هو وجميع الكائنات (التكوين 15:8) فهو إله منشِئ للموجودات في بداية الخلق في سفر التكوين، ويحمل صفات تشبه الإنسان فهو يعمل ويتعب ويرتاح (التكوين 3:2) ويعتريه ما يعتري الإنسان من فرح وحزن كقوله في الكتاب المقدّس: "فَمَلأَ قَلبَهُ اُلأَسَفُ والْحُزْنُ لأَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ"[7]؛ فيهوه إله قوميّ اختار بني إسرائيل ليكونُوا شعبه المختار من خلال مفهوم الاختيار والعهد الذي قطعه مع إبراهيم في سهل موره (تكوين 12: 6-7) وممراً بالخليل (تكوين 18:13) وتجديد العهد في نسله من بعده مع إسحاق (تكوين 30:27) ويعقوب (تكوين 13:28) وموسى (خروج 3: 7-8) ثم مع الملوك كداود (صموئيل الثاني 7 :8-12) وسليمان (ملوك الأوّل 3: 11-12).
إنّ تجديد العهد مع أنبياء بني إسرائيل يجعل من هذا الإله إلهاً قوميّاً خاصّاً بشعبه الذي اختاره دون سائر الأمم، هذا العهد هوّ الشّرط المحدّد للطاعة والعبادة كي يُلزم هذا الشّعب بالأخلاق الدّاعية إلى الاستقامة. وقد وصف روجيه أرنلديز تجربة العبادة هذه بقوله: "فإله إسرائيل ليس موضوع لاهوت نظري، بل هو باعث تجربة فريدة معيشة في التّاريخ، هذا هوّ الإله الحقيقي الإله الواحد. وجدير التّكرار أنّه لا يُستطاع اكتشافه خارج طرقه"[8].
ومع مجيء النبيّ موسى تطوّر مفهوم الألوهيّة واتّسع، فأصبح يهوه خالقاً للعالم وما فيه، ليخرج من إسار الشعب الواحد، ومردّ ذلك للقيمة الأخلاقية الدّينيّة التي احتوت عليها شريعة موسى. وعلى الرّغم من بعض محاولات الشّعب للخروج عن الأوامر الإلهيّة كالتّمرد (سفر العدد 14: 1-4) والتّذمّر (العدد 1:11)، إلاّ أنّ موسى تصدّى لهم، "فإضفاء التّجربة الموسوريّة للبعد الأخلاقي على الذّات الإلهيّة يندرج في نطاق الإعلاء من إله إبراهيم وتجذير التّوحيد، وهو مدخل إلى توسيع هيمنته وتعاليه وتأكيد للبعد الكوني للتوحيد اليهودي"([9].
إنّ هذا التاريخ المتأرجح بين التوحيد للإله الشّبيه بالبشر والإله المطلق الكلّي القدرة "يكشف عن تطوّر مفهوم الألوهيّة من الإله المشخّص (Dieu personnel) إلى الإله الكوني مروراً بما أضفته النّصوص على الذّات الإلهيّة من ملامح قوميّة وأخلاقيّة"[10]. فالتّوحيد الذي كرّسته الشريعة الموسويّة نزّه الإله عن الصّفات الماديّة المحسوسة وجعلته سرمديَّا متعالياً يتّصف بالرّحمة (الملوك الأوّل 23:8) والعظمة (أخبار الأيّام الأوّل 11:29)، وهي الحقائق نقسها التي يعلنها القرآن صراحة وفيها بعض الصفات التي ستتحقق في شخص يسوع، لأنّ المسيح جاء ليكمّل شريعة موسى لا لينقصها.
