“واللهِ مَا رَأَيْتُ كَهَذِهِ الأَرْضِ أُنْثَى تَضْبعُ وَتَعْوِي مِنْ قِلَّةِ الصَّبْرِ. أَفَلَيْسَ لَهَا مِنْ ذَكَرٍ فَحْلٍ يَسْتَطِيعُ الضِّرابَ؟”
(محمود المسعدي، مولد النسيان)
استلقى على أريكة عجزه عاريا.. وعرق الهزيمة لا يزال يتصبّب من جبينه. خارت قواه وفقد صبره و تجمّدت آماله. تكسّر رجاؤه على مرفإ حلم يدرك الآن جيّدا أنّه صار مستحيلا.
كان عليه أن يدرك منذ البدء أنّ أحلامه يمكن أن تتبعثر في لحظة على أعتاب امرأة كأنّها الصّخر أو هي الصّخر. سيوهم نفسه في زمن متقدّم بأنّه تزوّج جنّيّة دونها جدار خلف جدار. وسيركب الخرافة معتقدا أنّ هذه المرأة سليلة حكاية شعبيّة لم توجد أصلا إلاّ في أذهان العجائز. وسيقول إنّه وقع على المرأة الخطإ. وإنّ عليه أن يعيد ترتيب أوراقه. ولكنّه اللّحظة، مسند ظهره إلى سرير عجزه تعصف به الآلام ويتقطّع قلبه تقطيعا وتذهب نفسه مذاهب شتّى..
***
لا يزال يذكر لحظة ولادته عند شجرة الدّفلى ليلا. هكذا قالت له والدته عندما بدأ يعقل الدّنيا.. ذكرت له آلام الولادة بالتّفصيل. ووصفت له صيحاته المفزعة الغريبة وهو يطأ الدّنيا حتّى كاد يسمع صداها وهي تحرّك أصابعها بين شعر رأسه. ولكم تساءل بينه وبين نفسه.. هل جئت لأواجه جدارا؟
تبدّدت فحولته أمام امرأة تفيض أنوثة. سرقت عيناها خضرة أشجار الحنّاء والنّخيل والزّعتر والإكليل. واستولى شعرها على ظلمات الوجود. وجثت على صدرها جبال خمير وسباسب قمّودة. غير أنّه كان في كلّ مرّة يستجمع قواه ويمتلئ ثقة وعنفوانا. يفتل شاربيه حتّى ينتصبا كجناحي نسر، يشغّل كلّ المحرّكات. تتقدّم دبّاباته للنّزال. تشهر مدافعه لتقتحم حصونها. ولكنّها حالما تصل عند أعتابها تظلّ مراوحة مكانها حتّى لا حراك. تزمجر ويدوّي أزيزها في الآفاق. غير أنّها جامدة تصدّها الأبواب والجدران والأقفال. فتذوب في داخله جذوة الانتصار. وتذوي زهور الأمل بين جوانحه. فتسيل مدافعه وتذوب دبّاباته ويتساقط شارباه. فيهرع إلى الأريكة يدثّره عرق هزائمه المتكرّرة..
يشعل سيجارة كما ليبدّد جليد فجائعه ويسرح في دواوير دخانها بعيدا. كم امرأة اقتحم؟ وكم حصونا هدّم؟ وكم قلاعا تهاوت أمام معاول فحولته؟ لا يزال ذاكرا كيف اقتحم “جاكلين” الحسناء الشّقراء في ثلاث دقائق.. شقّها نصفين، فصار مضربا للأمثال منذ أن انتشر خبره في أرجاء باريس.. ولكنّه آن يهمّ بجميلة، يشعر كأنّه يلامس صخرا. ولمّا يذبله الإرهاق يقول لها: “لقد حيّرني أمرك يا جميلة!”.
***
خرج يوما هائما على وجه حيرته. كان الجوّ ثقيلا. وكان يسير في الشّارع الطّويل بلا دليل. مرّ بحانة قديمة كان يرتادها في شبابه. فقال في نفسه: “لأشربنّ نخب هزائمي. لعلّ الخمرة تذهب عنّي ارتباكي وتخلّصني من عُقَدي في حضرتها”.
تهالك على كرسيّ وأخذ يصبّ الكؤوس في جوفه صبّا. ها هو يغادر الحانة لا يلوي على شيء. أسكت الضّوضاء المحيطة به وراح يعدو عائدا إلى جميلة. فرآها أجمل ما تكون. تشكّل الحرقوص على ظهر يدها وزندها زيتونا ونخلا. وتكشّفت له هضابها ووديانها فراح يرمي أثوابه وقد انتصب شارباه كما لو كان يهمّ بالتهامها. فراح يدكّ حصونها دكّا، وهي بين يديه تعول وتصرخ وتتلوّى كإعصار عات. ولمّا قضي الأمر رفع يديه وطار في الفضاء مزمجرا: “لقد فعلتها يا ابن الأفعى!”.
اهتزّ فجاءه النّادل يطلب إليه الهدوء. وذكّره بأنّ الصّمت في حضرة بنت العنب من شيم أصحاب المحنة تلو المحنة.
***
مساء، ها هو يترنّح في قلب الشّارع الواسع تتقاذفه الجدران. ينثر القيء والهذيان. ومنبّهات السّيّارات تصمّ أذنيه وهو يسبّ ويلعن. رماه صبية بالقشور وقذفه آخرون بالطّماطم، رغم أنّ يده قد امتدّت في وثوق نحو أكمام بدلته تنفض عنها الغبار..
عند الباب رأى جميلة، وقد أضاءت، تفتح له المصراعين. فطفق يذرف الدّمع بلا حراك.
***
حاصرته الألقاب من كلّ جانب، وذاع صيته في المدينة، وكتبت عنه الجرائد، وانتشر خبره يجبّ الآفاق.
“الطّرطور”، هكذا وصفته صديقة قديمة. فوقع اللّقب على قلبه كما تقع الصّاعقة!
***
جلس إلى جدّته يستفسر الأمر فقالت: “هذه أعجب العجائب. قدرك يا ولدي أنّك وقعت على المرأة الخطإ. أنا أعرفها منذ كانت صبيّة. جميلة يا ولدي فتاة بلا نظير. لم يفكّ أحد أزراره عليها أبدا. كان يهابها كلّ الرّجال. ألم أحذّرك منها منذ البدء؟ فلم قرّرت ركوب صهوة المستحيل؟”.
ولمّا ألحّ في السّؤال أخبرته بأنّ جميلة “مصفّحة”، وأنّه لا فكاك من هذه العمليّة إلاّ بالمرأة الّتي عقدت “التّصفيح” أو امرأة تحمل اسمها. قالت له: “إنّ تلك المرأة قد توفّيت وهي آخر من يحمل ذلك الاسم”.
أحسّ بالموت وطوّقه العجز . فخفّفت عليه قائلة: “جرّب الصّلاة يا ولدي. إنّ دونَ جميلةَ جنٌّ لا يذهبه إلاّ العبادة الخالصة والعمل الصّالح”.
***
وضع يده على رأس جميلة وأخذ يرتّل سورة “البقرة” ترتيلا هادئا متّزنا.. يفخّم الخاءات والرّاءات ويرقّق الباءات والحاءات..
كان قد تطهّر وحرص على الطّيب، وصلّى ركعتين خالصتين لوجه اللّه. ارتدى الأبيض الفضفاض، وجلس إلى جميلة يقرأ عليها “البقرة”.
ولمّا فرغ، خرّ على ركبتيه باكيا يناجي ربّه. كان يدعو بحرقة. استخار مرارا. ولمّا همّ بجميلة، وقف دونها جدارٌ لم يتبيّنه. حزن. ارتمى على السّرير يعول..
***
مضى زمن، فرأى في ما يرى اليقظ أنّه يدخل بيت العرّافة “أمّ السّواعد”. قال في نفسه: “إذا لم تفكّ أمّ السّواعد العقدة، فلن يفكّها أحد أبدا”..
***
انتهى الطّابور الطّويل أمام الكوخ القصيّ. لعن المرأة الّتي سبقته إلى العرّافة تريد منها تميمةً لجامًا لفحولة زوجها “الزّائدة عن العادة” كما سمعها، وهو يسترق السّمع عند العتبة. ولمّا انصرفت جَلَدَهَا بنظراته بعنف.
لفحته نيران المواقد وغزت أنفه روائح البخور والجاوي والنّدّ. جلس أمام المرأة أمّ السّواعد على ركبتيه. ولمّا همّ بالكلام رفعت إصبعها إلى فمها أن اصمت:
“«عشبة الفحولة» دواء الدّاء”. ثمّ صمتت قليلا تنظر في كفّه الممدود نحوها كالطّالب صدقة، وأضافت: “تذهب إلى أرض”فَحْلانَ“لتعود بقبضة من عشبة الفحولة تجفّفها على شمس الفجر وتطبخها لتحتسيَ ماءها ثلاث جرعات في اليوم”.