ب. جدليّة تطوّر التوحيد المسيحي وثبوت التوحيد القرآني:
أعلن العهد الجديد عن اكتمال شريعة يسوع، التي أعلن عنها تدريجيّاً منذ بواكير العهد القديم نفسه وفق خطّة التّدرّج الزّمني؛ فاللاّهوت الذّي تضمّنته الأناجيل جاء بالنّعمة التّي هي محبّة الله التي أضافت بعداً روحيًاً عقديًّاً يتبلور في الإقرار بالتّوحيد وفق مقولة الأقانيم (الآب، الإبن، الرّوح القدس) التي أكسبت الكنيسة إيماناً جديداً من خلال فهم العهد القديم فهماً رمزيّاً قائماً على التّأويل من داخل الدّائرة الإيمانيّة المسيحيّة المسيانيّة، في حين جاءت مقولة التوحيد في الوحي القرآني أكثر تجريداً وتنزيهاً للذّات الإلهيّة؛ فالله هو الكائن الأزلي الأسمى المتعالي، والخطاب القرآني لم يركّز بقوّة على الدّعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، لأنّ هذه الفكرة ماثلة في تلك البيئة (الأصنام بمثابة أرباب يتوسّطون بها الله في الجاهليّة).
ولمّا كان الإله المتكلم في الأناجيل هو نفسه إله بني إسرائيل الذي تحوّل من القوميّة إلى الكونيّة وعاد في العهد الجديد ليشمل جميع الأمم وفق خطّة التّجسد ثمّ الصلب والتّعالي، وقد وضّح الكتاب المقدّس هذه الفلسفة العرفانيّة في الأناجيل القانونيّة التي حرّرت الشريعة من طابعها المادّي المتشبّث بمظاهر التعاليم التي كرّسها الكهنوت اليهودي فحصرها في طقوس بعينها. وقد شرح مدوّنُوا الأناجيل مقولة التثليث والنبوّة (يوحنّا 8:1) فالله (الآب) أرسل ابنه من أجل خلاص جميع المؤمنين وهذه "الأبوّة تتجاوز عيسى نفسه وبني إسرائيل لتشمل جميع البشر، ذلك أنّ الله هو الذّي أرسل عيسى ليُزيل خطيئة العالم (يوحنّا 29:1) وينشر بشارته في جميع الأمم (متى 19:28) وفي كل مكان (مرقس 20:16) وهي بشارة تهدف أساساً إلى خلاص جميع البشر وتحقيق الرّحمة لهم جميعاً"[11]؛ فالأناجيل تقرّ من ناحية بأنّ المسيح ابن الإنسان وأمه مريم بنت عمران (متّى 1:1 -7) وتُخبر بمعجزاته، ومن ناحية أخرى تؤكّد لاهوته وتُقدّم براهين على كونه ابن الله "فهو ابن الله على وجه مخصوص به، ذلك أنّه هوّ الابن الوحيد الّذي جسّد كلمة الله الأزليّة، إذ صارت الحكمة به شراً (يوحنّا 1 :14و18)، فقد اقتضت المشيئة الإلهيّة أن يُرسل ابنه الأوحد ويبذله من أجل أن يحيا العالم (يوحنّا 51:6)"[12].
فالخلاص من وجهة النّظر المسيحيّة أبديّ يختلف عن الخلاص المؤقّت، يتبدى في إله الرأفة والتّحرير من الأسر والعبوديّة، في العهد القديم لكنّه في الوقت نفسه تتمة له بشكل أكثر نضجاً في صورة نهائيّة بعد التّألم والصّلب فالآب وعد بإرسال الرّوح القدس، الروح المعزيّة وروح الحق، للمؤمنين فأصبح بذلك الوعد المسيحيّ أبديّاً مطلقاً في الزّمن وكأنه تأييد وتجديد للوعد الإبراهيميّ.
إنّ الذّات الإلهيّة في التصوّر المسيحي أضحت أكثر شموليّة من إله موسى، فهي ذات ترضى بالموت صلباً وتتحمل الألم في سبيل غفران الخطيئة والإثم وقهر الشيطان (بعلزبول) من أجل سلام العالم؛ "فالشموليّة في التوحيد المسيحي هيّ إشعاع شريعة الحبّ على البشريّة بأسرها وذلك بواسطة الإيمان والرّجاء في المسيح الذي يُجسّدها"[13].
فالمتأمّل للتوحيد المسيحيّ من خلال نصوصه التأسيسيّة يجد أنّ "الوحي الكتابي يتسرّب في تاريخ البشر وينتشر معه"[14]، فوعد إبراهيم لا يعود إلى تطبيقه للشريعة بل إلى برّ الإيمان. وفي العهد الجديد يتلخّص التوحيد الحقيقي الّذي رسمت الأناجيل ملامحه من خلال الاعتقاد في الأقانيم (الإيمان بالثالوث المقدس)؛ فشريعة الحبّ هذه من غير الممكن تطبيقها خارجاً عن المسيح، وتشبه شريعة العهد القديم المقيّدة بالاختيار والميثاق، وتوحيد يهوه لا يمكن أن يتحقق خارجاً عنها، فعمل الفداء فجّر النّعمة وأفاض الرّحمة والرّأفة، لكن عندما ننظر في الوحي الإسلامي الذي أعلن في العديد من المواضع أنّه جاء ليكمّل الشرائع السّابقة نجد العديد من المقاطع القرآنيّة التي تنفي ألوهيّة المسيح وتدحض مقولة التثليث (سورة مريم 19: 29-36) كقوله في سورة المائدة: "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ..."[15]، فمقولة التوحيد والألوهيّة في المسيحيّة من داخل التّصوّر الإسلامي مختلفة كثيراً عنّ السّرد الإنجيلي لها، وحتى مقولة العهد التي بثّت الأمل في بني إسرائيل ومكّنتهم في الأرض لم يذكرها القرآن الكريم، واكتفى بذكر تجربة ابراهيم التّوحيديّة وكيفيّة إيمانه، بوصفه حنيفاً مسلماً؛ أي على دين الفطرة (آل عمران 67:3) في معرض سرده لقصص الأنبياء، وجاء توحيده لله نتيجة تأمّله في الكون والكواكب والنّجوم، وليس ببّر الإيمان حسب الكتاب المقدّس (الرسالة إلى أهل روميّة 13:4)، وبذلك يكون الوحي المحمّدي قد نزّه الذّات الإلهيّة وعمّق تعاليها عن التّصورات البشريّة المحسوسة، ومن الأعمال الفاعلة في التاريخ عن طريق التّجسد في الكتّاب المقدّس، وفق خطّة التدّرج في الظهور من الإله البسيط إلى الإله المركّب من الأقانيم، ومن الإله القومي إلى الإله العالمي المطلق الكوني لينجز الخلاص المسياني، و"هكذا فإذا كان التّوحيد اليهودّي يقتضي إقرار الأمم بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله بني إسرائيل الأوحد فإنّ التّوحيد المسيحي قام على انفتاح إله الآباء على البشّر عامّة، و لكنّه يقتضي كذلك الاعتراف بعيسى باعتباره ابن الله المجسّد لكلمته، وأنّ الإيمان بالابن هو إيمان بالآب (يوحنّا 44:12)، وأنّ الإيمان بالآب لا يكون إلاّ بالإيمان بالابن (يوحنّا 36:3)"[16].
يُعلن القرآن مواصلته للخط التوحيدي السابق له، لأنّه يدعُو إلى توحيد إله إبراهيم (آل عمران 84:3) بصورة مجّردة قائمة على التّجاوز"من خلال تصعيد بعد التّعالي في تصوّر الذّات الإلهيّة (...) واعتبار أنّ الإسلام هوّ التعبير الصّحيح عن التوحيد الّذي أسّسه ابراهيم"[17]. وقد فصّل الباحث الحبيب عيّاد ركائز وخصائص التّوحيد الإسلامي، وتوصّل إلى أنّ "الصّفات المستخلصة من الآيات في أربع دوائر أساسيّة تتعلّق بالقدرة والعلم والحاكميّة والرّحمة"[18]؛ فالقدرة، وقد تواترت في 45 آية، تتمثّل في الخلق والبعث. أمّا العلم، وقد ذكر الله بكونه عليماً في 154 آية، فيتجّلى في علمه بكل شيء، والحاكميّة تتعلق بيوم القيامة؛ فالله هوّ الدّيان يوم البعث، كما تدّل الحاكمية على العدل أيضاً، أمّا صفة الرّحمة (نعت الله باسم الرحمان في 57 آية)، فتتمثّل في نعمه التي نعيش فيها، هذه الصّفات تنمّ عن فعاليّة مشيئة الله على حدّ تعبير روجيه أرنلديز الّذي يرى "أنّ الله في القرآن يتكلّم على مشيئته بطريقة» مجرّدة «شاملة ومطلقة بينما مشيئة الله في الكتاب المقدس منسوجة بأحداث من الحيّاة البشريّة"[19]