***
طوى الآفاق يحمل زوادته بحثا عن العشبة السّرّ. تورّمت قدماه في الأيّام الأولى. أكلت البراري نعله. لفحته الشّموس. هام في الأودية. قضّى اللّيالي يأكل شحم الصّبّار والحمّيضى والتّرفاس. كاد يقتله العطش لولا أن وجد قافلة استأنس بها أيّاما. تساقط شعر رأسه وطالت لحيته.
في تلك الرّحلة كاد يفقد عقله، بل فقد بعضه حقّا، قبل أن يجد الطّريق إلى “فحلان”. دلّته عليها عجوز في البرّيّة. كان قد بات عندها ليلة. رمّم بها فحولته. فتل شاربيه وخرج يطلب الأرض الموعودة..
***
“ها هي اللّعينة. الزّهر الأرجوانيّ ينطلق منها. إنّها هي كما وصفتها أمّ السّواعد تماما”..
قطف قبضة، بل اثنتين. لا بدّ من واحدة احتياطا. هكذا قدّر.
في تلك اللّيلة بات يتمرّغ على العشب السّحريّ ورائحة زهره تملأ أنفه وحواسّه جميعا. أحسّ بلذّة عجيبة. انتصب كما لم ينتصب يوما.
أحسّ بالزّهو.
عند الفجر، قفل راجعا. بات يعرف الطّريق جيّدا. قطع على نفسه وعدا بألاّ يخبر أحدا بأمر العشبة. سيجمع كلّ رجال المدينة. في الواقع سيجمع نساء المدينة. سيخطب فيهنّ. سيمدح فحولته في حضرتهنّ. ستقول كثيرات: “هَيْتَ لك”. ولن يلتفت إليهنّ أبدا. يكفيه غزو جميلة. جميلة آسِرَتُهُ. قاتِلَتُهُ. فاتِنَتُهُ. وسواها عدم.
***
تجرّع ماء عشبة فحلان كما اتّفق. وجد الطّعم غريبا بعض الشّيء. ولكنّه استساغه في الأيّام التّالية، بل صار يتلذّذه كما كأس الشّاي الأولى. ولمّا انقضت المدّة، استحمّ.
كانت جميلة حوريّة وقعت من الجنّة للتّوّ. الحنّاء والحرقوص يزيّن أطرافها، والخلخال عند كعبها، والمقياس يطوّق معصمها الأبيض، فيزيده بريقا على بريق. وكان قد تعطّر وتهيّأ واستعدّ للنّزال استعدادا حسنا. كان موجٌ نابض بالحياة قد تحرّك في داخله. بارك مجهود “أمّ السّواعد”، وتقدّم من جميلة. فتل شاربيه. كانت مدافعه في حالة تأهّب قصوى ورجاله في حالة طوارئ.
***
هذه المرّة لم يحزنه أنّ العشبة اللّعينة لم تجده نفعا. ولكن أحسّ بالعار لمّا وقفت جميلة لأوّل مرّة تطلب الطّلاق. كانت جادّة. قالت له: “مَاكِشْ رَاجِل”.
تفصّد جبينه بالخزي وأحسّ حقّا بأنّه “طرطور” كما وصفوه. لم تُعْيِهِ “جاكلين” وأخواتها ولكنّ جميلة فعلت. هكذا قال في نفسه ولكنّه رغم ذلك قرّر الاحتفال.
“لن أستسلم!”
هكذا قرّر وعقد العزم على الاحتفال رغم اليأس والهزيمة فـ....
***
كان مساءٌ. وكان يقف على حافّة النّهر العميق الّذي تتجمّع عنده مصبّات الصّرف الصّحيّ وتؤمّه المزابل فرادى وجماعات. ربط حبلا يخرج من فتحة سرواله إلى عمود حديديّ وجميلة تتابعه في دهشة.
رمى بنفسه.
جرفته مياه النّهر بعيدا.
سحبت جميلة الحبل. فرأت فحولة متدلّية في طرفه والدّم يقطر منها.
.. لأسباب غير واضحة، قرّرت أن تبتسم.
عيسى جابلي (كاتب وباحث تونسيّ)