إنّ من شأن هذه المعطيات أن توّضح "بعد التواصل وأفق التّجاوز اللّذين تضمّنها التوحيد الإسلامي بالمقارنة مع التّوحيدين السابقين"[20]، يجذّر الوحي الإسلامي بُعداً أخلاقياً جديداً محوره الله وعباده ودعا الخلق إلى النّظر إلى هذه الآيات والتّفكّر فيها، حتّى تتحقق العبوديّة ويكتمل الفهم الأمثل للشّريعة، كما أنّه لم يركّز على تأكيد إثبات فكرة وجود الله بقدر ما ركّز على نبذ الشّرك، لأنّ المحيط الثقافي كان يُقرّ بوحدانيّة الله، لكنّه يُشرك معه أرباب أخرى. أمّا في الكتاب المقدّس، فأسلوب الخطاب "يُظهر هذه المشيئة فاعلة حسيّاً في سلوك البشّر، القرآن يثبتها بشكل قاطع كحقيقة لاهوتيّة بحدّ ذاتها، فالقرآن يُعطى كهدى نزل من السّماء أمّا الكتاب المقدّس فيُظهر على الأرض وسلوك الشعب الّذي اختاره الله وقاده بعصا رعايته، القرآن يبلغ إلى الكليّة مباشرة بالشّكل المجرّد الّذي تتّخذه كلمة الله. أمّا الكتّاب المقدّس، فهو دعوة إلى الشمول أي الاعتراف بإله إسرائيل من قبل الأمم"[21].
لقد تميّز النّص القرآني عن الوحي المسيحي بأسلوب خطابه في توجيه عباده وترغبهم في الاقتداء بشريعته، فكانت علاقة المؤمن المسلم بخالقه قائمة على معرفة تيولوجيّة، تتعلّق بالذّات والصّفات والأفعال مخالفة لصورة الإله المتكوّن من الثالوث المقدّس، كما أنّ علاقة العبوديّة بقيت عموديّة مستقيمة، في إنزال الوحي وطريقة العبادة. أمّا في الكتاب المقدّس، فهذه العلاقة التوحيديّة تتأرجح بين الاتّجاه الأفقيّ طوراً (التأنّس والتّجسد) والاتّجاه العمودي طوراً آخر (الإله الكلّي الشامل)؛ فالتوحيد في الكتاب المقدّس يتمحور في فاعليّته الأنبياء (موسى، ابراهيم) وقدرتهم على الوساطة وجلب النّعم، وفي العهد الجديد أوكلت المهمّة لرجال الكنيسة ومدّونوا الأناجيل الّذين واصلوا رسم لاهوت إله الخلاص الأبدي بصورة عرفانيّة رمزيّة تقوم على التحرّر من ماديّة الشريعة، جاعلين من التّوحيد محبّة الله حبّاً روحيّاً، وقد تواصل مع المجامع الفاتيكانيّة، باعتبارها الوصيّ الشّرعي المخّول بتعديل العقائد وأسس الإيمان. كما استمرّت جهود إثبات وحدانيّة الله في البحوث الفلسفيّة من خلال "إعادة تأسيس فينومينولوجي للبرهان الأنطولوجي"[22] بتعديل وتطوير النّظريات التقليديّة (توما الأكونيني، أنسليم...) لكنها لم تتوصّل إلى حقائق متينة لأنّ محاولات إثبات وجود الله عقلياً؛ أي البرهنة على وجوده بالعقل المحض، تبقى قاصرة ما لم تتوفر على معرفة بالشعور الإيماني الفطري، لأنّ البحث في الميتافيزيقا والإلهيات ظلّ من المسائل الشائكة المطروحة منذ بواكير الفلسفة اليونانيّة.